والأمنية عندي هي أن يتاح لصاحب الرأي المستقل مكان، بجانب الاتحاد أو بجانب الأحزاب إذا نشأت أحزاب، حتى لا ينطوي على رأيه ذاك صامتا، فتضيع منا أفكار ربما كانت هادية.
قبل الثورة وبعدها
نسوق هنا أمثلة لمشكلات فكرية، شاعت في مناخنا الثقافي قبل ثورة يوليو 1952م، وأمثلة أخرى لمشكلات فكرية أخرى، نشأت لنا فيما بعد الثورة؛ لنرى من مقارنة ما شغل الناس قبل الثورة، وما شغلهم بعدها في مجال الثقافة، كيف تغير المناخ، وماذا يدل عليه ذلك التغير؟ وسأعيد هنا شيئا مما كنت عرضته في مناسبة سابقة.
كان من الأسئلة الرئيسية التي طرحت إبان عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته - بصفة خاصة - سؤال يبحث عن الأصول الأولى التي يمكن أن نرد المصريين إليها من الناحية الثقافية: أهي أصول فرعونية أم هي أصول عربية، لا تجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل (في أول أمره) وغيرهما، إلا أن هيكل عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه؛ فقد بدأ هيكل - بمناسبة صدور كتاب عن «قصص البردي» (1926م ) - بدأ في ربط الصلة بين مصر الحديثة ومصر القديمة، مؤكدا أن بين المرحلتين على تباعد الزمن بينهما «اتصالا وثيقا ينساه كثيرون، ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظام الحكم، وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقدمات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة فصلا حاسما، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان، أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»
فلم يلبث عندئذ أن رد على هذه النزعة الفرعونية، كتاب يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نردها إلى أبعد من ذلك التاريخ، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر - رأس البلاد العربية - قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ، في التهكم من الفكرة الفرعونية وأصحابها، يلخص الموقف بعبارة جميلة فيقول: «ثقافتنا إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والفرعونية، وفي علمها على القرائح الأوروبية، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط لا بالمسلمين ولا بالأقباط.»
ونسوق مثلا ثانيا لما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمفكرين فيما قبل الثورة، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب، فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها، دون أن تكون لديهم فكرة يريدون نقلها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وكان إلى جانب هؤلاء آخرون، يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد، ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى - في هذا المجال الخاص - مثلا متطرفا لفريق المجددين، ومصطفى صادق الرافعي مثلا متطرفا لفريق المتشيعين للقديم، فلقد كتب سلامة موسى في ذلك يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة، أو مجاز جميل، أو كتابة بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب في ...»
ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية، ترجع إلى عدم التمكن من لغة العرب وأدبهم، فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس مثلا لغة أجنبية، راح يتهم اتهامات مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب.
وهناك مثل ثالث لما كان يدور عليه الخلاف بين الأدباء والمفكرين قبل الثورة، وهو هذه المرة خلاف فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية، ففريق يناصر الثقافة الوافدة من إنجلترا، وفريق آخر يناصر الثقافة الوافدة من فرنسا، فكان السؤال بينهما: أي الثقافتين الأوروبيتين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وكانت بداية الحوار في هذا الموضوع، مقالة نشرها العقاد تعليقا على كتاب أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنة بين طريقة اللاتين، وطريقة السكسون في النقد الأدبي، خلاصتها أن الأولين ينقدون الأدب وكأنهم يتحدثون حديثا ظريفا في صالون، وأما الآخرون فينقدون الأدب نقدا يضرب في لباب الموضوع، بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الذي يتكلفه الأصدقاء في ندواتهم.
وكان العقاد فيما كتب على اعتقاد بأن ثمة فرقا بين الثقافتين، ينبثق من الفرق بين المزاجين، وأن هذا الفرق نفسه واضح في مفكرينا وأدبائنا، فمن درس منهم الثقافة اللاتينية، وجدته أقرب إلى أن يكون مؤرخا للأدب أو شارحا له، ومن درس منهم الثقافة السكسونية، وجدته أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبا أديبا أو شاعرا، وأخذ بالطرف الثاني من الحوار طه حسين.
ونكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة في هذه الصورة الموجزة، لمشكلات ما قبل الثورة في دنيا الفكر والأدب: أنرتد إلى الفراعنة من الناحية الثقافية أم نرتد إلى العرب؟ أنشغل أنفسنا بزخرفة اللفظ وصقله، أم نمضي إلى المعنى بلا زخرفة ولا صقل؟ أنأخذ بثقافة الإنجليز قبل الفرنسيين، أم بثقافة الفرنسيين قبل الإنجليز؟
نامعلوم صفحہ