ثم أسرعنا جميعا إلى الزورق لنرفعها من ذلك المهد المزبد إلى إحدى الصخور، وتلمست قلبها بيدي لأحس خفقانه فشعرت كأنني لمست بها صدر تمثال رخام عليه كرتان من العاج، ثم وضعت أذني على شفتيها فكأنني وضعتها على شفتي طفل نائم فوجدت خفقان قلبها شديدا ولكن بغير انتظام وأنفاسها متقطعة فاترة، فعلمت أنها في إغماء طويل على أثر الخوف وبرد الماء فاستعنت بأحد النوتية على رفعها وهي أشبه بالأموات، وسرنا بها إلى بيت حقير لأحد الصيادين على ذلك الشاطئ ليس فيه إلا قاعة ضيقة مظلمة قد سودها الدخان ولا أثاث فيها إلا مائدة عليها آثار الطعام، يصعد منها بسلم من خشب إلى غرفة دانية السقف ينيرها مصباح بغير زجاجة ولها نافذة تطل على البحيرة وقد نصبت فيها ثلاثة أسرة لأهل المنزل فوضعنا الفتاة على أحدها، وقامت نساء المنزل بتغيير ثيابها وقد حاولن مرارا أن يسقينها شيئا من الخمر فما أمكن، حتى إذا تحققن خيبة المسعى أخذن في البكاء والعويل وهن يقلن: لم يعد لها إلا الرثاء والدفن.
فصعدت السلم مسرعا وأنا طائر اللب من الجزع، ودخلت الغرفة فوضعت يدي على جبهة الفتاة فوجدتها كأنها تلتهب نارا، ثم أصغيت إلى أنفاسها فوجدتها تختلج في صدرها متقطعة فترفعه ثم تهبط به على حسب ترددها فيه، فأسكت النساء المعولات ثم سألت عن طبيب فقيل لي إنه غير بعيد، فدفعت دينارا إلى أحد النوتية وأرسلته في طلبه.
فجلس رجال الزورق إلى ناحية مطمئنين على بقائها، وتشاغلت نساء المنزل بإحضار الطعام، وجلست أنا إلى جانب السرير عند قدميها وأنا شاخص في وجهها الساكن وأجفانها المطبقة، وكان الليل قد أقبل وأنيرت الغرفة بمصباح خامد يلقي شعاعه الضعيف على محياها الأصفر كأنه شعاع الشمعة على وجوه الأموات، فلبثت على حالتي تلك جامد النظر في وجهها عدة ساعات وأنا كأنني معلق بين الحمام والغرام؛ لأنني لم أكن أعلم هل هذا الجمال الساطع أمامي يكون لي سبب كدر وحزن دائم تعده لي تلك الليلة أم أثرا لغرام ينشأ في قلبي منه عند إفاقتها من الإغماء.
وكانت حركة النوم قد أزاحت فضل غطائها عن إحدى كتفيها، فظهر من تحته معصم كالعاج الصافي وكف موردة البنان قد التف عليها شعرها، فلاح من خلاله بريق حجر من الياقوت في إحدى أصابعها يحاكي وميض البرق في الليلة الدلماء، وما زلت كذلك حتى صاح الديك مبشرا بالصباح فقامت النساء وخرجن من الغرفة ساكنات إلى أعمالهن وبقيت وحدي.
وكان نور الصباح قد أخذ ينبعث من زجاج النافذة، فقمت وفتحته على أمل أن نسيمات الصباح أو طلائع شعاع الشمس التي تنبه كل حي في الطبيعة تنبه لي تلك الحياة المغمى عليها بعد أن كنت أشتهي أن أنبهها ولو بنسمة حياتي، فهب الهواء باردا وانتشر في المكان حتى أطفأ مصباحه إلا أن الفتاة بقيت على حالها لا تتحرك، ثم سمعت النساء يصلين تحت النافذة قبل أن يبدأن في أعمالهن، فخطر لي أن أصلي لأني وجدت الصلاة آخر ملجأ ينزع إليه ضعيف يئس من معونة الناس فصار في حاجة إلى قوة فوق قدرة الإنسان فأقبل يلتمسها فلم يجد غير معونة الله، فركعت إلى جانب السرير وضممت يدي عليه وشخصت بأبصاري إلى وجه الفتاة، وأخذت في صلاة طويلة حتى بكيت فسالت دموعي حتى ملأت عيني وحالت بين نظري وبين من كنت أدعو لها الله.
ثم طال علي الأمد وأنا على حالتي تلك لا أشعر بطول الساعات، ولا أجد ألم ركبتي على البلاط لاستغراق نفسي في الذي كنت آخذا فيه. ثم ضايقت الدموع أجفاني فرددت يدي لأمسحها، فشعرت بيد لمستني ثم ألقيت على رأسي كأنها تفرق شعري عن جبيني، فشهقت شهقة المستفيق ونظرت فرأيت الفتاة قد انفتحت مقلتاها وانفرجت شفتاها للتنفس والابتسام ومدت يدها إلي لتصافحني، ثم قالت: أحمدك اللهم، فقد وجدت لي أخا!
وكانت كأن برد الصباح قد أيقظها وأنا في تلك الصلاة غارق الوجه في شعري ودموعي إلى جانب سريرها، وكأن الوقت انفسح لها ريثما تبينت شدة صلاتي وتأملت في تقاطيع وجهي، ثم وجدت نفسها منقطعة عن كل معين وناصر وليس أمامها إلا فتى يدعو لها دعاء الأخ ويبكي لمصابها بكاء الشقيق، فأثر فيها ذلك المنظر حتى توهمت أنها في موقف إخاء فقالت ما قالت وهي لا تفقه ما تقول. فأخذت يدها بيدي وأزلتها برفق عن جبيني كأنني غير أهل لأن تمد إلي، ثم قلت لها مستنكرا: أخ يا سيدتي! لا والله بل عبد لجمالك، بل خيال لقدميك، لا يلتمس منك إلا السماح له بذكرى هذه الليلة، وحفظ هذه الصورة على صفحات قلب يحب أن يتبعها إلى الموت أو يحتمل ببقائها وقر الحياة.
وكانت هذه الكلمات تخرج متقطعة من فمي كتقطع أنفاسي، وتورد ماء الحياة يجول في وجنتيها كما يجول احمرار الشفق في أديم الغيوم البيضاء، ثم لاحت على شفتيها ابتسامة حسبت أنها تباشير السعادة تلوح أمامي كأن كلامي لها قد أصاب ما في نفسها مني، وما أحسب أن الانتقال من الموت إلى الحياة ومن الحلم إلى الحقيقة يكون أسرع ظهورا وأقرب حصولا منه على تلك الفتاة، حتى لقد خلت أن الاندهاش والنحول والنشوة والراحة والحياء والدلال والجمال قد ارتسمت كلها دفعة واحدة على ذلك الوجه الجميل الذي زانته اليقظة وورده الشباب، وأن أنوار محياها كانت تضيء ذلك المكان بأكثر مما تضيئه أنوار الصباح، وأن في جمالها وسكوتها معاني غرام توحيها إلي بما لا تحويه عبارة ولا تحكيه سطور، فعلمت عند ذلك أن في الجبين لغة تقرؤها العيون، وأن في وجه الشباب أوتار أعواد يحركها الغرام بلحظة من لحظاته فترن في القلوب رنات لا تؤولها كلمات في لغة من لغات الدنيا على الإطلاق.
ورأيت أن في ثيابي التي كانت لا تزال مبللة وفي تفرق شعري من كثرة ما مررت عليه بيدي سواد ذلك الليل، وفي تقرح عيني وشحوب وجهي وشدة لهفتي وحنوي وسروري واندهاشي ووقفتي في وسط تلك الغرفة لا أخطو من مكاني كأنني أخشى أن أكدر ذلك الموقف وانعكاس نور الشمس عما كان لا يزال عالقا بأهدابي من دمع أجفاني؛ ما كان يلقي على وجهي آثار انعطاف تشف عن غرام هيهات أن تجده تلك الفتاة في وجه إنسان سواي.
ولما لم أعد أقدر على احتمال ذلك السكوت، ناديت نساء المنزل فصحن مندهشات من إفاقتها حتى كدن يحسبنها من العجائب، ثم لم يلبثن حتى دخل الطبيب على آثارهن فأمر المريضة بالراحة وأن تشرب عصارة بعض أعشاب تنبت في تلك الجبال بعد أن قال أن لا خوف عليها ولا خطر، فانبعث صبيان المنزل في طلب تلك الأعشاب من منابتها. وتركت القوم في أعمالهم وخرجت أطلب الوحدة في تلك الجبال، فكنت أشبه برجل تخلص من حمل ثقيل فصار يتنهد ملء أنفاسه ويسير متجانفا ذات اليمين وذات الشمال وهو فاتح فمه كأنه يريد أن يعي هواء الفضاء في رئتيه، ولم يكن ذلك الحمل الذي أنقضني سوى وقر قلبي وقد وهبته لسواي فخفت مئونته عني واستعضت الحياة مكانه.
نامعلوم صفحہ