وبالجملة فقد كنت أجد في نفسي كل عوامل الحب وهواجسه وخطراته قبل أن يداخلني الظن في أنني بلغت إليه، وإنما كان ذلك لأني لم أكن أعتبر الصبابة تنشأ في قلبي في ساعة أو مكان أو نظرة أو اتفاق أقدر أن أتجنبها وأتجافى عنها، بل كنت أجدها أشبه بذرات الأثير التي تحدق بالمرء بين الهواء والنور واختلاف الفصول ومدى الحياة. ولقد زاد بي الأمر حتى صرت أرى الحب ينبعث إلى قلبي من قرب تلك الفتاة مني ومن تباعدي عنها أحيانا تباعدا أراه يزيدني تقربا منها واتصالا بها، ومن ردائها الأبيض الذي كان يلوح لي من خلال أشجار الغابات كأنه راية الحب تدعوني إليها، ومن شعرها الأسود حين تنشره رياح البحيرة على جانب زورقها، ومن وقع أقدامها على السلم، وبريق نورها من النافذة، وصرير قلمها على أوراقها، حتى من سكوتها نفسه في تلك الليالي الطويلة التي كانت تقضيها في جواري بين قراءة أو كتابة أو تأمل، بل من ذلك الجمال الباهر الذي ارتسم على صفحات قلبي فصرت أراه ولا أراه، كأن الجدار بيني وبينها قد استحال أمامي إلى زجاج شفاف، وما هو إلا فؤادي ارتسمت عليه فشف عنها للعيان كل ذلك، وأنا لم تداخلني رغبة أو يخطر لي فكر في أن أطلع منها على سر وحدتها أو أزيل ذلك الحجاب بل ذلك الباب الفاصل بيني وبينها، وما عسى أن تهمني فتاة مريضة القلب والجسم، ألقتها يد الاتفاق في طريق حياتي بين تلك الجبال في غربة نازحة وأنا قد نفضت غبار الحب عني، وعزمت على ألا أصل رغبتي في أسباب الحياة بحب أو ميل قلب على الإطلاق، واحتقرت الحب احتقار من مارسه فلم يجد فيه إلا هموما وخفة ولم يلق منه إلا أهوالا وصنوف عذاب.
ثم أغرقت في الفكر فقلت: ما عسى أن تكون تلك الفتاة، أإنسية مثلي أم خيال وهم يمر على مقلة الفكر فلا يترك بعده إلا دهشة العينين؟! ثم هل هي من وطني أم من وطن بعيد نازح لا تلبث أن تعود إليه وتتركني بعدها دامع العين على فراقها وأنا لا أجد السبيل إلى اتباعها ولا أقدر على لحاقها؟ وفوق ذلك فهل هي خلية القلب مثلي فتجيبني إلى هواي، وإلا فكيف يجوز في العقل أن مثل هذا الجمال الباهر يقطع مراحل العمر بين ركب الناس ولا تعلق به آثار حب أو لاعجة صبابة وهو في إبانها؟! ثم هل هي ذات أب وأهل أم ذات حليل أو خليل قضت الأيام ببعدها عنه إلى حين ولا تزال تلهج بذكره حتى تراه؟
ولقد كنت أخاطب نفسي بكل ذلك كأنني أريد أن أخدعها؛ لأثنيها عن عزمها في حب لا أريده لها وهي تريده مدفوعة إليه بالرغم عنها، والقلب بيننا عصي طيع، ثم زاد بي الأمر حتى صرت أرى سعيي في استطلاع أمر تلك الغريبة حطة ونقصا في شأني، ووجدت أنه خير لي أن أظل تائها عن حقيقتها لا أهتدي إلى عرفانها إلا أن أسرة الطبيب ونزلاءه لم يكونوا من رأيي هذا، فكانت تدفعهم رغبة المحادثة في كل اجتماع إلى مفاتحتي بشأنها ومحادثتي عنها، بحيث كنت أطلع على بعض أمورها وأنا لا أريد، بل كثيرا ما كنت أحول مجرى حديثهم عنها حتى لا أقف على شيء منه فأجده ملء أفواه الجميع بين رجال ونساء وفتيان وفتيات وأدلة طريق ونوتية سفائن؛ لأنها كانت قد أثرت في جميع القلوب، ومازجت كل النفوس من غير أن تكلم أحدا، فكان مثلهم في ذلك مثل الأعمى الذي يشعر بحرارة الشمس ولا يراها.
وكان جل ما علمته عن تلك الفتاة أنها تقطن باريز، وأن زوجها رجل عجوز قد اشتهر بالعلوم والفلسفة، أثر فيه جمالها وعقلها فتبناها ليورثها لقبه وماله، وكانت تحبه محبة الأبناء للآباء، وتكاتبه في كل يوم بجميع ما يمر عليها، وكان قد أصابها من عامين نحول طال أمره، فأشار عليها الأطباء بالاستشفاء في إيطاليا فقدمتها وحدها، ثم أشار عليها أحد أطبائها بالاستحمام في مياه إكس، وواعدها بأن يجيء فيأخذها إلى باريز في أوائل الشتاء.
ذلك كل ما علمته عن سيرة تلك الإنسانة التي كنت أدافع نفسي عن حبها، وأصور لها أنني غير مهتم في الذي أسمعه عنها. إلا أنني مع ذلك قد وجدت زيادة حزن عليها من هذا المرض الذي أصاب صباها كما تصاب الزهرة في نضارتها، وصرت على اهتمامي بما أدهشني من جمالها، وأنا أشد اهتماما بما لاح لي من ظواهر سقمها وانتحالها. ثم استمرت سيرتنا بعد ذلك أياما ونحن متقاربان في الجوار ومتباعدان في الألفة والتعارف.
الفصل الثالث
فاتحة الكلام
وكان الثلج قد أخذ يكسو أعالي الأشجار ببياضه الناصع بعد أن أخذت يد الشتاء في تجريدها، وأصبح الهواء في الأماكن السافلة والمواقع المنخفضة أقل رطوبة وأخف بردا منه في الأماكن المرتفعة والجبال العالية؛ فانصرفت عن النزهة في الجبال هربا من بردها إلى ركوب متن البحيرة طمعا في دفئها وحرارة هوائها، فكنت أصرف بياض أيامي في الزوارق بين نوتيتها حتى صارت بيني وبينهم ألفة شديدة. وكانت الفتاة الغريبة قد شعرت بالذي شعرت من برد الهواء، فمالت إلى الذي ملت إليه من ركوب الزوارق ونزهة الماء.
فبينما هي ذات يوم في زورق لزيارة قرية على أحد شواطئ البحيرة وقد توسطت اللجة، عصفت الرياح وثارت الأنواء وأرغى الماء وأزبد فصار يتلاعب بالزورق كما تتلاعب العواصف بالريشة الطائرة، وقد تعذر الرجوع وعظم الخطر وساقني الاتفاق إلى ركوب زورق حتى صرت على مقربة منها، فبصرت بقاربها تعبث به الأمواج وقد أحدق به الهلاك من كل جانب، فأمرت نوتيتي باقتحام الخطر ومصادمة الأمواج، فنشروا الشراع وأعملوا في التجذيف جهد المستبسل المستميت، فسار بنا الزورق كأنه السهم مرق عن قوسه يشق عباب الماء حتى يكاد لا يمسه، والأنواء تدفع زورقها أمامنا فلا يكاد يظهر شراعه حتى تحجبه جبال الأمواج، إلى أن أدركناه وقد بلغ الشاطئ المقصود من البحيرة وركبه في سلامة وأمان.
فلما دنونا منه ألقينا بأنفسنا في الماء، وصرنا نخوضه بالقدم حتى وصلنا إلى نوتيته وهم يشيرون إلينا بالأيدي ويصيحون كالمستغيث، ثم نظرنا إلى الزورق وإذا بالفتاة مغشيا عليها فيه وهي فاقدة الحس والحركة وقد بيضت أثوابها رغوة البحيرة وزبد الأمواج، وكان شعرها يتموج على عنقها وكتفيها كأنه جناح الغراب ووجهها ساكن الحركة منبسط الأعضاء كأنها في سبات النوم، حتى ظننت أن آخر نسمة من نسمات حياتها قد نقشت على وجهها آخر آيات الجمال أثرا للفراق وذكرى للوداع، وخلت أنني لم أرها في جمال كالذي رأيته عليها في تلك الحال، وقلت في نفسي: أترى كان تمام هذا الجمال موقوفا على تمام تلك الحياة، أم أراد الله ألا يترك لي منها إلا أبهى صورها أثرا يتردد في قلبي مدى العمر وتعاقب الأيام؟!
نامعلوم صفحہ