ثم أطالت النظر في المرآة، فرأت فحصة رائعة الحسن في خدها الأيمن، فابتسمت، فزاد الابتسام تلك الفحصة ظهورا وحسنا، فعاودها الأمل، ورفعت رأسها في شمم وعزة، وهمست: ولكن العرافة لا تكذب، إنني لم أعرض عليها كفي، وقد كنت جالسة بجانب أمي فجذبتها ونظرت فيها لحظة، ثم صاحت دهشة حائرة، وكانت الحيرة تبدو في عينيها حقيقة لا تكلف فيها، وكان شيء يشبه الذهول يتحكم في أسارير وجهها، صاحت: إنني لم أر في حياتي هذا الخط في كف غير كفك وكف إبراهيم بك الكبير، إنه خط الملك!! خط العظمة! خط الحكم! ولكن ما هذا يا ربي؟! سبحانك لا راد لمشيئتك، انظري يا زبيدة! ما أنا بمخطئة، انظري يا مليكتي! أترين هذا الخط الذي يمر بأسفل الإبهام قويا بارزا، ثم لا يقف عند ذلك كأغلب الأكف، بل يمتد إلى نهاية الأصابع الأخرى حتى يصل إلى الخنصر، هذا هو خط الملك!! انظري إلى كفي، فهل ترينه؟ ثم إلى كف أمك فهل تجدين له أثرا؟! ثم إذا شئت فانظري إلى أكف أهل رشيد جميعا، وأنا زعيمة بأنك لن تعثري على مثله.
دهشت ودهشت أمي، وقهقهت قهقهة المذهول وقالت: ما هذا يا رابحة؟ ما هذا الكذب الصراح؟ كنا نرضى منك بدون هذا، وأين نحن من الحكم ومن مراتب الحكم؟ إن الحكم في مصر قسمة بين البشوات والبكوات، ولم يناله مصري أنبتته أرض مصر ، إننا نعيش في بلادنا غرباء نتلقف فتات ما يتركون، إن ابنة عثمان خجا تأنف أن تزور بيت رشيدي كيفما علا مقامه، وعظم جاهه، إنها لا تسميننا إلا بالفلاحين، كأن الله خلقنا من طين وخلق الترك من مسك وكافور، بنتي تحكم مصر؟! دعيها أولا تحكم رشيد، أو شارع دهليز الملك، قبل أن تطيري بها في جو الأحلام والأكاذيب، لعلك تظنين أنه كلما عظمت الأمنية عظم الأجر، ولكن الأماني المعقولة شيء، وهذا الجنون الجديد شيء آخر.
قالت أمي هذا، فتطاير الشرر من عيني رابحة، ووثبت من مكانها كمن لدغه ثعبان، ووضعت يدها في جيبها في حنق وغضب، فأخرجت أنصاف الفضة التي كانت أمي أعطتها إياها، وقذفت بها في وجه أمي وهي تصيح: جنون جديد! هذه أنصافك يا سيدتي فإني في غنى عن مالك بما وهب الله لي من علم ومعرفة، وإذا كنت تظنين أن تكهني دجل وخرافة، فلم دعوتني؟ ولم أرسلت خادما بعد خادم ملحة في طلبي؟ لعل الذي جرأك علي أني أتقبل أجرا لقاء الإفضاء ببعض ما يتكشف لي من ملامح الغيب، والله لولا مس الحاجة ما تدليت إلى هذا الحضيض، ولا سمعت اليوم من سيدتي نفسية التي تظنني امرأة أفاقة أفاكة، هذا السب الشنيع، حقا إن كل شيء يمتهن إذا بيع بالمال: فالجمال يمتهن إذا بيع بالمال، والجاه يمتهن إذا بيع بالمال، والعلم يمتهن إذا بيع بالمال.
قالت كل ذلك وأوصالها ترتعد، وفمها يقذف بالزبد كأنما مسها شيطان، ثم زايلها الغضب دفعة واحدة والتفتت إلي وحنت رأسها في إجلال وخشية وقالت: والآن تحيتي وخضوعي لمولاتي زبيدة ملكة مصر، ثم انفلتت كما ينفلت الطائر من الشبكة، فلم نر لها أثرا.
هذا ما جرى من رابحة العرافة، أذكره كلمة كلمة كأنما أقرأه في لوح مكتوب، فهل كان كل ذلك كذبا وزورا؟ وهل أنا مخاطرة بحياتي وجمالي وشبابي، في سبيل كذب وزور؟ إن التردد يكاد يقتلني! ما هذه الأرجوحة التي أرتفع بها مرة، وأنحط أخرى؟ يقين يتملكني فأكاد أرى العرش الذي سأجلس عليه ، ثم يجيء الشك فيمحو كل هذه الآمال كما يمحو النهار آية الليل، فلا أرى أمامي إلا جنة أصبح ماؤها غورا، وعاد ريحانها حطاما، وأنظر فإذا أنا في صحراء العمر المحرقة، وقد غدا الشباب النضر الريان في هذه الصحراء سرابا خداعا مخاتلا، إذا جئته لم أجده شيئا، إن الزهرة إذا تفتحت اليوم ذبلت غدا، والبدر إذا تم كماله درج إلى النقص والمحاق، وهل بعد بلوغ الفتاة الثامنة عشرة غاية للنضج وتفتح الأنوثة وتفجر الميول؟ فإذا أهملها الخطاب في هذا السن ذوى عودها وخبت نارها، وذهبت بشاشاتها، كالثمرة إذا لم تجن والزرع إذا لم يحصد، هكذا قضت الطبيعة القاسية المستبدة بكل حي، فقد جعلت لكل شيء أوانا، فإذا ذهب أوانه تبدل خلقا آخر، فزهدته النفوس وتقحمته الأعين.
إن ابن خالتي محمودا العسال فتى يزدهي به الشباب، وتعتز به الفتوة، إنه زينة الأنداد وفخر الأمثال: جمال وجه إلى كرم خلق، إلى جرأة وإقدام، إلى كياسة وحزم، ثم إلى ثروة وجاه عريضين، وما رأيته مرة إلا اختلج قلبي له، وهفت روحي إليه، وأحسست في شفتي بدبيب يكاد يدفعهما إلى تقبيله، وجرت في جسمي نشوة عجيبة لا أعرف لها كنها ولا أستطيع لها وصفا، أهذا هو الحب الذي يتغنى بأناشيده الرجال والنساء؟ إن كان إياه فإنه حب عنيف تحكم في نفسي، وملأ علي يقظتي وأحلامي، أما محمود فلم يدع وسيلة يدلي بها إلي إلا اتخذها، ولم يترك كلمة من كلمات الغرام إلا سكبها في أذني، يغري مرة ويتذلل أخرى، ثم يصف ما يلاقيه من الهجر وصفا يستنزل العصم، ويهز الجبال الشم، وأنا أنصت إليه في وجوم وذهول ورعب، وقلب مضطرب خفاق، فإذا زادت بي ثورة الوجد كدت أثب عليه فألتهمه ضما وتقبيلا لولا أطياف ذلك الخيال الخداع، والأمل الختال، التي كانت تسرع إلى نفسي فتجتذبني من السماء إلى الأرض، وتطفئ نار نزواتي، وتهدئ من خفقات قلبي، ذلك الخيال الذي يصور لي الملك الموهوم، والذي يوسوس إلي أن من قسم لها أن تكون حاكمة مصر لا ينبغي لها أن تصغي إلى كلمات الغرام من أي شخص، ولو كان في جمال محمود العسال ورجولته، أسمع هذا الوسواس الخناس فيعود إلي هدوئي، وأرده عني بكلمات تقتل الأمل وتجتث الرجاء، ويعلم الله أني أقولها وكل حرف منها سكين في فؤادي وغصة في حلقي، إنه زهد في جميع الفتيات لأجلي، ولو أنه رفع إصبعا لأجملهن لطارت إليه شغفا، واهتزت كالعصفور للقائه شوقا، ولكنه أبى أن يتزوج إلا بي، ذكرت له أمه بنت الشيخ الجارم «رقية» - وهي من هي في جمالها وخفة روحها ومنصب أبيها - فأبى، ثم ذكرت له بنت السيد أحمد المحروقي زوج خالتي - وهي بنت الشرف والسيادة والجاه - فأبى، فهل حكم علي وعليه أن نبقي هكذا محرومين من ثمار هذا الحب، ومن تلك الجنة الدانية القطوف، وبيننا وبينها كلمة تقال؟!
وبينما هي في أحلامها وأحاديث نفسها؛ إذ سمعت صوت حركة لدى البابا، ففزعت واتجهت إليه، فإذا قطتها تدخل متباطئة، حتى إذا أبصرت سيدتها جرت نحوها وأخذت تتمسح بها في حب وحنان، فأخذتها زبيدة بين يديها وطفقت تقبلها والقطة تزمزم وتقلب وجهها فوق خديها، ثم وضعتها أمامها وضحكت ضحكة الفتاة العابثة اللعوب، وأخذت تقول: تعالي أيتها القطة الماجنة الخبيثة، واعترفي لي كما اعترفت لنفسي، أتحبين غيري؟ لا؟ تحبينني أنا وحدي؟ أليس هناك قط في خيالك قد يكون ملك القططة؟ أراضية أنت عن حياتك كما هي؟ ألا يكدر عليك صفوك طيف كاذب يطمعك فيما لا يمكن أن يكون؟ لا؟ ما أسعدك يا قطتي، وما أوفر حظك من الحياة! أنت أعقل من سيدتك المفتونة بالأوهام، ولكن ألا تحبين أن تكوني قطة الملكة؟ الخدم أمامك ووراءك! والوصائف تدللك! وأصحاب الحاجات تتملقك! تحبين هذا؟ بلا شك؟ نعم يا قطتي، نعم يا قطتي، إن قلبي يحدثني أنني لست واهمة، وإن صوتا يهمس في نفسي ألا تخافي ولا تحزني، وأن «رابحة» العرافة لم تكذب، أكاذبة رابحة؟ لا؟ صدقت، إنها قالت مرة: إن أبي سيسافر إلى استانبول فلم يمض أسبوع حتى دعاه داع للسفر إليها من حيث لا يتوقع، وألحت مرة على عمتي أن تحذر ابنها من الماء فمات بعد شهر غريقا، وقالت للورا بنت الخواجة نيكلسون: إن ضيفا سيزور أباها من بلاد بعيدة فحضر عمها بعد يومين.
لا، لا يا قطتي، إن رابحة لا تكذب، وليس علي إلا أن أرتقب وأصطبر.
وما كادت تتم جملتها حتى رأت خادمها الخاص «سرورا» يقبل نحو غرفتها ويقول: إن سيدي محمودا حضر منذ ساعة، وهو جالس مع سيدتي الكبيرة، وقد أرسلتني لأدعوك إليهما، فقالت زبيدة: فيم يتحدثان يا سرور؟ - لا أدري يا سيدتي، إنه حديث طويل، وسيدي محمود هو الذي كان يتكلم، وسيدتي تهز رأسها وتربت كتفه. - أما فهمت موضوع الحديث؟
فأطرق الخادم في خبث وقال: أنا يا سيدتي لا أفهم الكلام السريع، فإن سيدي محمودا كان منطلقا في حديثه كما ينطلق النمر في بلادنا خلف الغزال، وكل ما فهمته كلمات متقطعة مثل: نذهب إلى مصر، السعادة، طال الزمن، هل هذا يجوز ... - فهمت يا سرور، تعالي يا قطتي وساعديني على الثبات والصبر.
نامعلوم صفحہ