وتوالت الأيام، وأظهر كل يوم منها تعثر «مينو» في سياسته، وأبان كل حادث «خلقا من أبي سعيد عجيبا»: فقد عبث بقواد الجيش كما شاء حقده، فعزل منهم من عزل لسخائم في نفسه، ورفع من رفع من غير حق، فذعر القواد لهذه الفوضى وسخط الجنود، وتبددت وحدة الجيش، وألف ديوانا جديدا للأحكام، جعل بين أعضائه صهره العزيز السيد عليا الحمامي، ثم اتجه إلى أهل مصر فأرهقهم بالضرائب الفادحة، وأكثر من المصادرة وسجن الأبرياء وهدم الدور، حتى محيت أحياء بأكملها، وأصبح معظم القاهرة قفرا يبابا، وبلغت القلوب الحناجر، وضاق بالناس الخناق، فأخذوا يهجرون القاهرة أفواجا، وزاد في سخط الجيش أن زبيدة وضعت له غلاما فسماه: سليمان، شماتة في كليبر، وتنويها باسم قاتله.
وفي مارس سنة 1801م ذاعت بين الناس ذائعة تلقفتها الأفواه ورددتها المجامع، وتنفس الناس لها الصعداء، وكان نيكلسون ومحمود العسال يزوران السيد المحروقي في داره، فوجدا عنده الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، فسأله نيكلسون: ما هذا الخبر الغريب يا مولانا؟ - لم يصبح الخبر غريبا يا سيدي السوسي، فقد وصلت عمارة إنجليزية إلى أبي قير، فهزمت الفرنسيين ونزلت إلى البر، ودارت معركة بالإسكندرية بالمكان الذي يدعونه بقصر القياصرة، كانت الغلبة فيها للإنجليز أيضا، وسافر «مينو» إلى الإسكندرية، لتتم الهزيمة. - أواثق أنت من هزيمة الفرنسيين. - كما أثق بالعدل الإلهي، إن الفرنسيين ليسوا كما كانوا أيام بونابرت، وقد قضى مينو على البقية الباقية من حماستهم واجتماع كلمتهم، وراح يبدد جيشه في كل أنحاء مصر، فكيف يستطيع بفئة قليلة أن يلاقي جيشا عظيما؟ - ما رأي سيدنا الشيخ في الإنجليز؟ - أخاف أن تكون لهم نية في مصر، وأنهم يركبون الترك مطية لأغراضهم. - إن الإنجليز قوم شرفاء. - وما شأن هذا بالشرف؟ إن للكون نظاما، والفوز دائما للقوي يا سيدي. - هذا الذي يسميه أهل أوربا: نظام بقاء الأصلح. - سبقهم إلى ذلك القرآن الكريم:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وقال عز شأنه:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
وانفض المجلس وتوالت الإشاعات في كل يوم، ورقص عوام القاهرة وطربوا لكل خبر جديد، وأنشد الصبيان الأناشيد في المكاتب والطرق، وخرج شذاذ «الحسينية» و«العطوف» و«الرميلة» في جموعهم يتحدون الفرنسيين، ولم تمض أيام حتى وثب جيش من الترك والإنجليز على أرباض القاهرة، فذعر الجنرال «بليار» نائب «مينو» وعقد مع المغيرين معاهدة من شروطها أن يغادر الجيش الفرنسي بلاد مصر في أقرب ما يكفي من الزمان لرحيله.
أما مينو فاضطرب أمره بالإسكندرية وركب رأسه، وقذف بجنوده في غير حزم إلى موت محتوم حتى إذا سقط في يده، ورأى أنه ضل الجادة وتقطعت به وسائل الدفاع سلم سيفه مهزوما، وعاهد الترك والإنجليز في السادس والعشرين من أغسطس سنة 1801 على مغادرة مصر، فأقيمت معالم الأفراح في كل مكان، وأشرقت الشمس بنور ربها فبددت غياهب الأحزان، ونظر الفرنسيون إلى الجنوب وهم مبحرون من الإسكندرية، بعد أن تمزقت آمالهم، فإذا أبو الهول لا يزال يبتسم!!
الفصل السابع عشر
كانت زبيدة ذات صباح في غرفتها، وهي في هم ناصب وحيرة قاتلة: أتفرح لجلاء الغاصبين عن بلادها، أم تحزن لجلائها عن بلادها؟ ولماذا تفارق أهلها وديارها إلى قوم هم عنها غرباء وهي فيهم دخيلة؟ ألهذا الزواج الذي عبث بنسبتها فأصبحت لا شرقية ولا غربية، وبتر ما كان لها من صلات محبوبة من الحب والسعادة والشباب، ونقلها من بيئتها التي فيها نشأت ، وفي جوها نمت، وفي ظلال آمالها تفيأت إلى بيئة أعجمية أصبحت فيها غريبة الوجه واليد واللسان، كما ينقل النبات من مصر الدفيئة الضاحكة إلى مثالج سيبريا الباكية الحزينة؟ لماذا تفارق أرضها وديارها؟ إن زواجها كان خطرة من وسواس مينو ذي الخيال الخصيب والعقل العجيب، ولبانة أراد قضاءها في مصر، حتى إذا نبت به مصر، وأزمع عنها الرحيل، تركها وراءه كما يقذف الطفل بلعبته الأثيرة عنده إذا رأى غيرها.
وهنا تنهدت وقالت: كنت لعبة مصرية، وسيجد القائد العظيم بفرنسا لعبا كثيرة تحسن القفز والرقص، وتعرف كيف تستهوي الرجال الذين لهم عقول الأطفال، وبينما هي تغوص وتطفو في هذا الخضم المائج من الأخيلة والأفكار؛ إذ صاح ابنها سليمان وكان نائما، فهرعت إليه حدبة مشفقة مدللة، وأخذت تناغيه وتناجيه بألفاظ عذبة، تعرف الأمومة العطوف كيف تصوغها، ثم شرعت تحدثه كأنما تحدث فتى يافعا وتقول: ستبقى معي هنا يا فتاي العزيز إذا ذهب أبوك إلى فرنسا، سنعيش هنا يا سليمان سعيدين، وستنال من حبي أضعاف أضعاف ما كنت تناله من حب أبيك، إن في قلبي حبا قديما مكظوما كتمته وأحكمت سده، وقد كنت في أول يوم من الأيام أريد أن أسعد به كما تسعد الفتيات، فجاء أبوك في طريقي فسددته عنه وعن الناس جميعا، فخذه كله يا سليمان، فإنه حب نقي كماء الغمام، طاهر كصحائف الأبرار، عظيم كموج البحر، إنك إن تذوقته أغناك عن حب أبيك، إنه حب فتاة والهة ضاع أملها، وأم رءوم تحيا مرة أخرى في وحيدها.
وهنا ضحك الطفل - وكان في شهره السابع، وحرك يديه، فقبلته وقالت: أتضحك من أمك يا سليمان؟! اضحك منها كما تشاء فقد ضحك منها أبوك، وضحك منها الناس جميعا، ولكنك ستبقى لي على كل حال، ريحانة حياتي وقرة عيني، وإذا طلبك أبوك فقل له في رجولة وشهامة: سأبقى مع أمي فاذهب أنت حيث شئت، إن أبناء النيل لا يبغون بمائه الطاهر بديلا! أنت مصري يا سليمان ... أنت مصري بلا شك؛ لأني مصرية، وأنت فلذة مني، فدع أباك الفرنسي يذهب إلى بلاده كما يريد، وتعالى نعد إلى دارنا في رشيد ونجمع حطام تلك الذكريات الحلوة، التي عبثت بها العواصف وبددتها الخطوب.
نامعلوم صفحہ