فتنهد عامر وقال: إنني لم أحبذ إقدامه على ذلك، ولكن لا خيرة في الواقع، وإنما أريد أن أصحبك إلى مجلس الخليفة فأقف ببابه في جملة الشعراء، لعلي أسمع ما يحدث لعبد الرحمن.
قال الفرزدق: أجعلك راويتي. وكان الشعراء في الجاهلية وأوائل الإسلام يصطحبون الرواة حيثما رحوا، ولك شاعر راوية يحفظ شعره ويروي له أقوال الآخرين، فإذا دخل الشاعر على الخليفة دخل راويته معه وجلسا متحاذيين. فاستحسن عامر هذا الرأي فتنكر في لباس الراوية، وخرج مع الفرزدق حتى دخلا دار الخليفة ووقفا مع الشعراء، ولم يأذن يزيد للشعراء بالدخول عليه في ذلك اليوم، وأخذ عامر يستطلع الأحوال ويتنسم الأخبار، ثم رأى عبد الرحمن لما ساقوه مغلولا للمرة الأولى، وجاء بعض من كانوا معه فقصوا عليه نبأ ما ظهر من بسالته فأعجب بذلك.
ولما استقدموه للمرة الثانية، جاء إلى عامر من أخبره بما كان من الأمر بقتله، فوقع في حيرة، وبحث عن الحجرة التي سجن فيها فعلم أنها حجرة واطئة كانت في عهد الرومانيين حماما لوالي دمشق، فأخذ يفكر في حيلة ينقذ بها عبد الرحمن، على أن يفكر في أمر سلمى بعد ذلك.
وفيما هو يعلم فكرته تذكر الشيخ الناسك، فاستأذن الفرزدق وخرج مسرعا إلى الغوطة حتى أطل على الدير فالتمس الناسك عند الجوزة، ولما سمع نباح الكلب قبل وصوله إليها استبشر وأسرع إلى الجوزة فرأى الناسك متكئا فوق حجر، ولما اقترب منه عرفه فأرخى شعره على عينيه وصاح به: أين سلمى؟
قال: إنها يا سيدي في قصر يزيد، ولا أدري ما آل إليه حالها، وإنما جئتك في أمر ذي بال لا أجد من أرجع إليه فيك سواك.
قال: قل واتكل على الله. فقص عليه حديث عبد الرحمن باختصار، ثم قال: وسيقتلونه هذه الليلة، سيقتله شمر اللعين، فما العمل؟
فظل الشيخ الناسك مطرقا ولم يجب، فسكت عامر أيضا لعلمه أن النساك وأصحاب الكرامات لهم مناجاة خاصة يستخيرون الله بها، ثم قال الناسك: ألم تعلم أين سجنوا عبد الرحمن؟
قال: إنه مسجون في الحمام القديم في قصر يزيد.
فرفع الناسك رأسه وقال: أبشر بالفرج يا عامر، ولكن يجب أن تكون رجلا وأن تكابد الخطر لإنقاذ عبد الرحمن.
فقال: إني أفديه بروحي.
نامعلوم صفحہ