أبطال الرواية
مراجع رواية غادة كربلاء
1 - فذلكة تاريخية
2 - غوطة دمشق
3 - غادة كربلاء
4 - مقتل حجر بن عدي
5 - الحب والانتقام
6 - الوقوع في الفخ
7 - في مجلس الخليفة
8 - سلمى في قصر يزيد
9 - محاكمة عبد الرحمن
10 - يزيد، وسلمى
11 - انتقام يزيد بن معاوية
12 - سلمى لم تمت
13 - إلى الكوفة
14 - سلمى والناسك
15 - مسلم بن عقيل
16 - خروج الحسين إلى العراق
17 - زينب بنت علي
18 - التآمر على الحسين
19 - مقتل الحسين
20 - في دمشق الشام
21 - في دير بحيراء
أبطال الرواية
مراجع رواية غادة كربلاء
1 - فذلكة تاريخية
2 - غوطة دمشق
3 - غادة كربلاء
4 - مقتل حجر بن عدي
5 - الحب والانتقام
6 - الوقوع في الفخ
7 - في مجلس الخليفة
8 - سلمى في قصر يزيد
9 - محاكمة عبد الرحمن
10 - يزيد، وسلمى
11 - انتقام يزيد بن معاوية
12 - سلمى لم تمت
13 - إلى الكوفة
14 - سلمى والناسك
15 - مسلم بن عقيل
16 - خروج الحسين إلى العراق
17 - زينب بنت علي
18 - التآمر على الحسين
19 - مقتل الحسين
20 - في دمشق الشام
21 - في دير بحيراء
غادة كربلاء
غادة كربلاء
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
الإمام الحسين:
ابن علي بن أبي طالب.
يزيد بن معاوية:
ثاني ملوك الأمويين.
حجر بن عدي الكندي:
من شيعة علي.
غادة كربلاء:
سلمى بنت حجر بن عدي.
عبد الرحمن الكندي:
ابن عم سلمى.
عامر الكندي:
كفيل سلمى.
شمر بن ذي الجوشن:
قاتل الحسين.
عبيد الله بن زياد:
ابن عم يزيد.
مسلم بن عقيل:
ابن عم الحسين.
عبد الله بن الزبير:
ابن الزبير بن العوام.
زينب بنت علي:
أخت الحسين.
مراجع رواية غادة كربلاء
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
مراصد الاطلاع.
قاموس الإسلام.
الإنسكلوبيديا البريطانية.
حياة الحيوان.
الآداب السلطانية للفخري.
كتاب الإرشاد.
نهج البلاغة.
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
المستطرف في كل فن مستظرف.
العقد الفريد.
طبقات الأطباء.
مروج الذهب للمسعودي.
حكاية عاشوراء.
كتب تاريخ: ابن الأثير - أبي الفداء - الدميري.
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
قريش قبيلة من عرب الحجاز، تتفرع عنها عدة بطون، أشهرها بطن عبد مناف، وهو فخذان: بنو أمية، وبنو هاشم، وكانت الرياسة في قريش لهذه الفخذين لا ينازعهما فيها منازع، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عددا، وكانت لهم الزعامة في الحرب، حتى إذا ما جاء الإسلام - والنبي من بني هاشم - اعتز به الهاشميون، وذهل الناس بأمر النبوة عن العصبية، لا سيما أن الإسلام نهاهم عنها، وقال نبيه: «إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها؛ لأننا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب.»
وبقي العز لبني هاشم في مكة حتى مات أبو طالب عم النبي، وهاجر بنوه مع من هاجروا من الصحابة إلى المدينة، وفيهم أخواه حمزة والعباس وكثيرون غيرهما من بني عبد المطلب وجميع بني هاشم، فخلا الجو في مكة لبني أمية، وصارت الرياسة إليهم أثناء محاربتهم للمسلمين في بدر وغيرها، ورئيسهم يومئذ أبو سفيان والد معاوية مؤسس الدولة الأموية.
فلما انتصر المسلمون في غزواتهم، وهموا بفتح مكة في السنة السابعة من الهجرة، كان أبو سفيان كبير قريش فيها، وقد تحقق يومئذ أن المسلمين فاتحوها لا محالة، فجاءهم وأسلم، ثم أسلم أولاده كذلك.
ولما تولى أبو بكر الخلافة لم يكن بنو أمية وأهل قريش كلهم ينالون من المناصب إلا بعض ما يناله المهاجرون الأولون، فشكوا ذلك إليه فقال لهم: «أدركوا إخوانكم في الجهاد»، وأنفذهم في حروب الردة فأحسنوا الجهاد وقوموا الأعراب، ثم تولى عمر فبعث بهم إلى حرب الروم في الشام فافتتحوها، وظل معظمهم فيها، فولي عليها منهم يزيد بن أبي سفيان حتى مات في طاعون عمواس، فخلفه أخوه معاوية، ولما تولى الخلافة عثمان أقره عليها، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت قبله، واشتغل بنو هاشم بأمر النبوة ونبذوا الدنيا.
فلما قتل عثمان واختلف الناس في أمر من يبايعونه بعده، كان دعاة علي أكثر عددا، ولكنهم كانوا خليطا من قبائل عربية شتى، وبعكس ذلك كانت أحزاب معاوية كلها من قريش، أهل البأس والشدة، وهم جند الشام إلى ذلك الحين، فكانت عصبية معاوية أشد وأمضى، ثم ظهر الخوارج من رجال علي، فانكسرت شوكته، حتى إذا قتل سنة 40ه اضطر ابنه الحسن أن يخلع نفسه، فاتفق الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة 41ه، وكان الناس قد رجعوا إلى أمر العصبية فدانوا للأقوى مالا وجاها، وبذلك غلب معاوية واستقل بالخلافة، وساعده على ذلك دهاؤه وحسن سياسته؛ فإنه كان يصانع رءوس العرب من بني هاشم بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك، ولكنه كان من ناحية أخرى يبالغ في الحط من قدر بني هاشم وبخاصة أهل البيت منهم، وأبناء الإمام علي، حتى كان يفرض على من يعترف بطاعته أن يلعن عليا جهارا، فإذا لم يفعل عاقبه، وله في ذلك حوادث كثيرة أشهرها مقتل حجر بن عدي الكندي أحد أشراف بني كندة في السنة الحادية والخمسين للهجرة؛ فقد قتلوه لأنه أبى أن يلعن عليا. •••
وأقام معاوية خليفة في الشام عشرين سنة (من سنة 41 حتى سنة 60ه) والمسلمون في الحجاز والكوفة ينتظرون موته ليبايعوا الحسين بن علي؛ لقربه من الرسول، على أساس أن الخلافة شورى يولونها من أرادوا بالانتخاب كما كان شأنها إلى ذلك الحين، لكن معاوية سبقهم قبل موته إلى بدعة أحدثها؛ إذ أوصى بولاية العهد لابنه يزيد، فجعلها بالإرث، فلما توفي تولى يزيد الخلافة وسنه بضع وثلاثون سنة، فبايعه الناس بين راض ومكره.
الفصل الثاني
غوطة دمشق
غوطة دمشق في بلاد الشام مشهورة بخصبها، وهي مربعة الشكل يبلغ طول ضلعها خمسة أميال، وتحيط بها جبال عالية، وتجري فيها أنهار تسقي بساتينها ثم تصب فضلاتها في بحيرة هناك، وفي هذه الغوطة عمرت دمشق منذ بضعة آلاف من السنين، وفيها عدا دمشق قرى صغيرة متفرقة، بينها المغارس والحدائق من أشجار الفاكهة، تجري بينها الجداول والأنهار.
وكان على مسافة ميل من الباب الشرقي من دمشق وعلى مقربة من برج العذراء دير قديم يقال له دير خالد، نسبة إلى خالد بن الوليد الذي جاء لفتح الشام في أوائل الإسلام فنزل فيه، وكان اسمه قبل ذلك دير صليبا، وهو على مقربة من برج العذراء في بستان تكاثفت فيه الأشجار من كل فاكهة زوجان.
وإذا نظرت إلى ذلك الدير من خارجه تخيلته قلعة منيعة، وكان بناؤه مربعا، تكاد زواياه تستدير، ويكسو جدرانه من الخارج بلاط صقيل، وقد مالت هذه الجدران في صعودها نحو الداخل بحيث أصبحت قاعدة البناء أوسع من سطحه قليلا، وله مدخل ضيق قصير لا يكاد يدخله الرجل إلا منحنيا، وله باب من الخشب المصفح بالحديد قد كساه من الصدأ غشاء كثيف، وليس للدير مدخل سواه، ينفذ منه إلى طرقة طولها بضع أذرع كأنها ممر، تنتهي بباب آخر يؤدي إلى ساحة الدير وحولها الغرف طبقة واحدة، إلا علية منفردة يقيم فيها رئيس الدير في الصيف والخريف، وللدير نوافذ في أعلى الجدران لا يدركها كف الواقف ولو تطاول إليها ذراعه، وهي كوى صغيرة فيها شبك من الحديد، ولا يكاد المتأمل يقف هنيهة حتى يدرك الغرض من بناء تلك الأديرة على هذه الصورة؛ لأنهم كثيرا ما كانوا يتخذونها معاقل وحصونا عند الحاجة، على أنهم لم يكونوا يستغنون عن إصطبل أو حظيرة يحبسون فيها مواشيهم ودوابهم.
وكانت للدير حظيرة هي بقعة مربعة من الأرض طول ضلعها خمسون ذراعا، يحيط بها سور من أعواد غليظة مغروسة في الأرض متحاذية، ثبتت في أطرافها العليا عوارض من الخشب شدت إليها بأمراس من قشور الأغصان، ولها باب مصنوع من هذه الأعواد كذلك، يدور على مصراع في طرف أحد جدران السور مما يلي جدران الدير التي تلاصقها، ويغلق بعارضة ضخمة تدخل في هذا الجدار.
ويغطي نصف الحظيرة سقيفة قائمة على أعمدة غليظة، تأوي إليها الماشية والدواب في أيام الشتاء، ويحيط بالدير والحظيرة والبستان جميعا سور كبير من العليق المتكاثف، علوه قامة وبعض القامة، وبابه من الخشب أيضا لكنه أضخم كثيرا، وقد علقوا عنده ناقوسا إذا جاء طارق دقه فيسمعه أهل الدير فيفتحون له.
تلك حالة دير خالد في السنة الستين للهجرة، وهي السنة التي توفي فيها معاوية بن أبي سفيان وخلفه ابنه يزيد على الخلافة الإسلامية في دمشق، وكان رئيس الدير يومئذ شيخا طاعنا في السن رومي الأصل، قضى فيه ما ينيف على نصف قرن، تدرج خلاله من مراتب الرهبنة حتى صار رئيسا. ولما نزل خالد هناك كان هذا الرئيس راهبا صغيرا فشهد فتح دمشق، ولم يكن يعرف العربية ولكنه أتقنها بعد ذلك، وكان لقدم عهده ودماثة أخلاقه قد حاز منزلة رفيعة لدى الرهبان، وكان معاوية يحترمه، وكثيرا ما كان يجالسه إذا خرج للرياضة في الغوطة، وربما مازحه، ولما تولى يزيد الخلافة ظل على احترامه وإكرامه. •••
في يوم من أيام الخريف من تلك السنة، أصبح أهل الدير وقد جاءهم الفلاحون بأحمال الفاكهة من بساتين الدير، وفيها سلال العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكمثرى والخوخ وغيرها، وكان الرهبان يتوقعون قدومهم كل صباح من أيام الخريف، فنزل بعضهم لمساعدتهم في إدخالها إلى باحة الدير، وهي بقعة مكشوفة تحيط بها الغرف وتظلل معظمها صفصافة كبيرة في وسطها، وبقرب الصفصافة بئر يستقي منها أهل الدير عند الحاجة.
فأدخلوا السلال أزواجا وأفرادا، والرئيس لا يزال في عليته وقد عاد إليها بعد صلاة الفجر واشتغل بالصلاة الانفرادية، فلما انتبه للضوضاء خرج من العلية حتى وقف على قمة سلم من الحجر ينتهي إلى الباحة، وقد تزمل بعباءته فوق المسوح، فرأى الرهبان يحملون الأحمال، فقال لهم: ما لي أراكم تدخلون السلال وأنتم تعلمون أنه لا بد من حمل بعضها إلى دار الخليفة لتفرق في أمرائه ورئيس شرطته كالعادة؟ قال ذلك واتجه إلى جانب من السطح أشرف منه على معظم الغوطة، وكانت الشمس قد أطلت من وراء الجبال عن بعد، فأرسلت أشعتها على تلك المغارس الواسعة، ففزعت أطيارها، وتناثرت عن الأغصان أسرابا تتسابق إلى الخلاء البعيد، وقد اتجه معظمها نحو الشرق كأنها تتلمس الشمس وهي تحييها وترحب بها بالزقزقة والتغريد.
ونظر رئيس الرهبان إلى ما بين يديه من البساتين فإذا هي تشرح الصدر وتذهب الغم بروائحها العطرية المنبعثة عن أنجم الريحان المتكاثف في أشكال مختلفة، وأكثره قائم أسوارا تفصل بين البساتين أو بينها وبين الدروب ومجاري الماء، ناهيك بالرياحين الأخرى تظللها الأشجار على اختلاف أشكالها وأقدارها، وقد اعتاض أكثرها عن أوراقه الخضراء بالثمار المختلفة الألوان، وفيها الرمان الأحمر، والسفرجل الأصفر، والآس الأبيض ، والخوخ البنفسجي، والتفاح الوردي، وفي بعض جوانب الغوطة كروم العنب المختلفة تتدلى منها العناقيد، وفيها الأبيض الشمعي، والأحمر الوردي، والأسود الفحمي، يتخلل ذلك أعشاب تكسو الأرض قميصا جميلا، وقد اختلفت ألوانها باختلاف أعمارها، ففيها الأخضر الحاني، والأصفر الفاقع، والأبيض اليقق، والأحمر الزاهي، يزينها ما ينحدر بينها من مجاري الماء فوق الحصباء فيختلط خريره بتغريد العصافير وحفيف الأوراق، كأن الغوطة جنة تجري من تحتها الأنهار، والشمس من وراء ذلك ترسل أشعتها فتتكسر على تلك المجاري متلألئة، ويستوقف النظر انكسارها على سطوح البحيرات في بعض المستنقعات.
وكان الرئيس منذ إقامته هناك لا يكاد يفوته صباح لا يقف فيه مثل ذلك الموقف، يسرح بصره في تلك المناظر البهجة، فيشغل بها عما قام من ضوضاء الرهبان والفلاحين وهم يشتغلون بترتيب الفاكهة وحمل الأحمال، وما يخالط ذلك من رغاء الشياه وخوار الثيران ونهيق الحمير في الحظيرة، فوقف يتأمل في صنع الخالق العظيم ثم أرسل بصره إلى أطراف الغوطة من جهة مطلع الشمس فرأى آثار الدروب عن بعد، فإذا هي أشبه شيء بآثار الجداول إذا جف ماؤها.
وفيما هو ينظر إليها بصر بقافلة رجح أنها قادمة من العراق أو الحجاز، وفيها النياق والحمير يقطر بعضها بعضا، فطاب له استشراف تلك القافلة؛ لعله يعرفها أو يتبين جهتها، فحال البعد بينه وبين ما يريد، وكان قبل شيخوخته حاد النظر لا تعجزه معرفة الصور من مثل هذا البعد، فلما أعجزه ذلك الآن وقد كل بصره تذكر شيخوخته، وأسف لانقضاء معظم العمر، وتحول نحو ساحة الدير، وعاد إلى مخاطبة الرهبان والإشراف عليهم، حتى إذا فرغ من ذلك نزل إلى الكنيسة فأقام صلاة الصبح ثم عاد إلى غرفته العليا. •••
صعد رئيس الرهبان على السلم الحجري داخل الدير، وفي يده درج يقرأ فيه، حتى دخل عليته فاتكأ واستغرق في القراءة، إلى أن انتبه لجعجعة جمال تدنو من الدير، فنادى قيم الدير - وكيله - وكان كهلا قوي البنية ممتلئ الجسم جاء الدير من عهد قريب، فلما وقف بين يديه قال له : إني أسمع جعجعة ، فأشرف على الطريق واستطلع خبر القادمين، فأطل القيم من بعض جوانب السطح ثم عاد وهو يقول: رأيت جمالا محملة، وأناسا يظهر من لباسهم أنهم من العراق.
فقال: أظنهم من القافلة التي تبصرتها عن بعد في هذا الصباح، وقد جاءوا إلينا فلا بد لنا من القيام بضيافتهم.
قال القيم: وما الذي يدعونا إلى ذلك وهم غرباء لا نعرفهم؟! أما كفانا ما نقدمه من غلاتنا وثمارنا لرجال الحكومة؟! إذا نزلوا عندنا أنزلناهم ساعة ريثما يستريحون ثم ينصرفون.
قال: إذا أرادوا الانصراف انصرفوا ولا حرج عليهم، وأما إذا آثروا البقاء فلا مندوحة عن القيام بضيافتهم، عملا بالعهد الذي بيننا وبين خلفائهم.
ولم يكن القيم قد سمع بذلك العهد، فقال: وما هو هذا العهد؟
قال: هو عهد أخذ على النصارى منذ الفتح يقضي عليهم بأمور كثيرة منها أن يقوموا بضيافة المسلمين ثلاثة أيام، يخدمونهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجون إليه، وهب أنه لم يكن هناك عهد، أيليق بنا إذا نزل عندنا ضيف إلا أن نكرمه حتى يرحل، ولو أقام سنة؟
فخجل القيم وأراد أن يعتذر، فسمع صوت الناقوس، فقال الرئيس: لقد صدق ظني فاستقبل الضيوف ورحب بهم، وعد إلي بعد أن تئويهم في أماكنهم.
فبعث القيم أحد الرهبان الصغار ليفتح له باب البستان، ووقف هو بباب الدير ينظر إليهم وهم مقبلون، فإذا هم ثلاثة قد تزمل كل منهم بعباءة، وعلى رأسه الكوفية مشدودة بالعقال تغطي وجهه، ومعهم بضعة جمال تحمل أجربة مملوءة تمرا جافا، ويدل ظاهرهم على أنهم من تجار العراق، ولعلهم جاءوا بهذه الأحمال ليبيعوها في دمشق، ولما دنوا من باب الدير تبين الوكيل مما بدا من وجوههم أن بينهم فتاة في مقتبل العمر فاشتبه في أمرهم، وقال في نفسه: لو كانوا قادمين للاتجار لما كان ثمة داع لمجيء تلك الفتاة معهم، فلما بلغوا الباب خف لاستقبالهم، وخاطب بعض الخدم باليونانية أن يأخذوا الجمال إلى الحظيرة للعلف، واستقبل الضيوف مرحبا بهم بلغة عربية مستعجمة لحداثة عهده بالشام، فدخلوا جميعا وهو يتقدمهم، وكان أحدهم طويلا فلم يستطع الدخول من باب الدير إلا مطأطئا رأسه، فمروا في الطرقة الضيقة حتى انتهوا إلى الباب الآخر ومنه إلى ساحة الدير حيث الصفصافة والبئر.
الفصل الثالث
غادة كربلاء
وأنبئ الرئيس بدخولهم، فنزل لملاقاتهم ورحب بهم ودعاهم للجلوس، فأنسوا بفصاحة لسانه العربي وإن تكن العجمة ما زالت بادية فيه، وجلس على مقعد تحت الصفصافة وكل منهم في شاغل من نفسه، فتفرس الرئيس فيهم فرأى أحدهم كهلا في نحو الخمسين من عمره، طويل القامة، عريض الأكتاف، خفيف العضل، واسع العينين أسودهما، خفيف العارضين واللحية، رقيق الوجه، فتذكر أنه رآه غير مرة، وكان الثاني شابا لا يتجاوز بضعا وعشرين سنة، ولكن من يراه يحسبه ابن ثلاثين؛ لخصب جسمه ونمو عارضيه ولحيته، وكان مشرق الوجه تكاد الصحة تتدفق من وجنتيه.
وأما الفتاة، فلم يتمالك الرئيس عند النظر إليها من الإعجاب بجمالها؛ إذ لم يسبق له أن رأى فتاة مثلها في عمره الطويل الذي قضاه في دمشق وضواحيها، على كثرة ما شاهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، ولم تقع عينه من قبل على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة ما في وجه هذه الفتاة، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها وإن لم تكونا كبيرتين كعيني رفيقها الشاب، ولكنهما كانتا حادتين ينبعث النور من أهدابهما، جذابتين لا يستطيع من يراهما غير الاستسلام لهما والرضوخ لسلطانهما، وقد زادهما تأثيرا في القلوب أنهما كانتا في وجه ناضر، وقد توردت وجنتاه حتى كاد الدم يقطر منهما.
والتفت الرئيس إلى بساطة ثوبها فخيل إليه أنها من الفقراء، وقال في نفسه: إذا كان أبوها فقيرا بالمال فإنه غني بهذه الفتاة. إنها لو حسرت أكمامها وأزاحت لثامها لعلم أنها ليست من الفقر في شيء؛ لما بأذنيها من أقراط اللؤلؤ، وما في معصميها من الأساور والدمالج من الذهب والفضة والعاج، ناهيك بما يراه حينئذ من جمال فمها وما فيه من المعاني السالبة للقلوب مما يقصر دونه القلم ويكل عن وصفه اللسان. والجمال الذي يعبر عنه باللسان أو القلم ليس جمالا، وإنما هو صورة يصنعها الكاتب أو المتكلم ألفاظا، وأما الجمال فما أعجزك عن وصفه، وخانتك القريحة في التعبير عنه. ذلك هو جمال سلمى عروس روايتنا؛ فقد كان في محياها شيء لا يعبر عنه إلا بالسحر، فلا يراها أحد إلا شعر بميل إليها، ولا يكلمها حتى يقع تحت سلطانها فلا يقوى على جدالها، فضلا عما يبدو عليها من مخايل الذكاء وحدة الذهن وأصالة الرأي، مع ما يتجلى في وجهها من عزة النفس والأنفة.
وكان الرئيس لما رأى أولئك الضيوف قد ظنهم لأول وهلة أبا وولديه، ولكنه ما لبث أن تبين من تباين الملامح أنه ليس أباهما، وإن تكن المشابهة قريبة بين الشاب والشابة.
فافتتح الرئيس الحديث قائلا: يظهر أنكم قادمون من مكان بعيد، لعلكم من العراق؟
فأجاب الكهل قائلا: نعم يا سيدي، إننا قادمون من الكوفة بأحمال التمر إلى أسواق دمشق.
ولم يكد يتكلم كلامه حتى كان الرئيس قد تذكره وعرف اسمه فابتدره قائلا: ألست عامرا الكندي؟ فابتسم عامر وقال: نعم، أنا هو يا سيدي، وقد كتمت أمري لأرى هل تذكر ضيفك القديم؟
فتنهد الرئيس وقال: وكيف لا أذكره وقد شاهدت من أيام ضيافته يوما هائلا؟! إني لا أزال أذكر تلك الساعة الرهيبة تحت الجوزة.
فأشار عامر بملامح وجهه إشارة تنم عن أنه لا يحب تلك الذكرى المؤلمة، وأراد استئناف الحديث فسبقه الرئيس إلى السؤال قائلا: لعل هذا الشاب ابنك وهذه الفتاة ابنتك، ما اسماهما؟
فتوقف عامر لحظة وهو يحك طرف ذقنه بسبابته ثم قال: نعم إنهما ولداي: عبد الرحمن وسلمى.
فاكتفى الرئيس بذلك وقد لحظ أن في نفس عامر شيئا يريد كتمانه، فتشاغل بحصى كانت في جيبه جعل يعدها بين أصابعه في داخل الجيب، وكانت هذه الحصى تقوم مقام السبحة عند الرهبان في تلك الأيام؛ لأنهم كانوا يفرضون على أنفسهم صلوات معدودة في اليوم فيضعون في جيوبهم من الحصى بقدر ذلك العدد، وكلما فرغوا من صلاة رموا حصاة حتى يفرغ الجيب، فيكون هذا دليل إتمام الفرض، ولم تتخذ السبحات في النصرانية إلا في القرن الثالث عشر للميلاد، فتشاغل الرئيس بتلك الحصى وحول الحديث إلى موضوع آخر فسأل: في كم يوم قطعتم الطريق من الكوفة إلى هنا؟
قال عامر: قطعناها في عشرين يوما مع القافلة.
فقال الرئيس: وهل تكبدتم هذا السفر الطويل للاتجار بهذه الثمار؟! إنها لا تباع بما يساوي تعبكم في حملها.
فاشتم عامر من سؤال الرئيس رائحة الارتياب ولم ير بدا من إزالة كل شك في نفسه فقال: صدقت يا مولاي، ولو كان الأمر لبيع هذه البضاعة فقط ما تكبدنا المشقة من أجلها، ولكننا نبيعها ونبيع الجمال أيضا، وهي تباع بثمن غال وأرباحها أضعاف أرباح التمر، وفي عودتنا نتجر في تجارة أخرى نحملها من دمشق إلى العراق، ثم تذكر أن مجيء سلمى معه غير عادي، فراح يبرره بقوله: أما سلمى فأرادت أن تأتي معنا للتفرج على دمشق ومعالمها، فرأينا ذلك أولى لها من البقاء في الكوفة وحدها في أثناء غيابنا. •••
وكان عامر والرئيس يتحدثان وسلمى تنظر إلى شيخ متكئ في زاوية الباحة وبجانبه كلب كبير الهامة أسود اللون قوي البنية أقعى على مؤخره، وقد نصب يديه واعتمد عليهما كأنه أسد رابض، واتجه إلى سلمى كأنه يتأمل وجهها وعيناه تتلألآن كالمصباح.
وأما الشيخ المتكئ فإنه استلفت انتباه سلمى بنوع خاص لغرابة هيئته وخشونة لباسه، ولم تكن قد رأت مثل ذلك الرجل قط ولا سمعت بمثله؛ إذ كان من الشيخوخة بحيث لم يبق في رأسه ووجهه شعرة سوداء حتى يخيل إلى الناظر إلى رأسه عن بعد أنه عمامة بيضاء قد برز منها أنف وعينان سوداوان غائرتان أحدق بحدقتيهما قوس الشيخوخة، يعلوهما جبين متجعد، ومما يزيد منظره رهبة أنه لم يمشط شعره ولا غسل وجهه منذ أعوام، فأصبح الشعر ملبدا لا يسلك فيه مشط، وكان ساعة رأته سلمى يحك لحيته ورأسه، يحاول تمشيطهما بأظافر مستطيلة كالمناجل! وأغرب من ذلك أنها لم تر عليه من اللباس إلا ثوبا من نسيج الشعر كالمسوح التي يلبسها النساك، أو هي عباءة أصبحت لقدم عهدها لا يعرف لها لون.
وكان الشيخ متكئا بجانب الكلب وقد غلبه النعاس، فكان يغمض جفنيه فينام وهو لا يريد أن ينام، وكلبه بالقرب منه، وكلاهما مستأنس برفيقه.
وكان عبد الرحمن أيضا مأخوذا بذلك الشيخ الهرم وبكلبه، ينظر إليهما مفكرا، فلما ذكر عامر اسم سلمى انتبهت والتفتت إليه والدهشة ظاهرة في وجهها، وأشارت إلى ذلك الشيخ وهي تقول: أدهشني أمر هذا الشيخ، وأرى عبد الرحمن قد استغربه مثلي.
فسمع عبد الرحمن اسمه فالتفت لفتة تدل على تعجبه مثلها، فأشار الرئيس إليهم بإصبعه وعض شفته، ودنا منهم فتطاولوا إليه بأعناقهم فقال لهم همسا: إن هذا الشيخ أشبه الناس بالنساك والمتعبدين، ولكنه يخالفهم في أمور كثيرة وكأن به خبلا! جاءنا منذ أعوام فأقام عندنا، وهذا الكلب الأسود قلما يفارقه ليلا ولا نهارا، ولم نره مرة غسل وجهه أو قلم أظافره أو غير ثوبه، ومن غريب أمره أنه لا يأوي إلى غرفة ينام فيها؛ فهو يتوسد يوما هذه الزاوية، ويوما تلك، وآونة يبيت في الغوطة على بعض الأشجار أو تحت بعضها، ومن أغرب ما فيه أنه لا يذوق اللحم ولا الخبز، ولا يأكل شيئا غير الفاكهة، فيطوف البساتين يقطف الثمار بيده ويتسلق الأشجار لهذه الغاية لا يعترضه معترض منا رحمة به وشفقة على حاله، والفاكهة هنا كثيرة.
فقال عامر: لا بد أن يكون ذا كرامة؛ لأن أمثال هذا الرجل يعدون عندنا من أصحاب الكرامات.
وبينما هم يتهامسون إذ سمعوا قرع الناقوس، فخف أحد الرهبان ليستقبل القادم، فطال وقوفه خارجا ولم يعد، فنهض الرئيس في أثره. •••
وكانت سلمى قد مدت يدها نحو الكلب وأشارت إليه تدعوه، فهرول إليها مسرعا، فناولته ثمرة كانت في جيبها، فاستأنس بالفتاة وجعل يحك رأسه بثوبها، وهي تمس جبينه بأناملها فيبالغ في الدنو منها وهو يحرك ذنبه، فلما سمع قرع الناقوس انتصب بغتة ورفع ذنبه والتفت إلى باب الدير وحدق بعينيه ونشر أذنيه كأنه يتوقع أن يرى أحدا وقد تأهب للوثوب عليه.
فلما طال وقوف الرئيس خارجا نبح الكلب نبحة قوية ذعر لها الجالسون وبخاصة الشيخ الناسك، وكان نائما فأفاق والتفت إلى ما حوله فرأى كلبه بعيدا عنه فناداه: شيبوب! فدنا الكلب منه وجعل يلحس أنامله وذراعه والشيخ يقول: أهلا برفيقي الصديق، ما ظنك بهذا القادم، يظهر لي من عوائك أنك أسأت الظن به.
فلما سمع عامر صوت الشيخ يتكلم العربية الفصحى وقد سمى كلبه باسم عربي جاهلي قال في نفسه: يظهر أن الرجل عربي أيضا، فمن هو يا ترى وما هو شأنه.
أما الرئيس فكان قد لحق براهبه فرأى بالباب رجلا في لباس يشبه لباس عامر ورفيقيه، ولكنه أجفل لما رآه في وجهه من البرص الشديد إلى درجة البياض الناصع، على أنه ظنه لأول وهلة رفيقا لعامر وقد تخلف في الطريق فرحب به وقال له: ادخل إن رفاقك هنا منذ ساعتين.
فأومأ إليه الرجل أن يسكت واجتذبه بيده إلى منعطف وراء الباب حيث لا يراهما أحد وقال له: احذر أن تذكر أمر مجيئي لأحد، وبخاصة أولئك الثلاثة الذين ظننتهم رفاقي، فإن في الأمر سرا عظيما سأطلعك عليه فيما بعد، وأما الآن فأرجو منك أن تدخلني غرفة لا يراني فيها أحد ولا يعلم أحد بوجودي هنا، وأقول لك مرة أخرى: احذر جيدا، فالأمر يتعلق بمولانا أمير المؤمنين.
فأجفل الرئيس وأجاب على الفور قائلا: إني فاعل ما تريد، وإذا شئت أن أخرج هؤلاء الأضياف من الدير في هذه الساعة فعلت.
قال: لا تخرجهم، بل استبقهم كما يشاءون، ولكنني أوصيك بأن تكتم خبر مجيئي.
قال: سمعا وطاعة، وأدخله من باب في تلك الطرقة يؤدي إلى ممر يستطرق إلى حجرات يقيم بها الرهبان الذين يشتغلون بالصناعات، وفيهم الحائك والخياط والنجار وصانع النعال أو السلال وغيرهم، في حين لم يكتم الضيف الأبرص دهشته مما يراه وكأنه في بعض أسواق الكوفة، على أنه لم يستغرب ملابسهم؛ لأنه كان قد رأى رهبان العراق في مثلها، وهي مسوح من نسيج الشعر أو القطن فوقه جلد أبيض من جلود الماعز لا يفارق أجساد الرهبان ليلا ولا نهارا إلا وقت تناول الأسرار المقدسة.
ومشى الرئيس حتى انتهى إلى غرفة بجانب الكنيسة، فأدخله إليها وهو يردد في ذهنه ما سمعه منه، ثم عاد إلى ضيوفه في ساحة الدير واختصر في مجالستهم ومحادثتهم، فأمر بعض الرهبان أن يعد لهم مكانا يقيمون به، فأدخلهم غرفة ليس فيها إلا حصير، وعاد، فأغلقوا الباب وجلسوا يتهامسون.
وكان أول من تكلم منهم عبد الرحمن، فخاطب عامرا قائلا: ألم أقل لك إنك أخطأت بمجيئك في أثري إلى هذه الديار؟ ولو أتيت وحدك لكان خيرا، ولكنك اصطحبت سلمى فأوجبت إساءة الظن بنا، حتى سمعت من رئيس هذا الدير ما سمعته من التلميح والتعريض.
فقال عامر: قلت لك يا بني، إنني إنما جئت بدافع مما أخذته على عاتقي من أمر حراستك؛ فإنك بمنزلة ولدي، وقد مات أبوك وأوصاني بكفالتك، ورأيتك تورطت في عمل خطير لم يقدم عليه أحد قبلك، وأردت أن تأتيه منفردا في بلاد غريبة، فكيف لا أتبعك؟ وأما سلمى فإنها أشد قلقا مني عليك.
فقال: أتخطئني في عمل أنتقم به لآل الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأنجي به المسلمين؟
فقطعت سلمى عليه الكلام بصوت هادئ والرزانة بادية في وجهها وقالت: لا ريب في أن ما جئت لأجله أمر مقدس، وإذا أنت لم تقم به فأنا أتولاه، ولعلي أولى به منك؛ فإن الرجل الذي تريد قتله وإراحة الناس منه قد أساء إلي، وبيني وبينه ثأر عظيم، فإنك تعلم أن أباه قتل أبي شر قتلة. قتله وأنا لم أره ولا عرفت له صورة، قتل «حجرا الكندي» سيد قومه ووجيههم، وقد قتله لأنه أبى أن يطيعه ويلعن الإمام عليا ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والله لقد حق القتل على يزيد، إن لم يكن انتقاما للإمام علي فانتقاما لحجر بن عدي، وإن لم يكن لهذا أو ذاك فإنقاذا للعباد من سلطان شغل عن مصالح الخلافة بتربية الكلاب والقرود والفهود، ومجالسة النساء، والصيد والقنص، والشعر وضرب الطنابير والشراب، ناهيك بتهاونه في أمور الدين. فالإقدام على قتله فضيلة، ولكنه عمل خطير محفوف بالمخاطر؛ أنى لك أن توفق إلى ذلك وأنت فرد ويزيد خليفة، يحيط به الأعوان والأنصار في الليل والنهار؟! إني أخاف عليك مما أصاب ابن ملجم الذي تجرأ على قتل الإمام علي وسط المسجد ولم ينج من القتل، فهل تعرض نفسك لمثل ذلك الخطر؟
وكان عبد الرحمن جالسا وسلمى تتكلم، فلما بلغت هذا الحد وقف وجعل يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، وعليه مظاهر الاهتمام، ثم قال: سامحك الله يا سلمى، إذا كنت وأنت فتاة تتطوعين لقتل هذا الرجل، وترين ذلك فريضة وفضيلة، فكيف ترضين لي أن أحجم عن ذلك، وإن ضحيت في سبيله بحياتي؟
فقطعت كلامه قائلة: لا تضح حياتك حماك الله من كل شر. هذا هو الأمر الذي دفعني إلى اللحاق بك مع عمي هذا. خرجت من الكوفة تريد قتل يزيد في دمشق الشام، ومن هو يزيد؟ أليس خليفة المسلمين الآن وفي يده الحل والعقد، وحوله الجند والأعوان؟! فخفنا أن تقع بين يديه أو يصيبك شر، فلحقنا بك لنكون بقربك نبذل لك العون، إذ لا صبر لنا على بعدك. أما يزيد فأنا لا أرى راحة إلا بقتله، وما كان أغنانا عن ارتكاب هذه الجريمة لو أن أباه ترك الخلافة بعده شورى للمسلمين، وإذن ما كان ليتولاها إلا حبيبنا وسيد شباب المسلمين الإمام الحسين؛ لأنه أحق الناس بها، ولكن معاوية أبى إلا أن يوصي بها لابنه هذا بالرغم من كل مسلم، فكيف نسكت على ذلك؟ وزد على هذا أن معاوية قتل أبا حجر شر قتلة، فإذا كنت أنت ناقما لقتل حجر لأنه عمك، فإنه أبي، وقد قتل ولم أره، ثم إنكم لم تنبئوني بمصيره إلا من عهد قريب، فقد ربيت في البادية صغيرة لا أعرف غير اللعب والمرح وأنا أحسب أبي حيا في الكوفة، والناس إذا ذكروه أطنبوا في مدح مروءته وشهامته، وكنت أتوقع إذا شببت أن آتي إليه فأراه وأفاخر به الناس، فما لبثت حتى علمت بقتله.
قالت ذلك وغصت بريقها وتوقفت عن الكلام هنيهة ثم قالت لعامر : وأنت يا عماه ألا تخبرني كيف كان قتل أبي؟ إنك قد وعدتني بذلك حين نصل إلى قبره، وها نحن وصلنا، فأين ما وعدتني به؟
فتنهد عامر وقال: نعم يا بنيتي إني أعرف مدفنه، وأظن رئيس هذا الدير يعرفه أيضا. ألم تسمعي إشارته إلى ذلك العمل الفظيع؟
قالت: سمعت ولم أظهر شيئا؛ لأننا نريد كتمان أمرنا عن كل إنسان لنرى ما ينتهي إليه حالنا.
وكان عبد الرحمن ما يزال يخطر في الغرفة وقد حل عقاله وأرخى الكوفية على أكتافه وراح يردد بصره في سلمى وهي تتكلم معجبا بحميتها، فلما قالت ذلك أجابها: اعلمي يا سلمى يا بنت عمي وخطيبتي ويا أملي ويا منتهى أربي، اعلمي رعاك الله أني لا يهنأ لي عيش حتى أنتقم لأبيك المدفون في هذا المرج، مرج عذراء، فإذا وفقت إلى ذلك فقد حق لي أن أكون لك وتكوني لي كما أوصى أبوانا وهما من الأحياء، وإذا لم أوفق فلا آسف على حياتي.
فصاحت وقد كاد الحياء يغلبها وهي تحاذر أن ترفع صوتها خوف الرقباء: حياتك أعز حياة عندي، وما معنى بقائي إذا أنت أصبت بسوء! فكيف تلومني إذا لحقت بك؟ وأما عمنا عامر فإنه لنا بمنزلة الأب وقد انقطع عن العالم من أجلنا، وهو رفيقنا في السراء والضراء.
وكان عامر مع شدة إعظامه الأمر لا يمل النظر إلى سلمى متتبعا كل حركاتها وسكناتها وهي تتكلم، ثم ينظر إلى عبد الرحمن، ويعجب بما أودعه الخالق فيها من الخلال النادرة. •••
وأدرك القارئ من خلال الحديث أن سلمى هي ابنة حجر بن عدي قتيل مرج عذراء، وأن عبد الرحمن ابن عمها وخطيبها، وعامرا كفيلهما.
وتفصيل ذلك أن سلمى ولدت في الكوفة قبل مقتل أبيها بثمان سنوات، فعهد في أمرها إلى امرأة عامر ترضعها عند زوجها في البادية، وكانت تلك عادة المتحضرين من العرب، إذا ولد لهم مولود عهدوا في رضاعته إلى بعض نساء البادية، فيربى في الخلاء حيث الهواء الطلق والعيش الرغيد، فيشب أولادهم أصحاء البنية أشداء ، فربيت سلمى في حجر عامر ثماني سنين لم تر فيها أباها. فلما سيق إلى مرج عذراء سنة 51 للهجرة مع آخرين كانت أمها قد ماتت، وكان آخر ما قاله حجر أن أوصى عامرا بالعناية بها وأن يتخذها ولدا له، وأن يزوجها بعبد الرحمن، ولكن بعد موت معاوية بن أبي سفيان، فظلت في حجره حتى شبت، وكان عامر كثير التردد على الشام للتجارة منذ صباه، وبنو كندة ما زالوا على النصرانية، فكان إذا جاء الشام أقام بها حينا يتردد الأديار والكنائس يجالس أهل المعرفة فيقصون عليه شذرات من تاريخ اليونان وما يتعلق به من تواريخ الشام وغيرها، وكان يحفظ كل ذلك ويتفهمه حتى عد بين رهطه من أحسنهم معرفة وأوسعهم اطلاعا على التاريخ، وآنس عامر في سلمى ذكاء ورغبة في استطلاع أقاصيص الأولين، فكان يقص عليها كل ما اتصل به من أخبار الفرس والروم وما بينهما.
وكانت كثيرا ما تسأله عن أبيها فيكتم عنها خبر مقتله، حتى اتفق منذ عامين أن ذكر الناس خبره وهي تسمع، فاستطلعته الحقيقة فباح لها بها، فثارت حميتها، وهاجت عواطفها، وعزمت بينها وبين نفسها على الانتقام.
وأما عبد الرحمن ابن عمها فقد ربي معها في تلك البادية منذ كانا طفلين على أن تكون زوجة له، وقد مات أبوه وهو طفل فكفله عامر، فلما بلغ أشده وسمع بمقتل عمه حجر وما أعظمه الناس من أمره عزم على أن يثأر له، وكان كسائر بني كندة وغيرهم من دعاة أهل البيت لا يرون لمعاوية حقا في الخلافة، فشب هو وابنة عمه على كره الأمويين والتشيع لآل البيت، وكان معاوية ما زال حيا والناس يتوقعون موته ليبايعوا الإمام الحسين، فصبر على ما في نفسه، وقد نزل هو وعامر الحجاز ومعهما سلمى وأقاموا بالمدينة في منزل الإمام الحسين زمنا ينتظرون ما يأتي به القدر.
وقضت عليهم الأحوال قبيل وفاة معاوية أن يعودوا إلى الكوفة، فبلغوها وقد مات معاوية، وجاء الخبر بمبايعة يزيد فعظم ذلك على عبد الرحمن، وأقسم لا يفرحن حتى يقتل يزيد، ووافقته سلمى على ذلك، وعامر لا يبدي اعتراضا، ولكنه لم يكن يحسب أن عبد الرحمن سيقدم على ذلك لتوه. فأصبح عبد الرحمن ذات يوم فودع سلمى وعامرا، وأخبرهما أنه عازم على السفر إلى دمشق ليبر بقسمه، فاستمهلاه وهو لا يصغي، وأخيرا ودعهما وخرج يريد دمشق، وفي مساء يوم سفره تعاظم بلبال سلمى، فلم يهدأ لها بال حتى لحقت به هي وعامر بحجة الاتجار بالتمر، فالتقيا به في القافلة قبل الغوطة بقليل، فساءه ذلك ولامهما على مجيئهما، ولكنه لم ير حيلة في إرجاعهما، فجاءوا معا إلى الدير كما مر، وبعد أن دار ما دار بينهما من الحديث قالت سلمى: لا بد لنا من تدبر الأمر بالحكمة؛ أما قتل يزيد بين رجاله وجنوده فتهور لا نرضاه لك ولا هو مستطاع. فهل من رأي صائب رأيته في الوصول إلى الغاية؟
فلما سمع عبد الرحمن كلامها رجع إلى صوابه، وجلس وهو يصلح وضع كوفيته على رأسه وقال: إنك تنطقين بالحكمة، ولا تظنيني من الجهل بحيث أقتحم هذا الأمر بجهالة، ولكنني رأيت رأيا سأعرضه عليكما وأظنكما توافقانني عليه.
قال عامر: وما هو؟ قال: إنه لا يمضي أسبوع لا يخرج فيه يزيد للصيد؛ لأن له ولعا شديدا، فيخرج بحاشية كبيرة بين فارس وراجل إلى هذه الغوطة؛ لكثرة ما فيها من الطير والظباء. وأعرف قرية على مقربة من هنا يقال لها: «جرود»، يكثر فيها حمار الوحش، وهو مولع بصيده، فإذا أوغل في الصيد خرجت متنكرا أراقب انفراده خلف طريدة فأرميه بنبل أو أطعنه بخنجر، فإذا لم أتمكن في المرة الأولى حاولت ذلك في الثانية أو الثالثة حتى أظفر به وأكفي الناس شره.
فلما سمعت سلمى قوله ابتسمت وأبرقت عيناها سرورا بصواب رأيه وقالت: أنت رأي حسن، ولكن علينا أن نراقب خروجه للصيد.
قال عامر: ذلك علي، فإذا أصبحنا غدا دخلت دمشق بأحمالي وتجارتي واستطلعت خبر الصيد.
فقالت سلمى: على الله التوفيق، ولكنني أرجو منك يا عماه أن تدلنا على قبر أبي فنزوره وأكحل عيني بترابه، وأسمع منك خبر مقتله بالتفصيل.
قال: إن القبر يا ابنتي على مسافة ربع ساعة من هذا الدير، تحت شجرة من الجوز كبيرة تظهر للرائي عن بعد، ولكننا لا نستطيع الذهاب إليها إلا ليلا لئلا يرانا الرئيس أو غيره ممن يعرفون المكان فيشتبه فينا.
وقضوا بقية ذلك اليوم في الاستراحة من وعثاء السفر وهم يتأهبون للخروج في الليل إلى قبر حجر. •••
ولما غربت الشمس صعدوا إلى سطح الدير وهم يتظاهرون برغبتهم في تفقد منظر الغوطة ليلا، فلقيهم رئيس الدير وكان جالسا في أحد جوانب السطح يصلي على انفراد، فتغافلوا عنه وجعلوا يتحادثون، حتى إذا فرغ من صلاته نهض واقترب منهم، وكان القمر بدرا كاملا، فما أزف الغروب حتى أطل من وراء الأفق، كأنه يتطلع إلى الشمس يبغي وداعها وهي تتجاهل غرضه، وظلت سائرة في سبيلها لا تلتفت إليه ولسان حالها يقول: إذا كنت تبغي لقائي فاتبعني. وكأنه شعر بحاجته إلى نورها فجرى في أثرها يتبع خطاها ويسترق من أشعتها حبالا يرسلها على تلك الغوطة الواسعة الأطراف، وفيها من الفاكهة أزواج، ومن المياه أقنية وبحيرات، ينعكس النور على أسطحها متلألئا كالمصابيح، ولم تمض ساعة حتى علا البدر فأنار تلك الحدائق الغناء فأصبحت بحرا كثير الألوان، ينوب فيه عن هدير الأمواج حفيف الورق وخرير المياه وزقزقة الطيور وهي عائدة إلى أوكارها أسرابا متكاثفة، تسبح الخلاق العظيم.
وشغل عامر بالحديث مع الرئيس، أما سلمى وعبد الرحمن فإنهما لبثا واقفين يتأملان في ذلك المنظر البديع، وسلمى قلقة تفكر فيما يهدد عبد الرحمن من الخطر المقبل، وتحاول أن تلهي نفسها بالنظر إلى ما أمامها من الأشجار الباسقة والينابيع الجارية والأشعة المتلألئة، وما يتخلل ذلك من تغريد العصافير وأصوات الماشية في الحظيرة من معاء الماعز وخوار الثيران وجعجعة الجمال، على أن هذا كله لم يلهها عن مقتل أبيها وما تتوقعه من سماع حديث عامر تلك الليلة.
وأما عبد الرحمن فقد كان همه تدبير الحيلة لبلوغ أربه من يزيد، لا يعير الغوطة ولا مناظرها التفاتا، ثم حانت منه لفتة إلى سلمى وهى تنظر إلى الغوطة وقد أطل عليها البدر ووقع ضوءه على وجهها، فكأنهما قمران تلاقيا على موعد، فثار فيه ثائر الحب، وأعجب بما في ابنة عمه من جمال المعاني، وتذكر إعجاب الشعراء بجمال البدر فقال في نفسه: أين تلك الصفحة المستديرة الصماء من هذا الملاك الناطق الذي ينبعث نور الحياة من محياه! وكأن لسان حاله يقول:
بدر أرق محاسنا
والفرق مثل الصبح ظاهر
وكان عامر يحدث الرئيس في شئون شتى لا علاقة لها بما في نفسه من أمر حجر وعزمهم على زيارة قبره تلك الليلة، وكان نظره متجها إلى الجوزة التي يعرف أنها تظلل ذلك القبر، وهو يغافل الرئيس في ذلك لئلا يلحظ تطلعه، حتى إذا وقع نظره على تلك الجوزة عرفها عن بعد من كبرها وانبساط أغصانها، فتنهد عميقا وجعل يتفرس في الطريق المؤدي إليها، ثم التفت إلى الرئيس فقال له: سبحان الخالق العظيم! ما أجمل هذه الليلة المقمرة، وما ألطف هذه المناظر البديعة.
قال الرئيس: إن هذا يدلنا يا ولدي على قدرة الباري سبحانه وتعالى. إني أقف هذا الموقف فيدفعني جماله إلى شكر العناية العظمى التي أعدت للإنسان كل ما يحتاج إليه في هذه الحياة الدنيا.
فقال عامر: سبحانه جل سلطانه، ما أجمل صنعه! وما أبدع مخلوقاته! إن في العراق كثيرا من البساتين الغضة ولكن أكثر أشجارها من النخيل. أما أصناف الفاكهة التي أراها في هذه الغوطة فإنها خاصة ببلاد الشام، وتحدثني نفسي أن أخرج في هذا الليل أستمتع بشذا الرياحين وأجول بين الأشجار، فهل ما يمنع من ذلك؟
قال: لا أرى مانعا يمنعكم، غير أني أفضل النظر إليها من فوق هذا السطح؛ فإنه أوسع أفقا، وبخاصة في ضوء القمر.
قال: الحق ما قلت، ولكنني سمعت ابنتي هذه تتشوق إلى الخروج فوعدتها بأن أرافقها فنمشي هنيهة ثم نعود.
قال: لا مانع من خروجكم، وإذا شئتم أرسلت معكم بعض الرهبان يرشدكم ويسير في خدمتكم.
قال: إني أعرف الطريق جيدا فلا حاجة بنا إلى دليل.
قال: افعلوا ما بدا لكم.
فاتجه عامر إلى عبد الرحمن وسلمى وقال لهما: هلم بنا إلى الغوطة نتمشى بين أشجارها، فقد أذن لنا الرئيس بذلك.
فنهضا، وتحولوا جميعا فنزلوا إلى ساحة الدير وأطلوا منها على الحجرة التي كانوا مقيمين بها أثناء النهار، فرأوا بابها مفتوحا، فأسرع عامر وأغلقه، وبينما هو عائد رأى كلب الناسك نائما بالقرب من الباب ولم ير شيخه معه، فعجب لذلك؛ لأنه كان قد سمع أن الشيخ الهرم قلما يفارق كلبه ليلا أو نهارا.
وكان عبد الرحمن وسلمى قد سبقاه إلى باب الدير، فخرج في أثرهما وهو يقول: لقد رأيت شيبوب نائما وحده بقرب حجرتنا فأذكرني ذلك الشيخ الجليل، ومما أدهشني من أمره أنه يتكلم العربية الفصحى وفي لهجته ما يقارب لغة العراق، ووالله لقد تمنيت أن أخلو به لأسأله عن أصله.
قالت سلمى: أين هو من العراق? وما الذي يأتي به إلى هذه الديار؟ إني أراه رجلا له، ولكنني استأنست بشيبوب، ليتنا نصطحب هذا الكلب؛ فإنه قد يدفع عنا أذى الدبابات أو ينبهنا إلى لص قادم.
فقال عبد الرحمن: دعونا من هذا الرفيق، فإننا في حاجة إلى التستر.
وكانوا قد وصلوا إلى باب البستان ففتحوه وخرجوا إلى الغوطة وهم يتظاهرون في بادئ الأمر بأنهم يريدون التنزه مشيا. حتى إذا تواروا عن الدير أوغلوا بين الأشجار المتكاثفة، وعامر يسير أمامهما، وسلمى وعبد الرحمن يتبعانه، تارة يطلعون وطورا ينزلون، وهم يتحسسون الطرق على ضوء القمر المنبعث من خلال الأغصان.
وما زالوا يقطعون قناة هنا، أو يعبرون جسرا هناك، وهم سكوت، وقلب سلمى يخفق تطلعا إلى قبر أبيها، وعبد الرحمن يفكر فيما عزم عليه من قتل يزيد، حتى أشرفوا على مرتفع بسيط تعلوه شجرة جوز منبسطة الأغصان، تظل بقية خالية من النبات وفيها مرتفعات من الأتربة على غير نظام. فلما صاروا تحت الجوزة وقف عامر ثم التفت إلى سلمى وأشار إلى أكمة صغيرة بجانب ساق الجوزة وقال: هذا هو يا سلمى قبر أبيك.
وما أتم كلامه حتى ترامت على ذلك التراب تقبله وهي تبكي وتصيح : وا أبتاه! هذا هو ترابك، فأين أنت! أين أنت يا حجر بن عدي سيد كندة! وأوغلت في البكاء.
أما عبد الرحمن فتقدم حتى وقف بجانب سلمى وقد أنكر صياحها وخشي افتضاح أمرهم بسببه، فوقف إلى ساق الجوزة وقال لسلمى: لا تبكي يا سلمى فإن البكاء لا يليق على ميت سننتقم له في الغد، والتفت إلى عامر وهو يقول: اقصص علينا يا عماه تفصيل مقتل صاحب هذا القبر.
فقال عامر: اجلسا يا ولدي لأقص عليكما الخبر كما عرفته، ثم قال بصوت ضعيف: اعلما أننا في أرض العدو فينبغي أن نتستر ما استطعنا.
فسكتوا برهة وهم ينظرون إلى ما حولهم، فإذا بالمكان قفر خال، لا يسمع فيه غير خرير السواقي عن بعد ونقيق الضفادع، وقد وقعت ظلال تلك الجوزة على ما حولهم فأووا إلى الظل بجانب القبر، وجلسوا على التراب وسلمى جاثية وعيناها تدمعان، وهي صامتة تتطاول بعنقها وتنتظر ما سيقوله عامر.
الفصل الرابع
مقتل حجر بن عدي
جالس عامر جاثيا أمام قبر حجر، وبدأ بتلاوة الفاتحة واستغفر الله ثم افتتح الحديث قائلا: اعلمي يا سلمى أن أباك صاحب هذا القبر كان من أقوى أنصار الإمام علي، وقد حارب معه حروبا كثيرة وجاهد معه بسيفه ولسانه جهادا حسنا إلى آخر نسمة من حياته، فلما قتل الإمام علي وصار أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان في دمشق ظل أبوك وغيره من العلويين على مبدئهم بين مجاهر ومستتر، وكان أبوك يقيم بالكوفة مع قومه ينادي بحبه عليا على رءوس الأشهاد، ولكن سلطان معاوية ما لبث أن استفحل، وكان كما تعلمين قد جعل ديدنه الحط من كرامة علي وجميع أهل البيت، فكان يأمر الناس أن يلعنوه، فمنهم من يطيع خائفا ومنهم من لم يكن يفعل، وفي مقدمة هؤلاء أبوك حجر وبعض رفاقه. حتى إذا كان سنة 51 للهجرة بعث معاوية إلى الكوفة عاملا اسمه المغيرة بن شعبة وأوصاه حين بعثه قائلا: «أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم تقرع العصا، وقد يجزئ عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم.» فقال له المغيرة: «قد خرجت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمني، وستبلو فتحمد أو تذم.» فقال معاوية: «بل نحمد إن شاء الله.» فأقام المغيرة عاملا على الكوفة وهو لا يدفع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فكان أبوك إذا سمع ذلك قال: «بل إياكم من دم علي ولعنه!» ثم يقول: «أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تشكرون أولى بالذم.» فيقول له المغيرة: «يا حجر، اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك.» ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارة المغيرة قال في علي وعثمان ما كان يقوله فقام أبوك وصاح فيه صيحة سمعها كل من في المسجد وقال: «مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين.» فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: «صدق حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعا.» وأكثروا من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة فدخل عليه قومه وقالوا: «علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟» فقال لهم: «إني قد فتنته؛ سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله. إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار هذا المصر فيسعدون وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية ويشقي في الآخرة المغيرة.»
ثم توفي المغيرة، وولي الكوفة زياد ابن أبيه المشهور بدهائه ومكره، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه، ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام أبوك ففعل كما كان يفعل بالمغيرة، فكظم زياد، حتى إذا عزم على الفتك به دخل المسجد وصعد المنبر يوما فحمد الله وأثنى عليه، وأبوك جالس، ثم قال: «أما بعد، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جمعوا فأثروا، وأمنوني فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأجعله نكالا لمن بعده، ويل لك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان.» ثم أرسل إلى أبيك يدعوه وهو بالمسجد، فلما أتاه رسول زياد قال لأصحابه: «لا نأتيه ولا كرامة له.» فرجع الرسول فأخبر زيادا فأمر صاحب شرطته، وهو شداد بن الهيثم الهلالي، أن يبعث إليه جماعة ففعل، فسبهم أصحاب أبيك، فرجعوا وأخبروا زيادا.
فلما رأى زياد امتناع أبيك بأهله وأصحابه احتال بشتى الحيل حتى تمكن من القبض عليه خدعة. وذلك أن بعض أصحاب أبيك استأمنوا زيادا على أن يرسله إلى معاوية في الشام، فأمنه زياد، وأرسلوا إلى أبيك فجاء زيادا، فلما رآه قال: «مرحبا بك أبا عبد الرحمن، أحرب أيام الحرب؟ وحرب وقد سالم الناس؟! على أهلها تجني براقش.» فقال أبوك: «ما خلعت الطاعة، ولا فارقت جماعة، وإني على بيعتي.» فأمر به إلى السجن، فلما ذهب قال زياد: «والله لأحرصن على قطع رقبته.»
ثم جد زياد في طلب أصحاب أبيك فهربوا، فأخذ كل من قدر عليه منهم، وجاء بعض الوشاة إلى زياد فقالوا له: إن رجلا هنا يقال له صيفي من رءوس أصحاب حجر، فبعث زياد فأتى به وقال له: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له: صاحب الشرطة يقول هو أبو تراب وتقول لا؟! فقال: أفإن كذب الأمير أكذب أنا، وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضا؟ علي بالعصا، فجاءوا بها، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه! فضربوه حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه. ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال : لا أفعل. فأوثقوه حديدا وحبسوه، وإني والله لم أر أشجع منه إلا أبوك، رحمهما الله.
ثم جمع زياد اثنى عشر رجلا اتهمهم بالدعوة لعلي، وأشهد شهودا أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة معاوية ودعا إلى حربه، وأنه قال: «إن هذا الأمر لا يصلح إلا في أبناء أبي طالب.» وأنه وثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه، وأن هؤلاء الاثني عشر معه هم أصحابه على رأيه، ثم دفع زياد أباك وأصحابه إلى اثنين من خاصته وسلمهما تلك الشهادات وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام.
فساقاهم من العراق حتى انتهيا بهم إلى هذا المكان، وهو مرج عذراء، فأبقياهم وسارا إلى دمشق، فدخلا على معاوية وعرضا عليه الكتب التي كانت معهما، واتفق أن كان في مجلس معاوية أناس استوهبوه ستة من رفاق أبيك فوهبهم إياهم، وبعث أناسا إلى هذا المرج فوصوا إليه في المساء في مثل هذا الوقت. •••
وكنت قد صحبت الجماعة من الكوفة ومكثت عن بعد أنتظر ما سيكون، فلما رأيت القادمين من دمشق ومعهم الأسلحة والأنطاع، علمت أنهم قادمون ليقتلوه وأصحابه، ولم أكن أعلم أن معاوية وهب ستة منهم، فدنوت عند ذلك من أبيك فلما بصر بي دعاني إليه وقال لي قولا لا أنساه عمري، وكأني به قد تحقق دنو الأجل فقال: إني أوصيك يا عامر بوليدتي سلمى، احتفظ بها ما استطعت، ولا تزوجها إلا بابن عمها عبد الرحمن، ولكن لا تفعل ذلك إلا بعد موت معاوية هذا، فإذا مات وعاد أمر الخلافة شورى للمسلمين، فإنهم يولون الحسين لا محالة، فإذا وليها فهو ينتقم لنا إن شاء الله، ولم يكد أبوك - وا أسفي عليه - يتم كلامه حتى وصل القادمون من عند معاوية، فاستقدموا أباك وستة من رفاقه وقالوا لهم قبل القتل: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، فقالوا: لسنا فاعلي ذلك. فأمروا فحفرت القبور وأحضرت الأكفان، وقام أبوك وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم، فقال لهم أبوك: «اتركوني لأتوضأ وأصلي، فإني ما توضأت ولا صليت.» فتركوه فصلى، ثم قال: «والله ما صليت صلاة قط أخف منها، ولولا أن تظنوا في جزعا من الموت لاستكثرت منها.» ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها.» ثم مشى أحدهم إليه بالسيف فارتعد رحمه الله، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك، فقال: «وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا؟! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب.» فقتلوه - وا لهفي عليه - وقتلوا ستة من رفاقه، ثم صلوا عليهم ودفنوهم في هذا المكان، وهذا هو قبر أبيك رحمة الله عليه، وخرجت أنا إلى الكوفة ثم قمت بكفالتك وربيتك أنت وعبد الرحمن.
وكان عامر يتكلم وسلمى وعبد الرحمن شاخصان إليه بأبصارهما، وقلباهما يكادان يشتعلان، فلما بلغ هذا الحد لم تتمالك سلمى نفسها وقالت: ويل لقساة القلوب قتلة الأبرياء! ألأنه لم يلعن الإمام عليا قتلوه؟! إن الله منتقم من القوم الظالمين.
فوقف عبد الرحمن واستل خنجرا أبرق فرنده في ضوء القمر، وقال وهو ينظر إلى القبر: أيها الراقد بلا حراك، يا عماه، يا حجر بن عدي، إني لا أخاطب ترابا ولكنني أخاطب روحا طاهرة لا أظنها تفارق هذا المكان، اعلم رحمك الله أني سأنتقم لك قريبا بحد هذا الخنجر إن شاء الله.
واستولى عليهم السكوت تحت تلك الشجرة هنيهة لم يكن يسمع فيها إلا طنين البعوض وخرير الماء، وكان كل من هؤلاء الثلاثة يفكر في شيء واحد مرجعه الانتقام، ثم هبت سلمى من مكانها بغتة وجثت على قبر أبيها وتناولت حفنة من ترابه بيدها وقالت وهي تنظر إلى السماء من خلال الأغصان: أنت تعلم أيها الواحد القهار أن أبي هذا قد مات مظلوما، وأنت وحدك نصير المظلومين . إنه قتل في سبيل نصرة بيت نبيك
صلى الله عليه وسلم . إنه قتل في سبيل نصرة الإمام علي، وصي النبي وصهره وابن عمه.
ولم تتم سلمى كلامها حتى سمعوا صوتا عميقا كأنه خارج من أعماق القبر، أو كأن هاتفا من عالم الأرواح يقول بصوت ضعيف وقع همسا في أذن كل منهم على حدة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلما سمعوا الصوت اقشعرت أبدانهم، ووقفت شعور رءوسهم، وتولتهم الدهشة، وظلوا صامتين هنيهة وكل منهم يحسب نفسه قد انفرد بسماع الآية، وتطلع بعضهم إلى بعض والبغتة ظاهرة على وجوههم، ثم ازدادت دهشتهم حين تبينوا أنهم سمعوا الآية جميعا على السواء، وخيل إليهم أن روح حجر تنطق من عالم الغيب، أو أن روحا من الأرواح العلوية تخاطبهم بما تنطوي عليه إرادة الخلاق العظيم، فخشعوا واستولت عليهم الرهبة وكلهم ساكنون لا يبدون حراكا، وتصوروا المكان مسكونا بعد أن كانوا يحسبونه مهجورا.
وكانت سلمى لا تزال قابضة على التراب بيدها، وعبد الرحمن واقف والخنجر مشرع في يده، وبدأ عامر بالكلام فاستعاذ بالله وقرأ الفاتحة، ولم يكد يتم تلاوتها حتى ابتدره عبد الرحمن وهو يغمد خنجره وقال وصوته مختنق من عظم الدهشة: أرأيت يا عماه كيف أن الله معنا؟ وهل بعد ذلك الهاتف من شك في نجاح المهمة التي ندبت نفسي لأجلها؟! فسكتت سلمى وقد اقتنعت في سرها بأن عزم عبد الرحمن إلهام من الله، ولكنها لم تحرضه على تنفيذ عزمه خوفا عليه من الخطر، وتركت الأمر يجري مجراه الطبيعي.
نهض عامر وهو ينفض التراب الذي لصق بثيابه ويقول: سر يا بني واتكل على الله وثق به، وقد سمعت قوله تعالى:
وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .
1
ونفضت سلمى يدها أيضا وتوجهوا جميعا إلى الدير والقمر في كبد السماء، والسكوت ساعتئذ أرهب مما عهدوه وهم قادمون؛ لشدة ما آثر في نفوسهم من حديث عامر وهتاف الهاتف، وأصبحوا إذا وقعت أقدامهم على العشب أو التراب أثناء مشيهم سمعوا لوقوعها دويا، وإذا دبت دابة أو نقت ضفدع وقع ذلك في آذانهم وقعا شديدا، فمشوا معظم الطريق وكأن على رءوسهم الطير، وعامر يفكر في دخول الدير ومن يفتح لهم بابه بعد أن انتصف الليل، وخاف أن يوجب غيابهم شبهة فغير الطريق التي جاءوا منها، حتى إذا أشرفوا على مدخل البستان شاهدوا شبحا قادما نحوه من الجانب الآخر، فظنوه لأول وهلة ضيفا طارقا وعجبوا لقدومه في أواسط الليل، وفيما هم يتفرسون فيه قالت سلمى: هذا هو الشيخ الناسك بعينه. ألا ترون الجلد على ظهره، ورأسه لشدة بياضه كأنه قطعة من ثلج؟
ولم يكونوا قد رأوه ماشيا قبل ذلك، فعجبوا من نشاطه وخفته، وقال عبد الرحمن: كنت قد حسبته لأول وهلة شيخنا الناسك، ولكنني اشتبهت في أمره لما عاينت من نشاطه وسرعة جريه، فإني لا أرى قامته محدودبة كما كنت أتوقع أن تكون بعد أن رأيناه في ساحة الدير.
فقال عامر: لا أظن سبب هذا النشاط إلا اقتصاره على أكل الفاكهة والخضر دون اللحوم، على أنني أستغرب خروجه في هذا الليل، وأخشى أن يكون قد رآنا تحت الجوزة، أو لعله سمع كلامنا أو اطلع على شيء من أمرنا.
قالت سلمى: لو كان قد مر بنا لرأيناه أو سمعنا خطواته، فقد كان السكوت سائدا وضوء القمر ساطعا، ولكنني أظنه كان يجول في الغوطة يتناول الثمار كما حكى لنا الرئيس عن غرابة أخلاقه وبداوة معيشته.
وفيما هم يتهامسون كان الشيخ قد أدرك باب البستان وعالجه بأداة في يده حتى انفتح، فدخل ووقف ينتظر وصولهم، فاستغربوا غايته من ذلك، ولم يفهموا السبب الذي حمله على هذا العمل، وحملوه على غرابة أخلاقه، وبخاصة بعد أن دخلوا الباب وحيوه فلم يرد التحية، بل أسرع إلى باب الدير فقرعه حتى أفاق أحد الرهبان ففتح له، فدخل ودخلوا هم في أثره، ثم اختفى ولم يعودوا يشاهدونه كأنه كان ظلا وزال.
وأما هم فأسرعوا إلى غرفتهم يلتمسون المنام بعد المشقة والسهر الطويل، ولكنهم بالرغم من تعبهم لم تغمض أجفانهم إلا قبيل الفجر لما ثار في خواطرهم تلك الليلة. •••
على أنهم لم يكادوا ينامون حتى أفاقوا على ضوضاء الرهبان في ساحة الدير، فنهضوا مذعورين، وخرج عامر للبحث عن السبب ثم عاد وأمارات الدهشة بادية عليه، فابتدرته سلمى بالسؤال عن سبب دهشته، فقال بصوت خافت: إن أهل الدير يستعدون لاستقبال يزيد بن معاوية.
فبغت عبد الرحمن وقال: يزيد؟! وكيف يستقبلونه؟! ولماذا؟
قال: لأنه ذاهب إلى الصيد في هذا الصباح، ومن عاداته إذا مر بهذا الدير أن يستريح ساعة ثم ينصرف.
ولم يتم عامر كلامه حتى اختلج قلب عبد الرحمن بفعل البغتة، دون أن يداخله شيء من الخوف. وأما سلمى فقد كان أثر هذه المفاجأة فيها أكبر منه في عبد الرحمن، بنسبة ما بين الرجل والمرأة من دقة الشعور، ثم قال عبد الرحمن: هل أنت واثق يا عماه مما تقول؟ وهل نرى يزيد في هذا الدير اليوم؟
قال: ليس نزوله هنا أمرا محتوما، لكنه خارج إلى الصيد لا محالة، وسيمر من طريق بقرب هذا الدير، ويغلب على الظن أنه يعرج عليه هنيهة؛ لأنه يعرف رئيس الدير ويحترمه، والرئيس يعد مائدة من الفاكهة والأشربة، فإذا شاء أقام أو ظل سائرا في طريقه.
قالت سلمى: أرجو أن ينزل هنا لكي أراه؛ لأني لم أر وجهه بعد.
فقال عبد الرحمن: ولكنك لا تقدرين على ذلك إلا إذا جلست في مكان ترين منه موكبه دون أن يراك.
قال عامر: وأنا لا أريد أن يرى وجهي، فالأجدر بنا أن نتخذ مقاما في خلوة تشرف على ساحة الدير، وإذا استطعنا أن نشرف على بستان الدير كان حظنا أوفر؛ لأن يزيد إذا أراد الصيد خرج في حاشية كبيرة وفيها البازيارية والعقابون وساسة الفهود والقرود والكلاب، وحملة الزاد والخدم والأعوان، وغير هؤلاء ممن يحتاج إليهم أثناء الصيد.
فقال عبد الرحمن: وهل يقيمون في الصيد طويلا؟
قال: ربما أقاموا أسبوعا أو شهرا أو بضعة أسابيع، وهم في مضاربهم ومعهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والكساء. كذلك كان يفعل ملوك العراق عندنا من عهد الفرس، فقد كان الملك منهم إذا خرج للصيد بنوا له حائطا طوله فرسخ يبتدئ من دجلة مثلا أو من الفرات على هيئة زاوية، ثم يخرج الملك أو الأمير ومعه الرجال والأعوان على الخيول والبغال والحمير يطاردون الغزلان وحمر الوحش وغيرهما من الطرائد نحو الحائط والنهر، ويمنعونها من الرجوع، فلا تفر منهم، ويستدرجونها حتى يدخلوها وراء ذلك الحائط، فتنحصر بينه وبين النهر، فإذا انحصرت هناك دخل الملك ومن معه من خاصته وتأنقوا في القتل، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي، وما أظن يزيد إلا فاعلا في هذه الغوطة مثل ذلك.
فقال عبد الرحمن: وما السبيل إلى مكان نستتر فيه؟
قال عامر: دعوا ذلك لي، وخرج إلى رئيس الدير، وكان الصبح قد انبلج والرئيس على السطح يراقب تنفيذ أوامره في تنظيف الدير وضواحيه، وفرش الطنافس وإعداد المجالس وترتيب الفاكهة في الآنية واستحضار المياه الباردة المحلاة بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة، فصعد عامر إليه وحياه فرحب به الرئيس، فتجاهل عامر وسأله عن سبب ذلك الاهتمام فقال: إن أمير المؤمنين مار بنا هذا الصباح في طريقه إلى الصيد، ومن عادته إذا خرج للصيد أن يجعل هذا الدير أول محطة يقف فيها.
فأظهر عامر ارتياحه لذلك وقال: وقد بلغني أن مولانا الخليفة يجلكم ويحترمكم لقدم عهدكم في هذا المنصب.
قال: ربما فعل ذلك تفضلا منه، ولا غرو؛ فإني أعرف أباه من قبله، وكثيرا ما كان يجالسني وأجالسه، وكان خليفتنا هذا يومئذ صبيا يخرج أحيانا إلى هذه الغوطة ومعه معلم يلقنه حركات النجوم وأنساب العرب اسمه دغفل، وكان إذا أتاني أنس بي فأكرمه، فلما تولى الخلافة ظل ذاكرا الصحبة.
فقال عامر: إن منظر أمير المؤمنين بحاشيته وخدمه مما ينشرح له الصدر، وأراني كثير الشوق إلى مشاهدة ذلك المشهد، وابنتي أشوق مني إليه، ولكنني لا أدري كيف أستطيع أن أريها إياه من غير أن يراها أحد؛ لأن عادتنا تقضي بالتحجب.
فقال الرئيس: هذا أمر سهل يا بني، فإني أقدم لكم غرفتي تجلسون فيها أثناء تلك الزيارة.
فأثنى عامر على حسن ضيافته وقال: بورك فيك يا مولاي ، ثم ذهب ليدعو سلمى وعبد الرحمن. وعندئذ تذكر الرئيس ما سمعه بالأمس من الضيف الأبرص المتنكر من أن لهؤلاء حكاية تتصل بأمير المؤمنين، ولكنه لم يعد يستطيع الرجوع في قوله.
وبعد قليل عاد عامر ومعه رفيقاه فصعدوا جميعا إلى علية الرئيس، فاستقبلهم وأوصاهم بالتستر ما استطاعوا، فلم يفقهوا لوصيته معنى غير مجاراتهم في مقتضيات الحجاب، وكان للعلية نافذتان تطل إحداهما على ساحة الدير والأخرى على بستانه، فأطلوا على البستان والغوطة من ورائه يستطلعون موكب الخليفة قبل وصوله، وكانت الشمس قد أرسلت أشعتها على تلك المروج الخضراء تتخللها الجداول والبحيرات، وتطايرت العصافير وغنت البلابل، كما علت أصوات الماشية والحمير والجمال في الحظيرة، فشاقتهم تلك المناظر البديعة بما يخالطها من ألوان الفاكهة والرياحين والأزهار، ولم يكادوا يقفون قليلا حتى لاحت لهم من بين الأشجار خيول قادمة من جهة دمشق، وهي في هيئة موكب يتقدمه فارس بلباس زاه، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وتجلل ثيابه جبة أرجوانية موشاة، وإلى جنبه سيف مرصع انكسرت أشعة الشمس على أحجاره الكريمة فأضاء كالمصباح، ووراء الفارس بضعة عشر من الفرسان، أقربهم إليه في مثل هيئته وزيه، فعلم عامر لأول وهلة أن الفارس الأول يزيد بن معاوية، ولكنه لم يتبين وجهه لبعد المسافة، ولم يعرف رفيقه، وإن كان قد رجح أنه من كبار خاصته.
وسألته سلمى: من هو هذا الفارس الأول يا عماه؟ لعله الخليفة المزعوم؟
قال: يظهر أنه هو.
قالت: ومن هو رفيقه الفارس الذي يليه؟ يظهر لي أنه من أخصائه.
قال: أظنه كذلك، فإذا اقترب تفرسته وأنبأتك بحقيقة حاله.
وظلت أبصارهم شاخصة إلى هذين الفارسين ولا يلتفتون إلى ما وراءهما حتى اقتربا من سور البستان، بينما كان رئيس الدير قد خرج برهبانه لاستقبال الضيف العظيم.
وترجل الفرسان، ودخل الخليفة أولا وإلى جانبه رفيقه، ثم دخل وراءهما بقية الحاشية، فمشوا في البستان وعامر يتفرس فيهم وسلمى وعبد الرحمن ينظران إلى عامر فرأيا سحنته قد تغيرت، والتفت إلى سلمى فسألته: ما بالك يا عماه؟ ماذا رأيت ؟
فتنهد وقال: يا للعجب! سبحان جامع الأشباه والنظائر! أتعلمين من هما هذان؟
قالت: لا، ومن عسى أن يكونا؟
قال: أما الأول صاحب الحلة الأرجوانية الذي تريان وجهه شديد الأدمة وعليه أثر الجدري، فهو يزيد بن معاوية، الذي يسميه أتباعه أمير المؤمنين خليفة رب العالمين، والخلافة بريئة منه، وهو كما تريانه فتى حسن الصورة لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يغير الجدري شيئا من جماله، ولكن الخلافة لا تحتاج إلى الجمال، وبخاصة إذا كان صاحبها منغمسا في الملاهي. أما رفيقه الذي يسير بجانبه مختالا، فهو عبيد الله بن زياد، ومتى اقترب منا فستشمان رائحة المسك تفوح من ثيابه.
فلما ذكر اسمه ارتعدت سلمى وقالت: أليس أباه الذي سعى في قتل أبي؟
قال: هو بعينه.
فقال عبد الرحمن: يا للغرابة! قد اجتمع القاتلان، وسيقتل كلاهما إن شاء الله. قال ذلك وحرق أسنانه، فنظر عامر إليه شزرا كأنه يؤنبه على ذلك التصريح؛ لأنهم محاطون بالرقباء والأعداء.
ولم يكد يزيد ورفقاؤه يقتربون من الدير حتى وصل أتباعهم ودخلوا البستان زرافات ووحدانا، وفيهم الراكبون على البغال والحمير، وفيهم المشاة وهم الأكثرون، ولكنهم على أشكال شتى في ملابسهم وأزيائهم، فبينهم أصحاب الملابس القصيرة والطويلة على اختلاف ألوانها، وبينهم حملة الحراب والنبال، وبعضهم يقودون فهودا، وآخرون يسوسون قرودا، وغيرهم يجرون كلابا في أرجلها أساور من الذهب وعلى ظهورها الجلال المنسوجة بالذهب، ومن حولها عبيد اختص كل منهم بخدمة كلب، فيقوم بكل ما يحتاج إليه من الطعام والنظافة، وشاهدوا في جملة تلك الحاشية أناسا يحملون طيورا جارحة كالباز والصقر والعقاب.
وانتشر هذا الجمع في البستان؛ لأن ساحة الدير لا تسعهم جميعا، وقد أحدثوا جلبة شديدة لكثرة عددهم واختلاط أصواتهم بأصوات الحيوانات والطير، من صهيل الخيل ونهيق الحمير وشحيج البغال وصياح الثعالب ونباح الكلاب وضحك القرود وصرصرة البزاة وحفيف الأجنحة.
وأخذت سلمى تسأل عامرا عن ذلك الجمع المحتشد، وما يحملونه أو يسوقونه من أنواع الحيوان، فأجابها عامر قائلا: إننا يا سلمى في مشهد بديع يندر أن يتفق لمثلك أن تراه؛ ولذا فإني أقص عليك خلاصته، فاعلمي أن الخليفة خارج للصيد، وربما أوغل في الغوطة واستغرقت سفرته أسابيع عدة، وهو مولع بالصيد حتى لقد شغله عن مهام الخلافة، ولا يقتصر في صيده على نوع من أنواع الحيوان، بل يصطاد الطيور والظباء والأرانب وحمر الوحش وغيرها، وهذا هو السبب في كثرة هذه الحاشية؛ فإن منهم حفظة الفهود وقد أركبوها على الخيل، ويزيد هذا أول من أركبها عليها، أما أول من اصطاد الفهود فهو كليب بن وائل الشهير في حروب الجاهلية، وهي تصطاد له الغزلان وحمر الوحش ونحوها، وترين في هذا الجمع عبيدا يسوسون الكلاب وعليها الألبسة الفاخرة والأساور الذهبية، وعند يزيد عدد كبير منها، وهي تصطاد له الغزلان والأرانب.
وأما الطيور التي ترينها في أيدي حامليها، فمنها الباز ويسمى حامله «البازيار»، والباز كما تعلمين من الجوارح التي تفترس الطيور الضعيفة كالدراج والحبارى والورشان والعصافير، فيحمل الصيادون الباز من الجبال ويعلمونه الطيران والرجوع إلى مكانه، فإذا خرجوا به للصيد أطعموه قليلا وقبض البازيار عليه من رجليه ومشى به بعد أن يكسو كفه بقفاز من جلد، فإذا اشتم الباز رائحة دراج أو حبارى رفرف وحاول الإفلات، فيفلته البازيار فيطير حتى يقع على طريدته فيقتلها، والبازيار يركض في أثره، وقد يهم الباز بأكل الطريدة فيدركه البازيار ويخرجها من فمه، وقد لا يهم بذلك، وهكذا يفعل العقاب، ويقال لحامله «عقاب»، وكذلك الصقر والشاهين وغيرهما من الجوارح ولكنها لا تصطاد إلا الطيور الضعيفة.
فاعترضه عبد الرحمن قائلا: ولكنني سمعت أن الباز قد يصطاد الغزال أيضا.
قال عامر: ربما اصطاده، ولكنه لا يستطيع ذلك وحده، فإن بعض البزاة إذا أطلقتها على غزال رفرفت على وجهه واعترضت مسيره فتعوقه عن الفرار السريع ريثما يدركه الكلب أو الفهد فيرديه. أما حمار الوحش فإن الفهد يصطاده، وقد يصطادونه بالنبال، وحمار الوحش كثير في «جرود»، وهي قرية في هذه الغوطة.
وكانت سلمى مصغية تسمع حكاية الصيد وهي تعرف شيئا منه، ولكنها لم تكن تعرف هذا التفنن فيه، فلما وصل عامر إلى هذا الحد ظهر من رنة صوته أنه يهم بإنهاء الحديث فقالت سلمى: ولكنني أرى جماعة من هؤلاء الغلمان يسوسون قرودا منها قرد عليه قباء من حرير أحمر وأصفر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بديعة، وقد ركب أتانا وحشية عليها سرج من الحرير الأحمر منقوش بألوان جميلة، وبين يديه خادم يسوسه ويطعمه الفاكهة من يده، فما هو شأن هذا القرد؟
فضحك عامر وقال: هذا هو «أبو القيس»، وقد رباه يزيد وسماه بهذا الاسم، فإذا جلس للشراب مع منادميه طرح له مقعدا معهم، وهو قرد خبيث كثيرا ما يركب هذا الأتان ويخرج لمسابقة الخيل في أيام السباق، وقد يحوز قصب السبق عليها كلها. •••
اشمأزت سلمى مما سمعته عن يزيد، وقالت: أإلي هذا الحد بلغت حال الخلافة! أين هذا من عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت أثوابهم من الكرباس الغليظ، ونعالهم وحمائل سيوفهم من الليف، وكانوا يمشون في الأسواق كبعض الرعية! هكذا كان أبو بكر، وكان عمر بن الخطاب، وهكذا كان علي بن أبي طالب! أين الزهد والتقوى! أين العدل والقسط! أين الحزم والعزم! أين العلم والفضل! وا أسفاه على الإسلام والمسلمين.
فابتدرها عبد الرحمن وقال: رويدك يا سلمى، إن وقت النجاة قريب، ولا أظنك بعد ما سمعت ورأيت تترددين في إطلاق حريتي فيما عزمت عليه، وإن غدا لناظره قريب.
فتنهدت سلمى وأطرقت وكأن قلبها قد دلها على خطر يهدد حبيبها، ولكنها ظلت صامتة، وبينما هم في ذلك إذ علا نباح الكلاب في باحة الدير، فتحولوا إلى النافذة المطلة على تلك الباحة ليروا ما هناك، فإذا الخليفة ورجاله قد جلسوا على طنافس فرشت لهم تحت الصفصافة، وبين أيديهم مختلف ألوان الفاكهة، والرهبان وقوف بأقداح الماء المحلى بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة التي يستخرجها الرهبان من الثمار، وفيها أصناف الخمور المختلفة، المستخرجة من العنب والتفاح والبلح، وكان الرئيس جالسا باحترام بين يدي يزيد، وبيده قدح من الفضة يقدمه له ليشرب، ولكن الصفصافة حجبت كثيرا من ملامح الجالسين، فلم يكن يبدو إلا بعضها من خلال الأغصان، كما أن عواء الكلاب كاد يصم آذانهم ويشغلهم عن تتبع ما يجري في ذلك المجلس الطريف.
وكان سبب ذلك العواء أن كلاب يزيد حينما تبعته إلى باحة الدير وعليها الألبسة والأساور كما تقدم، كان شيبوب وصاحبه نائمين على دكة في بعض جوانب الباحة، فلما شعر الشيخ بمجيء يزيد ارتعدت فرائصه ولم يعد يستطيع البقاء، فهرول وانزوى في مستتر من الدير ولم يدع شيبوب لمرافقته، فظل الكلب متكئا حتى دخل يزيد وانتشرت كلابه تحت الصفصافة، واشتم شيبوب رائحتها فكان أشد نفرة ورعدة من صاحبه، فأخذ في النباح وكذلك فعلت كلاب يزيد.
فلما طال النباح، أمر الرئيس بعض الرهبان أن يطرد شيبوب من ذلك المكان، فقام الراهب بذلك، وركض شيبوب إلى السلم فصعد إلى السطح، وكان لعلية الرئيس كوة واطئة تشرف على السطح فأدخل الكلب رأسه منها، فرأى سلمى ورفيقيها فحمحم مستأنسا بهم، ثم وثب إلى الداخل ودنا من سلمى وقد أرخى أذنيه وهز زيله، فاستأنست هي به وجعلت تمسح رأسه بيدها وهو يدنو منها ويحك جنبه بثوبها، على أنها خافت أن تشتغل به عن مشاهدة مجلس يزيد، فشغلته بثمرات جافة كانت في جيبها، وكان شيبوب قد ألف أكل الفاكهة مثل صاحبه وإن لم يكن هذا طبعه، ثم عادت سلمى إلى التطلع من النافذة، وأهل الباحة مشتغلون عنها بخدمة يزيد وإكرام وفادته، وكلابهم لا تزال تنبح، فلم يكن من شيبوب إلا أن أجابها بنبحة ارتجعت لها العلية واستلفتت انتباه الجالسين تحت الصفصافة، فالتفت بعضهم إلى جهة الصوت وفي جملتهم عبيد بن زياد رفيق الخليفة وصديقه، فوقع بصره على وجه سلمى فلم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، وشعر بجاذب جذب قلبه إليها وامتلك عواطفه.
أما هي فلحظت انتباه الناس لنباح شيبوب والتفات بعضهم إلى العلية ووقع نظر ابن زياد عليها، فهرعت إلى الداخل وقد غلب عليها الحياء وتبدلت هيئتها. كان عامر وعبد الرحمن مشتغلين عن ذلك بالحديث، فلما عوى شيبوب وتحولت سلمى عن النافذة التفتا إليها فإذا هي قد احمر وجهها وظهر عليها الاضطراب ، فابتدرها عبد الرحمن بالسؤال عن سبب ذلك، فأظهرت أنها لا تبالي، وقالت: إن نباح هذا الكلب قد استلفت أنظار بعض الجالسين بين يدي الخليفة فتطلعوا إلى النافذة.
فقال عبد الرحمن: وما الذي تخافينه؟
فقطع عليه عامر الكلام قائلا: لم تخف وإنما الحياء غلب عليها. •••
كان عبيد الله بن زياد قد افتتن بسلمى للنظرة الأولى، ولم يبق له صبر على معرفة أمرها، ولكنه لم يجرؤ على ذلك والخليفة معه، فعزم بينه وبين نفسه على الإسراع في العودة وحده من الصيد بحيلة يخترعها ليزيد، لكي يعرج على الدير وحده ويبحث عن تلك الغادة الفتانة.
على أنه لم يتمالك عن سؤال الرئيس خلسة عن سكان تلك العلية، ولا تسل عن حال الرئيس عند ذلك السؤال بعد الذي سمعه من ضيفه الأبرص من أمر أولئك الضيوف وعلاقة ذلك بالخليفة، فلما سمع ابن زياد يسأله عنهم أوجس في نفسه خيفة، ولكنه تجلد وأجاب بسذاجة قائلا: إنهم يا مولاي رجل وابنته، وهم من أهل العراق نزلوا ضيوفا علينا، ثم فطن لعذر ظنه يرضي الخليفة فقال: ولا يخفى على مولاي أننا مكلفون باستضافتهم؛ لأنهم مسلمون، فأنزلناهم وقمنا بخدمتهم عملا بعهد الخليفة عمر بن الخطاب، وهو يقضي علينا بضيافة من ينزل علينا من المسلمين ثلاثة أيام.
فقال عبيد الله: حسنا فعلت، واطمأن قلبه إذ علم أنهم من المسلمين، ورجح أن تلك الحسناء عزبة، ولكي يتأكد من ذلك قال مغالطا: ألم تقل إن الثلاثة رجل وامرأته وابنه؟
قال: لا يا مولاي، إنهم رجل وابنه وابنته، والابنة عذراء.
فازداد اطمئنان عبيد الله، ولكنه خاف إذا طال غيابه أن تخرج سلمى من الدير فلا يعود يظفر بها فقال للرئيس: وهل تطول إقامتهم في هذا الدير؟
قال: لا أدري، ولكني أظنهم مسافرين قريبا إلى دمشق؛ لأنهم آتون في تجارة. قال: أوصيك باستبقائهم ريثما أعود، فقال: سمعا وطاعة.
ثم خرج يزيد بحاشيته من الدير والرئيس والرهبان يشيعونهم إلى البستان، حتى ركبوا وهم يدعون لهم بالسلامة. أما عبيد الله فخرج وقلبه مشتغل بسلمى، وهو يعد نفسه بالرجوع إليها عاجلا.
الفصل الخامس
الحب والانتقام
نزلت سلمى ورفيقاها بعد انصراف الأضياف حتى دخلوا غرفتهم، وعبد الرحمن ساكت لا يتكلم، وقد أدرك عامر وسلمى ما جاش في خاطره من أمر الانتقام، فلما وصولوا إلى الغرفة هموا بالجلوس إلا عبد الرحمن فإنه ظل واقفا والقلق ظاهر على وجهه، فتجاهلت سلمى حاله، ودعته إلى الجلوس فقال: أتدعينني إلى الجلوس وقد أزفت الساعة التي نحن في انتظارها منذ أعوام؟!
ففهمت مراده ولكنها تجاهلت، وقالت: وأي ساعة تعني؟
قال: أراك تتجاهلين حين لا ينفع التجاهل؛ فقد قضي الأمر وآن أوان الانتقام.
فاختلج قلبها في صدرها خوفا عليه من الخطر الشديد بعد أن شاهدت كثرة تلك الحاشية وما معهم من العدة والسلاح، وقالت: دعنا الآن من الانتقام يا عبد الرحمن، فإن الساعة لم تأت بعد.
قال: وكيف ذلك وهذا يزيد خارج للصيد بكلابه وفهوده وجوارحه؟
قالت: ذلك هو الأمر الذي أخافه عليك. بالله لا تلق بيدك إلى التهلكة؛ فإن المركب خشن والطريق وعر.
قال: لقد عزمت وتوكلت على الله. قال ذلك وهو يبحث عن خنجره ويصلح ثيابه ويتأهب للخروج.
فأمست سلمى بذيل ثوبه، وقد توردت وجنتاها وغلب عليها الحب والحياء معا وقالت: بالله لا تذهب؛ إني خائفة عليك من هذا الأمر العظيم؛ إنك واحد وهم جماعة.
فقال: دعيني، لا أبالي مهما يكن من كثرتهم، وقد صممت على الانتقام، وهذا وقته فلا تثني من عزمي.
فقالت وهي تكاد تشرق بدموعها: لا، لم يئن وقت الانتقام، فلا تذهب الآن.
قال: إني لا أرى فرصة أنسب من هذه، فدعيني يا سلمى، دعيني أقتل هذا الرجل وأنقذ المسلمين من شره، وأنتقم لحجر بن عدي، وأشف غليلي منه.
فقالت: إذا لم يكن بد من الذهاب فدعني أذهب معك، فإما أن نقتل معا، وإما أن ننجو معا.
قال: أليس عارا علي وأنا رجل أن أصطحبك في مهمة كهذه؟ دعيني يا سلمى. وحاول التخلص منها فإذا هي ممسكة ثوبه بيدها، فغضب وأراد أن يتخلص بالعنف، ثم نظر إلى وجهها فرأى الدموع تتساقط من عينيها، فسكن غضبه ووقف وهو ينظر إليها بعين المحب المفتون وقال لها: ما هذا يا سلمى؟ ما الذي تفعلينه؟ إنك تضعفين عزيمتي وتحملينني على الجبن. ما الذي يدعوك إلى ذلك، وعهدي بك أشد حنقا مني وأكثر رغبة في الانتقام؟
فقالت وهي تجهش بالبكاء وصوتها يتلجلج: ألا تدري ما الذي يدعوني إلى ذلك؟ هو الحب يا عبد الرحمن. إن الحب يحملني على هذا الخوف! ثم قالت بصوت ضعيف متقطع وهي تنظر إلى الأرض: نعم، إن الحب حلو شهي لذيذ.
فابتسم إعجابا وابتدرها وهو يتجلد مخافة أن تغلب عواطفه على ما في نفسه وقال: صدقت يا حبيبتي، إن الحب حلو، ما أحلاه! ولكن الانتقام يا سلمى أحلى منه. ليس في العالم ألذ من الانتقام ولا أحلى. دعيني أخرج إلى هذا الرجل الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين فأقتله بهذا الخنجر، وأنتقم لك ولي وأنقذ المسلمين منه، أو أموت في نصرة الحق و...
فقطعت كلامه وقالت: لا تذكر الموت يا عبد الرحمن، إن ذكره يؤلمني ويؤذيني، حماك الله من شره.
قال: أيؤلمك ذكره، وقد ذاقه قبلي من هو أكرم عند الله مني؟ لقد ذاقه الإمام علي، وذاقه أبوك حجر بن عدي، وذاقه كثيرون غيرهما في سبيل نصرة الحق، فما أنا خير منهم، وقد آن وقت الانتقام.
وهمت سلمى بأن تجيبه فوقف عامر وقد أثر في نفسه ذلك الجدال، ووقع في حيرة لا يدري لأيهما ينتصر؟ ولكنه خاطب عبد الرحمن مترفقا وقال: تمهل يا بني وارفق بنا، واعلم أنك سالك طريقا وعرا لا نرضى أن تسلكه وحدك. دعني أسر معك، لعلي أنفعك في جهادك، أو أكون بين يديك فيصيبني ما يصيبك.
فالتفت عبد الرحمن إلى عامر وقال: وأنت أيضا يا عماه تثبط عزيمتي؟ ألم نسمع كلام الهاتف معا؟ ألم يقل الهاتف فوق قبر حجر: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، أترى بعد ذلك مجالا لقائل. إنه لا بد لي من الذهاب، إن لم يكن إجابة لدعوة الهاتف فانتقاما لحجر بن عدي الراقد تحت الجوزة، وانتقاما لصهر النبي
صلى الله عليه وسلم
وابن عمه ووصيه الإمام علي، وإن لم يكن لهذا ولا لذاك فانتصارا للحق وإنقاذا للإسلام والمسلمين من سلطان شغل عن رعاية الأمة برعاية الجوارح والكلاب والفهود والمنادمة على الشراب.
فأراد عامر أن يجيبه ليثنيه عن عزمه إشفاقا على سلمى فقال له: لا أنكر عليك نبالة الغرض الذي ترمي إليه، ولكنني أظن الوقت لم يحن بعد. •••
مل عبد الرحمن الجدال فقال: لقد ضيقتما علي السبل، ولست أرى وقتا أنسب من هذا للوفاء بعهدي، ثم التفت إلى سلمى وقد هاجت أشجانه فوق هياج غضبه، وكأنه تحقق عظم الخطر الذي يتهدده في طريقه فقال: ويكفي يا سلمى أن يكون تأجيل قتل هذا الرجل باعثا على تأجيل زواجنا، ألم أجعل قتله يا منتهى أملي شرطا لعقد زفافنا؟ إنك تبتغين البعد وأنا أسعى في القرب وأشتريه بحياتي؟ ألم أعاهد نفسي على ذلك؟ آه يا سلمى! إني عالم بما يهددني، ولا أجهل خطر الطريق، ولكنني مضطر لركوب هذا المركب، فاتركيني وادعي لي، فإن دعاءك من دعاء الملائكة لأنك ملاك في صورة إنسان.
قال ذلك واختنق صوته، فسكت وراح ينظر إلى سلمى وعيناه تلمعان بما غشاهما من الدمع، وقد هاجت شجونه وتلوت عواطفه وهو يغالبها بشهامته وبسالته، وسلمى لا تزال ممسكة بطرف ثوبه، والحب والحياء يتنازعانها، فلما سمعت كلامه أطرقت والدمع يسيل على خديها وهي تحاول إخفاءه بسكوتها، وعامر ينظر إلى ذينك الحبيبين وقلبه معهما، ولكنه لا يدري لأيهما ينتصر.
ظلوا صامتين وعبد الرحمن يغالب عواطفه ويخاف أن تغلبه، ولكنه تجلد وأعاد الكرة وقال بصوت هادئ: لا أجهل يا سلمى أني سائر في مهمة ذات خطر عظيم، ولكنك تعلمين أننا إنما قطعنا البراري والقفار وجئنا هذه الديار من أجل الانتقام، وقد أردت المجيء وحدي فأبيتما إلا اللحاق بي، وهذا ما كنت أخشاه منذ بادئ الأمر، فلا تكوني عثرة في سبيلي وسبيل الحق. إنني إنما جئت إلى هذه الديار لقتل هذا الرجل. أما صدقتما ما ادعيناه من أننا جئنا للاتجار بالتمر والجمال؟! إننا ما جئنا إلا للانتقام، فهل يليق بنا بعد أن استخرنا الله وعزمنا، أن نرجع إلى الوراء؟! أليس من الغلو أن يكون ابن ملجم الباغي أكثر ثباتا مني، وهو إنما ثبت على قتل نفس بريئة، وأنا أسعى في استئصال شجرة فاسدة؟! إني أسعى في إنقاذ الإسلام من فساد تولاه، ولا علاج له غير قتل يزيد، لكي تعود الخلافة إلى حبيبنا سيد شباب المسلمين الإمام الحسين ابن بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم
فاتركاني أذهب في سبيلي، فقد اتكلت على الله في أمري، وما الموت الذي تخافانه علي إلا سنة الله في خلقه، فإذا حكم علي به فلي أسوة بغيري من القوم الصالحين، وأكون قد توسدت الثرى قرير العين، ألقى وجه ربي باشا مطمئنا تشهد كل ذرة من ترابي بحسن جهادي، وإذا فزت وحييت فإني إنما أحيا سعيدا وسلمى زوجتي، والحسين مولاي وخليفة المسلمين. هذا هو القول الفصل، وكفانا ترددا.
فلم يبق ثمة مجال للدفاع، فقال عامر: دعيه يا سلمى، إن الله قد دعاه إلى عمل صالح اختاره له، فعسى أن يوفقه فيه، دعيه وألقي أمرك إلى الله.
فتركت سلمى ثوب عبد الرحمن ولكنها ظلت صامتة، فأتم عامر كلامه قائلا: والآن إذا أنت خرجت في أثر هذا الركب فما الذي تفعله، وكيف نطلع على خبرك؟ ألا ترى أن أسير أنا معك؟
قال: أقسم بتربة عمي الثاوي في هذا الجوار لا يذهبن أحد معي. أما خبري فسأحمله إليكما بنفسي وإلا ... وسكت.
فعادت سلمى إلى القلق وقالت: وإلا ماذا؟ قل!
قال: إني ذاهب الآن في أثر هذه الحملة إلى حيث ينزلون لصيدهم، وسأختبئ في مكان ما حتى أنفرد بيزيد فأقتله، أما أنتما فامكثا هنا في انتظاري بقية هذا النهار وطول ليله، فإذا جاء مساء الغد ولم أعد إليكما فلا تطلباني، فلا أدري أين أكون.
فقال عامر: سر واتكل على الله، ونحن في انتظارك إلى غروب الغد، فإذا غابت الشمس ولم تعد إلينا، ف ...
فقطع عبد الرحمن كلام عامر قائلا: لا أظنني بعد قتل يزيد إلا مضطرا للاختفاء فلا أستطيع دخول هذا الدير، وسكت برهة يفكر ثم قال: ولكنني أرسل إليكم علامة.
قال: وما هي علامتك وكيف ترسلها؟
قال: أرمي إليكم بسهم أكتب بين ريشتيه اسم المكان الذي نلتقي فيه فتوافيانني إليه، فإذا جاء غروب الغد فانتظرا سهمي على سطح هذا الدير، ولن أذكر لكما بين الريشتين غير اسم المكان فلا خوف منه إذا وقع في أيدي الرهبان.
فأعجب عامر بفطنته وقال: إنها لنعم العلامة.
وتقلد عبد الرحمن قوسا صغيرا وأسهما، كما تقلد الخنجر، ولبس ثوبا أصبح فيه يشبه أتباع يزيد، وتزمل برداء فوق ثوبه، وكانت سلمى في أثناء ذلك تنظر إليه وقلبها لا يطاوعها على مفارقته، فلما أتم الاستعداد وهم بوداعها خفق قلبها وندمت على قبولها ذهابه، وأرادت أن تعود إلى منعه، فلم يتح لها فرصة، بل أسرع ففتح الباب وخرج، فلم تعد تستطيع اللحاق به مخافة أن يشتبه الرهبان في أمرهم، فتظاهرت بالسكينة، وتبعته بنظرها فإذا هو قد أدرك باب الدير وخرج منه، فاصطحبت عامرا والتمست سطح الدير لكي تشيعه ببصرها وهو سائر في الغوطة، فصعدا السلم وهما يتظاهران بالتفرج، فلما أشرفا على السطح رأيا عبد الرحمن قد قطع البستان حتى خرج من بابه وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ثم أوغل بين الأشجار.
وفيما هما ينظران إليه من خلال الأشجار، رأيا رجلا ملثما خرج من الدير وسار في أثره، فلم يعرفاه ولا اشتبها فيه لخلو ذهنهما من وجود رقيب يراقبهما هناك، ولو علما من هو ذلك الملثم وما نصبه من الشراك لعبد الرحمن لتعقباه وأوديا به، أو لأرجعا عبد الرحمن عن عزمه.
وما كان ذلك الملثم إلا الضيف الأبرص الذي جاء الدير بالأمس واختبأ في إحدى غرفه، وكان قد رافقهم خلسة منذ خروجهم من الكوفة لحاجة في نفسه لو عرفتها سلمى لارتعدت فرائصها ولما صبرت إلى غروب الغد تنتظر رجوع حبيبها.
وظلت سلمى واقفة تتطاول بعنقها وتحدق بعينيها بين الأشجار حتى غاب عبد الرحمن عن بصرها، فلما توارى أحست كأن قلبها انخلع من مكانه، ولم تعد تتمالك عن البكاء؛ لما غلب عليها من الخوف على حياة حبيبها، وندمت على تركه يذهب وحده، ثم عادت إلى غرفتها حزينة كئيبة لا تخاطب عامرا ولا تنظر إليه.
ولم يكن عامر أقل ندما على ذلك، فظل صامتا، ونزل في أثرها، والرهبان في شاغل عنهما برفع الآنية والأبسطة التي كانوا قد أعدوها للخليفة. •••
دخلت سلمى غرفتها وقد أظلمت الدنيا في عينيها وضاقت بها السبل فأطلقت لعينيها عنان الدموع واستغرقت في البكاء كأنها أشعرت بما سيلقاه عبد الرحمن من الخطر، وودت لو تتبعه عسى أن تكون له عونا، ولكنها لم تكن تعرف الجهة التي مضى إليها، ولا التي سار إليها موكب الخليفة، فظلت تتردد بين اليأس والرجاء، وعامر جالس منقبض الصدر وفي نفسه هواجس أمسك عن إظهارها إشفاقا على سلمى، ثم تجلد فاقترب منها وجعل يخفف عنها ويطمئنها وهي لا تصغي إليه.
على أنها عادت تعلل نفسها بنيل المنى، فتصورت فوز حبيبها بقتل يزيد وما يترتب على ذلك مما تتوق إليه نفسها ونفس كل مسلم من دعاة أهل البيت، فضلا عن شفاء غليلها بالانتقام لأبيها، فسكن روعها وخف بكاؤها، فاغتنم عامر الفرصة وقال لها: خففي عنك يا بنيتي واتكلي على الله، فإنه ولي التوفيق وهو على كل شيء قدير، وما قتل هذا الخليفة بالأمر العسير، ولا سيما أن عبد الرحمن لن يقدم على قتله وهو بين رجاله، ولكنه سيتربص به حتى يراه وحده، ولا شك في أنهما إذا تبارزا فستكون الغلبة لعبد الرحمن.
فنزل كلام عامر عليها بردا وسلاما، فكفت عن بكائها، ونهضت تتشاغل بترتيب فرش الحجرة وأثاثها، ثم استلقت وقد غلبها التعب وأدركها النعاس، وأدرك عامر ذلك فتركها وخرج ليخلو بنفسه.
وظلت سلمى نائمة إلى العصر وعامر يتردد إلى الحجرة يتفقدها، فإذا رآها ما زالت نائمة عاد إلى السطح وتشاغل بالتأمل في مشاهد الكنيسة، أو محادثة بعض الرهبان.
وفيما هو عائد ذات مرة رأى شيبوب تحت الصفصافة، فتذكر الشيخ الناسك ، وخطر له أن يذهب إليه لعله يسمع منه كلاما يطمئنه على عبد الرحمن، وكان يعتقد الكرامة في مثل هذا الناسك، ثم بدا له أن يصطحب سلمى لتشاركه اطمئنانه، فلما ذهب إلى غرفتها وجدها قد استيقظت وجلست مضطربة حزينة النفس فقال لها: ما بالك يا بنية؟ ما لي أراك مضطربة؟
قالت والدمع ملء عينيها: آه يا عماه، تسألني عن شيء أنت تعلمه! ولقد زاد في همي ما انتابني من الأحلام أثناء نومي.
فابتدرها الشيخ قائلا: دعينا من الأحلام والأوهام، وهلمي بنا إلى الشيخ الناسك لنجلس إليه عسانا نسمع منه ما يسر، فإني والله أعتقد الكرامة في أمثاله.
فارتاحت سلمى لهذا الاقتراح، ووقفت وقد انبسط وجهها وزالت عبوسته وقالت: نعم الرأي يا عماه، فهيا بنا إليه، أين هو؟
قال: أظنه في بعض جوانب الدير فقد رأيت كلبه الساعة تحت الصفصافة، فلا يبعد أن يكون في زاوية من زوايا الدير، أو في بعض غرفه. •••
خرج عامر وسلمى في أثره، فلما أطلا على الباحة رآهما الكلب فهرول إلى سلمى وهوى يحرك ذيله ويغمغم استئناسا بها، وذهب عامر للبحث عن الناسك، ثم عاد وهو يقول: سألت في كل أطراف الدير فلم أقف له على أثر، وقد أخبرني الرئيس بأنه خرج عندما كان الخليفة هنا ولم يعد.
قالت: هل تظنه في بعض جوانب البستان؟
قال: ربما، هلم نبحث عنه هناك.
فمشيا حتى خرجا من باب الدير، والحظيرة إلى يمينهما وفيها الماشية والدواب، فوقفا ينظران في جوانب البستان، وكان الكلب قد خرج في أثرهما، ثم رأياه يجري إلى اليسار مسرعا، فقالت سلمى: يظهر أن شيبوب اشتم رائحة صاحبه فأسرع إليه، فلنذهب في أثره.
وتبعاه فإذا هو قد انتهى إلى جميزة قديمة العهد، في أسفل ساقها كهف يشبه غرفة صغيرة أوى إليه الناسك، ورأياه عن بعد جالسا الأربعاء ويداه متقاطعتان على ركبتيه، وقد أطرق كأنه يفكر في معضلة يبتغي حلها، فلما وصل الكلب إليه وجعل يلحس يديه ويتحكك به انتبه الشيخ من غفلته فرفع عينيه وشعر حاجبيه يغطيهما ، وأمسك لحيته وثناها إلى فيه وأطبق شفتيه عليها، فوقعت عينه على سلمى وعامر، فجعل يتفرس فيهما وهما قادمان إليه يفكران فيما يبدآن به الحديث، ولم يكادا يدركانه حتى سمعاه يقول بصوت جهوري اخترق نطاق قلبيهما: أين عبد الرحمن؟
فلما سمعت سلمى اسم حبيبها خفق قلبها وارتعدت فرائصها، ولم يكن عامر أقل بغتة منها، وأرتج عليهما فلم يعلما بماذا يجيبانه.
ولم يكادا يقتربان منه حتى انتصب واقفا كأنه شاب في عنفوان الشباب وصاح فيهما: أين عبد الرحمن؟ أين ذهب؟
فاقشعر بدن سلمى، وهمت بالجواب فأرتج عليها فأجابه عامر قائلا: وأي عبد الرحمن؟
قال: أتسألني يا عامر عن عبد الرحمن وأنت كفيله؟! قل أين ذهب، وقد كان معكما بالأمس؟
فلم يشك عامر في أنه بين يدي ولي من أولياء الله، المرفوع عنهم الحجاب، فقال: إنه سار في مهمة، لعلك عرفتها من تلقاء نفسك.
قال: أظنه ذهب وراء يزيد بن معاوية الذي يدعونه خليفة.
فخاف عامر وسلمى أن يسمع أحد كلامه، فالتفتا فإذا هما في معزل عن الناس، فقال عامر: نعم يا سيدي.
فضرب الناسك يدا بيد، ونظر إلى السماء وقال: حماك الله يا عبد الرحمن من ذلك الخائن المنافق، كيف تركتماه يذهب في هذا الخطر العظيم؟
فلما سمعت سلمى كلامه ترامت على قدميه وصاحت: قل يا سيدي! قل لي بالله عليك، هل من خطر على عبد الرحمن؟
قال: الخطر عليه من ذلك الأبرص الذي خرج في أثره.
قال عامر: وأي أبرص يا مولاي؟ قل بالله؟ أفصح فقد أقلقتنا.
فأطرق الشيخ وظل هنيهة ساكنا، وهو يقبض على لحيته ثم يتركها ويداه ترتعشان تأثرا، فلم تعد سلمى تستطيع صبرا على سكوته فقالت: قل بالله يا سيدي. ماذا ينتظر عبد الرحمن في رحلته هذه؟ ومن هو ذلك الأبرص؟
فرفع الناسك طرف ثوبه، وغطى به رأسه وقال: ألا تعرفان ذلك الأبرص؟ ألا تعرفان شمر بن ذي الجوشن؟
فقالا بصوت واحد: بلى نعرفه، وأين هو؟
قال: إنه خرج في هذا الصباح من الدير ملثما بعد خروج يزيد ، وأظنه رأى عبد الرحمن خارجا فاقتفى أثره ليوقع به.
فالتفتت سلمى إلى عامر والشيخ لا يزال ساترا رأسه بثوبه وقالت: تبا له من خائن، أظنه اقتفى أثرنا من الكوفة وقد علم بالغرض الذي جئنا من أجله إلى الشام. تبا لك يا شمر! ثم التفتت إلى الشيخ وقالت: وماذا نعمل الآن يا سيدي؟ وما الذي تخشاه على عبد الرحمن؟ قل لنا ماذا نعمل، فإنا نراك من المحسنين.
قالت ذلك وخفق قلبها وقد اصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف وكأنها في حلم، وعامر ينظر إلى الناسك مستغربا لا يدري كيف يفسر فراسته، ولكنه شغل بأمر الخطر المحدق بعبد الرحمن عن التفكير في الفراسة وكرامات الأولياء، وأحب أن يغالط الشيخ فقال له: إنك تخاطبنا يا سيدي بالرموز والألغاز، فما هو خبر عبد الرحمن؟ وما الشأن الذي ذهب فيه؟
ولم يتم عامر كلامه حتى قهقه الشيخ، ثم توقف بغتة وقال: أتجربني يا عامر وتتجاهل؟ لعل لك عذرا، ولكن الأمر الذي جئتم له لا يخفى على هذه الأحجار ولا على هذه الأشجار، وإذا لم تصدقاني فاسألا الهاتف الذي كلمكم من الجوزة ألم يقل لكم: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلا تسل عن حال عامر وسلمى عند سماعهما ذلك الكلام، فهم عامر بيد الشيخ ليقبلها لا يبالي برائحة قذارتها وقذارة ذلك الثوب، فلما أحس الشيخ بيد عامر ابتعد عنه وانزوى في الكهف والغطاء لا يزال على رأسه، فقال له عامر: بالله أيها الشيخ الجليل ألا كشفت عن وجهك وأظهرت نفسك؟
فزجره الشيخ وقال: الزم الأدب يا عامر، ولا تتطاول إلى ما لا يعنيك، واعلم أنني لن أخاطبك بعد الآن إلا مستترا، ويكفيك ما علمته من أمر ابن ذي الجوشن الأبرص، وما يبغيه من اللحاق بعبد الرحمن.
فخافت سلمى أن يغضب الناسك إذا هما أكثرا من السؤال فقالت: لا تغضب يا سيدي ولا يسؤك سؤالنا وأنت تعلم حالنا بعد ما ظهر من اطلاعك على أمرنا، إنا سائلوك سؤالا واحدا لا نزيد عليه شيئا، فهل تجيبنا؟
فلم يزد على قوله: هم هم.
ولكنها فهمت أنه موافق فقالت: هل ترى من بأس على عبد الرحمن في مهمته هذه؟ وماذا نصنع لإنقاذه مما عساه أن يحيق به من الأخطار؟
فأطرق الشيخ برهة ثم قال: أرجو ألا يكون عليه بأس، فإنه عرض نفسه في سبيل خدمة المسلمين. وهذا كل ما أقوله لكما فلا تزيدا. قال ذلك وهرول مسرعا نحو الغوطة والكلب يجري في أثره مخلفا سلمى وعامرا على أحر من الجمر، وقد جمد الدم في عروقهما وهما لا يكادان يمسكان النفس مما اعتراهما.
فلما توارى الشيخ وكلبه عنهما ظلا برهة صامتين ثم قالت سلمى: ما قولك يا عماه في هذا الشيخ وما سمعناه من كلامه؟
قال: إني والله في عجب عجاب من أمره، وقد كنا نسمع بالأولياء وكراماتهم، فالآن قد رأينا أحدهم رأي العين.
فقالت: إني أحسبني في منام. وفركت عينيها، وتلفتت إلى ما حواليها كأنما تريد أن تستوثق من يقظتها.
وأدرك عامر استغرابها وحيرتها فقال: لا تستغربي يا سلمى مما شاهدته من أمر هذا الشيخ مع ما يظهر من بلاهته، فإن الله يعطي من يشاء بغير حساب، ثم إنه قد توافرت فيه شروط الولاية من الزهد والتقشف، وقد قيل في أهل الولاية إنهم جواسيس القلوب، فلا أرى غرابة في معرفته حقيقة حالنا، ويلوح لي أنه على مذهبنا، فلا خوف منه على سرنا.
فقالت سلمى: ولكن من عسى أني يكون هذا الرجل؟
فأجابها عامر: إن أمره حيرني؛ لأن حاله ولباسه يدلان على تنسكه وانقطاعه عن الدنيا، ولكن كلامه عن يزيد يدل على اهتمامه بأمر المسلمين، ويظهر أنه عربي، وكأن لهجته عراقية.
فقالت سلمى: ليتنا سألناه عن بلده، وطلبنا إليه أن ينتسب.
فقال: ومن يتجرأ على هذا السؤال وقد رأيت مبالغته في التستر حتى غطى وجهه، ولما طال الحديث بيننا توارى؟ فلعله من بعض الذين بلوا بمثل بلوانا فلجأ إلى هذا الدير للاختفاء.
قالت: أظنه مصابا بعقله؛ لأنه شاذ الأطوار. ألم تسمع من رئيس الدير عن معيشته وكيف يقضي نهاره بين الأشجار يقتات بثمارها، ولا أنيس له غير هذا الكلب؟
قال: مهما يكن من أمره فإنه ذو كرامة، وعساه أن ينفعنا بكرامته.
قالت: وما العمل الآن؟ إني لم أزدد من حديثه إلا قلقا، وسكتت برهة ثم قالت: وما قولك في شمر اللعين؟
قال: هذا الذي شغل بالي، قبحه الله! لقد طالما شككت في هذا الأبرص وخفت غدره، ويلوح لي أنه علم بسفرنا إلى الشام واطلع على غرضنا، فاقتفى أثرنا ليشي بنا، ولولا ما قاله الناسك مما يدعو إلى الاطمئنان على عبد الرحمن لأسرعت في البحث عن وإرجاعه عن عزمه، ولكن هبي أني لم أطمئن فليس لي سبيل إليه؛ لأني لا أعرف الجهة التي سار فيها، وأخاف إذا أنا لحقت به أن أضل الطريق، وتبقي أنت وحدك، ولعل هذا الخائن قد نصب لك أحبولة أخرى.
قالت: أذهب معك أنا أيضا.
قال: ولكننا وعدنا عبد الرحمن أن ننتظره هنا، فقد يجيء الليلة ونحن غائبون فيرمي سهمه، وقد يكون فيما يكتبه عليه ما يبعث على ذهابنا لموافاته إلى مكان ما، فيقع السهم بين يدي أحد الرهبان ولا نطلع عليه. دعينا نمكث هنا، ونكل أمرنا إلى الله فهو نعم الكفيل.
قال ذلك ومشيا حتى اقتربا من الدير وهما كأنهما في حلم، فأراد عامر أن يشغل وقته في شيء يبعد الشبهة عنهما فقال لسلمى: تعالي معي إلى الحظيرة نتفقد جمالنا وأحمالنا.
قالت: دعنا من الجمال والأحمال، وحسبنا التفكير فيما نحن فيه.
قال: هذا ما أشعر به أنا أيضا، ولكن لا بد لنا من الانتظار إلى مساء الليلة أو صباح الغد أو مسائه، فكيف نقضي الوقت ووقت الانتظار طويل؟
فأطاعته وتحولا إلى الحظيرة، فرأيا الخدم قد بذلوا العناية في خدمة الجمال وأما أحمال التمر فلم يجدوها، فبغت عامر لأول وهلة، ثم تذكر أنهم حملوها إلى داخل الدير.
وقضيا هناك بعض الوقت، وسلمى في شغل شاغل عما حولها لا تنتبه لشيء لعظم ما ثار في خاطرها من القلق على حبيبها، ولا سيما بعد ما سمعته من الشيخ الناسك، ولم يكن عامر أقل قلقا منها ولكنه أراد تشجيعها وتحويل ذهنها، فلما لم يفلح في ذلك، أجاب رغبتها في العودة إلى الدير، وسارا توا إلى حجرتهما، ومكثا برهة بين كلام وتفكير.
الفصل السادس
الوقوع في الفخ
وحين مالت الشمس إلى المغيب علقت آمال سلمى بسهم عبد الرحمن، وخيل إليها من فرط قلقها أنها لا تكاد تصل إلى السطح حتى ترى السهم ساقطا أمامها، فحثت عامرا على الصعود معها، فأطاعها وقلبه لا يدله على خير، فوقفا على السطح ينظران إلى الأفق وقد تملكتهما الهواجس، وسلمى كلما لاح لها طائر ظنته سهما من حبيبها حتى تعبت عيناها من طول التحديق، وعامر يراقب حركاتها ساكتا، حتى آذنت الشمس بالزوال ولم يأت السهم ولا سمع له همس.
وكان رئيس الدير مشغولا في ذلك اليوم بصلوات خاصة لم يفرغ منها إلا نحو الغروب، فخرج من عليته وتمشى على السطح، فرأى عامرا وسلمى جالسين ينظران إلى الغوطة، وقرأ آيات القلق على وجهيهما فلم يشأ أن يزعجهما بالسؤال، بل ظل بعيدا وفي نفسه أنهما إذا أحبا مجالسته دعواه إليهما.
فغابت الشمس وهما على السطح ولم يحدث شيء، فاشتد قلقهما وعامر يحاول عبثا طمأنة سلمى بحديث أو رأي، وشاع بصرها بعد الغروب نحو الغوطة في الطريق الذي سار فيه عبد الرحمن لعلها ترى قادما تستأنس به فلم تر شيئا، وأخيرا نهض عامر وهو يقول: إن موعدنا غدا حتى الغروب، ومن العبث بقاؤنا هنا الليلة على السطح فضلا عن أنه يوجب الشبهة. قال ذلك ومشى فمشت في أثره، وعيناها لا تكادان تستقران.
باتا تلك الليلة وهما يفكران في عبد الرحمن، وقد عزمت سلمى، بينها وبين نفسها، على أنها إذا غربت شمس الغد ولم يأتها خبر من عبد الرحمن تسارع إلى التنكر في زي الرجال، ثم تذهب للبحث عنه، ولم يكن عامر أقل قلقا منها أو رغبة في البحث عن عبد الرحمن، ولكنه كان يخشى إذا تركها في الدير وحدها أن يكون عليها بأس، وأخيرا اعتزم إذا لم يعد عبد الرحمن أن يذهب هو وسلمى معا للبحث عنه.
وأما رئيس الدير، فقد لاحظ بقاء عامر وسلمى على السطح، كما لاحظ أن عبد الرحمن ليس معهما، ولكنه حسبه في بعض جوانب الدير، ولم يداخله ريب في أمره.
ونهضت سلمى والفجر لم يبد بعد فأيقظت عامرا وحرضته على الصعود إلى السطح عسى أن يكون سهم عبد الرحمن قد وقع في أثناء الليل، فصعد ولم ير شيئا فرجع، فحثته بعد هنيهة على الصعود وهو لا يحتاج إلى من يحثه، وما صدق أن أشرقت الشمس حتى دعاها إلى الصعود معه، وفيما هما صاعدان على السلم شاهدا طائرا يحلق في الجو ولا يحرك جناحيه، فتطيرا به، وكان من عادة العرب، إذا رأوا طيرا يحلق على تلك الصورة تشاءموا منه! وأدرك عامر تشاؤم سلمى فابتدرها قائلا: أراك تطيرت بمنظر هذا الطائر، وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك بقوله: «من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.» وكذلك قال
صلى الله عليه وسلم : «إذا تطيرت فلا ترجع.» فانزعي من بالك هذا الوهم وكلي أمرك إلى الله، فسكتت وخاطرها لم يطمئن ولكنها سايرته وصعدت معه.
ولما طال انتظارهما واشتد بهما القلق، تذكرا الشيخ الناسك ولم يكونا قد رأياه منذ فر من بين أيديهما بالأمس ولا رأيا كلبه في الدير.
ولم يكن أطول من ذلك النهار على سلمى، فلما دنا الأصيل ولم يطمئن بالها أخذت تلوم نفسها وتقرع عامرا على التقاعد عن اللحاق بعبد الرحمن، وهي إلى الحين لم تذق طعاما، فخارت قواها، ولكنها لم تشعر بالجوع لشدة قلقها.
وبينما هي غارقة في هواجسها إذ لمحت فارسا يركض فرسه بين الأشجار بالقرب من باب البستان، فخفق قلبها والتفتت إلى عامر فإذا هو ينظر أيضا إلى ذلك الفارس وقد علته البغتة، ورأت رئيس الدير قد خرج من عليته مسرعا وهو يصلح عباءته وينظر إلى باب البستان، ثم نادى القيم وقال له : ابعث راهبا ليفتح الباب؛ لأني أرى عبيد الله بن زياد قادما، لعله جاء لينبئنا بقدوم الخليفة.
فلما سمعت سلمى اسم ابن زياد ارتعدت فرائصها، ونظرت فإذا هو قد وقف بالباب، ثم هرول بعض الرهبان ففتحوا له، وهمت بمخاطبة عامر فإذا هو يقول لها: انزلي يا سلمى إلى غرفتك واستتري هناك وأنا أبقى هنا لنرى ما يكون من الأمر، فأرادت أن تستمهله فألح عليها بالنزول ووعدها بأن يبقى هو في انتظار رسالة عبد الرحمن، فنزلت مسرعة واختبأت في غرفتها وظل عامر على السطح.
وكان الرئيس قد نزل إلى الباب واستقبل ابن زياد، ووقف معه برهة وهما يتكلمان همسا، ثم صعدا إلى السطح، وقبل أن يصلا فاحت رائحة المسك، فعلم عامر أنها رائحة عبيد الله بن زياد؛ لأنه كان مشهورا برائحته الطيبة، ولبث عامر جالسا وقد ندم على بقائه هناك، ثم ما عتم أن رأى الرئيس مقبلا نحوه وعبيد الله إلى جانبه، فوقف له وحياه، فرد عبيد الله التحية هاشا والرئيس يبتسم كأن في نفسه قولا يهم به، فتجاهل عامر وتأدب في موقفه، فدعاه ابن زياد إلى الجلوس، وأمر الرئيس بطنفسة فرشت لهم على حصير فجلسوا عليها، وعامر يعجب بما يبدو من مظاهر الترحاب، ونفسه تحدثه بظنون كثيرة حتى لم يبق له صبر على استطلاع السبب، وهو يخاف أن يكون فيما سيسمعه بأس على عبد الرحمن.
فلما استتب بهم المجلس، جيء إليهم بالفاكهة وكئوس الأشربة فأكلوا شربوا، ثم بدأ الرئيس الكلام قائلا: لعل مولانا الخليفة قادم إلينا فنتأهب لاستقباله.
فضحك عبيد الله وهو يصلح حمائل سيفه وقال: لا أظن مولانا يمر بكم اليوم.
قال الرئيس: أعائد هو إلى دمشق؟
قال: نعم إنه عائد الليلة.
قال: ولماذا عجل بالرجوع من صيده، وقد كنت أحسبه لا يعود قبل أسبوع؟
قال: إنه تشاءم من سفرته هذه فآثر الرجوع سريعا.
فارتاب عامر في أمر عودة يزيد، وهم بالاستفهام، فإذا بابن زياد يستأنف الحديث قائلا: وقد نجا أمير المؤمنين من خطر عظيم.
فلما سمع عامر قوله توسم الوصول إلى ما يتوقعه، لكنه خاف أن يكون ثمة ما يسيئه، فبدت البغتة على وجهه وتطاول بعنقه لسماع بقية الكلام.
فأتم عبيد الله حديث قائلا: وكانت نجاته من الخطر بسر عجيب يرجع الفضل فيه إلى كلبه وإلى رجل من خاصتنا.
فقال الرئيس: وكيف ذلك؟
قال: خرجنا من عندكم بالأمس، وبتنا في قرية على بضعة أميال من هذا الدير، فجاءني مساء أمس رجل أعرفه من أهل الكوفة، ونبهني إلى وجود غريب متنكر يعتزم الفتك بأمير المؤمنين في أثناء صيده، فشكرت مسعاه ووعدته خيرا على جميله، وأصبحنا وأنا لم أطلع الخليفة على ذلك لئلا أزعجه، فخرجنا إلى الصيد وكلما أراد الخليفة الانفراد في الغوطة لحقت به مخافة أن يكون ذلك المتنكر متربصا في بعض الأماكن، وأوصيت جماعة من رجالنا الأشداء أن يقتفوا أثرنا ويتأهبوا للوثوب عند أول إشارة، وكان معنا كلب من كلاب الصيد يمتاز بسرعة عدوه وذكائه، وقد أحبه الخليفة حتى ألبسه الدمقس والحرير، وملأ قوائمه بالأساور الذهبية، وفيما نحن على خيلنا بالقرب من غابة متكاثفة الأغصان نبح الكلب نباحا شديدا وأسرع أمامنا حتى أوغل بين الأشجار وهو يبالغ في نباحه، فعجبنا لأمره وما زلنا ندعوه إلينا وهو لا يطيع حتى ارتبت في الأمر، فتفرست في أثره فإذا بشاب ملثم قد خرج من الغابة وفي يده خنجر مسلول، طعن به أول من صادفه من الحاشية، ثم طعن الثاني والثالث واخترق الجمع وهو يلتمس الخليفة، فأمرت الرجال بأن يقبضوا عليه ولا يقتلوه، فتكاثروا عليه فقتل منهم خمسة، ولم يبلغوا منه وطرا إلا بعد أن عثر بجزع شجرة ناتئ، فتجمهروا عليه وأوثقوه وثاقا شديدا وساقوه إلى الخليفة، وكنت قد سبقته إليه وأخبرته بخبره فأمر بإرساله إلى دمشق، وعدل عن إتمام الصيد وأوعز بالإياب فأسرعت في المجيء قبله لغرض عند عمي هذا، وأشار إلى عامر. •••
سمع عامر حديث ابن زياد فلم يبق عنده شك في أن الذي قبضوا عليه هو عبد الرحمن، ولكنه عجب للغرض الذي قدم عبيد الله من أجله ، وخاف أن يكون فيه بأس عليه؛ إذ لا يبعد على الذي وشى بعبد الرحمن أن يشي بهم جميعا! فاسودت الدنيا في عينيه، ولكنه صبر صبر الرجال وتجلد، والتفت إلى عبيد الله وهو يظهر الاستغراب مما اتفق للخليفة وقال: مهما يأمر سيدي فإني رهين إشارته.
قال: إنني أحببت مصاهرتك، فهل ترضاني لك صهرا؟
فوقع ذلك الكلام على قلب عامر وقوع الصاعقة، وأرتج عليه فلم يعلم بماذا يجيبه، وهو لا يستطيع مجافاته لأنه في قبضة يده، فأراد أن يحتال في جوابه، وقبل أن يبدأ بالكلام رأى ابن زياد قد وقف فجأة وهو ينظر إلى البستان وتطاول بعنقه وعلته البغتة، فالتفت عامر فإذا بالخيول تتزاحم عند باب البستان وعليها الفرسان وفيهم يزيد بن معاوية، ثم رأوا يزيد قد ترجل وحده وأقبل مسرعا على قدميه نحو الدير كأنه يطارد شيئا، فبغت الرئيس وأسرع إلى باحة الدير وهو يتعثر بأذياله حتى كاد يقع على السلم، فرأى كلبا من كلاب الخليفة دخل الباب وعليه الأطلس والأساور كما وصفه ابن زياد، فلما رأه الكلب مهرولا نحوه انحرف بمسيره نحو غرفة سلمى ويزيد في أثره؛ لأنه افتقده وهو بقرب الدير فلم يجده، فعلم أنه دخل الدير فجاء للقبض عليه بنفسه لأنه كان يحبه، ولا سيما بعد ما بدا من نباهته في ذلك اليوم.
وكانت سلمى متكئة على عباءة وباب غرفتها مفتوح نصف فتحة، وفي يدها منديل تمسح به دموعها وهي غارقة في ظلمات الخيال، تفكر في حبيبها وما عرض نفسه له من الخطر الشديد، وقد طال غيابه فغلبها البكاء، وأطلقت لعواطفها العنان حتى احمرت عيناها وتكسرت أهدابها وتوردت وجنتاها. وكان شعرها محلولا فاسترسل بعضه على جبينها وتدلى البعض الآخر حتى غطى معصمها، وانحسر كمها عن زندها فانكشف معظمه وعليه الوشم كدبيب النمل.
وفيما هي على تلك الحال سمعت خشخشة الأساور في قوائم الكلب، ثم رأته داخلا غرفتها فتذكرت يزيد فأجفلت وتشاءمت، وإذا بها تسمع صوت يزيد وهو يناديه، وأحست به مقبلا نحو غرفتها فارتعدت فرائصها ومدت يدها إلى النقاب لتستر رأسها به فلم تدركه فأرسلت شعرها على وجهها ريثما تستتر، وإذا يزيد قد دخل ورآها فانذهل لرؤيتها ووقف مبهوتا لا يدري ما يقول وقد نسي الكلب وأساوره.
أما هي فغطت وجهها بكمها وغلب عليها الحياء والوجل، وظلت جالسة لا تدري كيف تحتجب! وداخلتها الدهشة فزادتها رونقا ومهابة، فولت وجهها عرض الحائط وظهرها نحو يزيد الذي لم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، ولم يستطع أن يكبح انعطافه إليها، فناداها بنغمة المحب المفتون قائلا: لا تحجبي شمس وجهك عن خلق الله يا أجمل خلق الله.
فظلت صامتة وجمد الدم في عروقها من شدة الخجل، فتحول يزيد من الغرفة وقد وقعت سلمى من نفسه موقعا عظيما، وكان عبيد الله بن زياد قد نزل إلى الباحة والرئيس معه فرأى يزيد خارجا من غرفة سلمى وأمارات الإعجاب بادية في عينيه، فشعر بغيرة شديدة ممزوجة بالحسد، لعلمه أن الخليفة إذا رآها وأعجبته لا يبقى له هو سبيل إليها، فتجاهل ما ثار في خاطره وخاطب الخليفة على سبيل المزاح قائلا: أرى أمير المؤمنين مشغولا بكلبه بعد الطريدة التي اصطادها له هذا الصباح.
فقال يزيد وهو يحاول الابتسام: لكنه اصطاد طريدة أخرى أجمل من تلك، فتضاعف فضله علينا.
فأدرك ابن زياد تلميحه فازدادت غيرته، ولكنه اضطر إلى الكتمان وندم على امتداح نباهة الكلب، ولعن الساعة التي جاء فيها إلى الدير، ولكنه عمد إلى المغالطة ونادى أحد الخدم فسلم إليه الكلب، واستشار الخليفة فيما يراه من البقاء أو الرحيل فأشار بالرحيل، والرئيس يرحب به ويرجو بقاءه للاستراحة بقية ذلك اليوم، فقال يزيد، لقد طرأ ما يدعو إلى التعجيل بعودتنا. ثم طلب إليه أن يتبعه فتبعه الرئيس حتى انتحيا ناحية وظل ابن زياد واقفا وعيناه تتبعانهما حتى تواريا وراء الصفصافة.
فلما خلا يزيد إلى الرئيس سأله عن تلك الفتاة فأخبره أنها ابنة تاجر قدم من العراق منذ بضعة أيام.
فقال يزيد: هل هي عزبة؟ قال: أظنها كذلك يا مولاي.
قال: حسنا، ولم يزد، ثم أمر فركبت حاشيته وركب هو وابن زياد معه، وودعا الرئيس وخرجا، وعامر لا يزال على السطح يختلس النظر إلى حركات يزيد وقد رآه وراء الصفصافة مع الرئيس.
فلما مضى يزيد ورجاله صعد الرئيس إلى السطح وفي وجهه ابتسامة استدل عامر منها على شيء في نفسه، فتقدم إليه وملامح الاستفهام بادية على وجهه، وقبل أن يهم بالكلام ابتدره الرئيس قائلا: إني أبشرك بالسعادة يا بني.
قال عامر: بماذا؟ وكيف؟
قال: لأني رأيت أمير المؤمنين معجبا بابنتك.
فشق ذلك على عامر وقال وهو يتظاهر بالسذاجة: وماذا في ذلك من دواعي الغبطة؟
قال: لحظت من كلامه أنه يريد أن يسعدك بالمصاهرة.
فوقع ذلك الكلام على عامر وقوع البلاء العظيم، ولم يفه بكلمة وتراكمت عليه الهموم، وحار فكره بين وقوع عبد الرحمن في الأسر، وبين ما سيصيب سلمى إذا علمت بما أصابه، ثم برغبة يزيد في زواجها، فلم يعد يعرف كيف يتخطى درجات السلم لشدة كدره.
أما سلمى فأسرعت بعد أن خرج يزيد من غرفتها وأغلقت الباب، ثم وقفت مبهوتة وهي تردد ما سمعته منه، وأدركت ما جال في خاطره عنها، فوقعت في حيرة لا تدري ماذا تعمل؟ ثم عاد خيال عبد الرحمن إلى ذهنها فشغلت به عن كل هاجس، وودت لقاء عامر لتستطلع ما علمه عن عبد الرحمن، وحدثتها نفسها بأن تخرج في طلبه على السطح، ولكنه خافت أن يكون يزيد باقيا هناك فأحجمت.
وبينما هي تتردد في ذلك إذ فتح عامر الباب ودخل، فرآها على تلك الحال من القلق، وأثر البكاء في عينيها، والبغتة لا تزال غالبة على محياها، فلم يدر كيف يخاطبها، ولا كيف يفضي إليها بما جاء به من الخبر المحزن عن عبد الرحمن، فوقف لحظة لا يتكلم، وأدركت هي ما يساوره فقالت: ما وراءك يا عماه؟
قال: ما ورائي إلا الخير إن شاء الله.
قالت: هل جاءت رسالة عبد الرحمن؟ هل وصل إليك سهمه؟
قال: نعم ولكنه وقع في قلبي.
ففهمت أنه سمع شيئا يسوءها فقالت: ما الخبر؟ أين عبد الرحمن؟ ماذا جرى له؟
قال وهو يتلجلج: لم يجر له شيء، ولكن ...
قالت: ولكن ماذا؟ هل قتلوه؟ قالت ذلك وقد اختنق صوتها وسبقتها العبرات.
قال: لا لم تصل يدهم إلى ذلك، ولكنهم أسروه.
فلطمت خدها حتى كادت تقع أقراطها وقالت: من أسره؟ وكيف؟
فجعل يخفف عنها وهو يقص عليها حديث ابن زياد، دون أن يذكر لها شيئا مما قد بدأ به من المصاهرة، فلما فرغ من كلامه عادت سلمى إلى البكاء وهي تقول: وقبحهم الله! إنهم قبضوا عليه. أرأيت تطيرى في هذا الصباح وأنت لا تزال تغالطني؟ هذا ما كنت أخشاه، فما العمل الآن؟
فلبث عامر ساكنا غارقا في بحار أفكاره، فابتدرته قائلة: قل يا عماه. قل ما الرأي؟
قال وهو يفرك لحيته بسبابته كأنه يهيئ عبارة يخفف بها عنها: لا تعجلي يا سلمى، تمهلي واستعيني بالله، ولننظر في الأمر على مهل.
قالت: كيف أتمهل وقد أسروا عبد الرحمن، ولا أدري ما الذي يحدث له هناك؟ قالت ذلك وأجهشت بالبكاء، فتحير عامر في أمره وهو أشد منها خوفا عليه؛ لما سمعه من حديث ابن زياد، وحدثته نفسه أن يطلعها على ذلك ولكنه خاف أن يزداد قلقها فقال: لا يفيد التسرع، ونحن الآن حوالي الغروب، والليل أعمى لا نستطيع فيه عملا، ولا بد من الانتظار إلى الغد، وإن غدا لناظره قريب.
قالت: إنني خائفة من هذا الليل. إني خائفة أن يصاب عبد الرحمن ببلاء عاجل، فلا نملك حيلة لإنقاذه.
قال: لا أظنهم يبتون في شأنه الليلة، ولا بد من أن يمهلوه حينا ريثما يستطلعون حاله، وما دفعه إلى قتل الخليفة، وأرى أن أنزل غدا بأحمال التمر إلى دمشق، لاحتال لاستطلاع الخبر وأعود إليك، فنرى ما يكون.
قالت: لا بد من الانتظار إذن؟ فلنصبرن، إن الله مع الصابرين.
وقضيا تلك الليلة على مثل الجمر، وسلمى لم تذق رقادا، وعامر يفكر في تدبير الحيلة لاستطلاع حال عبد الرحمن، فلما أصبحا هيأ عامر جماله وتزيى بزي التجار، وركب قاصدا دمشق، وسلمى تدعو له بالتوفيق وقلبها يخفق خوفا عليه أيضا، لئلا يكون شمر قد دبر له مكيدة، ولما توارى عن نظرها عادت إلى غرفتها وأغلقت الباب، ولما تذكرت حبيبها وما هو فيه من الخطر الشديد فهاجت أشجانها وأجهشت في البكاء.
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام خارج غرفتها، وصوتا يشبه صوت الرئيس، ولم تكد تصيخ بسمعها حتى سمعت قرع الباب فأجابه قلبها بدقات متوالية، ووقفت بلا انتباه ويدها اليسرى على خمارها تتأهب لإرساله على رأسها إذا رأت في الباب رجلا غريبا.
ولا تسل عن اضطرابها ووجلها لما فتح الباب ورأت الرئيس، ومعه شمر بن ذي الجوشن، وقد ارتدى أفخر ملابسه وتطيب وأصلح هيئته كأنه يستعد للقاء عروس، فلما رأت برصه ارتعدت فرائصها وحدثتها نفسها أن تبتدره باللعن والتأنيب، ولكنها خافت الفضيحة وهي وحدها هناك، فتجلدت وهي ترتعش. أما الرئيس فلما رأى سلمى وحدها قال لها: أين أبوك؟
قالت: أظنه ذهب إلى دمشق بأحمال التمر في هذا الصباح، فما الذي تريده منه؟
قال: إن مولانا الخليفة بعث إليه بهذا الأمير ليكلمه في شأن.
فلما سمعت اسم الخليفة ورسالته خافت مما وراء تلك الرسالة ولكنها أمسكت عواطفها وأجابته بهدوء فقالت: إن أبي ليس هنا الآن. قالت ذلك وهي ترجو أن ينصرف شمر بهذا الجواب.
فابتسم شمر وهو يحاول أن يتظاهر بالرزانة والاستخفاف معا وقال: لا بأس، فإني مكلف بتأدية هذه الرسالة له أو لك.
قال ذلك ودخل الغرفة، فتحول الرئيس راجعا.
وأما سلمى فظلت واقفة، وقد اصطكت ركبتاها واقشعر بدنها وخافت أن يبدو ذلك الاضطراب في وجهها فبالغت في إرخاء النقاب عليه، ولم تكشف منه إلا عينيها، ولكن شمرا قرأ في تينك العينين أمارات الخوف والوجل، فلما خلا إليها، قال متلطفا: لا تخافي يا سيدتي ولا تظني بي سوءا، ولكني أرجو أن تكوني قد عرفت هذا الوجه. قال ذلك وقبض على لحيته.
فقالت: وماذا في معرفتي إياه؟
قال: إذا عرفته عرفت أني جاركم القديم، وأني من أصدقاء أبيك أو كفيلك عامر، قال ذلك وهو يحاول الابتسام فأدركت أنه يهددها بمعرفة سر وجودها هناك، وتحققت الغدر في وجهه، وندمت على بقائها وحدها.
ولكنها لما تذكرت ما ارتكبه ذلك الأبرص من الوشاية بعبد الرحمن، هان عليها كل صعب وعولت على التفاني في سبيل شفاء غليلها منه فقالت: وإذا كنت كذلك، فما الذي يهمك من أمرنا؟
قال: وما بالك تخاطبينني بالجفاء يا سيدة الملاح وأنا إنما جئت لاستعطافك؟
فأدركت ما رواء هذه الملاطفة، وسكتت وقد صعد الدم إلى رأسها فتحول وجلها إلى غضب وقالت: إنك جئت لمخاطبة أبي، ولكنه غائب، فإذا جاء فخاطبه.
قال: وماذا يفيدني خطابه إذا لم تكوني أنت راضية؟!
قالت: أراك تلمح إلى ما لا يليق بك بين يدي فتاة لا تعرفك.
قال وهو يظهر الاستخفاف: كيف تقولين إنك لا تعرفينني وأنا أعتقد غير ذلك؟ أم أنت لا تزالين مغرورة بذلك الفتى الغر الجاهل؟
فلم تعد سلمى تستطيع صبرا على تلك القحة، وأعملت فكرها فيما تفعل فرأت نفسها ضعيفة غريبة، والخليفة وأعوانه وكل أهل الشام ضدها، وحياتها وموتها بين شفتي ذلك الرجل، فأحست كأن الجبال تراكمت على صدرها وتساقطت دموعها بالرغم منها، فحولت وجهها لئلا يلحظ شمر ذلك فيزداد طمعه فيها.
أما هو فلما رآها تبكي استسهل استرضاءها، فعمد إلى الملاينة، واقترب منها وقال في حنان: لا تبكي يا سلمى ولا تخافي، فإني مع علمي بسرك وسر عامر وعبد الرحمن، لا أريد بك شرا، بل أنا نصيرك وعونك حتى تخرجي من هذه الديار آمنة، على شرط أن تجيبي سؤال قلبي، وترحمي محبا قطع البراري والقفار سعيا إليك، فارحمي قلب هذا العاشق الولهان، وأقلعي عن مجاراة الغلمان الذي يسوقون أنفسهم إلى الموت بجهلهم وغباوتهم، كما فعل ابن عمك عبد الرحمن الذي أغواك بشقشقة لسانه، حتى وقع أسيرا وسيق إلى السجن مغلولا، ولو أردت أن أسوقك وأسوق عامرا معه لفعلت، ولكن قلبي لم يطاوعني؛ لأني أحبك، فإذا أطعتني ورضيت بما أطلبه منك عشت سعيدة آمنة، لأن ما تسعون إلى نيله إنما هو أضغاث أحلام، ونحن الآن أهل الصولة والبطش، وخليفتنا صاحب السلطان والأعوان، فما قولك؟
وكان شمر يتكلم وهو ينظر إلى وجهها من وراء النقاب وهي معرضة عنه وفرائصها ترتعد، وقد جمد الدمع في عينيها وحارت في أمرها فظلت صامتة، فاستبشر شمر وظن السكون جوابا فأعاد الكرة وقال: إني والله ليعجبني تعقلك وسداد رأيك، فأفصحي لي عن رضاك وهذا يكفيني الآن.
فلم تعد سلمى تصبر على الجواب فحولت وجهها إليه وقالت: إنك لتطمع في أمر يقصر عنه باعك، فانصرف من هنا بسلام.
فضحك وقال: إلى أين أنصرف يا سلمى؟ أأنصرف إلى أمير المؤمنين فأطلعه على أمرك فيصيبك ما أصاب ابن عمك؟ أظنك لم تفهمي مغزى كلامي بعد، فاعلمي إذن أن عبد الرحمن أصبح في قبضتنا ولم يبق له مطمع في الحياة، فاستبقي نفسك وعامرا، وإلا فالموت أقرب إليكما من حبل الوريد.
قال ذلك والخبث يتجلى في وجهه، فابتدرته سلمى قائلة: خسئت يا نذل! إن باعك وباع يزيد أقصر من أن تنالا شعرة من عبد الرحمن.
فضحك شمر ضحكة طويلة وقال: أتظنين أننا قاصرون عنكم؟! ألم تفهمي أن عبد الرحمن أسير عندنا وقد قبضنا عليه وهو يحاول قتل أمير المؤمنين؟ فمن أين تأتيه الحياة بعد؟! أقلعي عن عنادك وأطيعي ناصحا يعرض عليك السعادة، فإذا رفضتها أذاقك الموت الزؤام.
قالت: لا تحسبني جاهلة ما تقوله؛ فقد علمت أن عبد الرحمن أسير، وأنك وشيت به، وأعلم أنك قادر على أن تشي بي أيضا وتميتنا معا، ولكن الموت مع عبد الرحمن خير من الحياة معك يا خائن! فامض لشأنك وافعل ما تشاء، والموت أسهل ما تخوفني به، وهو أحب إلي من قربك، فإذا بعدت عن وجهي لا أبالي حييت أم مت.
فوقع ذلك التقريع موقع السهام في قلبه، ولكنه كان شديد الولع بسلمى منذ كانت في العراق، وهو إنما لحق بهم إلى الشام وأوقع بعبد الرحمن طمعا في الحصول عليها؛ لأنه لم يكن يجرؤ على منافسته فيها، فلما أوقعه في الأسر ظنها تيأس من حياته وتخاف على حياتها فترضى به، وكان يريد مخاطبة عامر في هذا الشأن، فلما لم يجده هناك خاطبها وعجب لشجاعتها وعزة نفسها، فقال: يا للعجب من جهالتك! لقد كنت أحسبك عاقلة فإذا أنت حمقاء مغرورة! ولكني أعرض عليك الحياة مرة أخرى فإذا رفضتها كان ذلك آخر العهد بك.
قالت: امض وافعل ما تشاء. اخرج من هنا وليكن ما يكون.
فخرج شمر والغضب ظاهر في وجهه وحركاته، وهو يلعن سلمى ويتوعدها، ولكن قلبه لم يطاوعه، فصبر نفسه ريثما يعود عامر ويحمله بالوعد أو الوعيد على إقناعها. •••
أغلقت سلمى الباب وراء شمر وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجلست تندب سوء حظها وتفكر في مصير عبد الرحمن ومصيرها. حتى إذا كلت من البكاء والنحيب استرجعت رشدها وأعملت فكرها فلم تر خيرا من أن تنتظر عودة عامر فتستشيره في الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر ريثما ينفتح باب الفرج.
ومضى معظم النهار وسلمى بين بكاء وتأمل، دون أن تذوق أي طعام أو شراب. حتى إذا مالت الشمس نحو الأصيل سمعت وقع خطوات مسرعة أمام باب الغرفة، فخفق قلبها، ثم رأت الباب قد فتح ودخل عامر وعلى وجهه ظواهر الدهشة فازداد اضطرابها وقالت: ماذا وراءك؟
قال: ما ورائي إلا الخير، ما بالك في هذه الحال؟ هل جاءك أحد بخبر جديد؟
قالت: كيف تسألني عن حالي وأنت تعلم أن عبد الرحمن مسجون؟ هل علمت جديدا من أمره؟ وما سبب اضطرابك؟ قل ولا تطل السكوت.
قال: أما عبد الرحمن فقد علمت أنه حي في سجنه ولا خوف عليه الآن، وأما سبب اضطرابي فإني رأيت جوادا واقفا بباب الدير موسوما بلفظ «عدة» فعلمت أنه من خيل الحكومة، وخفت أن يكون قد جاءنا أحد من رجال يزيد يريد بنا سوءا؛ لأني صرت أحسب أشجار هذه الغوطة عيونا علينا.
فقالت: لقد نطقت بالصواب، وأنا أيضا أرى رأيك، فهل توافقني على الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر؟
قال: نعم، ولكنني أخاف إذا خرجنا الساعة أن يكون صاحب ذلك الجواد في انتظارنا، فلنصبر قليلا.
فتذكرت سلمى حديث شمر فقالت: ربما كان هذا الفرس لذاك الرجل الأبرص.
قال: وما شأنه؟ هل جاء إلى الدير اليوم؟
قالت: نعم جاء وتطاول إلى ما يقصر عنه بنو أمية جميعهم.
فتعجب عامر وقال: وما تعنين؟ هل رأيته؟ وهل خاطبك في شأن ما؟
قالت: إنه جاء بعد خروجك هذا الصباح، وجعل يستعطفني ويسترضيني، ولما لم ير غير الإعراض خرج مغضبا وهددني بالوشاية بي إلى خليفته، وما زلت مذ خرج وأنا أفكر في هذا الأمر، فلم أر خيرا من الإسراع بمغادرة هذه البلاد.
فدق عامر يدا بيد وقال: تبا له من غادر! أظنه لن يصبر إلى الغد لكي يشي بنا، وقد كان من الحكمة أن تماطليه وتدافعيه ريثما نخرج من هذا المكان ولا سيما أنك تعلمين أن قيادنا في يديه، وأنه قادر على أن يؤذينا.
فقطعت سلمى كلامه قائلة: لا تلمني يا عماه؛ فإني لم أستطع صبرا على قحته وغدره وتهديده. ولم أعد أريد الحياة بعد ما أصابنا. قالت ذلك وخنقتها العبرات فسكتت واغرورقت عيناها بالدموع، فندم عامر على ما بدا من لومه وقال: إني لا ألومك يا سلمى، فلو كنت أنا مكانك لما قابلته بأخف من ذلك، على أني أخفيت عليك أمرا وقع لي بالأمس من ابن زياد، ولم أطلعك عليه بعد.
قالت: وما ذاك؟ فقص عليها خطبة ابن زياد لها إلى أن قال: وقد ماطلته خوفا من غضبه. والآن لم يبق لنا إلا التأهب للسفر، فقد بعت الجمال والأحمال فخفت أمتعتنا، ولم يبق لنا ما نحمله غير هذه الثياب.
قال ذلك وأخذ في جمع الثياب وحزمها، ولم يكد يفعل ذلك حتى سمع رئيس الدير يناديه باسمه، فأجفل وتحول إلى الباب ففتحه وتطلع فرأى الرئيس واقفا تحت الصفصافة وأمارات البشر على محياه، فلما وقعت عينه على عامر أومأ إليه بإصبعه أن يأتي إليه.
فاستبشر عامر بوجه الرئيس وذهب عنه اضطرابه، واستأذن سلمى في الخروج إليه، ثم خرج على عجل. وقبل أن يصل إليه تحول الرئيس نحو السلم المؤدي إلى السطح وهو يومئ إليه أن يتبعه، فسار في أثره حتى صعد إلى السطح، ودخلا غرفة الرئيس، فإذا هناك عبيد الله بن زياد جالسا على وسادة مثناة فوق البساط فانقبضت نفس عامر، وأوجس خيفة من قدومه؛ إذ تيقن أنه إنما جاء خاطبا. ولكنه تجلد وتظاهر بالبشاشة والارتباك، فوقف له ابن زياد ورحب به وأجلسه إلى جانبه، وجلس الرئيس على جانب البساط بقرب الباب، فلما استقر بهم الجلوس قال عامر: كيف أصبح مولانا أمير المؤمنين اليوم؟
قال: أصبح في خير، وقد كلفني أن أحمل إليكم بشرى أظنها تسركم، وإن كانت لا تسرني.
فسكت عامر، ثم أدرك أن سكوته يعد احتقارا لإنعام الخليفة فقال: إننا جند أمير المؤمنين، نأتمر بأمره.
قال: أنت تعلم ما في نفسي من أمر ابنتك وما خاطبتك به بالأمس، ألا تذكر ذلك؟
قال: نعم أذكر يا مولاي.
قال: وقد كان في نيتي أن أعود إليك مرة أخرى، فسبقني أمير المؤمنين؛ لأنه شاهد ابنتك اتفاقا، فوقعت من نفسه موقعا حسنا، واعتزم أن يسعدك بالمصاهرة لتكون ابنتك من بعض نسائه.
فوقع هذا النبأ في أذن عامر وقوع السهم في قلبه، وتلعثم لسانه وظهرت الحيرة على محياه فظل ساكتا، فلم يخطر ببال ابن زياد أن عامرا يتردد في الجواب، ولكنه حسبه فوجئ بنعمة لم يكن يتوقعها، فأعاد عبارته ونمقها وقال: ولو لم يسبقني أمير المؤمنين إلى ذلك لكنت أحسبني سعيدا بمصاهرتك، ولكن أمره فرض، فأهنئك بهذه النعمة التي يغبطك عليها كثيرون.
فلم يزدد عامر بذلك الإيضاح إلا ارتباكا، وحدثته نفسه أن يعتذر بخطبة سلمى لشاب آخر، ولكنه خاف أن يسأله عن اسم الخطيب وهو لا يقدر على التصريح باسمه ولا أن ينتحل اسم أحد سواه؛ لأنه لا يعرف أحدا يسلم إليه سره في تلك الديار، فلم يستطع غير التظاهر بالقبول وإسداء الشكر ريثما يدبر حيلة للفرار، فقال وهو يحاول الابتسام: إني أعد نفسي أسعد الناس بهذه النعمة؛ لأن التقرب من أمير المؤمنين شرف وسعادة، وما ابنتي إلا جارية من جواريه، ولكني أرغب إلى مولاي أن يمهلنا يوما أو يومين حتى نتأهب لحمل الفتاة إلى دار الخليفة؛ لأنها ستتلقى الخبر بالدهشة؛ لبعد هذه النعمة عن خاطرها، ولا سيما أنها أصبحت اليوم مريضة.
فقال ابن زياد: لا أظن الخليفة إلا راضيا بما ترتاح إليه العروس، وإذا تعجل الأمر فإنما يكون ذلك رغبة في استقدامها إليه ليرسل إليها من يكون في خدمتها حتى تصل إلى داره في أمن وراحة.
وسكت عامر، فحمل ابن زياد سكوته على الرضا، ثم نهض فنهض الرئيس وعامر، فودعهما وخرج. •••
أسرع عامر إلى سلمى ليرى رأيها في هذا الأمر الجديد، وكان صبرها قد نفد في انتظاره، فلما أطل عليها وشاهدت البغتة على وجهه أوجست خيفة وابتدرته بالسؤال فقال لها: هلم بنا نهرب، فإني لا أرى فرجا إلا بالفرار من هنا.
قالت: ما الذي حدث؟
قال: إننا وقعنا في مشكلة أعظم مما كنا نخافه.
قالت: وما ذلك؟
فقص عليها حديث ابن زياد كما وقع، وكان يتكلم وهو يتوقع إجفالها فإذا هي قد أبرقت أسرتها وأشرق وجهها وزال غضبها ولم تجب.
فقال: ما رأيك يا سلمى؟ ألا ترين أن نسرع في الفرار.
قالت: ولماذا الفرار؟
فاستغرب سؤالها وقال: ما هذا السؤال؟ ألا نفر من هذه الهوة؟
قالت: أتحسب الاقتران بالخليفة هوة؟! وضحكت.
فازداد استغرابا ولكنه حسبها تمزح فقال لها: صدقت، إن الاقتران بالخلفاء سعادة، هيا بنا نحمل أمتعتنا وننصرف قبل أن تداهمنا تلك السعادة.
فقالت: كيف نفر من سعادة يتمناها كل إنسان؟! أم تحسبني أمزح؟!
قال: لا أشك في أنك تمزحين.
قالت: كلا إنما أقول الجد، ومتى رأيتني أزف إلى الخليفة، عرفت أني أجد ولا أهزل.
فلم يصدق قولها وظل يحسبها تعبث فقال: دعينا من المجون الآن فإن الوقت قصير. هلم بنا نرحل، وأرى أن نخرج منفردين، وإذا رأينا حمل الأمتعة يدعو إلى شبهة تركناها.
قالت: إذا شئت الخروج فاخرج. أما أنا فإني أنتظر وفد الخليفة لأسير إليه.
فقال: دعينا من المجون يا سلمى فليس هذا وقته.
قالت والجد باد في وجهها: قلت لك إني لا أهزل، بل أقول الجد ، وأنا باقية هنا حتى أحمل إلى دار الخليفة، وإذا ساءك ذلك فابق حيثما شئت.
فقال وقد مل إصرارها: إذا كنت تجدين فما أنا معك؟ وإلا فما الذي تعنينه؟
فقالت: كن حيث شئت؛ فإني أعني ما أقول.
قال: أتعنين أن تقبلي يزيد زوجا لك؟
قالت: لا تقل: يزيد، بل قل: أمير المؤمنين.
فذهل عامر وظن نفسه في حلم، وكان وهو يخاطبها قد هم بجمع الأمتعة فلما سمع كلامها ترك ما كان بيده من الثياب، ووقف وأسند ظهره إلى الحائط مبهوتا لا يبدي حراكا، وهو يعجب لما سمعه منها، وقال في نفسه: لقد صدق من قال: إن النساء ضعيفات العقول، إن هذه الفتاة نسيت ابن عمها بعد أن كانت تتظاهر بالاستماتة في حبه ورضيت رجلا كان السبب في القبض عليه وربما قتله. لك الله يا عبد الرحمن! ثم نظر إلى سلمى فإذا هي جالسة لا تعبأ بغضبه فناداها قائلا: سلمى! قالت: نعم. قال: أأنت ابنة حجر بن عدي؟! قالت: لا أدري.
قال: ألم نكن بالأمس نبكي أباك تحت تلك الشجرة؟! ألم نقسم لنأخذن بثأره؟! هل نسيت موقف عبد الرحمن والخنجر بيده؟! أنسيت عبد الرحمن ابن عمك وخطيبك؟! أنسيته لأنه وقع في ضيق ويئست من حياته؟! أطمعت في القرب من الخليفة ابن قاتل أبيك؟! أعوذ بالله! ما هذا الذي أراه؟! أفي حلم أنا أم في يقظة؟
فقالت بصوت هادئ لا يشوبه اضطراب وهي مطرقة: لا، بل أنت في يقظة.
فلما سمع كلامها تصاعد الدم إلى رأسه وبدا له فشله بعد أن شهد انقلابها فتناثر الدمع من عينيه وهو يحاذر أن تلحظ سلمى ذلك فتنسبه إلى الضعف، فتحول وخرج من الغرفة وهو لا يدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، ولم يصل إلى الصفصافة حتى لقيه الرئيس، فلم ينتبه لوجوده حتى سأله عما كان من أمر سلمى، فلم يدر بماذا يجيبه لئلا يلمح كدره فيطلع على شيء من سره، ويفتضح أمره، ولكنه تجلد وحاول الابتسام وقال: لا ريب في أنها اغتبطت بهذه النعمة. قال ذلك وتظاهر بأن أمرا طرأ على ذهنه يدعو إلى سرعة الرجوع، فاستأذنه وعاد حتى أتى باب الغرفة وهو لا يلتمسه، فأراد التحول عنه فوقعت عيناه على سلمى فإذا هي مشتغلة بشيء تحاول دسه في جيبها، ولما رأته بادرت إلى الباب فأغلقته في وجهه ثم أوصدته.
فلما رأى تسترها منه إلى هذا الحد، داخله ريب في أمرها، ولبث واقفا بالباب وهو لا يفهم سر هذه الظواهر الغريبة، فلم تطاوعه نفسه على طرق الباب وأحب العزلة برهة لعله إذا خلا بنفسه ينكشف له شيء من هذا الغموض، فانقلب راجعا حتى خرج من باب الدير، ومشى في البستان حتى تجاوزه وهو غارق في بحار الهواجس، لا يدري إلى أين تسير به قدماه.
وما شعر إلا وهو على مقربة من الجوزة، ولما وقع بصره على قبر حجر اختلج قلبه في صدره لتذكره ليلتهم على ذلك القبر، فتاقت نفسه إلى البكاء فوق ترابه لعل هاتفا ينبئه بحقيقة ما يبدو له من الغرائب، وفيما هو يفكر في ذلك مر بخاطره الشيخ الناسك فقال في نفسه: يا ليتني ألقاه وأستطلعه هذا الأمر فلعله يفرج همي، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى شيبوب خارجا من وراء الجميزة وهو يثب على جذعها كأنه يحاول الصعود، فأراد عامر أن يناديه ولكن بصره وقع على أعلى الجوزة فرأى شيخا متكئا على بعض أغصانها، فتفرس فيه فإذا هو الشيخ الناسك بعينه. فأجفل وعجب لوجوده هناك، ثم تذكر ما ظهر منه من الغرائب السابقة فزال عجبه، وارتاح لالتقائه به في ذلك المكان، وقبل أن يهم بمخاطبته رآه يتحرك، فتربص ليرى ما يبدو منه فإذا هو ينحدر نازلا بأسهل ما يكون، فظل عامر واقفا حتى وصل الناسك إلى الأرض والكلب يحوم حوله ويثب على يديه ورجليه كأنه يرحب به.
وكان الناسك قبل أن يصل إلى الأرض قد أرسل شعر ناصيته على جبينه وعينيه فغطى ما بقي من سحنته خاليا من الشعر إلا رأس أنفه وصاح قائلا: لقد قضي الأمر يا عامر، ولكن لا تجزع فإنهم لن يقتلوه على عجل، فارتعدت فرائص عامر واقشعر بدنه وهم بيد الشيخ ليقبلها فأمسك الشيخ يده وقال: تجلد يا عامر وكن رجلا.
فأمسك عامر نفسه وارتاح لمكاشفته بحال سلمى فقال: إني لا أجزع على عبد الرحمن ولكني خائف على سلمى.
قال: وما يخيفك عليها؟
قال: لقد طلبها يزيد لتكون زوجا له فقبلته بالرغم مني.
فأرخى الشيخ الناسك يده فأفلتت يد عامر، ولبث كلاهما صامتا وعامر ينظر ما يبدو من كرامات الشيخ وقلبه يخفق، فإذا بالشيخ قد جلس وأسند ظهره إلى الجوزة وهو يحك رأسه بأطراف أظافره كأنه يفكر في أمر، ثم قال: وأي بأس على سلمى من زواجها بيزيد؟
قال عامر: ألا ترى بأسا عليها يا سيدي؟ وهب أنه لا بأس عليها، فكيف تنكرت لعبد الرحمن؟!
فضحك الشيخ حتى بدت نواجذه وقال: لا شك في أنها لم تقرر ذلك إلا بعد تفكير.
فتعجب عامر وقال: لكن كيف يطاوعها قلبها على ذلك؟! كيف تخون خطيبها وابن عمها وترضى بذلك الأموي بديلا منه؟!
فقال الشيخ: تأدب يا عامر، إن ابنة عدي لا تخون، وهي لم تأت الشام وتكابد مشاق الأسفار وتتحمل الأخطار لتخون قلبها وتغدر بابن عمها.
قال عامر: ولكنها قد فعلت يا مولاي، وها هي ذي مستعدة للذهاب إلى يزيد.
قال: دعها تذهب، وأظهر لها رضاك بذهابها، ثم انظر ما يبدو منها.
فدهش عامر لتلك المعميات ولم يلح في الاستفهام لئلا يغضب الناسك، ولكنه استحسن رأيه في مسايرتها ليستطلع ما يكنه ضميرها، وتظاهر برغبته في الانصراف إليها فابتدره الناسك قائلا: اذهب إليها على عجل. •••
نهض عامر ومشى وهو يتعثر بأذياله لفرط ذهوله حتى أتى الغرفة فرأى الباب لا يزال موصدا فطرقه، وصبر فلم يجبه أحد، فألح في قرعه ففتحته سلمى وتحولت إلى حصير جلست عليه وهي مطرقة، فدخل عامر وأقفل الباب وراءه ونظر في وجه سلمى فرأى الكآبة بادية فيه وكأنها كانت تبكي، فقال لها: ألا تزالين مصرة على رأيك يا بنية؟
فأشارت برأسها أن نعم.
فقال: لقد فكرت في أمرك بعد خروجي من عندك فرأيت أنك على حق؛ لأننا لا نستطيع الفرار الآن وعلينا الأرصاد والعيون من كل ناحية، ثم إن تقربنا من الخليفة نعمة كبرى ستعود علينا بالخير.
فرفعت بصرها إليه وتفرست في وجهه هنيهة ثم قالت: يظهر أنك تريد الذهاب معي.
قال: وكيف لا؟!
قالت: لا، لا تذهب معي.
قال: كيف لا أذهب معك؟! وإلى أين أذهب؟!
قالت: لا أدري أين ينبغي أن تذهب، ولكني لا أريد أن يذهب معي أحد.
قال: ماذا تقولين؟ إذا كنت تعدين اقترانك بالخليفة نعمة فلماذا تريدين حرماني منها؟ إني لأرجو إذا صرت أنت زوجة أمير المؤمنين أن تساعديني في إطلاق سراح عبد الرحمن؛ لأنك ستتسلطين على قلب الخليفة ولا أظنه يرفض لك طلبا، وربما وصلنا بوساطتك إلى مناصب رفيعة. قال ذلك وهو يراقب ما يبدو منها وعيناه شاخصتان إليها.
أما سلمى فحدقت ببصرها إليه وهي تشك في صدق كلامه ثم قالت: أصحيح ما تقوله يا عماه؟ هل تقرني على الذهاب إلى الخليفة؟ أقسم بعبد الرحمن أنك تسمح لي بذلك.
قال: نعم يا سلمى، إنه صحيح لا ريب فيه، وأقسم لك.
قالت: أطعني إذن ودعني أذهب وحدي.
قال: ولماذا؟ إني لأعجب من أمرك. أكلما جاريناك في غريبة أتيتنا بغريبة أخرى. إن إصرارك على منعي من ذهابي معك لأغرب من قبولك الذهاب. ما هذا يا سلمى؟ قال ذلك والأسف والعتاب باديان في عينيه، ولكنه لم يكد يتم قوله حتى رأى وجه سلمى قد علته أمارات الكآبة والغضب، فتقطب حاجباها وتوقدت عيناها وقد زادهما الاحمرار بريقا حتى لم يعد عامر يستطيع النظر إليها، ثم وقفت بغتة وتحولت من السكون والرقة إلى الخفة والشدة وقالت: أتظنني ذاهبة للاقتران بيزيد؟!
قال: وفيم أنت ذاهبة إذن؟
فمدت يدها إلى جيبها واستلت خنجرا كانت قد خبأته فيه وقالت: إني ذاهبة لأقتله بهذا الخنجر.
فأجفل عامر، وأكبر شجاعة سلمى، وقال: لكن كيف تفعلين ذلك يا سلمى؟ وكيف أرضى بأن تفعليه؟! إننا ما زلنا نشكو من اندفاع عبد الرحمن وعدم تبصره، وأراك تندفعين إلى ما هو أشد منه خطرا.
فقالت: وقد هاجت عواطفها: أتعلم أن عبد الرحمن مهدد بالقتل ثم تمنعني من الذهاب إليه، وتلومني على رغبتني في اللحاق به؟! وكيف يدعونا يزيد إلى أن نسير إليه ويمكننا من التحكم فيه ولا نرضى؟! نعم إني عددت عمل عبد الرحمن تهورا لأنه اقترب من يزيد وحوله الخدم والأعوان، ولكن يزيد يدعوني إلى الزواج به، وهي فرصة ينبغي ألا أضيعها. أم تريد أن أخاف على حياتي فأترك عبد الرحمن في خطر القتل وهو في قبضة يزيد؟ دعني أذهب إليه فإما أن أقتل يزيد وأنقذ الإسلام من شره وأنتقم لأبي، وإما أن أموت فداء حبيبي، أو نموت جميعا. لا تقف في سبيلي إني ذاهبة إلى يزيد رضيت أم لم ترض.
قالت ذلك وقد تغيرت هيئتها من شدة ما اعتراها من الاهتياج والانفعال، فلم يزدد عامر إلا استغرابا ودهشة، وظل برهة صامتا متحيرا ثم قال: إذا كنت ترين الموت هينا عليك في سبيل عبد الرحمن، فلماذا تريدين أن أبقى؟ إنني إنما أعيش لأجلكما، فارفقي بي ودعيني أسر معك، فإما أن نموت جميعا، وإما نجونا جميعا. أم تراك تحسبينني جبانا؟
فلما سمعت قوله أمسكت نفسها وتجلدت ثم قالت: حاش لي يا عماه أن أظن بك الجبن، ولكن لا فائدة من ذهابك، ثم قطعت حديثها كأنها كانت تهم بأن تقول شيئا ثم أمسكت عنه.
فابتدرها قائلا: كيف لا يكون في ذهابي فائدة؟ وما فائدة بقائي هنا؟!
قالت: أعرني سمعك يا عماه، وتبصر في قولي، إنك إذا ذهبت معي كنا جميعا في خطر الأسر أو القتل، فإذا لم أفز أنا بقتل يزيد وحكم علي بالموت يحكم عليك أنت أيضا بمثله، فمن يسعى بعد ذلك في إنقاذ عبد الرحمن؟ وأما إذا كنت طليقا وقدر علي الموت، فإنك تستطيع حينئذ أن تسعى لإنقاذ عبد الرحمن، وإني لأرجو إذا تمكنت من ذلك أن تقرئه تحيتي، وتنبئه بأن سلمى آثرت الموت في سبيل حبه على البقاء بعده، وأن عظامها تتهلل في أعماق القبر لتمكنها من إنقاذ حياته. قالت ذلك وخنقتها العبرات، وجلست وقد خارت قواها ووقع الخنجر من يدها، ثم انتبهت لنفسها فاسترجعت رشدها والتقطت الخنجر من الأرض وقربته من فمها فقبلته وهي تقول بصوت مختنق: إن فيك آمالي وعليك متكلي، فإما أن تغمد في أحشاء يزيد أو في أحشائي، ويا حبذا إذا كان في ذلك نجاة مالك فؤادي، ثم أغمدت الخنجر وأرجعته إلى جيبها، وجلست وقد تكسرت أهدابها من فرط البكاء وعيناها تتقدان شجاعة وثباتا.
الفصل السابع
في مجلس الخليفة
تضاعف إعجاب عامر بشجاعة سلمى وبشهامتها بعد ما سمعه منها، ولكن بقي في حيرة ولم يدر كيف يجيبها، وأعمل فكره فلم ير مندوحة عن الإذعان لإرادتها، ولما تصور ما يهددها من الخطر تحقق أنها ملقية بنفسها إلى التهلكة، وأنها مع ذلك لا تستطيع إنقاذ عبد الرحمن، فقال لها: وما قولك إذا حكم القضاء بقتلك وقتل عبد الرحمن، هل تكون هناك فائدة من بقائي؟
قالت: أوصيك إذا حكم القضاء بذلك أن تقضي بقية حياتك فوق قبر أبي تبكيه عني وعن عبد الرحمن، وإذا ملكت رشدك فاذهب إلى الإمام الحسين سيد شباب المسلمين وجاهد في سبيل نصرة الحق، لعل الله أن يأتيه بالفرج بعدنا.
فسكت عامر إذ لم يجد ما يقوله، ثم عاد بعد قليل فقال: لقد سددت علي السبيل بحجتك، وإني فاعل ما تأمرين، والله حسبي ونعم الوكيل.
قالت: ولكن احذر يا عماه أن تبقى في هذا الدير؛ لأنهم إذا عرفوا من أنا لا آمن أن يبعث يزيد إليك بجند يقبضون عليك على حين غفلة.
فقال: لقد أصبت، ولا فائدة من بقائي هنا وأنت في قصر الخليفة، ولكنني سأتنكر وأدخل دمشق لأتنسم الأخبار، وأوصيك أن تدبري الأمر بالتأني والحيلة عسى أن يوفقك الله إلى ما فيه الخير.
قالت: ليطمئن بالك، ولا تعبأ بما تراه في الآن من ظواهر الحدة، وتذكر كيف رأيتني حين جئتني بخبر يزيد.
قال: إني والله معجب بثبات جأشك يا سلمى، ولكنني أخاف عليك. قال ذلك وشرق بدموعه.
قالت: لا تكن أقل ثباتا مني، وأنا فتاة وأنت كهل عركه الدهر، ولا يخفى عليك أننا نهضنا لعمل كبير، إذا فزنا فيه كان خيرا وسعادة لسائر المسلمين، أفلا يجدر بنا أن نعرض أنفسنا للخطر من أجل ذلك؟!
فجثا عامر على ركبتيه ورفع يديه إلى فوق وقال: اللهم إني أستودعك وديعة أودعنيها عبدك حجر بن عدي، شهيد الحق ونصير صاحب الحق، فلا تفجعني فيها، إنك فاحص القلوب وعالم الغيب وأرحم الراحمين.
ثم نهض ونهضت سلمى وقد سكن روعها، وارتاحت لما تم لها من أمر الذهاب وحدها، وتعزت بما عولت عليه من التفاني في سبيل الحب الصادق ونصرة الحق القويم.
وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وهم الليل بإرسال النقاب، وأخذ التعب من سلمى وعامر مأخذا عظيما؛ لما مر بهما من الأهوال في أثناء ذلك النهار، فقضيا ليلتهما والقلق سائد عليهما.
واستيقظ عامر قبل الفجر وسلمى لا تزال في الفراش، فظنها نائمة وانسل خارجا من الغرفة وهو يريد الخلوة ليستخير ربه فيما يرجوه من ذهاب سلمى إلى دار الخليفة وفيما يخشاه من عواقب اندفاعها.
فصعد إلى السطح في هدوء لئلا يشعر به الرئيس، فلما أطل على الغوطة رأى الأطيار فيها بين تغريد وزقزقة ومداعبة، لا يشغلها شاغل عن التمتع بما خلقت له، فاتجه فكره إلى ما هو فيه وقال في نفسه: هنيئا لهذه الخلائق الصغيرة، إني إخالها أسعد حالا من بني الإنسان، وإذا فاخرناها بما نعتقده في أنفسنا من السلطان عليها وما نرجوه من ثواب أو نتوقعه من نعيم فالواقع أنها أسعد منا حالا؛ لا تجزع على حبيب ولا تخاف من رقيب، وما أدرانا أنها ترجو ثوابا مثلنا؟ واعترض تفكيره معاء الماعز في الحظيرة وخوار الثيران فقال: ولا إخال هذه أتعس حالا من أسيادها بني الإنسان، ونحن إنما نخدمها التماسا لسعادتنا، ولكن السعادة تبعد عنا لما يقف في سبيلها من عقبات الطمع والشره مما لا نعرف له حدا.
ولم تطل أحلامه في عالم الخيال لما قام في نفسه من الاهتمام الشديد بأمر سلمى وذهابها إلى يزيد، فلما عاد إلى هذه الهواجس اقشعر بدنه خوفا عليها، ولكنه لم يدر ما يفعل وقد نفذت حيلته في استبقائها، فلم يشأ التسليم، وعزى نفسه بما سمعه تحت الجوزة من قول الهاتف: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فارتاح باله وتحول ذهنه إلى عبد الرحمن وخاف أن يستعجل يزيد قتله فيذهب سعيهم هباء منثورا.
وما انتبه إلى نفسه حتى وقعت أشعة الشمس على عينيه وهو ينظر إلى مشرقها على غير انتباه، فخاف أن تستيقظ سلمى ولا تراه في الغرفة فتضطرب، فمشى نحو السلم فإذا بباب علية الرئيس قد فتح وخرج الرئيس وقد تزمل بعباءته، فاستقبله عامر بالتحية، فرد عليه بمثلها وقال: أراك مبكرا؟
قالت: خرجت أستنشق نسمات السحر.
قال: ظننتك رأيت رسول الخليفة. ألم تراه؟
فاختلج قلب عامر عند سماع اسم الخليفة وقال: لا لم أره، أين هو؟
قال: جاء مساء أمس وأنتم نيام فبات عندنا على أن يراك هذا الصباح.
قال: وأين هو يا سيدي؟
فنادى الرئيس أحد الرهبان وأمره أن يدعو الرسول.
ولم تمض برهة حتى رأى الرجل صاعدا، وحالما وقع عليه نظره عرف من برصه أنه شمر بن ذي الجوشن، فاستعاذ بالله من شره، وعلم أنه قدم لمخاطبته في شأن سلمى. •••
أما شمر فاستقبل عامرا باسما وقال له: هل تأذن لي في خلوة قصيرة؟
قال: تعال. ومشى به إلى جانب منعزل من جانب السطح، وقبل أن يصلا إلى المكان قال شمر: أظنك أدركت سبب مجيئي يا عامر؟
فرأى عامر أن يبغته بخبر خطبة الخليفة لسلمى لكيلا يترك له مجالا للكلام.
فقال: لعلك قادم من قبل الخليفة لحمل خطيبته إليه؟
فلما سمع شمر ذلك بغت واستوقف عامرا بيده وقال له: ماذا تقول؟ وأي خطيبة تعني؟
قال: سلمى. قال: هل خطبها الخليفة؟
قال: هكذا يقولون، ونحن ننتظر وفدا من عنده اليوم.
فبهت الرجل وظل صامتا برهة ثم قال: إذن قد خرجت سلمى من يدي.
فخاف عامر إذا جافاه أن يشي بسلمى أو ينوي بها شرا، وظن مجاملته تدفع ذلك الشر عنه فقال: لا أدري أخرجت أم لم تخرج، ولكني أعلم أن مولانا أمير المؤمنين بعث يخطبها لنفسه، ومع ذلك فالمستقبل في علم الله.
قال: ويحك! أتغرر بي يا عامر؟ لكن هذا كله من عناد تلك الفتاة الجاهلة، ألم تخبرك بما لقيتني به من الجفاء أمس؟ أظنها كانت طامعة في الخليفة؟ قال ذلك وضحك ضحكة مغتصبة ثم قال: فلتهنأ بالخليفة هي وخطيبها الأول إذا كان لا يزال على قيد الحياة.
فارتعدت فرائص عامر وقال: هل تعرف شيئا عن عبد الرحمن؟
قال: لا أعلم ما جرى له حتى الآن، ولكنني أخبرك إن عناد سلمى سيجر الوبال عليها وعليه، أتظن الخليفة إذا عرف علاقتها به يستبقيها أو يستبقيه؟! فلتهنأ ابنة حجر بما يجره عليها رفضها شمر. قال ذلك وتحول مسرعا وهو يتعثر بأذياله لفرط سرعته، حتى نزل وخرج فركب جواده وسار، وعامر واقف وقد جمد الدم في عروقه وهو لا يدري ما يفعل.
وهم عامر بالنزول، فإذا بفارس أقبل على الدير، ورآه يدخل من فوره على الرئيس ويخاطبه، ثم رأى الرئيس يتحول إليه هو قائلا: أبشر يا عامر، إن وفد الخليفة قادم لحمل العروس، فأخبرها لتتأهب.
فهرول عامر حتى دخل الغرفة وهو لا يدري ما يقول لسلمى، وكانت قد نهضت ولبست ثيابها وتأهبت للسفر.
فقال لها: ألا تزالين يا سلمى على عزمك؟ قالت: قد عزمت واتكلت على الله.
قال لها: ألا تراجعين نفسك؟ ألا تذكرين أن في دار الخليفة أناسا يعرفونك ويعرفون علاقتك بعبد الرحمن؟ أتظنين الخليفة إذا عرف حقيقة حالك يبقي عليك؟
قالت: إن الذي يرى الموت أمام عينيه ويسعى إليه باختياره لا يخاف العقبى. أتظنني أجهل أن شمرا اللعين يترقب فرصة للإيقاع بي وأنه حالما يعلم بوجودي في دار الخليفة يطلعه على سري؟ ولكن ...
فقطع عامر كلامها قائلا: وما قولك إذا كان قد عرف ذلك قبل خروجك من هذا الدير؟
قالت: لا أبالي عرف أم لم يعرف، وليفعل ما يشاء، دعني الآن من بواعث التردد فقد عزمت وتوكلت والسلام. هل سمعت عن وفد الخليفة؟
قال: علمت الساعة أنهم قادمون لحملك، فإذا رأوني هنا ولم أذهب معهم يرتابون في أمرنا، وأرى أن أخرج بحيلة، فإذا جاءوا فاذكري لهم أني ذهبت في حاجة وسأوافيكم إلى دار الخليفة. قال ذلك ثم تنهد والتفت إلى سلمى وقال: إنك ذاهبة إلى خطر هو أشد مما خفناه على عبد الرحمن يوم خروجه لقتل يزيد، فكيف أرضى بهذا الذهاب؟ لا. لا. لا أدعك تذهبين وحدك.
قالت: لقد قضي الأمر يا عماه، تعال ودعني على عجل، واحفظ وصيتي لك في شأن عبد الرحمن.
قالت ذلك وشرقت بدموعها، ولكنها حاولت الكظم وهي تتشاغل بإصلاح خمارها. أما هو فلم يعد يتمالك عن البكاء لاعتقاده أنه لن يرى سلمى بعد هذا الفراق، ولكنه لم يشأ أن يكدرها فقال لها: سيري في حراسة الله وارفقي بنفسك، وإذا رأيت سبيلا للنجاة غير القتل فافعلي.
قالت: سأرى ما يكون، وأكبت على يده لتقبلها فضمها إلى صدره والدموع تتناثر من عينيه، ثم قال: حيي عني عبد الرحمن، ولا أكلفك إنفاذ خبرك إلي؛ فإني سأستطلع كل شيء بنفسي وأقف على مخبآت الأحوال في حينها، ولكنني أوصيك بأن ترفقي بنفسك ما استطعت.
قالت: لا تخف يا عماه، وأنت تعلم أني بنت حجر بن عدي، وهذا يكفي.
قالت ذلك وقد استرجعت قواها وأمسكت عواطفها.
وفيما هما في ذلك سمعا ضجيجا في باحة الدير فقال عامر: إن الوفد قد وصل، وسأخرج خلسة حتى لا ينتبه إلي أحد، فاعتذري عني كما أوصيتك، أستودعك الله. ثم تزمل بعباءته وخرج مستخفيا وانسل مسرعا فما لبث أن اختلط بالجمع، ولم ينتبه له أحد حتى خرج من الدير وقلبه يقطر دما.
وكان الوفد قد وصل إلى الدير وفي مقدمته عبيد الله بن زياد، وقد أعدوا هودجا مجللا بالأطلس، وتقدم ابن زياد توا إلى الرئيس وطلب مقابلة عامر، فنزل الرئيس بنفسه إلى غرفة سلمى فاستقبلته بجأش ثابت، واعتذرت لغياب عامر وذكرت أنه سيوافيهم إلى دمشق، فعاد الرئيس بالخبر، فلم يعبأ ابن زياد بذلك ولكنه طلب أن يقابل سلمى، فأخذه الرئيس إليها فقابلته والنقاب على رأسها وأخبرته بغياب أبيها.
فقال: هل أنت مستعدة للذهاب إلى الخليفة؟
قالت: نعم.
الفصل الثامن
سلمى في قصر يزيد
خرجوا بسلمى وأركبوها الهودج، وسار الفرسان حولها بالرماح والحراب في موكب حافل حتى وصلوا إلى باب المدينة، وكانت هي تنظر إلى المدينة من خلال الستور فلما أطلت على بابها انبهرت بما رأته من الزحام وبما هناك من الأبنية الرومانية الهائلة، ولا سيما باب المدينة الكبير وأقواسه الضخمة، فدخل الموكب من القوس الوسطى في طريق طويل تحف به الأعمدة الرخامية من الجانبين، وقرقعة حوافر الخيل على البلاط تحدث ضوضاء شديدة ألهتها قليلا عن هواجسها، ثم وقف الموكب أمام باب كبير جانباه من الرخام المنقوش، وعلى عتبته العليا رسم النسر الروماني، والباب من الخشب الأبنوس، مصفح بالنحاس بعض التصفيح وعليه نقوش جميلة، وكانت تسمع عن أمثال هذا الرسم من عمها وتعرف أن النسر شارة الروم، فاستغربت إقامة الخليفة في بيت من بيوت الروم.
ولم يكد يقف بها الهودج هناك حتى ترجل ابن زياد ودنا من الهودج وقال لها من وراء الستار: إننا بباب الخليفة يا سيدتي، فنزلت حتى دخلت من الباب، وعلى جوانبه الحرس من جند الخليفة في أيديهم الحراب، فمشت وابن زياد دليلها في باحة كبيرة مرصفة بالفسيفساء تتخللها مغارس الرياحين، وأحواض الرخام تتدفق عن جوانبها المياه، فسارت في طرق الحديقة وابن زياد يتقدمها وهو يجر سيفه وراءه معجبا بما ملكوه من أبنية الروم وآثار مجدهم ولسان حاله يقول: أين أبنية الكوفة التي تعرفينها من هذه الأبنية المزخرفة!
وبعد قليل انتهت إلى باب آخر أصغر من الباب الأول يصعدون إليه بدرجات قليلة من الرخام المصقول، وتكتنفه عمد من الرخام فوقها قبة مغشاة بالذهب وعليها الرسوم بالألوان البديعة، ومن بينها رسوم تشبه ما في كنائس النصارى، فلم تستغرب ذلك لما علمته من أن هذا القصر بقي على ما كان عليه في عهد ولاة الروم، فدخل عبيد الله أمامها تحت القبة فتبعته ، فأشرفت على باحة واسعة مكشوفة مسورة بالعمدان المزخرفة بنقوش بعضها من الذهب، وعلى دوائرها مقاصير، وأرض الباحة مرصفة كلها بالفسيفساء الدقيقة على أشكال تشبه رسوم الشجر والحيوانات وغيرها. وفي وسطها حوض من الرخام المجزع، يتصاعد الماء من أنبوب في وسطه ما يشبه رأس الأسد، وفي صدر الباحة باب مرتفع عليه ستار وأمامه الحجاب، فعلمت أنه مدخل مجلس الخليفة، ورأت إلى يمين الباب جماهير الناس وفيهم الشعراء والرواة وأصحاب الحاجات ممن يقفون بباب الخليفة لقضاء حوائجهم، وكان الباحة مكشوفة من الوسط فقط، يكتنفها رواق قائم على أعمدة مزخرفة، وقد نقش بعضه بالحفر على أشكال الأزهار والثمار والآدميين، وزين بعضه برسوم ملونة ومذهبة، فبهرتها تلك المناظر لأنها لم تكن رأت مثلها من قبل.
ولما أطل ابن زياد على تلك الباحة هم بعض الذين كانوا هناك من الشعراء وذوي الحاجات بالقدوم إليه لمخاطبته في شئونهم، فلما رأوا سلمى معه تراجعوا وانزووا وراء الأعمدة.
وعطف هو نحو اليسار بين الأعمدة تتبعه سلمى حتى وصلا إلى باب بديع النقش عليه ستر من الحرير المزركش بالذهب برسوم جميلة وفي جملتها كتابة باليونانية، فازداد استغرابها لإبقاء المسلمين على تلك الآثار إلى ذلك الحين مع ما وصل إليه سلطانهم من السعة والنفوذ، ولو علمت معنى تلك الكتابة لكان استغرابها أعظم؛ لأنها كلمات تتألف منها عبارة الاستهلال بالصلاة عند النصارى وترجمتها: «باسم الآب والابن والروح القدس»، والسبب في ذلك أن الستور وأمثالها من طراز الملك كانت قبل الإسلام تصنع في مصر، وسكانها من النصارى، وفيهم القبط والروم، فكانوا يطرزونها بالرومية، وأكثر ما يرسمونه عليها تلك الآية، وكان الروم في الشام وغيرها يبتاعون تلك الستور ونحوها من مصر فيعلقونها على الأبواب والنوافذ للزينة والتبرك، فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام استعاروا تلك الزينة من الروم ولم يلتفتوا إلى فحوى ما عليها من الكتابة، وفي جملتهم الأمويون في دمشق، وما زال ذلك دأبهم إلى أيام عبد الملك بن مروان (من سنة 65ه إلى 86ه) فكان أول من انتبه إليه، وإلى ما كان يضرب على النقود وما كان يطرز على القراطيس، وهي البرد التي تحمل في الأواني والثياب، وذلك أنه بينما كانت ذات يوم في مجلسه إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية، فترجموه له، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا! وكيف أن هذه الأواني تصنع في مصر وتحمل إلى الآفاق، ثم أمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان أخيه وعامله على مصر بإبطال هذا الطراز، وأن يأمر صناع القراطيس أن يطرزوها بكلمة أشهد أنه لا إله إلا هو، ففعلوا، وما زال ذلك شأن الطراز من ذلك الحين، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منه بالضرب الموجع والحبس الطويل، وفعل مثل ذلك أيضا بالدنانير.
دخلت سلمى من ذلك الباب بعد أن أزاحوا الستار عنه، فانتهت إلى دهليز مفروش ببسط من الديباج وعلى جدرانه نقوش كثيرة، حتى أقبلت على «دار النساء» وهي غرف تكتنف باحة فيها بركة من الرخام المجزع، فقال لها ابن زياد: إنك في دار النساء يا سيدتى. قال ذلك وتحول، فاستقبلتها امرأة عجوز ومعها رجل عليه لباس الحجاب فاستغربت سلمى وجوده، فقالت لها العجوز: إنه «فتح» خصي مولانا أمير المؤمنين وحاجبه، (ويزيد أول من اتخذ الخصيان في الإسلام)، ومشت بها العجوز حتى دخلت غرفة زينوها وفرشوها بالأبسطة والأطالس، وفيها سرير مذهب لم تر مثله قبل ذلك، وهناك تهيبت وشعرت بعظم الأمر الذي عرضت نفسها له، وأحست أنها في قفص من حديد، فتظاهرت بالتعب والعجوز ترحب بها، وتطلب إليها أن تنزع خمارها وترتاح إلى أن قالت: وقد أمرني أمير المؤمنين أن أدخلك إلى الحمام.
فرفعت سلمى الخمار عن رأسها فبان وجهها وتجلت محاسنها، فانبهرت العجوز من جمالها وهيبتها وجعلت تمدحها وتطري حسنها التماسا لاستئناسها، فأجابت سلمى بما جعلها تزداد إعجابا بها وتهنئها بما نالته من التفات الخليفة، وألحت عليها في دخول الحمام، فقالت: سأدخله بعد أن أستريح.
قالت: لقد أعددنا لك الثياب الفاخرة، ولا ريب عندي في أنك إذا لبستها سيزداد جمالك وتعلو منزلتك عند مولانا.
فشكرتها ولكنها استمهلتها ريثما تستريح، وهي إنما أرادت التخلص من الحمام لتخفي خنجرها في مكان أمين؛ لعلمها أنها إذا دخلت الحمام فسترافقها العجوز إليه فتطلع على الخنجر فيفتضح أمرها، فاعتذرت بانحراف صحتها وأنها تخاف أن يضرها الحمام.
فسايرتها العجوز ولكنها رجعت فقالت: وإذا طلب الخليفة أن يراك فهل تقابلينه بهذه الثياب؟
قالت: إذا شئت أن أبدل ثيابي فعلت واتركي الحمام إلى الغد.
فأطاعتها وأتتها بثوب من الحرير الناعم، يجلله جلباب طويل وردي اللون، فاحتالت في تبديل ثيابها من غير أن تشعر العجوز بخنجرها، ثم عكفت العجوز على تسريح شعرها وتزيينها، فأصبحت سلمى بعد ذلك أشبه بالملائكة منها بالآدميين، حتى أن العجوز عشقتها وعلق قلبها بها.
أما سلمى فقد كانت في أثناء ذلك غارقة في بحار الهواجس لا تدري ما تصنع؛ لكثرة ما يتجاذبها من المشاغل، وأهمها أمر عبد الرحمن وهل هو مسجون أم قتل أم أطلق، ورأت في الحجرة نافذة بجانبها مقعد مبني من الرخام كالدكة تكسوه وسادة كبيرة، فجلست على الوسادة وأطلت من النافذة فأشرفت على خلاء ضيق وراءه جدار عظيم يدل على فخامة ذلك البناء، وسمعت جلبة تشبه التكبير فعلمت أنها بقرب الجامع، فعمدت إلى مخاطبة العجوز لعلها تستطرق في حديثها خبر خطيبها فقالت لها: ما هذا البناء يا خالة؟
قالت: هذا هو الجامع يا سيدتي.
قالت: وهل بناه أمير المؤمنين أم أبوه؟
قالت: كلا يا حبيبتي فإنه من بناء الروم مثل هذا القصر.
قالت: وهل كان عند الروم جوامع؟
قالت: كلا، ولكنه كان كنيسة باسم سيدنا يحيى، يصلي فيها النصارى، وكان هذا القصر الذي نحن فيه لرجال الحكومة من الروم، فلما فتح المسلمون الشام اتخذوه دارا للإمارة، واقتسموا الكنيسة بينهم وبين النصارى فجعلوا نصفها جامعا والنصف الآخر كنيسة.
قالت: وهل بين هذه الدار والجامع اتصال؟
قالت: نعم إن بينهما ممرا يمضي فيه الخليفة كل صباح للصلاة ويعود منه، وقد ذهب في هذا الصباح ولم يعد بعد.
وبينما هي تخاطبها إذ سمعت الضوضاء تتزايد في الجامع فقالت سلمى: وما سبب هذه الضوضاء؟
قالت: إن المسلمين يلعنون أبا تراب.
قالت: ومن هو أبو تراب؟
قالت: هو علي بن أبي طالب، فهم كلما صلوا ختموا الصلاة بلعنه.
فتذكرت سلمى مصيبتها، وأن أباها إنما مات في هذا السبيل، ولم تكن لتعبأ لهذا الحديث لولا رغبتها في التطرق منه إلى حديث عبد الرحمن فقالت: إن هذا القصر بديع لا أظن المسلمين بنوا قصرا مثله إلى اليوم، ولكنني رأيت فيه الحرس وقوفا على الأبواب ومعهم السيوف والحراب، مع علمي أن الخلفاء في الحجاز والعراق لم يكونوا يتخذون الحرس.
قالت: صدقت يا بنية، وأول من اتخذ الحرس هو معاوية أبو أمير المؤمنين بعد حادثة البرك بن عبد الله التيمي الذي كاد يقتله لو لم يقع السيف في ظهره وينجو بإذن الله، فاتخذ معاوية الحراس منذ ذلك الحين ليسهروا على حراسته ليلا ونهارا، كما أمر بقيام الشرطة على رأسه إذا سجد، وهو أول من فعل ذلك من الخلفاء، ثم فعل ابنه أمير المؤمنين مثل ذلك، والسبب في كل ذلك يا حبيبتي أن قلوب المسلمين تغيرت عما كانت عليه من قبل وداخلها الغل، فأصبح الأخ يحقد على أخيه، وغدا قتل الخلفاء سنة عند بعض الناس، حتى إن مولانا الخليفة كان في خطر القتل منذ يومين، إذ كمن له رجل في مكان صيده، ولو لم ينبهه بعض خاصته إلى ذلك لذهبت حياته على أهون سبيل ولكن الله نجاه ودارت الدائرة على الباغي.
فلما سمعت سلمى ذلك اختلج قلبها وارتعدت فرائصها وخافت أن تستزيدها بيانا فتسمع خبر قتل حبيبها، ولكنها لم تكن تستطيع كبح شوقها إلى الاستطلاع فقالت: وماذا فعلوا بالرجل؟
قالت: قادوه مغلولا وحبسوه، وسمعت في هذا الصباح أنهم سيوقفونه بين يدي الخليفة ويسألونه عن أصله وسبب مجيئه وبعد ذلك يقتلونه. ألا يستحق القتل؟
فسكتت سلمى وزاد اضطرابها، وخافت أن يبدو ذلك على وجهها فتظاهرت بصداع دهمها وحنت رأسها على ذراعها فوق النافذة وأخفت وجهها، فقالت لها العجوز: ما بالك يا سيدتي لا بأس عليك؟
قالت: إني أشعر بصداع أليم في رأسي لا أكاد أتحمله.
فمدت العجوز يدها وأخرجت من جيبها خرزة من الجزع معلقة بخيط قالت لها: خذي هذه التعويذة علقيها بين ضفائرك فإنها تشفيك بإذن الله، وقد جربتها بنفسي مرارا فكان الصداع يذهب مني حالا.
فقالت: ولكن صداعي شديد يا خالتي.
قالت: لا بأس عليك، خذي هذه التعويذة.
قالت ذلك ولم تنتظر جوابها، بل وقفت وربطت الخرزة بضفيرة من ضفائرها وهي تقول: وإذا لم يزل بعد فإنه يزول عما قريب بقدوم الخليفة، وأظنه سيسأل عنك متى عاد من الصلاة، ولا ريب عندي في أنك ستكونين عنده في المنزلة الأولى بين سائر نسائه.
فاقشعر بدنها وتحققت قرب الساعة العظمى وقالت في نفسها: لقد آن الأوان، فلا بد من الدهاء والحكمة، وإلا ذهب السعي سدى، وطلبت إلى الله أن يلهمها الصبر ويثبت جأشها.
وبينما سلمى تفكر في ذلك، إذ سمعت الضوضاء قد اشتدت وأخذت تقترب، ثم قالت لها العجوز: إن الخليفة قادم، ومن عادته إذا عاد من الصلاة أن يمر بهذه الدار قبل دخوله المجلس، ولا بد من مجيئه إليك؛ لأنه أوصاني بالعناية بك، ولحظت أنه ينتظر مجيئك بفارغ الصبر.
فاستعاذت سلمى في سرها بالله، ولبثت صامتة وقلبها يخفق، فحملت العجوز ذلك محمل الحياء، فقالت وهي تضحك: يا للعجب من البنات كيف يظهرن التمنع وقلوبهن تطفح سرورا عند سماع صوت الزوج، وما كل الأزواج مثل الخليفة يا مليحة؛ فإنه أمير المؤمنين القابض على رقاب المسلمين.
فظلت سلمى صامتة وهي تكظم ما في نفسها وتتجلد، وبعد هنيهة أقبل «فتح» الخصي وقال: إن الخليفة قادم يا خالة، وما لبثت أن سمعت وقع خطواته قرب حجرتها، فلم تعد تتمالك من الاضطراب، وأرسلت النقاب على وجهها، فابتدرتها العجوز ورفعت النقاب عنها وقالت: أتتحجبين عن أمير المؤمنين وهو زوجك؟! وما أتمت كلامها حتى دخل يزيد وعليه رداء أزرق، وعلى رأسه عمامة خضراء وبيده درة، وهي قدة من جلد ثخين تشبه الكرباج، فلما أطل على الغرفة استقبلته العجوز فقبلت يده، وأمسكت سلمى واستنهضتها لملاقاة الخليفة، فوقفت وتظاهرت بالحياء، فناداها يزيد قائلا: أهلا بعروسنا، ومد يده ورفع الغطاء عن وجهها وقلبه يكاد يطفح سرورا لحصوله عليها؛ لأنه لم يشاهد في حياته مثل ما في وجهها من الجمال والهيبة، وقد زاده ذلك التمنع رغبة فيها وشوقا إليها.
أما هي فتجلدت ونظرت إلى يزيد، كأنها تزن قواه فترى ما يكون من أمرها معه إذا همت بقتله، فرأت جسمه لا يدل على بطش شديد، وكان طويل القامة آدم اللون، جعد الشعر، أحور العينين، بوجهه آثار الجدري، وله لحية حسنة خفيفة، فلم يهمها منظره، ولكنها أحبت مطاولته، فبالغت في إظهار التوجع من الصداع ولم تجب، فالتفت يزيد إلى العجوز كأنه يستفهمها، فابتدرته قائلة: إن عروس مولانا تشكو من صداع أظنه يزول قريبا.
فقال: لا بأس عليها، وأرى أن تنتقلي بها إلى المقصورة في أعلى هذا القصر فتكون على مقربة من مجلسي، فإذا أردت أن أتفقدها في أثناء النهار سهل ذلك، أو فلتقم هناك كي تنام وترتاح حتى نلتقي في المساء. قال ذلك وتحول حتى خرج من دار النساء إلى مجلسه.
واغتبطت سلمى بهذا التأجيل، لعلها تتدبر حيلة تتمم بها ما تريده، وصعدت العجوز بسلمى على سلم من الرخام بجانب تلك الدار حتى أتت الطبقة العليا، ومشت في ممر وسلمى تتبعها حتى وصلت إلى غرفة مفروشة بأحسن الأثاث، وفيها الطنافس والوسائد والمقاعد، ولها نافذة تطل على الحديقة، فتحققت أن يزيد سيوافيها إلى هناك، وإذا همت بقتله فإنما تقتله في تلك الغرفة، فكيف تنجو بنفسها بعد ذلك، فأخذت تبحث وتفكر، فقالت للعجوز: لعل هذه الغرفة منفردة هنا؟ قالت: ليست منفردة ولكنها مقصورة خاصة بالخليفة يصعد إليها من باب خاص.
قالت: هل ينام فيها أحيانا؟
قالت: ربما نام فيها أحيانا، ولكنه يجلس فيها لغرض سري لا أرى مانعا من البوح به لك. وذلك أن أباه معاوية كان لفرط دهائه وعلو همته قد اتخذ هذه المقصورة مخبأ له يطل منه على المجلس من كوة صغيرة، فيرى أهل المجلس تحته وهم لا يرونه، فعل ذلك حتى لا تخفى عليه خافية.
الفصل التاسع
محاكمة عبد الرحمن
استبشرت سلمى بتلك المقصورة، عسى أن ترى منها ما سيدور بين عبد الرحمن والخليفة إذا جاءوا به للتحقيق معه، فقالت: وهل يجوز أن أطل من تلك المقصورة لأشاهد مجلس الخليفة، فإني لم أر مجلسه قط.
قالت: إن الخليفة لا يأذن في ذلك لأحد، ولكني لا أظنه يمنعه عنك، على أني أدلك على الكوة فتطلين منها على المجلس، وإذا جاء الخليفة لا تذكري له أنك فعلت ذلك.
قالت: بورك فيك يا خالة، إنك والله لطيفة ومحبة، ولا غرو إذا ارتفعت منزلتك عند الخليفة.
فانشرح صدر العجوز من هذا الإطناب، وزادت رغبة في خدمتها، فقالت لها سلمى: وأين الباب السري الذي يخرج الخليفة منه؟
فأمسكتها بيدها ومشت بها عدة خطوات، ثم دارت من وراء الغرفة فإذا هناك باب صغير فتحته وأرتها سلما ضيقا وقالت: هذا هو الباب السر، فاكتمي ذلك.
قالت: وإلى أين يستطرق؟
قالت: إنه ينتهي إلى ممر طويل آخر في الحديقة الخارجية يفتح من الداخل ولا يفتح من الخارج إلا بمفتاح خاص.
فتفرست سلمى في المكان، حتى تصورت المدخل والمخرج، ثم عاد إلى استطلاع أمر عبد الرحمن، ولكنها تظاهرت بعدم الاهتمام في بادئ الرأي وعادت إلى المقصورة وجلست إلى النافذة فأطلت على الحديقة والعجوز إلى جانبها تسليها بالأحاديث، وما لبثت أن تظاهرت بالملل وقالت للعجوز: دعينا نطل من الكوة لنرى مجلس الخليفة.
فمشت العجوز أمامها حتى خرجت من الغرفة وتحولت بضع خطوات على الطنافس المفروشة هناك فوصلت إلى وسادة صغيرة أزاحتها فانكشفت كوة صغيرة تطل على المجلس، فإذا به قاعة كبيرة مفروشة بالسجاد الملون، وعلى دائرها مما يلي الجدران وسائد جلس الأمراء عليها، بعضهم على وسائد مثناة وبعضهم على وسائد غير مثناة، أما يزيد فقد كان جالسا في صدر القاعة على دكة مرتفعة من خشب العرر صب فيه الذهب، وعلى رأسه اثنان بأيديهما الجراب، وفي يده قضيب الخلافة ، وعلى كتفيه برد خاص بالخلفاء، ورأت على نوافذ القاعة ستورا من الأطلس المزركش بالكتابة اليونانية التي ذكرناها.
فتأملت في هيئة ذلك المجلس فلم تجد فيه ما كانت تتوقعه من الهيبة والوقار إذ كان أهله يخاطب بعضهم بعضا حتى علت ضوضاؤهم، وسمعت بعضهم يقهقه ويزيد لا يعبأ بقهقهتهم، وكان موليا وجهه إلى ابن زياد يخاطبه سرا وهو يضحك.
ثم صاح بغتة قائلا: يا غلام، فدخل رجل كان واقفا بالباب ووقف متأدبا، فقال يزيد: قل لمن في بابنا من الشعراء إننا لن نقابل أحدا اليوم، وقبل أن ينطلق الغلام استوقفه وقال: ثم إننا نريد أن نرى ذلك الغلام الذي هم بقتلنا، إلي به.
فخرج الغلام ثم عاد ووراءه عبد الرحمن مكبلا بالحديد، فلما رأته سلمى ارتعشت مفاصلها لما خافت عليه من فتك يزيد. •••
جيء بعبد الرحمن إلى مجلس الخليفة، فلما توسط القاعة، التفت يمنة ويسرة وهو يتفرس في وجوه الحاضرين، ولا يبالي بما يتهدده من الخطر، وكانت سلمى ترقبه من خلال الكوة، فأعجبت برباطة جأشه ولبثت تنتظر ما يكون من أمره، وقلبها يخفق إشفاقا مما قد يصيبه من الأذى.
فناداه يزيد قائلا: ممن أنت يا رجل؟
فقالت عبد الرحمن: من هذه الساحة.
فابتدره عبيد الله بن يزيد قائلا: أيسألك أمير المؤمنين عن نسبك فتجيبه بهذا الجواب؟!
قال: هو الذي يسألني، وهذا جوابي.
قال عبيد الله: يظهر من وقاحتك أنك لا تدري من هو الذي يخاطبك.
قال: أعرفه، إنه يزيد بن معاوية.
قال: قل أمير المؤمنين.
فقطع يزيد كلام ابن زياد وقال: دعه يا عبيد الله، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما الذي حملك على هذه الخيانة؟
قال: ليست خيانة، وإنما هو عمل صالح حملني عليه يقيني مما وراءه من خير للإسلام والمسلمين.
فشعر يزيد بأن الرجل ينوي التصريح بأمور مهينة، ورأى من الدهاء أخذه بالحيلة على غرار ما كان أبوه معاوية يصنع في مثل هذه الحال، ومعاوية هو القائل: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فلما قيل له: وكيف ذلك؟ قال: «إذا هم شدوا أرخيت، وإذا هم أرخوا شددت». وكثيرا ما كان معاوية يتحمل من أتباع علي كلاما غليظا ويصرفهم راضيا، وما ذلك إلا من كثرة دهائه.
ولم يكن يزيد مثل أبيه، ولكنه أراد أن يتشبه به، فقال لعبد الرحمن: ولكن ما يمنعك أن تقول من أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟
قال عبد الرحمن: إنك تسألني سؤالا لا دخل له في عقابك أو ثوابك، وإنما يكفيك أن تسمع كلامي وتأخذني بإقراري، وأنا أقول إنني جئت لقتلك.
فضحك يزيد والتفت إلى ابن زياد وخاطبه خطابا لم يفهمه أحد، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال له: يظهر أنك مغرور، ونحن لا نرضى إلا أن نلتمس لك عذرا، فقد يكون أحد أغواك، ويكفي للصفح عنك أن تلعن عليا.
فلما سمع عبد الرحمن ذلك نسي أنه مقيد بين يدي الخليفة، فالتفت إليه وقال: إنك تطلب أمرا مستحيلا، وما علي ممن يجوز لعنه.
فقال ابن زياد: اقبل النصيحة وأطع أمير المؤمنين؛ لئلا يصيبك ما أصاب أمثالك ممن ساقهم عنادهم إلى القتل، مثل حجر بن عدي و...
فنظر عبد الرحمن إلى ابن زياد والشرر يكاد يتطاير من عينيه وقال: كأني بك يا ابن سمية تقتفي أثر ما فعله أبوك بحجر، وقد سعى في قتله زورا؛ قتله لأنه لم يلعن ابن عم الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فإذا رأيت أن ترتكب أنت أيضا مثل ذلك فاقتلني ولا تخوفني. إن عليا أولى بالمدح من سواه.
فلما قال عبد الرحمن ذلك ضج المجلس، وعجب يزيد والحاضرون من جرأة ذلك الأسير المقيد.
أما سلمى فقد كاد يضيع رشدها من عظم التأثر وهي تتقلب بين الإعجاب بشهامة ابن عمها وبين الخوف على حياته، إلى أن سمعت يزيد يقول له: قد أمهلناك يوما آخر، فإذا لم ترجع عن غرورك أذقناك الموت. خذوه إلى السجن.
فدخل الحرس ليأخذوه فقال: لا تؤجل عملا إلى الغد؛ فإني أنا اليوم مثلي بالأمس وبالغد، لا أحيد عن الحق ولو قطعتموني إربا إربا.
وكانت العجوز جالسة بجانب سلمى تسمع ما دار في المجلس، فلما أخرجوا عبد الرحمن قالت لسلمى: أرأيت مثل هذه الجرأة؟ ولكنها لا تفيده شيئا، وغدا يقتلونه.
فلم تستطع سلمى صبرا على سماع ذلك الكلام، ولكنها قالت في سرها: إذا بقيت يا يزيد حيا إلى الغد فاقتل عبد الرحمن، وعادت إلى الغرفة وقد ظهر عليها الاضطراب، ولكنها عادت إلى التظاهر بالتألم من الصداع، فأخذت العجوز تهون أمره عليها، وتحاول الترفيه عنها، ثم قالت: ألم تفدك التعويذة يا حبيبتي؟ إنها لم تخني إلا اليوم.
فلم تجبها سلمى ولكنها أخرجت منديلا من جيبها وعصبت به رأسها وهي تتظاهر بشدة الألم. فقالت لها العجوز: إذا كنت تشكين من الصداع الشديد فعليك بالفراش وتوسدي فيه وارتاحي.
فأطاعتها وانثنت إلى فراش من الحرير الملون وعليه غطاء من الأطلس المزركش بالذهب كانت قد أعدته العجوز هناك بأمر يزيد، فتوسدته والتحفت الغطاء إلى رأسها، ولبثت لا تبدي حراكا حتى ظنتها العجوز قد نامت، وهي إنما سكتت لانشغال ذهنها وقلقها وما تخافه على عبد الرحمن وعلى نفسها من الخطر.
وفيما هي راقدة سمعت خطوات مفردة على السلم، فعلمت أن يزيد صاعد على السلم ليتفقدها ويسأل عن صحتها؛ إذ لا يجرؤ على الصعود إلى تلك المقصورة سواه، فاستعاذت بالله، ولكنها رأت أن تتظاهر بالرقاد؛ لأن الليل لم يدن بعد، وهي إنما تريد قتله ليلا والناس نيام لتتمكن من الفرار.
وبعد هنيهة وصل يزيد إلى باب المقصورة، فأسرعت العجوز إليه واستقبلته لدى الباب وهي تشير له أن يمشي الهوينى ولا يتكلم؛ لأن عروسه نائمة.
فخفف الوطء واستفهم عن سبب نومها فقالت: إن الصداع اشتد عليها فعصبت رأسها وتوسدت ويظهر أنها نامت، ولكنها ستفيق بعد قليل ولا أثر للألم في رأسها، والنوم أنجع دواء للصداع.
فمشى رويدا رويدا حتى أقبل على الفراش ودنا من رأسها وكان مغطى وهي ساكنة وعيناها مغمضتان، وقد أشرق محياها وزاده الدفء إشراقا، فلم يتمالك يزيد عند رؤيتها عن الإعجاب بذلك الجمال الجاذب، وحدثته نفسه بأن يوقظها ويجلس إلى جانبها، ولكن العجوز أومأت إليه بأن يتركها لتنام، وأمسكته مشت به إلى جانب النافذة وقالت له همسا: لا تستعجل يا مولاي، إن العروس عروسك تتمتع بها متى شئت. دعها لتنام الآن وتستريح، فإذا جاء الليل كانت كما تشاء.
فقال: ولكنني لا أريد منها إلا قبلة.
قالت: لم يكن ثمة بأس من ذلك لولا مخافة استيقاظها.
فقال لها: هل أدخلتها الحمام؟
قالت: نعم يا سيدي، كن في راحة من هذا القبيل واذهب إلى مجلسك.
فقال لها: أعدي لنا ما نحتاج إليه من الشراب والطعام لنقضي الليلة في هذه المقصورة.
قالت: سمعا وطاعة. وسارت في أثره.
فأدركت سلمى ذهابهما ففتحت عينيها ونظرت إلى جوانب الغرفة فلم تجد أحدا، وكانت في أثناء رقادها تفكر في طريقة الاحتيال لقتل يزيد، فلما علمت بعزمه على المبيت في تلك المقصورة، وسمعت استفهامه عن دخولها الحمام أخرجت الخنجر من جيبها ودسته تحت الفراش بحيث تصل يدها إليه متى شاءت، ثم نهضت ورأسها معصوب وقد تعاظم قلقها على عبد الرحمن.
ومشت إلى الكوة المطلة على مجلس الخليفة وأطلت منها عليه، فلم تر يزيد هناك، ثم ما لبث أن دخل ومعه رجل لم يقع نظرها عليه حتى ارتعش جسمها وارتعدت فرائصها؛ إذ كان شمر بن ذي الجوشن. فاستعاذت بالله من وشايته، ولكنها أصبحت لا تخاف شيئا في سبيل الانتقام لأبيها وخطيبها.
ورأت يزيد يرحب بشمر ويدعوه إلى الجلوس بجانبه، فلم يجرؤ أن يجلس على الوسادة المثناة ولكنه تربع على البساط بين يدي يزيد.
فقال له يزيد: لماذا لا تدنو من مجلسنا وأنت أول من نبهنا إلى الخطر الذي نجانا الله منه بالأمس؟
قال: إن صنيعة مولانا لم يفعل إلا بعض الواجب عليه، ولا فضل له فيه، وقد بايعنا أمير المؤمنين على الطاعة، وإن دماءنا وأرواحنا وأموالنا فداء له.
فضحك يزيد ومشط لحيته بيساره والدرة في يمينه وقال له: بورك فيك يا شمر، إنك أبيض الوجه أبيض الخصال، وسوف تنال ما تستحقه.
فقبل شمر الأرض وقال: أرجو أن ينال ذلك الخائن أيضا ما يستحقه.
قال: إنه سينال جزاءه بعد أن نرى ما في اعترافه؛ فلعل له شركاء إذا أطلعنا على مخبآتهم أمنا شرهم.
قال: ألم يسأله أمير المؤمنين عن نسبه؟
قال: سألناه فلم يجب، فأمهلناه إلى الغد.
فوقف شمر والسرور باد على وجهه وقال: إذا أمرني مولاي أخبرته بنسبه، ولا أظنه بعد ذلك إلا آمرا بقتله في هذه الساعة.
فلما سمعت سلمى كلام شمر اهتزت كل جوارحها، ولم تعد تستطيع الوقوف من شدة الاضطراب، ولعنت ذلك الرجل وساعة قدومه، ولكنها تجلدت لترى ما يكون، فإذا بيزيد يقول: من هو؟ قل.
قال: ألا تعرف حجر بن عدي؟
قال: أعرفه بالسماع.
قال: هذا ابن أخيه، ويزعم هذا الغادر أنه سينتقم لعمه من أمير المؤمنين.
فهب يزيد من مجلسه وصاح قائلا: أصحيح ما تقوله يا شمر؟
قال: إني لا أقول غير الصدق، وإذا حضر الآن فقأت حصرما في عينيه.
فضج المجلس وصاح يزيد: ايتوني به.
وما لبثوا أن جاءوا بعبد الرحمن وعليه الأغلال والقيود فوقف بين يدي يزيد لا يبالي، فنظر يزيد إلى شمر وأومأ إليه أن يسأله، فالتفت شمر إلى عبد الرحمن وقال له: لقد سألك أمير لمؤمنين عن نسبك فلماذا لم تجب؟
فنظر عبد الرحمن إلى شمر وحملق فيه وهو لا يعبأ بما يتهدده من الخطر في ذلك الوقت وقال: لم أخف نسبي خوفا على حياتي، ولا أرى في نسبي إلا ما يدعو إلى الافتخار.
قال شمر: قل إذن من أنت؟
فرفع عبد الرحمن صوته وقال: إني من كندة، واسمي عبد الرحمن، وعمي حجر بن عدي الذي قتلتموه ظلما وعدوانا.
فتعجب يزيد من جرأته وقال: أتقول ذلك ولا تخاف؟
قال: مم أخاف وقد أقررت بعزمي جهارا؟
وكان ابن زياد جالسا بجانب يزيد يسمع ما يدور بينهما، فلما سمع قوله أراد مطاولته فقال: إنك مصاب في عقلك، فأقلع عما أنت فيه، فإن حلم أمير المؤمنين لا يضيق عن وقاحتك، فاستغفر لذنبك وارجع عن غيك.
قال: مه يا ابن زياد، لا تتوسط في استبقائي، ولا تذكروا حلمكم؛ فما لي حاجة إليه.
قال يزيد والغضب ظاهر في وجهه: قد كنا أجلنا قتلك إلى الغد لعلك تتوب وتندم على وقاحتك، فإذا أنت مستعجل أجلك، فاعلم أنك مقتول قبل أن تطلع شمس الغد. خذوه إلى السجن وأروني رأسه في الصباح.
ولما هموا بجره إلى السجن قال شمر: فليأذن لي مولاي أن أقتله بيدي.
قال: اقتله وأتني برأسه غدا، إلا إذا رجع عن غيه واستغفر ولعن أبا تراب.
فلما سمع عبد الرحمن ذلك جذب يده ممن كان ممسكا به، وحول وجهه إلى يزيد وقال: اقتلوني الآن عسى أن ألقى عليا وحجرا على عجل، وإذا كان لا بد من تأجيل قتلي فلا أرضى بالموت قبل أن أؤدي شهادتي على رءوس الملأ، فاعلموا يا بني أمية أنكم توليتم هذه الخلافة بغير الحق، وأخرجتموها من أهل بيت الرسول بالحيلة، وحاربتم من هو أحق بها من سائر المسلمين، ولم تفوزوا بها من دونه إلا لرغبتكم في الدنيا ورغبته في الآخرة، ولسوف تلقون عاقبة ما جنته أيديكم.
فانتهره ابن زياد قائلا: أتقول ذلك جهارا يا خائن؟
فالتفت عبد الرحمن إليه وصعد الدم في رأسه واشتد غضبه وتذكر ما افتراه زياد والده على عمه حجر حتى تمكن من قتله فقال: لا تذكر الخيانة؛ فما هي إلا من شأنك وشأن أبيك من قبلك، وليس في هذا المجلس أحد لا يعرف أباك زيادا وأمه سمية، وكلهم يعرفون لماذا سموه ابن أبيه. اذكر يا عبيد الله شهادة أبي مريم خمار المدينة، ألم يقل: إن جدتك سمية كانت بغيا من بغايا المدينة؟ هل وصلت أنت وأبوك إلى هذا المجلس إلا بفضل بغائها؟ وما في هذا الجمع من يجهل أن معاوية لم يستلحق زيادا بنسبه ولم يرض به أخا لأبيه إلا لاستخدامه في إيذاء أهل البيت، فإذا رضيت بهذا الاستلحاق فإنما هو شهادة على قذارة أصلك، وإن لم ترضه فأخبرني ما هو نسبك؟ أتزعم أني خائن؟! وهل الخائن إلا من عرف الحق وانحرف عنه طمعا في الدنيا كما فعل أبوك وأمثاله، وكما فعلت أنت وأمثالك؟ فلا غرو إذا استغربت المجاهرة بانتصاري للحق، وهي شهادة حق أموت في سبيلها، وإذا مت فإن عظامي تنادي بها من أعماق القبر.
فضج الناس، وتشوش المجلس، والكل معجبون بتلك الجرأة، ثم تقدم شمر إلى يزيد وهو يقول: إلى متى يصبر أمير المؤمنين على هذه الوقاحة. مرني فأقطع رأسه في هذه الساعة.
فصاح فيه عبد الرحمن: اقتل، جرد سيفك، إنكم ما قتلتم من قتلتموه من أنصار الحق إلا بمثل هذا؛ تتكاتفون على الرجل عشرات ومئات، اقتل قتلك الله. ثم التفت إلى يزيد وقال: أتظنون قتل رجل مثلي يؤيد سلطانكم؟! وأشار إلى عمامته وقال: إن دون هذه العمامة ألوفا من الرجال الصناديد سوف يذيقونكم مرارة ما جنته أيديكم، إن سلطانكم يا ابن معاوية لم يؤيد إلا بالحيلة؛ أطمعتم الناس بالدنيا فنصروكم، واستلحقتم زيادا بنسبكم، وأطمعتم ابن العاص بمصر فنصركم، ولولاه ما بقيتم بعد وقعة صفين يوما واحدا، ولولا فعلته بالأشعري في مجلس التحكيم لم تقم لكم قائمة، ولكن دهاء معاوية غلب دهاءه فاستخدمه في مصلحته، فأطعمه مصر وأكل هو الشام وغيرها، ولكنها لقمة لن تهضموها، وسوف ترون ونرى.
وقبل أن يتم كلامه قال يزيد: خذوه إلى السجن وأتوني برأسه في الغد باكرا. قال ذلك وهو يضحك مستخفا، فساقوه، فمشى وهو يرسف في قيوده بخطوات ثابتة، ولا تسل عما أصاب سلمى؛ فقد أخذها الاضطراب والجزع واغرورقت عيناها رغما عنها، ولكنها فرحت بما أبداه عبد الرحمن من الأنفة والجرأة، فلما خرج من المجلس انخلع قلبها، وتعاظم قلقها. عادت إلى ثباتها وعللت نفسها بقتل يزيد في ذلك المساء قبل أن يقتل خطيبها، وكانت إلى تلك الساعة تتهيب جريمة القتل لغلبة غريزة النساء عليها، فلما سمعت ما دار بينهم وبين عبد الرحمن هان عليها كل أمر، واشتد بها الهياج.
وبعد هنيهة دخلت العجوز ووراءها جماعة يحملون آنية الطعام والشراب، فمدوا السماط ووضعوا فوقه الآنية من الذهب والفضة، وفيها الدجاج المشوي وأنواع اللحوم والحلوى والفاكهة ، وصفت الأقداح، فتظاهرت سلمى بأنها استيقظت لتوها، ثم رفعت الغطاء عن رأسها فوقع نظرها على ذلك السماط وعليه أنواع الأشربة وألوان الطعام، ورأت بجانب السماط طنبورا فتذكرت ما كانت تسمعه عن اشتغال يزيد بشرب الخمر وضرب الطنابير.
أما العجوز فلما رأتها ترفع الغطاء عن رأسها تفرست فيها فرأت وجهها قد زاد احمرارا وتوردت وجنتاها، وازدادت هيبة وجمالا، فأسرعت إليها وقبلتها بين عينيها وقالت: هنيئا لأمير المؤمنين متى فاز بمثل هذه القبلة، وهنيئا لك ما ستحوزينه من المكانة الرفيعة عنده.
فظلت سلمى ساكتة ولم تبد حراكا، فظنتها لا تزال تشكو الصداع فقالت لها: كيف تشعرين الآن يا بنية؟
قالت: إني أحسبني أحسن قليلا.
قالت: وسيزول بقية الألم متى جلس الخليفة إلى جانبك الليلة وسمعت ضربه على هذا الطنبور، فإننا قد أعددنا لك كل شيء بأمره.
ولم تتم كلامها حتى فاحت رائحة البخور، وسمعت وقع أقدام خفيفة خارج الغرفة، فتحركت في فراشها، فقالت لها العجوز: لا تجزعي يا حبيبتي، إن الخليفة لم يأت بعد، وأما الذي تسمعين وقع أقدامه فهو رجل يحمل البخور، سيضع مبخرته هنا ويعود، فأرخت سلمى خمارها على رأسها ونظرت من خلاله إلى القادم فإذا هو رجل عليه قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه كساء أصفر مزركش، وعلى رأسه شاش وعلى كتفه الأخرى مخلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود، وفي يده مبخرة من الذهب الأحمر فيها نار يلقي فيها من العود فيتصاعد منها الدخان حتى ملأ المكان برائحة العود، ثم وضع المبخرة بباب المقصورة وكر راجعا بينما اشتغلت العجوز بوضع الوسائد حول تلك المائدة، وأتت بقوائم من الذهب مغروس في رءوسها وجوانبها شموع فيها الأبيض والأحمر والأخضر، وأوقفتها وسط السماط ولم تشعلها لأن الليل لم يقبل بعد.
كل ذلك وسلمى مستكنة في الفراش غارقة في الأفكار والهواجس، وهي ترجو ألا يحضر مجلسهم تلك الليلة أحد غير يزيد.
ولما غابت الشمس همت العجوز بالشموع فأنارتها فأضاءت الغرفة، ولبثت في انتظار يزيد، وكانت العجوز تتوقع قدومه قبل الغروب، فلما غابت الشمس ولم يأت استبطأته فقالت لسلمى : يظهر أن مولانا الخليفة قد شغل عنا، وأنا لا أظن في الدنيا شيئا يشغله عن هذا المجلس، فأوجست سلمى خيفة من سبب تأخره وحسبت لذلك ألف حساب.
الفصل العاشر
يزيد، وسلمى
ثم سمعتا وقع أقدام يزيد على السلم، قالت العجوز: هو ذا آت والحمد الله، فلما سمعت سلمى ذكره اختلج قلبها في صدرها وتحقق دنو الخطر العظيم، فتجلدت وجلست في الفراش، فقالت لها العجوز: انهضي من الفراش الآن؛ فليس هذا وقته، واجلسي إلى المائدة، ولم تكد سلمى تهم بالجواب حتى دخل يزيد وقد بدل بثيابه ثيابا خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، فلما أقبل على المائدة رأى سلمى لا تزال في الفراش فقال لها وهو يبتسم: لعلك لا تزالين مصدوعة؟
فلما سمعت كلامه تفرست في وجهه فإذا هو قد تغير وعلاه الاضطراب، فانزعجت وحدثتها نفسها أنه يضمر شيئا، وخافت أن يكون قد اطلع على سرها؛ لعلمها بما في نفس شمر بن ذي الجوشن عليها، ولم تر بدا من التجلد والتكلف، وكانت كبيرة العقل قوية الإرادة فتجاهلت ما يبدو على يزيد من القلق وجلست كأنها تتأهب لمسامرته.
أما هو فحالما نظر إليها أشرق وجهه وزال انقباضه وبدا الارتياح على وجهه، وكانت العجوز واقفة بين يديه فقال لها مازحا: تعالي يا عجوز النحس واملئي القدح من هذا الشراب واسقي سلمى؛ فإنه شراب لذيذ.
فملأت العجوز قدحا من شراب أحمر وقالت لها: اشربي، إنه مصنوع من عصير التفاح، فلا تخافي.
فتحيرت سلمى إذ لم يكن لها عهد بالشراب، ولم تكن تريد أن تذوقه، ولكنها تناولت الكأس ولبثت تنتظر ما يفعله يزيد فإذا هو قد صب قدحا آخر من زجاجة أخرى فيها شراب أصفر وقال: وهذا من عصير البلح، وشرب فتظاهرت هي بالشرب وصبت الكأس في ثيابها.
فلم يستقر الشراب في جوف يزيد حتى غلب عليه المرح ودنا من فراش سلمى والطنبور بيده يضرب عليه ويطرب، والعجوز تقطع اللحوم وتناولهما وتصب لهما الأشربة وسلمى تحبب إليه الشراب عسى أن يسكر فيهون عليها الفتك به.
وكان شمر حينما علم بعزم الخليفة على الاقتران بسلمى قد اعتزم الوشاية بها انتقاما لما ناله من جفائها، فلما رأى موكبها قادما إلى دمشق وتحقق دخولها القصر ووقوعها من يزيد موقع الاستحسان، أخذ في إعداد المكيدة، فاغتنم فرصة رأى فيها يزيد خارجا وحده من المجلس إلى المقصورة فاعترضه وهمس في أذنه: إن عروسك لا يركن إلى قلبها فاحترس على نفسك منها. وكان يزيد مسرعا إلى لقاء سلمى وقد أخذ الشوق منه مأخذا عظيما، فأثرت كلمات شمر تأثيرا لم يطل مكثه طويلا، ولم يكد يجلس إليها ويتأمل محياها حتى نسي الوصية، ولا سيما بعد أن دارت برأسه سورة الخمر، ولم يعد يرى من الدنيا شيئا غير ما في مقصورته.
أما شمر فلما طال مقام يزيد مع سلمى في تلك الخلوة ولم يسمع شيئا جديدا اشتد به الحسد مخافة أن تكون سلمى قد تسلطت على قلب يزيد وأنسته حاله، وندم لأنه لم يصرح له بحقيقة نسبها وأنها ابنة عم عبد الرحمن وخطيبته فيتحقق خيانتها ويخاف غدرها، وأصبح شمر لا يهدأ له بال. وفكر في سبيل ينال به بغيته، وهو يعلم منزلة عبيد الله بن زياد من يزيد، فسار إليه، وكان ابن زياد في غفلة عن علاقة سلمى بعبد الرحمن، ولكنه بات كاسف البال لفشله في خطبته سلمى، وقد شق عليه خروجها من يديه، ولم يكن أطول من تلك الليلة عنده.
فلما انفض المجلس وعلم عبيد الله بذهاب يزيد إلى المقصورة وأن سلمى هناك في انتظاره ثارت الغيرة في قلبه، وكان قد أوى إلى غرفته في القصر وتوسد الفراش ولكنه لم يجد إلى الرقاد سبيلا، وكلما تذكر سلمى وجمالها وتصور قربها من يزيد، وكان يعتقد ضعفه ولا يحترمه إلا لأنه الخليفة، اقشعر بدنه لفرط غيرته.
وقضى في غرفته بضع ساعات وهو في قلق شديد يغالب عواطفه ويهون الأمر على نفسه، وفيما هو في تلك الهواجس دخل عليه خادمه وهو يحسبه نائما، فلما رآه مستيقظا قال له: إن شمر بن ذي الجوشن بالباب.
فقال: دعه يدخل، وجلس في الفراش وأمر الخادم فأضاء السراج.
فدخل شمر وعلى وجهه علامات الاهتمام، فابتدره عبيد الله بالاستفهام عما وراءه، فقال: لقد أتيتك في أمر ذي بال.
قال: وما هو؟ قال: أنت تعلم عزم الخليفة على الاقتران بتلك الفتاة الحسناء.
فلما سمع ابن زياد الإشارة إلى سلمى اختلج قلبه في صدره وأصاخ بسمعه وقال: أعلم ذلك، ثم ماذا؟
قال: أتعلم من هي هذه الفتاة؟
قال: لا أعلم إلا أنها غريبة، وأظنها من العراق.
قال: نعم إنها عراقية، ولكن من هو أبوها؟
قال: أليس هو الكهل الذي كان معها في الدير؟ وهب أنه ليس أباها، فماذا في هذا؟
قال: إن معرفة أبيها تهمنا جميعا، ولو عرفه أمير المؤمنين ما اقترب منها.
فاستغرب عبيد الله ذلك القول وقال: ومن عسى أن يكون أبوها؟
قال: إنه حجر بن عدي.
ولم يتم كلامه حتى بانت البغتة في عيني عبيد الله، وصمت برهة ثم قال: أواثق أنت بصدق ما تقول؟
فابتسم شمر وقال: إني أعرفها وأعرف أباها وعمها وكل أهلها، وقد صحبتها ...
فقطع ابن زياد كلامه قائلا: إذن عبد الرحمن ابن عمها؟
قال: نعم، وهو أيضا خطيبها، وقد قدما ومعهما الرجل الكهل الذي ذكرته، وهو الوصي عليهما، فأقاموا في دير خالد يتربصون للفتك بأمير المؤمنين، وهذا ما ساعدني على كشف أمر الرجل وإيقاعه في الشرك وهو يهم بتلك الجريمة.
فبهت عبيد الله وصدق كلام شمر مما لاحظه من القرائن الأخرى، فقال له: لماذا لم تطلع الخليفة على هذا السر؟ إني خائف أن يكون قبولها الزواج بالخليفة مكيدة، وأخشى أن تكون عازمة على الفتك غدرا بأمير المؤمنين.
قال: لقد لمحت له تلميحا، ولكنه لفرط شغفه بها وسرعته في الذهاب إليها لم يدع لي مجالا للكلام أو زيادة التفصيل.
قال: لا أستبعد أن تكون ناوية قتله، ولا سيما إذا كانت ثابتة على رأيها ثبات ابن عمها، وقد شاهدنا ما كان من عناده في هذا النهار، أو أن تكون كأبيها الذي قتله عناده لأنه لم يلعن عليا كما تعلم، وما العمل الآن؟ يجب أن نبلغ الخليفة الأمر لئلا نلوم أنفسنا فيما بعد.
قال: الرأي رأيك، ولا بد من البت في الأمر قبل انقضاء الليل.
فأطرق عبيد الله برهة ثم نهض من فراشه بغتة وقال: إلي بفتح خصي أمير المؤمنين؛ لأنفذه إليه الآن.
فأسرع شمر حتى أتى غرفة «فتح» بباب دار النساء، فأيقظه ودعاه إلى عبيد الله، فنهض حتى دخل على ابن زياد وهو يخطر في الغرفة، فلما أقبل عليه ناداه وقال له: اذهب إلى الخليفة الآن على عجل، وقل له إني أريد أن أخاطبه في أمر ذي شأن.
فضحك «فتح» وقال: كأنك لا تدري أين هو الليلة؟
قال: إني عالم بمجلسه، ولولا ذلك لدخلت عليه وكلمته.
قال: وكيف أدخل عليه وهو في مجلس طرب وسرور وقد أوصى أن يترك وحده؟! ليس يجسر على الصعود إلى المقصورة أحد.
قال: أما أنت فتدخل، وهو إنما ادخرك لمثل هذه الليلة، وتلك مزية الخصيان، فامض إليه على عجل لأن الوقت ضيق وقل له: إن عبيد الله يريد أن يراك الآن.
قال: وإذا انتهرني ولم يسمع كلامي؟
قال: خوفه بما شئت. قل له إن عبيد الله يطلب مقابلتك في أمر ذي بال يمس الخلافة، ولكن لا تقل له ذلك على مسمع من أحد. امض يا فتح عاجلا.
فأسرع فتح وهو يتعثر بأذياله حتى صعد إلى المقصورة، فرأى الباب مغلقا، وسمع يزيد يضرب بالطنبور ويقهقه، فوقف برهة وقلبه يخفق مخافة أن يغضب الخليفة إذا دعاه، فلبث مدة يتردد حتى كاد ينثني عما جاء لأجله، ثم تذكر إلحاح عبيد الله فهان عليه الأمر ودنا من الباب وقرعه.
وكان يزيد في إبان نشوته، وقد اتكأ بجانب سلمى وأسند رأسه على صدرها وتمثلت له السعادة على أبهج حالاتها، فلما سمع قرع الباب أجفل وجلس وصاح: من بالباب؟
فأجابه فتح: أنا عبدك فتح.
فصاح يزيد: اذهب فتح الله قبرك، لقد أزعجتني.
قال: أتيت لأمر ذي بال لمولاي أمير المؤمنين.
فضحك يزيد وقال له : دع الأمر إلى الغد وامض ، ولو قرع هذا الباب أحد سواك لقتلته.
قال: إني أعلم يا مولاي، ولكنني ألتمس من أمير المؤمنين أن يريني وجهه لحظة ثم يعود.
فنهض يزيد والطنبور بيده وقد وقعت العمامة عن رأسه ووقف بالباب، فهمس فتح في أذنه: إن عبيد الله بن زياد يريد أن يكلمك في شأن يتعلق بالخلافة.
فقال يزيد: قل له: إن موعدنا الغد. وهم بالرجوع، فأمسكه بيده وقال له: لو استطاع تأجيله لما أزعج مولانا في مثل هذه الليلة، وقد استمهلته فألح علي أن آتي إليك الساعة، وقد كنت مستغرقا في نومي فأيقظني لهذا الأمر، وقد جئت وأنا أتوقع غضبك، ولكنني لم أر بدا من المجيء.
فمشى يزيد والطنبور بيده وقد غضب على عبيد الله وعول على توبيخه، ومشى فتح في أثره. ثم أمر فتحا أن يسبقه ويدعو ابن زياد إليه.
فهرع فتح حتى لقي ابن زياد واستقدمه، فجاء واستقبل الخليفة في ممر منعزل، وقبل أن يتكلم يزيد ابتدره عبيد الله قائلا: أنا أعلم أني أزعجت أمير المؤمنين في ساعة طربه، ولكنني اطلعت على سر خطير لا يصح السكوت عنه إلى الغد، فهل يأذن مولاي الخليفة في خلوة؟ •••
بغت يزيد وسار في أثره إلى غرفة فيها شمعة مضيئة وليس فيها أحد، فلما خلا به قال: بلغني يا أمير المؤمنين أن عروسك التي حملناها إليك اليوم لا تقل خطرا عن عبد الرحمن الذي تعمد قتلك بالأمس.
فبغت يزيد وقال: وكيف ذلك؟
قال: لأنها ابنة حجر بن عدي، وعبد الرحمن ابن عمها وخطيبها.
قال يزيد: ومن أنبأك بذلك؟
قال: أنبأني به شمر الذي كشف لنا الدسيسة الأولى فأخشى أن تكون سلمى هذه إنما أتت إلى منزل الخليفة لمثل الأمر الذي هم ابن عمها به.
فأطرق يزيد ثم قال: سمعت مثل هذا التلميح من شمر، ولكنها أتيح لها أن تكون من نسائي، وقد تكون على غير ما تقولون.
قال: قد يكون ذلك إذا عرفت النعمة التي خصها بها أمير المؤمنين، وقد تكون شريرة عنيدة مثل أبيها وابن عمها فترتكب أمرا يسوء المسلمين ويهدد الإسلام.
قال: كيف نعرف الحقيقة يا عبيد الله؟
قال: نعرفها من البحث بين أثوابها عن سلاح أو سم أو نحوهما مما يستعان به على مثل هذا المنكر.
قال: لو كان معها شيئا من ذلك لظهر لعجوزنا حين بدلت ثيابها في الحمام.
قالت: وهل واثق مولاي من دخولها الحمام.
قال: لا ريب في ذلك؛ لأني أوصيتهم أن يدخلوها الحمام، وقد أكدت العجوز ذلك، ثم توقف عن الحديث وتذكر أنه لما سأل العجوز عن حمامها لم تجبه جوابا صريحا فقال: وسأسأل العجوز ثانية، فإن كانت لم تدخلها الحمام فلا مانع عندي من التفتيش. قال ذلك وهم بالخروج، فاستوقفه عبيد الله وقال: لا يكفي أن تبحث في أثوابها بل ابحث في كل الغرفة، فإذا وجدت شيئا فلا تتسرع في الأمر، بل كن حازما مثل أبيك، وخذ الأمور بالتؤدة والحلم، وها أنا ذا منتظر حتى يأتيني أمر مولاي.
كانت سلمى سمعت الخصي يخاطب يزيد ويلح عليه في الانفراد به، أوجست خيفة، على أنها لم تتصور أنه جاء لمثل ذلك الغرض، وكأن نفسها حدثتها بشر يتهددها، فاختلج قلبها واصطكت ركبتاها، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر عودة يزيد، وقد أيقنت أن الشراب دار في رأسه ودنا الوقت المنتظر.
وكانت العجوز قد انزوت في بعض جوانب الغرفة وغلب عليها النعاس فنامت.
فلما عاد يزيد هشت له سلمى وابتسمت، وتوقعت أن يكلمها أو يجلس إلى جانبها فإذا هو يصيح بالعجوز، فأفاقت مذعورة وأسرعت إليه فأخذ بيدها خارج الغرفة، فلما خلا إليها سألها إذا كانت قد أدخلت سلمى الحمام، فتلعثمت وأقرت بأنها رأتها منحرفة الصحة، فعنفها ولكنه أوصاها بالسكوت، ودخل وجلس إلى سلمى فظنت لأول وهلة أنه عاد إلى ما كان فيه وليس هناك ما يوجب الشك، فإذا به قد مد يده إلى صدرها وجعل يجس جوانبها فأجفلت وخافت ولكنها ظنته يداعبها. أما هو فتظاهر بمداعبتها ولما لم ير معها سلاحا قال للعجوز: ألم أقل لك: أدخليها الحمام؟
قالت: بلى يا مولاي، ولكنها كانت تشكو صداعا فلم أشأ أن أزعجها.
قال: خذيها الآن وها أنا ذا في انتظاركما، وأشار إليها أن تأخذها إلى غرفة قريبة في أول الممر.
فتحيرت سلمى ولم تدر ماذا تصنع، ولكنها أطاعته وخرجت مع العجوز وهي لا تخاف الحمام؛ لأن الخنجر ليس معها. أما هو فأخذ يفتش في جوانب المقصورة حتى قلب الفراش ورأى الخنجر تحته، فلم يبق عنده شك في المكيدة فجعل ينتفض من شدة التأثر، وحدثته نفسه بأن يقتلها بذلك الخنجر. ولكنه تذكر كلام ابن زياد وأسرع إليه والخنجر في يده وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما.
على أن شغفه بسلمى وإعجابه بها ما لبثا أن هونا عليه التماس العذر لها فقال: ولكنني مع ذلك لا أرى أن آخذها بالشبهة؛ إذ قد يكون هذا الخنجر هناك اتفاقا، وهب أنها تعمدت قتلي، فهل من المستحيل أن تندم وتتوب؟
فأدرك عبيد الله غرض يزيد، واستصوب رأيه فقال: لقد أصاب مولانا، والرأي عندي أن نبعث إليها من يسألها عن هذا الخنجر وسبب وجوده معها، فإذا أقرت بجريمتها عنفها وحرضها على التوبة والتماس العفو منك، فإن فعلت بقيت وإلا فالأمر لك.
فقال يزيد: نعم الرأي هذا، ولكنني لا آمن أن أعهد في هذه المهمة إلى سواك لعلمي بحكمتك ودهائك.
فلم يكد عبيد الله يسمع ذلك حتى أسرع إلى الغرفة التي كانت سلمى فيها، وكانت لما نزلت إلى تلك الغرفة والعجوز معها، ولم تجد هناك شيئا من معدات الحمام أدركت أن أمرها لم يبق مكتوما، وأنها إنما سيقت إلى هناك لأمر يوجب الخوف، فلم تعد تعبأ بشيء وقد يئست من الحياة. ولولا تذكرها عبد الرحمن لما ترددت لحظة في الانتحار، وكانت العجوز أيضا مندهشة ولم تفهم معنى هذا الانقلاب، ولم يستقر بهما المقام هناك حتى جاء ابن زياد وقرع الباب فخرجت له العجوز، فقال لها: أين سلمى؟
قالت: وماذا تريده منها؟
قال: أريد أن أبلغها أمرا من أمير المؤمنين.
قالت: هي هنا، وأشارت إلى داخل الغرفة. •••
دخل عبيد الله وقد خبأ الخنجر تحت ردائه، وكانت سلمى لما سمعت صوته تطيرت وأرخت النقاب على رأسها، فلما أقبل عليها ورأى جمالها قال في نفسه: حرام أن يمس هذا الجسم بسوء، فتلطف في الكلام وقال: لقد جئت من قبل أمير المؤمنين أسألك عن أمر أرجو منك أن تجيبيني عنه بالصدق والصراحة.
فظلت سلمى ساكتة مطرقة، ولكن قلبها اشتد خفقانه، فلما لم تجب مد عبيد الله يده إلى جبيه وأخرج الخنجر وقال لها: أتعرفين هذا الخنجر يا سلمى؟
فلما رأت الخنجر تحققت فشلها وأيقنت أنها ذاهبة ضحية جرأتها، فامتقع لونها وظلت مطرقة لأنها لم تجد جوابا.
فاستبشر عبيد الله بسكوتها خيرا وقال لها: يظهر أنك نادمة على تهجمك في مثل هذه الحال، والعاقل من رأى العبرة فاعتبر. أما كفاك ما رأيت من فشل عبد الرحمن وطيشه حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة، ولا ريب أنك إنما أقدمت على ذلك بإغراء من بعض الجهال، فإن من كان عنده ذرة من العقل لا يفعل فعلتك. أيطلبك الخليفة لتكوني عروسا له فتتعمدي قتله وأنت تعلمين أن حوله الجند والرجال؟! فإذا قلت أنك عالقة بذلك الشاب الجاهل فاعلمي أنه قتل وأصبح في عداد الأموات منذ ساعتين.
ولم يكن عبد الرحمن قتل بعد، ولكن عبيد الله ظن يأسها منه يقرب رضوخها، لكنه لم يكد يتم هذا القول حتى شهقت سلمى شهقة أجفل لها عبيد الله وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وملكها اليأس والأسى على حبيبها، ولذهاب آمالها أدراج الرياح.
فلما سمعها عبيد الله تبكي ظنها ندمت على ما فرط منها، فجلس بجانبها على وسادة وقال مترفقا: لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، وإذا كنت نادمة على ما فرط منك فأنا أتوسط في العفو عنك لدى أمير المؤمنين، وأظنه يعفو.
فتوقفت عن البكاء، ولبثت صامتة، ثم تزحزحت من مكانها لتبتعد عن عبيد الله وقد تحول خوفها إلى غضب، وأصبحت بعد سماعها خبر موت عبد الرحمن لا تبالي الحياة بل تتمنى الموت، فحمل سكوتها محمل القبول وقال لها: وأنا أضمن عفو الخليفة عنك إذا أقررت بذنبك ولعنت أبا تراب.
فلم تطق سلمى صبرا على ما سمعت، ورفعت رأسها وقالت: اغرب يا ابن زياد عن وجهي.
فقال وهو يمازحها: وهل ترين أن أبعث أمير المؤمنين لتأخذي العفو منه.
قالت: ألا تزال تذكر العفو، وممن أطلبه؟ أمن يزيد بن معاوية ضارب الطنابير ومعاقر الخمور؟! وعلام أطلب العفو؟ ألكي أبقى حية وأنت تقول إنكم قتلتم عبد الرحمن؟! آه من ظلمكم وعتوكم! قتلتم عبد الرحمن وجئتم تلتمسون بقائي؟! اقتلوني فليس لي مأرب في الحياة بعد الذين ماتوا قبلي. قالت ذلك وقد اختنق صوتها وهي تتجلد ولا تريد أن يبدو الضعف عليها، وعبيد الله يعجب بجرأتها، وكان يختلس النظر إلى وجهها من خلال النقاب وهي تتكلم فسحر بماء عينيها وملامح فمها، وهم بمخاطبتها فرآها عادت إلى الكلام فقالت: ثم أنتم تجعلون لعن علي شرطا للعفو، وأن عليا لأولى الناس بالفضل، دعوني من عفوكم وألحقوني بعبد الرحمن، ألحقوني به، اقتلوني، آه يا عبد الرحمن! قتلوك قتلة الصالحين! ولكن لك أسوة بأبي. ثم خنقتها العبرات.
فأجابها عبيد الله وهو يخفف عنها: يظهر أنك لم تفهمي حقيقة حالك، إنك متعمدة قتل الخليفة، وهو إنما بعث لأقتلك فأشفقت على شبابك وأرادت الإبقاء عليك، فهل هكذا يكون جوابك؟!
قالت: لا جواب عندي غير هذا. إذا كنت آتيا لقتلي، فاقتلني، إن القتل يريحني، اقتلوني.
فقطع ابن زياد خطابها وقال: أتفضلين القتل وخسارة الدنيا والآخرة على أن تلعني عليا أو على أن تستغفري لذنبك، وأنا واثق بأنك لم تقدمي على هذا المنكر إلا بإغواء بعض الناس و ...
فقطعت كلامه وقالت: لم يغوني أحد، ولكنني تعمدت قتله انتقاما لأبي وابن عمي، وسعيا في مصلحة المسلمين، ولم أقدم على هذا إلا وأنا عالمة بما يهددني من خطر القتل، ولكني لم أوفق، فاقتلني، فما أنا خير ممن قتلتموه قبلي.
فقال عبيد الله: إني أنصحك لوجه الله أن تقلعي عن هذا العناد؛ فلا خير فيه، وقد أصبحت وحيدة لا نصير لك، فأشفقي على شبابك وأطيعيني، إني والله أضن بهذا الوجه المليح أن يعفره التراب .
قالت: لا تضن بشيء لا يضن به صاحبه، اقتلني أو أعطني هذا الخنجر فأغمده في أحشائي. قالت ذلك ومدت يدها إلى الخنجر، فأخفاه عبيد الله، وتحقق أن الكلام معها لا يجدي فتركها وعاد إلى يزيد. •••
وكان يزيد في انتظاره على مثل الجمر وهو يرجو أن ترجع سلمى عن عزمها وتعتذر وتبقى عروسا له، فلما عاد عبيد الله قص عليه ما بدا منها فعاد يزيد إلى غضبه وقال: قبحها الله من خائنة منافقة.
فلما رآه ابن زياد في هذه الحالة قال له: ماذا يرى مولاي أن نفعل بها؟
قال: أرى أن أقتلها حالا بهذا الخنجر.
قال: إنها تستوجب القتل، ولكني لا أرى أن تلوث يدك بدمها ولا أن تجعل أحدا من أهل القصر يعلم ذلك.
قال: وكيف إذن؟ أأعفوا عنها؟!
قال: إذا عفوت عنها كان ذلك من حلمك وسعة صدرك، وكذلك كان يفعل أبوك رحمه الله، فقد كان يسمع الإهانة من نساء بني هاشم ورجالهم فيسكت عنها وهو قادر على الانتقام، وكثيرا ما كان يقربهم ويعطيهم العطيات، وهو دهاء امتدحه العقلاء عليه، وبه كان تأييد سلطانه، فإذا رأيت أن تترفع عن الانتقام من هذه الفتاة وتخرجها من قصرك اتقاء شرها فعلت ما هو جدير بابن معاوية بن أبي سفيان.
قال: أتطلب مني الإفراج عن هذه الخائنة بعد أن تحققت عزمها على قتلي؟! لا أظن معاوية كان يفعل ذلك في مثل هذه الحال.
قال: إذا لم يكن السكوت عنها ممكنا فافعل ما بدا لك، ولكنني لا أريد أن يعلم أهل القصر أن هذه الفتاة تجرأت على الفتك بالخليفة لئلا يهون الإقدام على مثله في عيون الآخرين.
قال: ما العمل إذن؟
قال: افعل كما كان يفعل أبوك، فإذا لم يكن سبيل إلى العفو بالحلم الواسع فهناك سبيل القتل بالعسل. ألا تذكر طبيبه النصراني ابن آثال؟ لقد كان أبوك يستخدمه في قتل أعدائه بالعسل المسموم.
قال: سمعت ذلك ولكنني لم أتحققه.
قال: ألا تذكر لما أراد أبوك رحمه الله أن يبايعك في حياته ما كان من أمر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؟
قال: وأي شيء تعني؟
قال: أعني أن أباك لما أراد أن يعهد في الخلافة إليك من بعده جمع أعيان أهل الشام إليه وقال لهم: إني قد كبرت سني ورق جلدي ودق عظمي واقترب أجلي، وأريد أن أستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودس ابن آثال الطبيب الذي ذكرته فسقى عبد الرحمن هذا قدحا من العسل مسموما، فمات والناس يحسبونه مات بعلة، وفعل ذلك أيضا بالأشتر، وكان علي بن أبي طالب قد أنفذه واليا على مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر، فأرسل أبوك إلى دهقان العريش من قال له: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة، فسقاه السم في العسل، فمات الأشتر وخلصنا من شره، وهكذا فعل أبوك أيضا بالحسن بن علي لما رأى ما كان من حاله في أمر الخلافة، فبعث إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن بمن قال لها: «إن قتلت الحسن زوجتك يزيد.» فدست له السم، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى أبيك تطالبه بك فأجابها: «إني أضن بيزيد». وقد مات في أيام أبيك كثيرون من أكابر الناس بهذه الحيلة، وكان ابن آثال هو الذي يركب لهم السموم ويمزجها بالعسل، فهل كان أبوك عاجزا عن قتلهم بالسيف؟ كلا، ولكنه كان يرى السم أهون سبيلا، حتى قال: «إن لله جنودا من عسل.» فإذا كان لا بد من قتل هذه الفتاة فما يمنعك من أن تفعل فعل أبيك؟ وما هي إلا جرعة تشربها فتموت، والناس يحسبونها ماتت بمرض أو نحوه، وهذا طبيبك أبو الحكم عالم بأنواع الأدوية، وله وصفات مشهورة، وكثيرا ما كان أبوك أيضا يستطبه ويعتمد عليه في تركيب العقاقير لمثل هذه الغاية.
الفصل الحادي عشر
انتقام يزيد بن معاوية
لما فرغ عبيد الله من كلامه قال له يزيد: إلي الآن بأبي الحكم الطبيب.
فخرج عبيد الله إلى غرفته، وكان شمر في انتظاره هناك، فلما رآه قال : ماذا فعل الخليفة؟
قال: لقد كشف المكيدة وتحقق قولنا. أتعرف منزل أبي الحكم الطبيب النصراني؟
قال: أعرفه، إنه بالقرب من هذا القصر.
قال: سر إليه وأبلغه أن أمير المؤمنين يدعوه إليه الساعة.
فسار شمر، وعاد ابن زياد إلى يزيد فرآه جالسا وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما، فجعل يهون عليه ويهنئه بالسلامة قائلا: نحمد الله على أن لطف بمولانا وكشف لنا نيات أعدائنا، فلا تطلع شمس غدا إلا وقد قتل هذان الخائنان وارتاحت البلاد من شرهما، وما ذلك إلا لأن الله مؤيد سلطاننا رغم أهل العناد.
فانشرح صدر يزيد وقال: بورك فيك يا عبيد الله وبورك في شمر، إنه والله ذو فضل علينا، وسنوليه عملا ينتفع به إن شاء الله.
وبعد قليل سمعا وقع أقدام، فأدركا أن الطبيب قادم، ثم دخل شمر وهو يقول: إن الطبيب بالباب، فأمر يزيد بدخوله.
وكان أبو الحكم شيخا تدلت على صدره لحية بيضاء وبان الهرم على وجهه من تجعد بشرته، وقد تزمل بردائه على عجل ووضع القلنسوة على رأسه كيفما اتفق، فحيا الخليفة ووقف بين يديه، فابتدره هذا قائلا: اجلس يا أبا الحكم، فلما جلس قال له: أتدري لماذا دعوناك؟
قال: لا يا مولاي.
قال: دعوناك لنستعين بعلمك على رد كيد الخائنين أهل الغدر.
قال: إني رهن إشارة أمير المؤمنين.
قال: هيئ لنا جرعة عسل قاتلة، واسقها في الفجر لفتاة تراها جالسة مع عجوزنا في المقصورة. واحذر أن يعلم أحد بذلك.
قال: اطمئن يا مولاي، إن هذا الأمر طالما قمت بأمثاله طوعا لأمر أبيك ولم يعلم به أحد.
قال يزيد: امض الآن وأعد العقاقير واستعن بحبيبنا عبيد الله على ذلك.
فوقف الطبيب وقبل يد الخليفة وخرج، ومضى الخليفة إلى فراشه، وسار عبيد الله إلى غرفته، وسر شمر بنيل بغيته. •••
فلنترك أبا الحكم يهيئ جرعة العسل، ولنعد إلى عامر وما كان من أمره بعد خروجه من الدير، وكان قد غادره مرغما وقلبه معلق بسلمى؛ خوفا عليها مما عرضت نفسها له من الخطر العظيم. ثم قعد في مكان ظليل يشرف على المارة، حتى رأى موكب سلمى مارا إلى دمشق، فانصدع قلبه وندم على مجاراتها وخاف أن تقع في الفخ فتذهب جهودها هي الأخرى ضياعا.
ولبث في مكانه بالغوطة حتى توارى الموكب فلم يعد يستطيع صبرا، ونهض فسار إلى دمشق وهو يفكر في سبيل يدخل به دار الخليفة ليستطلع أحوال عبد الرحمن وسلمى، وما زال ماشيا حتى دخل دمشق، فتوجه إلى المسجد وهو يعلم أن دار الخليفة بجانبه، فلما أقبل على الجامع رآه مزدحما بالمصلين وقد وقف يزيد يخطبهم، فأخذ مكانه بينهم، وراح يتفرس في الوجوه لعله يرى أحدا يعرفه ليستعين به أو يسترشده، فوقع نظره على فتى قابع بجانب أحد أعمدة المسجد يسمع الخطبة. وخيل إليه لأول وهلة أنه يعرفه، ولما تفرس فيه جيدا تذكر أنه رآه في غير ذلك المكان، ثم ما لبث أن عرف أنه الفرزدق الشاعر المشهور، وكان يومئذ في أول العقد الرابع من عمره لم يتزوج من «نوار» بعد. وكان سبب معرفة عامر به أن غالبا أبا الفرزدق جاء إلى الإمام علي بعد وقعة الجمل بالبصرة (سنة 36ه) ومعه ابنه الفرزدق وكان صبيا وقال لعلي: إن ابني هذا من شعراء مصر فاسمع منه، فأجابه علي: «علمه القرآن.» وكان عامر حاضرا ذلك المجلس، ثم شاهد الفرزدق بعد ذلك بأعوام في الكوفة وقد صار شابا فذكره بما قاله الإمام فقال الفرزدق: «إن تلك الكلمة ما زالت ترن في أذني، وقد قيدت نفسي يومئذ عن الشعر فآليت ألا أقوله حتى أحفظ القرآن.»
وكان عامر يعلم أن الفرزدق يكتم تشيعه لأهل البيت، فرأى أن يستعين به، فلما انقضت الصلاة وتفرق الناس، تبعه ورآه يعرج نحو القصر، فاعترضه وأوقفه وحياه، فعرفه الفرزدق ورحب به، ودعاه إلى منزله، فلما اختليا شكا له عامر حاله وهو يبكي، فاستغرب الفرزدق حكايته وقال: ما العمل الآن؟ وما الذي أستطيعه؟ إن الأمر خطير كما ترى، ولو أن عبد الرحمن شاورني لأشرت عليه بألا يقدم على ما أقدم عليه. إن الأمر قد استتب للقوم، ولا حيلة في النجاة من أيديهم، ولن يفيدنا التمرد شيئا.
فتنهد عامر وقال: إنني لم أحبذ إقدامه على ذلك، ولكن لا خيرة في الواقع، وإنما أريد أن أصحبك إلى مجلس الخليفة فأقف ببابه في جملة الشعراء، لعلي أسمع ما يحدث لعبد الرحمن.
قال الفرزدق: أجعلك راويتي. وكان الشعراء في الجاهلية وأوائل الإسلام يصطحبون الرواة حيثما رحوا، ولك شاعر راوية يحفظ شعره ويروي له أقوال الآخرين، فإذا دخل الشاعر على الخليفة دخل راويته معه وجلسا متحاذيين. فاستحسن عامر هذا الرأي فتنكر في لباس الراوية، وخرج مع الفرزدق حتى دخلا دار الخليفة ووقفا مع الشعراء، ولم يأذن يزيد للشعراء بالدخول عليه في ذلك اليوم، وأخذ عامر يستطلع الأحوال ويتنسم الأخبار، ثم رأى عبد الرحمن لما ساقوه مغلولا للمرة الأولى، وجاء بعض من كانوا معه فقصوا عليه نبأ ما ظهر من بسالته فأعجب بذلك.
ولما استقدموه للمرة الثانية، جاء إلى عامر من أخبره بما كان من الأمر بقتله، فوقع في حيرة، وبحث عن الحجرة التي سجن فيها فعلم أنها حجرة واطئة كانت في عهد الرومانيين حماما لوالي دمشق، فأخذ يفكر في حيلة ينقذ بها عبد الرحمن، على أن يفكر في أمر سلمى بعد ذلك.
وفيما هو يعلم فكرته تذكر الشيخ الناسك، فاستأذن الفرزدق وخرج مسرعا إلى الغوطة حتى أطل على الدير فالتمس الناسك عند الجوزة، ولما سمع نباح الكلب قبل وصوله إليها استبشر وأسرع إلى الجوزة فرأى الناسك متكئا فوق حجر، ولما اقترب منه عرفه فأرخى شعره على عينيه وصاح به: أين سلمى؟
قال: إنها يا سيدي في قصر يزيد، ولا أدري ما آل إليه حالها، وإنما جئتك في أمر ذي بال لا أجد من أرجع إليه فيك سواك.
قال: قل واتكل على الله. فقص عليه حديث عبد الرحمن باختصار، ثم قال: وسيقتلونه هذه الليلة، سيقتله شمر اللعين، فما العمل؟
فظل الشيخ الناسك مطرقا ولم يجب، فسكت عامر أيضا لعلمه أن النساك وأصحاب الكرامات لهم مناجاة خاصة يستخيرون الله بها، ثم قال الناسك: ألم تعلم أين سجنوا عبد الرحمن؟
قال: إنه مسجون في الحمام القديم في قصر يزيد.
فرفع الناسك رأسه وقال: أبشر بالفرج يا عامر، ولكن يجب أن تكون رجلا وأن تكابد الخطر لإنقاذ عبد الرحمن.
فقال: إني أفديه بروحي.
قال: أتعرف الكنيسة جيدا؟
قال: وأي كنيسة يا مولاي؟
قال: كنيسة النبي يحيى التي جعل المسلمون نصفها مسجدا، وهي بجانب القصر.
قال: نعم أعرفها، وقد كنت في صباي إذا جئت مع أهلي إلى دمشق صليت فيها ونحن يومئذ على دين النصرانية مثل سائر أهل كندة.
قال: لا يخفى عليك أن أبنية الجامع والكنيسة والقصر متلاصقة متجاورة، فعليك أن تدخل الكنيسة، ولا حرج عليك في الدخول، ثم حاول أن تبقى بها إلى الليل، فإذا أمنت العيون فامش إلى جانب المحراب فتجد هناك قطعة من الرخام على هيئة أسد، فارفعها، وستجد تحتها سلما قصيرا يؤدي إلى سرداب تحت الأرض، فامش فيه متحسسا الجدار بيدك اليسرى، إلى أن تصل بعد دقائق إلى باب صغير يستطرق إلى الحمام، فإذا وفقت للوصول إليه وعبد الرحمن به فحل قيوده وعد به في نفس السرداب، واجعل يدك اليسرى دليلك أيضا، وسيطول بكما المسير، ولكن لا تخف، فإنكما ستصلان إلى مكان خارج سور المدينة، فإذا نجوتما فتعاليا إلي.
وكان الناسك يتكلم وعامر يصغي لقوله، وكأنما خامره الشك صحة كلامه، وخاف أن يعتمد على نصيحته فلا يجد سردابا ولا سبيلا وتكون الفرصة قد ضاعت.
ولحظ الناسك ذلك منه فقال: لا تشك يا عامر فيما قلته لك، ولا تظن قولي رجما بالغيب، إني أعرف المكان جيدا، وأمثال هذه السراديب كثيرة في دمشق، وأكثرها كان أقنية للماء في عهد الروم ثم اعتاضوا عنها بأقنية أخرى جديدة فظلت خالية، ولا أخفي عليك أنك قد تلقى مشقة كبيرة في اجتياز مثل هذا السرداب؛ لأنه مهجور من زمن قديم، وربما انسد بعض أجزائه أو تهدم، ولذلك قلت لك إن هذا العمل يحتاج إلى شجاعة وإقدام.
فاطمأن بال عامر وتحقق وجود السرداب، ولم يعبأ بما يحول دون المسير فيه، ونهض فقبل يد الناسك وهو لا يري وجهه، فقبل الناسك رأسه ودعا له بالتوفيق، فاستبشر عامر بدعائه؛ لإيمانه بكرامته، وأسرع إلى دمشق وسار توا إلى الكنيسة وهو يعرف مدخلها، ويسهل عليه التظاهر بالنصرانية لأنه قريب العهد بها. •••
وصل عامر إلى الكنيسة ساعة الغروب، فاشتم رائحة البخور وسمع أصوات المنشدين وهو لا يزال في صحنها، فعلم أن الناس في الصلاة فدخل في جملة الداخلين، ولم ينتبه له أحد؛ لأن كثيرين من أمثاله من نصارى البادية، وأكثرهم من عرب غسان، كانوا إذا نزلوا دمشق دخلوا كنائسها وسمعوا الصلاة فيها، وكان الغسانيون قد أسلم معظمهم على أثر الفتح. إما فرارا من الجزية وإما تزلفا إلى المسلمين، وظل بعضهم على النصرانية وأقاموا بالبلقاء وحوران، وكانوا يأتون دمشق لشراء ما يحتاجون إليه من أسواقها، ويدخلون كنائسها ليتبركوا بالصلاة.
فلما دخل عامر الكنيسة لم يستغرب أحد دخوله، فالتمس مكانا منعزلا انزوى فيه، بينما الصلاة قائمة والأناشيد تصدح والبخور يتصاعد، وراح يفكر في حاله وما هو مقتحمه من الخطر الشديد، ولم يكن يبالي بالخطر لو أنه كان واثقا من نجاح مسعاه.
ولما انتهت الصلاة، وتفرق الناس تظاهر بالنعاس والضعف، حتى خلت الكنيسة من المصلين وصعد القسيسون إلى غرفهم، فأخذ الخادم (القندلفت) يمر على الشموع ليطفئها، فتذكر عامر مهمته، ورأى ألا بد له من مصباح أو شمعة يستضيء به في السرداب، فعول على سرقة بعض الشموع التي على المذبح، ولكنه كان يخشى الخادم، وفيما هو يفكر في ذلك دنا هذا منه كلمه مستفهما عن غرضه. وكان الخادم من أهل دمشق وقد تعلم العربية، فقال له عامر: إني رجل مريض، وقد نذرت أن أبيت لليلة تحت صورة القديس يوحنا لعلي أبرأ من دائي.
فاستحسن إيمانه، ولكنه استطال إقامته معه طول الليل، فقال له: إنني مكلف بإغلاق الكنيسة قبل انصرافي.
فقال عامر: لا بأس، أغلق الباب وخذ مفتاحه معك، وأبقى أنا هنا إلى الصباح، فقد بدأت أشعر بالراحة، وعسى أن ينفعني إيماني.
فلم ير الخادم بأسا من إجابته إلى طلبه، ولا سيما أن الكنيسة ستكون مغلقة ومفتاحها معه، فجاءه بزيت من زجاجة مقدسة كان في حق أمام أيقونة العذراء ودهن به رأسه، وقال له: إن بركة العذراء ستعجل شفاءك، ثم دعا له بالشفاء، وتركه وأغلق باب الكنيسة وخرج إلى غرفته.
ولبث عامر بعض الوقت متشاغلا بالتأمل فيما حوله على ضوء المصابيح الصغيرة المعلقة أمام الأيقونات الكبرى، وكان في بعض هذه الأيقونات صورة كبيرة ظهرت له مجسمة، وزادها فراغ المكان تجسما ورهبة، فاقشعر بدنه وخيل إليه أنها أشباح حية ترقب حركاته وأبصارها متجهة كلها نحوه. ثم تذكر عبد الرحمن وما هو فيه من الخطر فهب من متكئه وأصاخ بسمعه فلم يسمع صوتا ولا حركة.
وكان قد عرف مكان قطعة الرخام التي قد وصفها له الناسك، فنهض وسار حتى وقف بقربها، وأعاد فحصها فإذا هي كبيرة وليس فيها حلقة يجذبها بوساطتها، فاستل خنجره وعاجل به مواضع اتصالها بما يجاورها، وما زال يحاول زحزحتها حتى توسم قرب اقتلاعها، فتركها وأخذ في جمع بعض الشمع ليستنير به في ذلك السرداب، وبعد أن ادخر طائفة منه في جبيه أشعل شمعة من مصباح، وانتزع قطعة الرخام محاذرا أن يسمع لذلك صوت، وما كاد يفعل حتى أحس بنسيم بارد خرج من السرداب وفيه رائحة العفونة، فاستبشر، وأمن جانب الاختناق في السرداب، ثم هبط درجات السلم الحجرية، والشمعة في يده حتى وصل قاع السرداب فغاصت قدماه في بقايا مياه وأوحال، وحام البعوض حول الشمعة، ولم يخط بضع خطوات حتى هبت نسمة قوية أطفأت الشمعة فأظلم السرداب، فرمى الشمعة ومشى يتحسس ويتلمس ويساره على الحائط وقد أحس برطوبته، وقلبه يخفق، وهو لا يسمع غير طنين البعوض، ولا يرى شيئا لشدة الظلام. تارة يغوص في الوحل، وطورا يعثر بالأحجار، حتى انتهى إلى مكان جاف فأسرع في خطاه وهو يحملق ويصيخ بسمعه لعله يرى بصيصا أو يسمع حفيفا.
وفيما هو في ذلك سمع صوتا بعيدا لم يتبينه لبعده، فأسرع السير نحو مصدره ويده اليسرى على الحائط، وما زال الصوت يقترب منه حتى عثرت رجله بحجر فوقف، وراح يتحسس الطريق بيديه، فإذا هو عند آخر السرداب وأمامه درجات لا بد له من صعودها، وقبل أن يضع قدمه على أول درجة رأى نورا ضعيفا منبعثا من شقوق باب صغير في أعلى السلم وسمع قائلا يقول: لا تهددني بالقتل، فإني لا أخاف الموت. •••
علم عامر أنه وصل إلى السجن، وعرف صوت عبد الرحمن، فصعد الدرجات حتى دنا من الباب ووضع عينيه على شق فيه، وحدق فيما هنالك فرأى رجلا واقفا كان بيده مصباح فوضعه على حجر بارز في أحد الجدران، ودنا من رجل آخر جالس والأغلال في يديه ورجليه، وتفرس عامر في الرجل الواقف فعرف من بياض برصه أنه شمر، ورأى في يده سيفا مسلولا، وعرف أن الجالس عبد الرحمن، ولم يكد عامر يراهما حتى سمع شمرا يقول: يا للعجب من وقاحتك ووقاحة ابنة عمك! أنت تقول اقتلوني لا أبالي، وكانت هي تقول كذلك، وقد قتلتها منذ لحظة، وأتيت الساعة لأقتلك، ولكنني قبل أن أخرج روحك من جسدك أطلب إليك بأمر أمير المؤمنين أن تلعن عليا، فإذا فعلت علمت أنك نادم على ما فرط منك من تعمد قتل الخليفة، فأرى ...
فقطع عبد الرحمن كلامه وقال: أتخوفني يا شمر بقتل سلمى وهي بعيدة عنكم لا تنالها أسيافكم؟!
فضحك شمر وقال: إنك جاهل مغرور، لهذا لا تصدقني. لقد جئت بسلمى إلى هذا القصر صباح اليوم ليتخذها الخليفة زوجة، وقد ماتت منذ ساعة، فإذا شئت أن تعلم كيف ماتت فاعلم أنها تجرعت السم بالعسل، وأما أنت فسأميتك بحد هذا السيف. قال ذلك وهز السيف بيده فاهتزت أعضاء عامر وتحفز لخلع الباب، ولكنه رأى شمرا قد وقف ولم يقترب من عبد الرحمن. أما هذا فلما سمع بموت سلمى صاح صيحة قوية وحاول النهوض ولكن الأغلال الحديدية حالت دون ذلك، فسمع عامر صلصلتها، ثم سمعه يقول: تبا لكم يا أهل الغدر، أتقتلون سلمى وتحسبونني أريد البقاء بعدها؟! ثم تكلفونني أن ألعن خير الناس بعد الرسول ثمنا لهذا البقاء؟! لقد قيدتم يدي ورجلي والموت أقرب إلي من حبل الوريد، ولكنني لا أخاف منه. عجل بقتلي يا شمر، لألقى سلمى في مكان لا غدر فيه ولا خيانة. ولكن، يا ليتهم اختاروا جلادا غيرك؛ لأنني أكره أن أموت بسيف نذل لئيم مثلك.
فقطع شمر كلامه وهز سيفه وأجابه بفتور وصوت منخفض وهو يبتسم: لم يختاروا غيري لهذه المهمة، وسأقتلك بهذا السيف الصقيل.
فصاح عبد الرحمن: اقتل، قتلك الله. لو أنكم أبقيتم على سلمى لكنت آسف على الحياة من أجلها، ولكنكم ألحقتموها بأبيها، فألحقونى بهما. آه يا سلمى! قتلوك بلا رحمة. آه ما أقسى قلوبهم! اقتلني يا شمر، ولكن تمهل قليلا. دعني أندب سلمى. أعوذ بالله من شروركم! كيف تقتلون فتاة طاهرة؟! أما تخافون الله؟! أما تخافون يوم الحساب؟!
فابتدره شمر قائلا: لقد كنت عازما على استبقائك برهة لأتلذذ بعذابك ولكنني أراك تطلب البقاء لتندب حبيبتك فما أنا مبق عليك، وها أنا ذا قاتلك الساعة فاختر لك موتة. قال ذلك ووخزه برأس السيف في كتفه وهو يقهقه، فصاح فيه عبد الرحمن: اضرب يا شمر، اقتل، اضرب عنقي. قال ذلك وحرق أسنانه ثم قال: آه! لولا خوفي من أن تظن بي الخوف من الموت لاستمهلتك لأندب سلمى. •••
كان عامر ينظر ويسمع، فلما سمع بمقتل سلمى وكان يحسبها في أمان، ورأى ما رآه من شمر، خاف أن يسبقه بالسيف فيقتل عبد الرحمن فتتضاعف المصيبة، فأسند ظهره إلى الباب وتجمع بكليته وخنجره مسلول بيده ورفس الباب رفسة كسره بها، ووثب حتى وقف في وسط الحجرة، فأجفل شمر ووقع السيف من يده ثم هم بأن يلتقطه، فابتدره عامر بالخنجر وطعنه في جنبه، فوقع يتخبط في دمه ولكنه لم يمت، وتحول عامر إلى عبد الرحمن وحل قيوده وكسرها وعبد الرحمن مأخوذ يحسب نفسه في منام ولا يدري ما يقول، ولم يزد عامر على قوله: لا تخف يا عبد الرحمن، جاءك الفرج، وأخذ في حل القيود ولم يبق في الحجرة صوت غير أنين شمر وهو ملقى على الأرض.
فلما فرغ عامر من حل القيود قال له: اتبعني. وعاد إلى السرداب، فمشى عبد الرحمن في أثره، فقال له عامر: امسك بذيل ردائي بيمينك وتحسس الحائط باليسرى، ففعل ومضى في أثره وهو ما زال مأخوذا، فقضيا في السرداب زمنا طويلا ولم يخرجا إلى النور، فظن عامر أنه أخطأ الطريق، ثم أحس بانحباس الهواء عنهما وضاق تنفسهما، فحدثته نفسه أن يعود، ثم تذكر الناسك وما أنذره به مما سيلاقيه من المشقة والخطر فاستمر في طريقه حتى اشتد بهما الضيق وأوشكا أن يختنقا من كثرة العفونة وقلة الهواء، ولحظ عبد الرحمن حيرته، فقال له: لا تأسف على حياتنا يا عماه. لا بأس من موتنا معا في هذا السرداب لا يعلم بنا أحد؛ فإني لا أرى الحياة عزيزة بعد موت سلمى، وأما أنت ...
فابتدره عامر قائلا: وأنا لا أحب البقاء بعدكما، ولكنني لا أريد أن نموت قبل الانتقام من هؤلاء الأشرار، وا أسفاه! أرانا مشرفين على الموت إذا لم يدركنا منفذ نتنفس منه الهواء.
فقال عبد الرحمن: دعنا نمت يا عماه. يا ما أحلى الموت؛ فإنه يقربنا من حجر وابنته. لا تأسف على الحياة بعدهما، ولكنني أحب قبل الممات أن أعلم كيف قتلوها وما الذي أوصلها إليهم وكيف وقعت في الفخ؟
فقص عليه عامر كل ما وقع له مع سلمى من بعد ذهابه، وعبد الرحمن يعجب بشهامتها ويتنهد ويحرق أسنانه حتى أتى على آخر الحديث.
وفيما هما في تلك الحال سمعا دقا على سطح السرداب فوقهما كأنه نبش بالمعاول، فقال عامر: إني أسمع نبشا فعسى أن يكون الله قد فتح علينا، فأصاخا بسمعيهما وإذا بصوت النبش يتعاظم، وبعد قليل رأيا التراب يتساقط عليهما فتقهقرا إلى الوراء، ثم انفتحت كوة في السقف دخل منها نور ضئيل كأنه نور الفجر، وجرى النسيم فانتعشا، فقال عامر: لقد فتح الله علينا بابا للفرج، وهما بالمسير فسمعا جلبة وفيها صوت رجل يقول لرفيقه: إنهم أبوا إلا أن يدفنوها في هذا الفجر، وما ضرهم لو صبروا إلى الصباح؟!
فأجابه الآخر: يظهر أنك لم تفهم السر يا أحمق؛ ألا تعرف عادة الخليفة في مثل هذه الحال؟
قال: وما هي عادته يا فصيح؟
قال: إن هذه المسكينة لم تمت حتف أنفها، ولكنهم أماتوها بالسم وأظهروا أنها ماتت بالمرض، وكم من مرة قمت بمثل هذه المهمة في أيام معاوية؛ فقد كان أكثر ارتكابا لهذا المنكر، وكلما أراد قتل رجل سقاه قدحا من العسل وأمر بدفنه، والناس يحسبونه مات بعلة، ولكنه قلما صنع ذلك بالنساء.
فقال ذاك: وما عسى أن يكون من أمر هذه الفتاة وهي عروس الخليفة، ولم تأت قصره إلا في صباح الأمس؟
فأجابه الآخر وقال: ما لنا ولكثرة الكلام؟ دعه يقتل من أراد ونحن نحفر القبور، والله يجزي على الذنوب.
وكانا يتكلمان وينبشان، فما أحسا إلا والمعول وقع في السرداب فصاح أحدهما: إني أراني فوق بئر وأخاف أن يصعد إلينا منها عفريت أو جان. •••
أدرك عامر لما سمع الحديث أنهما صارا تحت المقبرة خارج المدينة، وأنهم يحفرون قبر سلمى، وعلم عبد الرحمن ذلك أيضا فأحب أن يتكلم، ولكن عامرا أمسك بيده وأشار إليه أن يسكت ريثما يخرجان من السرداب، فسكت عبد الرحمن ولكن الرطوبة والهواء غلبا عليه فعطس عطسة دوى لها السرداب، فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: ألم أقل لك إن المكان مسكون؟ هيا بنا قبل أن تدركنا العفاريت. قال ذلك وفر، وتبعه رفيقه، ولم يمض قليل حتى ساد المكان سكون تام، فمشى عامر وعبد الرحمن حتى خرجا من السرداب، وتلفتا فإذا هما في مقبرة خارج المدينة وقد لاح الفجر، فأسرعا بالخروج من المقبرة وعبد الرحمن يود البقاء ليرى سلمى ولو ميتة، وعامر يلح عليه بالخروج لئلا تدركهما الشرطة، ويهون المصيبة عليه، حتى إذا بعدا عن المدينة وأوغلا في الغوطة لجآ إلى شجرة في مختبأ، وقال عامر: ارجع يا بني إلى رشدك واصبر إن الله مع الصابرين، هيا بنا إلى الشيخ الناسك فإنه في انتظارنا قرب الدير فوق قبر حجر.
فقال عبد الرحمن: وسلمى؟ أأتركها؟! أتركها وحدها بين هذه القبور؟ قال ذلك وغلب البكاء عليه ، فشاركه عامر في البكاء ولكنه تجلد وقال له: اصبر يا عبد الرحمن وتدبر الأمر بالحكمة. إن بقاءنا هنا أو ذهابنا إلى المقبرة أو رجوعنا إلى الشام لا يفيد شيئا، والحق أني كنت في شك من مقتل سلمى، وكنت عازما على البحث عنها، ولكن ها قد تحققنا وقوع المصيبة فلم تبق لنا فائدة من البحث، وعلينا أن نصبر صبر الرجال حتى نشفي غليلنا بالانتقام.
فقال عبد الرحمن: نعم، لا بد من الانتقام، ولكن كيف؟ إني لا أرضى الانتقام لسلمى إلا بقتل قاتلها الذي يسمي نفسه خليفة. إن قتله والله عوض قليل عن سلمى حبيبة قلبي وروحي وابنة عمي. آه يا سلمى! وكيف أتركها تدفن وأنا حي، وهي إنما استقبلت الموت من أجلي، ولولاي لم تدخل قصر يزيد ولا أصابها ما أصابها؟! ولقد كان موتها سببا لنجاتنا من الموت، فلولا أنهم جاءوا لحفر قبرها لكنا قبرنا قبلها في السرداب، آه يا عماه ليتني قبرت وكان قبري تحت قبرها. لنكون متجاورين وتختلط عظامنا وتمتزج بقايانا كما امتزجت روحانا.
قال ذلك وخنقته العبرات، فتركه عامر ينفس عن نفسه بالبكاء، وبكى هو الآخر شجاعة سلمى وحسن أخلاقها ما شاء، وبعد قليل عاد إلى التخفيف عنه فقال: إن سلمى تستحق أكثر من هذا، ولو قتلنا أنفسنا عليها ما وفيناها حقها، ولكن هذا يسر أعداءنا، وخير منه أن نتدبر الأمر بالحكمة ونسعى للانتقام بتعقل ودراية؛ لنظفر به ونرضي روح سلمى في قبرها. قال ذلك وتذكر ما أوصته به لما فارقها في الدير فالتفت إلى عبد الرحمن وقال: أعرني سمعك لأبلغك وصية سلمى لك يوم سارت إلى يزيد.
فقال: قل، حدثني عن سلمى، ماذا قالت؟
قال: لما ودعتها في ذلك اليوم قالت لي: إذا أنا مت وبقي عبد الرحمن حيا فحيه وقل له إن سلمى آثرت الموت في سبيل حبك على البقاء بعدك، وإذا بقيت أنت حيا فإن عظامها تتهلل في أعماق القبر.
فصاح عبد الرحمن: أتموت هي في سبيل حبي وأراهم يحفرون قبرها ثم أهرب؟!
قال عامر : لقد ذكرت سلمى أن بقاءك حيا بعدها يفرح قلبها وهي في القبر، فهيا بنا إلى الشيخ الناسك نستشيره، فإنه والله ذو فضل علينا، ولولاه ما وفقت إلى إنقاذك، وإني لا أشك في أنه من الصالحين.
وسار عامر وعبد الرحمن في أطراف الغوطة بحيث لا يشعر بهما أحد حتى اقتربا من الجوزة، فرأيا الناسك راقدا فوق قبر حجر، وقبل وصولهما نبح الكلب فجلس الناسك وتطلع فلما رآهما قادمين أرخى شعره على وجهه ونادى عبد الرحمن فلباه وهو يبكي ويقول: ما بالك لا تسألنا عن سلمى؟
فوقف الناسك وصاح: ماذا صنعوا بها؟ لا، لم يقتلوها.
فقال عبد الرحمن: صدقت، إنهم لم يقتلوها بالسيف، ولكنهم قتلوها بالعسل.
فأطرق الناسك ويده على لحيته وهو ينتفض ويرتعد وقال: من أخبركم بذلك؟ فقص عليه عامر كل ما علماه.
فقال: إن الله لا ينصر القوم الظالمين.
فقال عبد الرحمن: أرشدنا يا شيخنا. إننا لا نرى سبيلا إلى الحياة بغير الانتقام. آه ما أحلى الانتقام.
فبهت الشيخ هنيهة ثم قعد وهو يقول: اخرجا من هذه البلاد، لم يبق لكما فيها مأرب.
قال عبد الرحمن: كيف نخرج منها وقد دفنوا سلمى فيها؟
قال: اخرجا إلى شركائكما في الثأر. اخرجا إلى مكة؛ فإن فيها ابن بنت الرسول، وهو المطالب بالخلافة، وهي حق له وحده. اذهبا إليه على عجل وانصراه، فإذا فاز بالخلافة فقد تم لكما الانتقام. إن البقاء هنا لا يجديكما نفعا، والأمر أعظم مما تظنان.
فقال عامر: وكيف ذلك يا مولاي، ماذا حدث؟
قال: قد علمتما أن يزيد لما مات أبوه وقام يدعو الناس إلى بيعته كان الحسين في المدينة ومعه غيره من أبناء الصحابة وفي جملتهم عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان عامل معاوية على المدينة يومئذ ابن عمه الوليد بن عقبة، فكتب إليه يزيد بموت معاوية ويطلب إليه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبد الله بن الزبير، فجاءه الكتاب وعنده مروان بن الحكم فاستشاره في الأمر فقال مروان: «أرى أن تدعوهما الساعة وتأمرهما بالبيعة.» فبعث إليهما وكانا في المسجد، فلما وصل إليهما الرسول وأخبرهما بطلب الوليد قالا: «انصرف الآن وسوف نلحق بك.» ثم قال ابن الزبير للحسين: «ترى فيم بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟» فقال الحسين: «أظن طاغيهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ منا البيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر.» قال عبد الله: «فماذا أنت صانع؟» قال الحسين: «أجمع أصحابي الساعة ثم أمشي إليه، وأجلسهم على الباب وأدخل عليه.» قال عبد الله: «إني أخاف عليك إذا دخلت.» قال الحسين: «لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.» ثم قام وجمع إليه أصحابه وأهل بيته حتى أقبل على الوليد وقال لأصحابه: «إني داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم.» ثم دخل الحسين على الوليد ومروان عنده، فسلم وقال مروان: «الصلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما.» وجلس الحسين فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية ودعاه إلى بيعة يزيد، فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال: «أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سرا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا.» فقال الوليد وكان يحب المسالمة: «انصرف.» فقال مروان للوليد: «إذا فارقك الساعة ولم يبايع ما قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، أحبسه فإما بايع وإلا ضربت عنقه.» فوثب عند ذلك الحسين وقال: «يا ابن الزرقاء، أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله.» ثم خرج حتى أتى منزله، فقال مروان للوليد: «عصيتني، لا والله لا يمكنك منه نفسه بمثلها أبدا.» فقال الوليد: «والله يا مروان ما أحب أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأن أقتل حسينا إن قال لا أبايع، والله إني لا أظن من يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.» قال مروان: «قد أصبت.» قال هذا وهو غير حامد له رأيه.
أما عبد الله بن الزبير فلما أتاه رسول الوليد أجاب بقوله: «الآن آتيكم.» ثم أتى داره فتمكن فيها، ولما بعث إليه الوليد وجده قد جمع أصحابه واحترز، فألح عليه الوليد وهو يقول: «أمهلوني.» فبعث إليه الوليد مواليه فشتموه وقالوا له: «يا ابن الكاهلية لتأتين الأمير أو ليقتلنك.» فقال لهم: «والله لقد استربت بكثرة الإرسال، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه.» فبعث إلى أخاه جعفر بن الزبير، فقال جعفر للوليد: «رحمك الله، كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته، وهو يأتيك غدا إن شاء الله، فمر رسلك فلينصرفوا عنه.» فبعث الوليد إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريقه إلى مكة هو وأخوه ليس معهما ثالث، فسرح الوليد الرجال في طلبه فلم يدركوه، فرجعوا وتشاغلوا عنه بالحسين ليلتهم، فقال لهم الحسين: «أصبحوا ثم ترون ونرى.» فكفوا عنه، فسار من ليلته وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته، وكان ذلك بعد ليلة من خروج ابن الزبير.
وقبل أن يخرج الحسين من المدينة أشار عليه أخوه محمد ابن الحنفية أن يدعو الناس إلى بيعته ويصبر على ذلك، فلما أتى مكة تقاطر إليه الناس ليبايعوه، ولكن بعض الناس أشاروا عليه أن يقدم الكوفة ويستنصر أهلها، وأشار عليه آخرون بالبقاء في مكة يستظل بالحرم؛ لأن أهل الكوفة لم يخلصوا في نصرة أبيه من قبله، وأظنه بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليرى رأي أهلها في قدومه إليهم، فإذا تمت له بيعتهم وجاء الكوفة فسيبايعه العراق والحجاز فيتم له الأمر ويفشل يزيد، وفي فشله انتقام كاف لكما، فاذهبا إلى مكة وانصرا الحسين؛ فإنه أولى الناس بهذا الأمر، والله ينصركم أجمعين.
فلما سمعا قوله استحسناه ونهضا، فقبل رأسيهما مودعا دون أن يريا وجهه، وأوصاهما بسرعة الخروج من الشام لئلا يعلم بهما يزيد أو أحد رجاله.
الفصل الثاني عشر
سلمى لم تمت
فلنترك عامرا وعبد الرحمن في طريقهما إلى مكة، ولنعد إلى دمشق لنرى ما حدث لسلمى بعد أن أمر يزيد بتجريعها العسل، وذلك أن الخليفة لما افترق عن عبيد الله والطبيب وسار يلتمس فراشه مر بالحجرة التي كانت سلمى فيها، وكانت العجوز واقفة بالباب تنتظر أمره، فأشار إليها أن تنقلها إلى المقصورة وتحتفظ بها هنالك.
وكانت سلمى بعد خروج عبيد الله بن زياد من عندها قد أيقنت بفشلها وتحققت وقوعها في الشرك. ولكنها أصبحت لا تبالي بالحياة بعد ما سمعته عن مقتل عبد الرحمن، على أنها كانت تود أن تنتقم له قبل موتها، وراجعت ما مر بها من الأهوال في تلك الليلة فرأت أنها لو أطاعت يزيد وسايرته فيما التمسه منها من لعن علي لتمكنت من الفتك به، ولكنها رأت تلك المداهنة فوق طاقتها وعلى غير السجايا التي فطرت عليها، فلم تندم على ما صنعته.
وفيما هي تردد التصورات في ذهنها، دخلت العجوز واستأذنتها في اصطحابها إلى المقصورة، فأطاعتها وهي لا تبالي بما هنالك من الموت والحياة، فمشت في أثرها حتى صعدتا إلى المقصورة، فظلت العجوز بالباب، ودخلت سلمى وجلست على الفراش، ونظرت إلى ما بين يديها من آنية الخمر والشموع والفاكهة، وتذكرت جلوس يزيد إلى جانبها وما دار بينه وبينها من الحديث، وكيف أنها بعد أن كادت تصيب مرماها منه عادت العائدة عليها. ثم تذكرت حبيبها مقتولا يتخبط في دمه فاقشعر بدنها، واشتدت حيرتها.
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام على السلم فخفق قلبها خفوقا سريعا ولبثت تترقب ما يكون، وإذا برجل دخل المقصورة وعليه العباءة والعمامة وفي يده قدح، وكان هو الطبيب، فلما رأته أطرقت وظلت صامتة، فدنا منها وقدم لها القدح وهو يقول: اشربي هذا العسل بأمر أمير المؤمنين؛ فإنه قد ينعشك.
فأدركت أنه مسموم فتناولته ويدها ترتعش وقالت: سأشربه وأنا أعلم أنه سم قاتل.
قال: كيف تقولين إنه سم وأنا أقول لك أنه عسل؟!
قالت: أنا أعلم أنه سم، وأرجو أن يكون كذلك؛ لأنه إذا أماتني أراحني من هذه الحياة، فقل إنه سم ليطمئن قلبي، واعلم أني لاحقة بأبي وابن عمي على عجل. قالت ذلك وخنقتها العبرات.
فتأثر الحكيم بكلامها، ولكنه كان قد تعود إخفاء شعوره فتظاهر بالاستخفاف وقال: اشربيه مهما يكن من أمره؛ إذ لا بد من شربه.
فرفعت يدها وهي قابضة على القدح وقالت: إني أشرب هذا السم باسم الله، وأرجو أن يلحقني بالإمام علي وأن يقربني من أبي وابن عمي، ثم نظرت إلى القدح وقالت: بورك فيك من دواء! إني أشربك باسم الحق والعدل، وأطلب من الله أن ينتقم لي ولأبي ولابن عمي من ذلك الظالم. وأدنت القدح من فمها ثم أرجعته وقد غلب عليها الضعف ونظرت إلى ما حولها كأنها تودع الدنيا وما فيها، ثم قالت: هلا أريتموني عبد الرحمن ولو مقتولا؟ بالله أروني إياه قبل موتي لأبكيه وأندبه. أيموت عبد الرحمن على قيد أذرع مني ولا أراه؟ أهذا عهدي بك يا عبد الرحمن؟ أين أنت وكيف قتلوك؟ هل قتلوك بالعسل أم بالسيف؟ تعال وانظر خطيبتك وهي تتجرع السم بلذة وشوق لأنه سيجمعها بك. هل علمت قبل موتك أنك ستلاقيني عاجلا؟ هل أنبئوك قبلما قتلوك بأنهم سيقتلونني الآن؟ ليتهم أخبروك لتتأسى بقرب لقائي.
ثم وقفت وقد هاجت عواطفها وتبدلت حالها وظهر الهياج في عينيها وقالت: هل قتلوك حقيقة؟ لا. لا. لم يقتلوك. أظنهم أشفقوا على شبابك؟ ولكنهم قوم طغاة لا يعرفون الشفقة، لولا ذلك ما استهانوا بالنبي وقتلوا نخبة الصالحين من أهل بيته، فلا غرو إذا قتلونا. ثم سكتت قليلا وقالت: ترى أين أنت يا عماه؟ هل علمت بمصيري؟ وهل تذكر وصيتي؟ ماذا يكون من أمرك إذا سمعت بمقتلي ومقتل عبد الرحمن؟ هل أنت ذاكر وعدك؟ امض إلى تربة أبي وابكه عني واسكب عليه الدموع ومزق الضلوع، بل ابك الإسلام وأندب المسلمين لما أصابهم من الحيف بخروج الخلافة إلى هؤلاء الظالمين.
وكانت تتكلم والطبيب واقف لا يبدي حراكا، وقد ظل صامتا وهو ينظر إليها ويعجب بشهامتها وقوة عارضتها.
أما هي فأدنت القدح من فمها ثانية ونظرت إلى ما فيه، ثم التفتت إلى الطبيب وقالت: أخشى أن يكون السم قليلا لا يكفي لقتلي فأتعذب فإذا كان قليلا فأضف إليه سما آخر.
فقال الحكيم بهدوء: اشربي يا بنية ولا تطيلي الكلام، فقد نفد الوقت وفات الأجل الذي ضربه الخليفة لي.
قالت وهي تهز رأسها وتحرق أسنانها: أتخاف هذا الظالم ولا تخاف الله؟! أتركب العقاقير القتالة لقتل الأبرياء ثم تخاف من لوم يزيد إذا تأخرت في قتلهم؟! ولكنكم تضافرتم على الظلم وتحالفتم على الخيانة، ويل لكم من مشهد يوم عظيم، في مكان لا ينفعكم فيه سلطانكم ولا جنودكم. يوم تأتي الساعة وينفخ الصور وتقفون بين يدي الديان العظيم.
فقطع الطبيب كلامها وقال: لا تكثري الكلام واشربي القدح عاجلا.
فقالت: إنى أشربه ولا أخاف منه؛ لأنه ترياق لمصابي، ولكني أريد أن أرى عبد الرحمن، فأين هو؟ آه! قتلتموه. نعم قتلتموه، ولكن ماذا فعلتم بذلك الجسد الطاهر: هل مثلتم به؟ وهل دفنتموه؟ آه إني أرى أعضاءه تختلج ودمه يجري، وكأني أسمع شخيره في أذني. ترى هل ذكرتني يا عبد الرحمن قبل موتك؟ هل ذكرت سلمى وتمنيت أن تراها قبل موتك؟ يا ليتهم قتلونا معا ودفنونا في قبر واحد فتمتزج دماؤنا وتختلط عظامنا، ويا ليتهم يدفنوننا بجانب قبر أبي، فنشكو له ما لقيناه وما يقاسيه المسلمون وما يتوقعه الإسلام من الفوضى، ولكننا سنلتقي به عما قليل في مكان لا وشاية فيه ولا ظلم ولا رياء، لقد أزفت الساعة وآن لي أن ألقاهما. أستودعك الله أيها العالم الفاني، أستودعك الله أيتها الحياة الزائلة، إنك مملوءة شرا، ولا عدل فيك ولا حق. ثم أدنت القدح من فمها وهي تقول: أشرب هذا الكأس باسم الله. وشربته جرعة واحدة ويدها ترتجف، ثم استلقت على الفراش وهي تتلو الفاتحة وتردد اسم عبد الرحمن. •••
لم تمض برهة حتى غابت سلمى عن الدنيا وشفاها ترتجفان كأنها تخاطب عالم الأرواح، وقد امتقع لونها وبردت أطرافها، فخرج الطبيب وأغلق الباب، ونزل، وكانت العجوز قد نزلت ساعة دخوله.
أما هو فظل سائرا إلى غرفة عبيد الله بن زياد وكان في انتظاره على مثل الجمر ، فدخل عليه وأغلق الباب وراءه، فقال له ابن زياد: ماذا فعلت أيها الطبيب؟
قال: لقد سقيتها العسل.
قال: وهل فعلت ما وعدتني؟
فضحك وقال: وماذا وعدتك به؟
قال: ألم أطلب إليك أن تضع بدل السم مخدرا، وجعلت لك جعلا على هذا؟
قال وهو يضع يده على كتف عبيد الله: نعم إني وعدتك بذلك، وهكذا فعلت، فالفتاة لم تمت، ولكنها نائمة، ومد يده إلى جيبه وأخرج قارورة وقال: وإليك هذا العقار في هذه القارورة فإذا سقيتها إياه أفاقت، ولكن احذر أن تبقيها هنا بعد يقظتها فيعلم بها أمير المؤمنين وتدور الدائرة علي.
قال: لا تخف، وسأخبر الخليفة بموتها وأبعث من يحفر قبرها، ثم أبعثها إلى مكان خارج المدينة وهي نائمة كأنها محمولة إلى القبر، ومتى استفاقت أبقيتها خارج دمشق حتى أسافر فأحملها معي ولا يعلم بها أحد سواي، وأنا لم أود استبقاءها إلا أملا في إرجاعها عن غيها. فإذا فعلت ذلك رضي أمير المؤمنين عني وعنك، وشكرنا على صنيعنا؛ لأنه فتن بجمالها، ولولا غضبه لم يأمر بقتلها، ولا شك في أنه إذا أصبح ندم على ما فعل. أما أنت فاكتم الأمر ولك مني فوق ما أعطيتك.
فشكره الطبيب وانصرف، وكان عبيد الله بعد أن أمر يزيد بقتل سلمى قد خلا بالطبيب وأغراه بالمال الكثير لكي يبدل بالسم مخدرا، ثم يحتال لإخراج سلمى إلى مكان منفرد بدلا من دفنها، وهناك يحاول استرضاءها لعلها تقبله زوجا لها، وكان ما زال عالقا بها.
فلما أخبره الطبيب بما فعله، سار توا إلى يزيد وأنبأه بموتها فقال له: ابعث من يدفنها قبل طلوع النهار، فأمر اثنين من رجاله أن يكفناها وبعث آخرين لحفر القبر، وأوصى الأولين بأن يحملاها إلى مكان منفرد خارج المدينة حالا، وتظاهر بأنه أرسلها إلى المقبرة.
وعاد اللذان حفرا القبر قبل الفجر مذعورين لما رأياه من خروج عامر وعبد الرحمن وهما يحسبانهما عفريتين، فقصا الخبر على عبيد الله، فأمرهما أني يقصاه على الخليفة لعله يستطيع الاستعانة بذلك إذا علم الخليفة ببقائها حية فيما بعد، ففعلا.
الفصل الثالث عشر
إلى الكوفة
في صباح اليوم التالي أبطأ يزيد في الخروج إلى المجلس؛ لأنه قضى ليله ساهرا فنام في الصباح ولم يستفق حتى الظهر، فجاء إلى المجلس وعبيد الله غائب، ولم يكد يستتب به المجلس حتى دخل عليه الحاجب يقول: إن بالباب رسولا من الكوفة.
قال: فليدخل.
فدخل رجل عليه علامات السفر وبيده كتاب، فسلم ودفع الكتاب إلى يزيد، فتناوله وفضه فإذا هو من عبد الله بن مسلم أحد أنصار بني أمية في الكوفة، فقرأه وإذا فيه بعد البسملة:
إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، من عبد الله بن مسلم. أما بعد: اعلم يا أمير المؤمنين أن الناس في الكوفة والبصرة قد ضعف أمرهم بضعف أميرهم النعمان بن بشير؛ فقد وليته الكوفة وهو رجل ضعيف، أو هو يتضاعف، حتى كاد الأمر أن يفضي إلى أعدائنا. فإذا كان لك حاجة إلى الكوفة فأرسل إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، وتفصيل الخبر أن أهل الكوفة لما بلغتهم وفاة معاوية رحمه الله، وامتناع الحسين وعبد الله بن الزبير عن البيعة، أرجفوا بأمير المؤمنين واجتمعت شيعة علي في منزل أحد كبارهم، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه كتابا قالوا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليك، فإننا نحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي اجترأ على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وسيروا هذا الكتاب إلى الحسين في مكة، وبعثوا إليه كتبا أخرى في مثل ذلك، وكان جملة ما أرسل من هذه الكتب نحوا من مائة وخمسين صحيفة، وأرسلوا إليه رسلا عديدين فجاءهم من الحسين كتاب قال فيه: «أما بعد : فقد فهمت كل الذي قصصتم، وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه اجتمع رأي ملتكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والقائم بالقسط، والدائن بدين الحق. والسلام.»
وقد حدث مثل ذلك يا أمير المؤمنين في البصرة أيضا، وقد جاء مسلم إلى الكوفة بعد أن قاسى في طريقه عذابا عظيما من العطش، ونزل بدار أحد شيعة الحسين، وصار الناس يختلفون إليه وهو يقرأ عليهم كتب الحسين فيبكون ويعدونه بالقتال معه، فلما بلغ النعمان بن بشير صعد المنبر وقال: «أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وإني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لم يثب علي، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف والظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولا يكن لي منكم ناصر ولا معين. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر مما يريد به الباطل.»
فلما رأينا كلامه لا يفيد القطع ولا يدل على الحزم، قام إليه واحد منا وقال له: إن هذا لا يصلح إلا الغشم، وأنه رأي المستضعفين، فما كان جوابه إلا أن قال: «لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصيته.» فزادنا قوله خوفا منه، فكتبت هذا ليكون أمير المؤمنين على بصيرة، ويعلم أن ابن بشير لا يصلح لهذا الأمر، فأرسل إلينا من يعمل مثل عملك والسلام.
فلما قرأ يزيد الكتاب اضطرب وتشاءم مما ارتكبه بالأمس، وخيل إليه أنه أذنب بقتل سلمى وهي فتاة، وندم على فعله وأراد صرف مجلسه ليخلو ببعض خاصته فقال: على بركة الله، فعلم أرباب المجلس أنه يريد صرفهم، وكانت تلك عادته كلما أراد ذلك، فانصرفوا، ثم بعث على سرجون، وهو رجل رومي ذو دهاء وحكمة كان معاوية يعتمد عليه في شئونه ويستشيره في أموره حتى جعله كاتبه، فلما مات معاوية ظل يزيد على الثقة به، فلما جاءه أطلعه على الكتاب فأطرق هنيهة ثم قال: أرأيت إذا نشر معاوية هل تأخذ برأيه؟
قال: نعم.
فمد سرجون يده إلى جيبه وأخرج كتابا وقال: خد هذا.
فأخذه يزيد وقرأه، فإذا هو عهد لعبيد الله بن زياد يوليه به الكوفة.
فقال يزيد: ما هذا؟
قال: هذا رأي معاوية، إنه مات وقد أمر بهذا الكتاب.
فاستحسن يزيد الرأي، وعزم على أن يولي ابن زياد الكوفة والبصرة، فنادى الحاجب وسأله عن عبيد الله، فافتقده في القصر فلم يجده، فصبر يزيد حتى جاء به، ودخل وسلم، ثم دفع إليه كتاب عبد الله بن مسلم، ولم يقل شيئا.
فتناول ابن زياد الكتاب وقرأه حتى أتى على آخره وسكت مطرقا، ثم دفع إليه يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة، فلما قرأه قبله ووضعه على رأسه وقال: إني صنيعة أمير المؤمنين ويده التي يحارب بها وسهمه الذي يرمي به أعداءه.
فقال له: سر إلى الكوفة وأصلح أمورها، وامنع أولئك الناس منها، وكن لي كما كان أبوك لأبي.
فقال: سمعا وطاعة، وقد سره ذلك لتمكنه من الخروج من دمشق عاجلا، فيخلو له الجو لاسترضاء سلمى، وكان قد بعث بها خفية قبل الفجر إلى بيت منفرد في أطراف الغوطة كما تقدم، ثم سار هو في الصباح إليها وسقاها العقار الذي أعطاه إياه الطبيب وانزوى في مكان هناك لمراقبتها، فلما أفاقت ورأت النور ظلت برهة مبهوتة لا تدري ما تقول، وعبيد الله لا يخاطبها، وفي اعتقاده أنها إذا أفاقت ورأت نفسها حية تعترف له بالجميل، فلما أفاقت تبادر إلى ذهنها لأول وهلة أنها بعثت من الموت وأنها في العالم الثاني فصاحت: أين عبد الرحمن؟ أين هو؟ أروني إياه، هل أنا في النعيم؟ عبد الرحمن! عبد الرحمن!
فضحك عبيد الله، ولما سمعت ضحكته التفتت إليه وهي تفرك عينيها بأناملها، وحالما رأته صاحت: أنت هنا يا لئيم! إني إذن في الجحيم. اذهب من وجهي.
فدنا عبيد الله منها وأمسك بيدها وقال: أنت في هذه الدنيا يا حبيبتي، وقد استبقيتك شفقة عليك.
فجذبت يدها من يده وصاحت: اخسأ يا نذل، إني لا أريد الحياة إلا إذا كان عبد الرحمن فيها. اقتلني اقتلني. قتلك الله أشفق علي واقتلني.
فعذرها لتهيجها وقال لها: إني أعاملك بما تستحقينه لأنك جاهلة، وسأصبر عليك ريثما تملكين روعك، وأنت أسيرة بين يدي لا ينجيك من غضبي غير الرضا والإذعان، فامكثي هنا حتى ترجعي إلى رشدك أو تموتي. قال ذلك وتركها، وأمر الرجلين أن يحرساها ريثما يعود.
فلما رجع إلى دمشق وقدم له يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة كما قدمنا واستبشر بنيل مرامه على مهل، وعلل نفسه باسترضائها في أثناء الطريق إلى الكوفة. •••
قضى عبيد الله بضعة أيام يتأهب للمسير وأعوانه يهيئون الأحمال خارج دمشق، وفي جملتها هودج حمل سلمى فيه على جملين، وأقام عليها خادمين يحرسانها ويقدمان لها الطعام والماء، وكانت في بادئ الرأي لا تقبل طعاما ولا شرابا التماسا للموت جوعا وعطشا حتى نحل جسمها وامتقع لونها، ولكن الحياة عزيزة لا يتعمد المرء فقدها عن روية، ولكنه إذا أصيب بضنك شديد قد يؤثر الموت على الحياة في حال غضبه، فإذا طال اصطباره فإنه يحن إلى البقاء ويلتمس لحنينه عذرا يحبب الحياة إليه، فلما مضى على سلمى يومان بلا أكل ولا شرب ورأت الموت لا يتهيأ لها على هذا السبيل إلا بعد العذاب الطويل، عادت تلتمس البقاء وعذرها في التماسه أن تعمل على الانتقام من سبيل آخر لا خطر فيه على حياتها.
وكانت قد علمت من قرائن الأحوال أنهم سائرون بها إلى الكوفة، وأن الحسين سائر إليها أيضا، والناس في الكوفة على دعوته، فتوسمت في البقاء خيرا، وأملت أن تنتقم لأبيها وخطيبها، فجعلت تتناول من الطعام والشراب ما تسد به رمقها.
وكان عبيد الله في أثناء مسير الركب يتردد على سلمى، تارة يستعطفها ، وطورا يهددها، وآونة يؤملها وأخرى يخوفها، وهي ترفض رفضا باتا، وكثيرا ما كانت تسمعه كلاما مؤلما، وهي تعلم أن الجفاء لا يجديها نفعا، وأنها لو عاملته بالحسنى واستخدمت اللين والدهاء لنالت بغيتها. ولكنها لم تكن تستطيع التغلب على أنفتها، وكانت من الجهة الأخرى تخاف إذا لاينته أن تطمعه فيما تخافه وتنفر منه.
قضت في مثل ذلك خمسة أيام والركب سائر في الصحراء، في أرض لا عمارة فيها ولا مياه إلا بعض الآبار، وسلمى تشغل نفسها في أثناء الطريق بالإشراف من الهودج على ما يحيط به من السهول القاحلة والرمال الحمراء، على أنها كثيرا ما كانت تتحاشى شق الستور فرارا من الرياح الحارة وما تحمله من الرمال.
وفي صباح اليوم الخامس. اخترقوا بقعة منبسطة أدهشها منظرها حتى نسيت ما هي فيه، وكانت مساحة البقعة بضعة أميال، وقد غطتها أبنية خربة وفيها الجدران العالية والأساطين الشامخة والأسوار الغليظة بين متهدم ومتداع، وقد استولى عليها السكون وتمكن منها الخراب كأنها جثث بالية أو عظام أكلها الدود، على أن حجارتها كانت تنطق بأجلى بيان عما كان هنالك من العظمة وشدة البطش في قديم الزمان.
تلك خرائب تدمر الطائرة الصيت، تدمر العظيمة التي زهت في أوائل النصرانية وسار بذكرها الركبان، وقد كانت واسطة عقد التجارة بين العراق والشام، حتى إذا تداعت إلى الخراب جعلوها محطا للقوافل فيما بين هذين البلدين.
عمرت تدمر في أوائل القرن الثاني للميلاد على أثر سقوط دولة الأنباط شمال جزيرة العرب وغربيها، فاستولى عليها الرومان سنة 130م، فازدهرت تجارتها، وكانت مستقلة بشرائعها وأحكامها، يتولى النظر في شئونها مشيخة من أهلها، ومد الرومان بينها وبين دمشق طريقا تسير فيه المركبات وعليها أصناف التجارة من الأنسجة والآنية والمئونة، وبنى التدمريون في مدينتهم أبنية ينسب إليها، أقاموها على الأساطين المنحوتة وفوقها التماثيل من الحجر الأبيض المحمر. وكان يقطع المدينة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي طريق واسع في أوله قوس نصر بجانب هيكل هائل يعرف بهيكل الشمس أشبه شيء بهيكل بعلبك، وطول هذا الطريق ألف وثلاثمائة متر، تحف به الأعمدة من الجانبين في رواقين عدد أساطينهما ألف وخمسمائة، ولونها أبيض مائل إلى الحمرة، وفي الأروقة مساطب مستطيلة كانوا يسندون إليها الأحمال الواردة إلى تدمر من أقاصي المعمورة وفيها أحمال الحرير والديباج الدمشقية، والآنية اليونانية، وجلود الماشية المحمولة من جزيرة العرب على جمال يسوقها بدو من أهل الحجاز، وأحمال من جرار صنعت بفلسطين، وكانت أسواق تدمر في ذلك العهد تعج بالمارة عجيجا، وهم أخلاط من الأمم المتمدنة، وفيها النخاسون من مصر وآسيا الصغرى، والتجار من الفرس والشام وأرمينيا، والمرابون والصيارف من اليهود. فضلا عن الباعة الذين يحملون سلعهم على أكتافهم ينادون عليها في الدروب والحارات، فتختلط أصواتهم بنداء باعة الملح، الذي كان من أعظم تجارات هذه المدينة.
ولو أتيح للقارئ أن يزور تلك المدينة في أيام مجدها على عهد الملكة زينوبيا في القرن الثالث للميلاد، لبهره ما كان فيها من دلائل الترف والبذخ، وعلم من الفرق البعيد بين قصورها وأكواخها أن الثروة كانت منحصرة في فئة من أهلها، وأن تمدنها كان شرقيا لا رومانيا ولا يونانيا، وكان التدمريون تشهبوا بقدماء المصريين في استبقاء مجدهم بعد موتهم، فبنوا لأنفسهم قبورا كالقصور شادوها بالأحجار الهائلة في أكناف المدينة فكان مدينة أخرى سكانها من الأموات، ولو بعث التدمريون بعد ذلك ببضعة قرون لرأوا قصورهم أشد وحشة من قبورهم.
اشتهرت تدمر في أواسط القرن الثالث للميلاد بالملكة زينوبيا، فطمع فيها الرومان في الغرب، والفرس في الشرق، وقامت الحب سجالا بينهما حتى تغلب الرومان فملكوها، ولكنها لم تدم لهم ولا لغيرهم، فلم تمر بها أجيال حتى أصبحت في زوايا الإهمال، وتحولت قصورها إلى خرائب وصارت هياكلها جحورا للضب والحية وأوكارا للطير، ونعق على منابرها البوم بدل خطابة الخطباء ووعظ الوعاظ.
ولو عقل ابن زياد يوم أشرف على تلك الخرائب، وعرف تاريخ تلك الآثار لعلم مصير الإنسان، وأنه لا يبقى له من مجده إلا ما كسبت يداه من خير أو إحسان، وقال مع الإمام علي : «الدنيا دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.» ولخجل ما ارتكبه هو وولي أمره من ضروب العسف، وهان عليه أن يطلب سراح أسيرته شفقة على صباها ورحمة بما في قلبها من لوعة الحزن على أبيها وخطيبها.
ولكنه جهل ذلك أو تجاهله، واندفع في تيار الشهوات، ولم يزدد في تلك الخلوة إلا قسوة، ولم يعد يصبر على نيل بغيته حتى يصل إلى الكوفة، فأمر بحط الرحال ونصب الخيام، فنصبوها على مرتفع يشرف على تلك الخرائب الناطقة وفيها بقايا الأسواق والهياكل والقصور والقبور، وأمر أن يقيموا هناك يوما كاملا يستريحون فيه ثم يرحلون، وأناخ هودج سلمى في مكان منفرد عن معسكره بقرب هيكل الشمس، وشغل أعوانه بإنزال الأحمال ثم مشى هو إلى سلمى وكانت جالسة كئيبة تتأمل في حالها وتصبر نفسها إلى بلوغ الكوفة، ولم يخطر ببالها ما نواه ابن زياد، فلما وصل إلى خيمتها أمر الحراس أن يبتعدوا، ثم دخل فوجدها جالسة على بساط وقد أثر السفر والتعب والحزن في جسمها فهزلت وامتقع لونها ورقت وجنتاها وذبلت عيناها وأصبح العبوس غالبا عليها.
فلما رأت داخلا قرأت الشر في وجهه فاستعاذت بالله، وكأنه أدرك خوفها فتلطف في سؤالها عن حالها فلم تجب، فقال لها: قومي يا سلمى واتركي الخيمة، وادخلي هذا القصر وتأملي في صنعه.
فأدركت أنها إذا امتنعت ساقها بالعنف فسايرته ومشت حتى دخلت الهيكل، فأعجبت بما رأته من سعته وارتفاع جدرانه وكثرة أساطينه، فإن مساحته كانت نحو مائتي متر مربع، وجدرانه من حجارة هائلة علوها سبعون قدما لا يزال معظمها قائما، وفي صحن الهيكل أساطين ضخمة متشامخة متراصة في صفوف متداخلة يزيد عددها على مائة وخمسين، عدا المتساقط والمتهدم.
فلما رأت نفسها في تلك الخربة الهائلة مع ابن زياد وليس معهما ثالث ارتعدت فرائصها وتحققت وقوع المحظورة، وكان الضعف قد تمكن منها ولم تعد تقوى على الدفاع، فاصطكت ركبتاها وعجزت عن المشي، فأسندت ظهرها إلى أسطوانة بجانبها حجر كبير جلست عليه وهي ترتجف، فأدرك عبيد الله حالها، فعمد إلى الرفق بها، فجلس إلى جانبها وهو يحاذر أن يلمسها لئلا تجفل وقال لها: أتعلمين يا سلمى أنك وحيدة في هذا المكان وأن حياتك بيدي، وأني نائل ما أريد ولو بلغ صراخك عنان السماء؛ إذ ليس من يسمع صوتك غير هذه الأحجار؟ فقد طالما نصحتك وأنت تدافعينني، ولقد عاملتك باللين واللطف حتى طفح الكأس وآن لك أن ترعوي، فما ضرك لو أقلعت عن جهالتك وأصغيت لنصيحتي وأطعتني فتكونين زوجتي؟ وأنت تعلمين أني يد أمير المؤمنين وسيفه الذي يناضل به، وقد ولاني الكوفة والبصرة، فإذا عقلت وأطعتني كنت سيدة نساء الكوفة، وإذا شق عليك لعن أبي تراب فلا أكلفك لعنه، وإنما أطلب إليك أن تقبلي اقتراننا فأعطيك ما تريدين وتعيشين معي في نعيم يتمناه الكثيرات.
وظلت سلمى ساكتة، فقال لها: أراك ساكتة، فهل سكوتك هذه المرة مثل سكوتك بالأمس في دار الخليفة؟ أم هو دليل على رجوعك إلى الصواب؟ ويكفيني برهانا على ذلك أن تعطيني يدك فأقبلها. قال ذلك ومد يده إليها.
فلما سمعت كلامه ورأته يمد يده وقفت وتباعدت، ولكنها شعرت بالضعف وتحققت أنها إذا جافته فعل بها ما يشاء ولا تقوى على دفعه، على أن نفسها لم تضعف مثلما ضعف جسمها، فلما دنت يده منها دفعته وصاحت بأعلى صوتها: أتغتنم ضعفي يا عبيد الله وتستبد بي، وتزعم أننا في خلوة لا يرانا فيها أحد؟ ألا تعلم أن الله يراك وهو قادر على إذلالك كما أذل بناة هذه القصور وكانوا ملوكا فأصبحوا ترابا؟ خف من الله يا ابن زياد وأشفق على ضعفي.
فقال لها: لقد صبرت عليك كثيرا، وأكثرت من الرفق بك حتى لم يبق مكان للصبر عندي، فاعلمي أنك واقفة بين الحياة والموت، فإذا أنت أطعتني حييت سعيدة مكرمة معززة، وإلا فإني أصلبك إلى هذه الأسطوانة ثم أطعنك بهذا الخنجر وأتركك طعاما لطيور السماء. قال ذلك وأشار إلى خنجره.
فعظم الأمر على سلمى وغلب عليها اليأس وأيقنت بدنو أجلها فبسطت كفيها إلى السماء وصاحب بأعلى صوتها : إني أستجير بك يا رب العالمين، يا نصير المظلومين، أستجير لك من هذا الباغي الأثيم، فابعث إلي من لدنك من يأخذ بناصري وينقذني. أشفق اللهم على فتاة لا ذنب لها إلا الانتصار لنبيك والغيرة على أهل بيتك الطاهرين. •••
وكانت سلمى تتكلم والصدى يدوي في تلك الخرائب، وهم ابن زياد بأن ينتهرها فإذا بكلب ينبح بين الأساطين ونباحه يقرب نحوهما، ولم تمض برهة حتى دنا الكلب وإذا هو أسود كبير، فلما رأته سلمى علمت أنه شيبوب كلب الناسك فاستغربت وجوده في تلك الخرائب، ولم يكن عبيد الله أقل استغرابا منها. أما الكلب فوثب على عبيد الله وهو ينبح نباحا شديدا يدوي له المكان دويا عظيما، فاستأنست به وخيل إليها أنه جاءه الفرج القريب.
أما عبيد الله فلما رأى الكلب واثبا عليه استل خنجره وطعنه في ظهره طعنة غاص بها النصل إلى نصفه، فعوى الكلب عواء شديدا من شدة الألم وانثنى مسرعا حتى خرج من الهيكل.
والتفت عبيد الله إلى سلمى وقال: كأني بك قد استأنست بهذا الكلب وحسبته فرجا جاءك من ربك، فها قد قتلته، وإذا بقيت على غيك ألحقتك به ومزجت دمه بدمك. قال ذلك والخنجر بيده والدم يقطر منه.
فقالت: أغمد خنجرك في صدري، وأرحني من رؤيتك.
قال: سأفعل ذلك بعد أن أتركك ساعة تستخيرين فيها نفسك.
قال ذلك وحل عمامته وربط بها أكتافها من الوراء وشدها إلى الأسطوانة، وتناول نقابها وقيد به رجليها، وتركها مصلوبة مكشوفة الوجه وخرج وهو يقول: استخيري نفسك، وسأعود إليك بعد ساعة، فإذا بقيت على غيك أغمدت خنجري هذا في صدرك وتركتك بين هذه الخرائب طعاما للغربان. وإذا رجعت عن غيك سرت بك مكرمة إلى الكوفة.
خرج عبيد الله وغادرها مصلوبة تئن من ضغط الوثاق، فصغرت الدنيا في عينيها، وعلمت أن العفة لا تصان إلا إذا فديت بالروح، فآثرت الموت، ولكنها استثقلت أن يطول عذابها على غير طائل، وودت لو أنه أسرع في قتلها لتنجو من العذاب ، ثم تذكرت شيبوب وشق عليها موته في سبيلها على غير فائدة، وعادت تفكر في سبب مجيئه إلى تلك الديار فلم تجد سببا سوى أنه رأى الركب مارا بالغوطة فلحق به التماسا للطعام.
وظلت سلمى مصلوبة على تلك الأسطوانة وأفكارها تائهة في عالم الخيال، وهي تستعيد ذكرى عبد الرحمن.
الفصل الرابع عشر
سلمى والناسك
وفيما هي غارقة في لجج الهواجس سمعت أنينا، ثم رأت شيبوب مسرعا إليها وقد جمد الدم على جرحه وانسكب على كتفيه إلى قوائمه، وقد فتح فاه واندلع لسانه وهو يلهث، فادته سلمى فدنا منها وذيله لاصق بساقيه، ثم ألقى نفسه بين رجليها وقد أخذ منه التعب مأخذا عظيما، وأغمض عينيه ومدد رجليه وهو يئن أنين النزع.
ولم تكد سلمى تتأمله وتأسف لحاله، حتى رأت الشيخ الناسك بين يديها وهو يحل وثاقها بأسرع ما يستطيعه الشاب في عنفوان شبابه، فبغتت لرؤيته ولم تفه بكلمة، وكانت حركاته وإشاراته تشير إليها أن تسكت، فلما حل الوثاق أومأ إليها أن تسرع أمامه فأسرعت ثم حمل كلبه على ذراعيه وسار حتى سبقها، فسارت في أثره لا تنبس ببت شفة، ولكنها استغربت ذلك الاتفاق وعدته من قبيل المعجزات، وكان الشيخ خلال سيرهما ينثر التراب على آثار الدم في الطريق حتى لا يستدل بها أحد إلى المكان الذي قصداه.
وبعد مسير نصف ساعة بين الأحجار والعمد، وصلا إلى باب ضيق انحدرا فيه على درجات غير منتظمة والكلب على ذراعي الشيخ، وقبل الدخول عمد الشيخ إلى حجر سد به الباب حتى لا يشك الذي يراه أنه خال مهجور، ثم دخلا وقد اختفيا عن العيون، وسار إلى مصطبة تحت الأرض لا ينفذ إليها النور إلا من شقوق الباب، فجلس الناسك وأجلسها، ووضع الكلب بين يديه على المصطبة، وأخذ في البكاء والنحيب وهو يخاطبه، وسلمى ساكتة تنظر إلى ما يبدو منه، فإذا هو يقول: أسفي عليك يا رفيقي وصديقي، وا حسرتاه عليك أيها الخادم الأمين. لقد ختمت حياتك بشهامة يعجز البشر عن مثلها. إنك حيوان أعجم ولكنك خير من الناطقين؛ لأنهم ينطقون بالباطل ويستخدمون تلك الهبة السامية لارتكاب المنكرات وإتيان المعاصي، وأنت لا تعرف غير الخير، صحبتك منذ بضعة عشر عاما وأنت رفيقي وأنيسي. صحبتك بعد أن مللت صحبة الآدميين وعرفت شرور بني الإنسان. ما أبلغ عجمتك! وما أقبح نطقهم! نعم إنك حيوان أعجم ولكنك أنقذت نفسا ناطقة. أنقذت هذه النفس الطاهرة من منكر أوشك أن يرتكبه معها إنسان يزعم أنه أرقى منك خلقة وأسمى عاطفة، وهو لا يفوقك إلا باقتداره على بث الدسائس ونصب المكائد. قوتل الإنسان، ما أكبر دعواه وأقل خيره! وهو يفتخر أنه سيد المخلوقات. ما صحبتك إلا وأنا عارف فضلك وناظر خيرك، ولكنني لم أكن أعلم أن هذا مصيرك، وما حسبت أنك سائر إلى الموت قبلي. قال ذلك وهو ينظر إلى كلبه، والكلب يتمطى ويختلج ويجيل عينيه حوله ويعاني عذاب النزع، وسلمى تنظر إليهما ولا تتمالك عن البكاء، وقالت في نفسها: إذا كان الشيخ يبكي كلبه لأمانته وصدق مودته، فكيف لا أبكي حبيبي وابن عمي وقد ذهب ضحية أمانته في خدمة الحق؟!
وكان الشيخ يبكي ودموعه تنحدر على لحيته فتنسكب على الكلب وتختلط بدمائه، ثم رفع الشيخ بصره إلى سلمى وقال لها: لا تعجبي يا بنية لما ترينه من بكائي على حيوان أعجم، فإنه خير عندي من أولئك الآدميين. ألا ترينه ذكر صحبتك ومات في سبيل إنقاذك؟ ولكنه لم يمت رخيصا. إنه ذكر صحبة يوم ويومين، فلما اشتم رائحتك بين هذه الخرائب وكان نائما إلى جانبي نهض كالليث الكاسر وأسرع إليك ثم عاد ودمه يفور من جرحه لشدة الطعنة وكأنه أشار إلي أن ألحقه فتبعته، وفيما أن مار بين هذه الأساطين بصرت بذلك الرجل اللئيم خارجا من الهيكل ولا عمامة على رأسه والخنجر بيده وهو يهم بإغماده، فلما أتيت إليك ورأيتك مصلوبة أدركت أنه صلبك تهديدا، فأنقذتك، والفضل لهذا الحيوان الذي ترينه يقاسي غمرات الموت بين أيدينا، فمن يفعل ذلك من الآدميين؟! كم من رجل تربينه في حجرك وتعمينه بخيرك ثم يكون وبالا عليك!
فتصورت سلمى أحوال البشر ومظالم بني الإنسان ومطامع أهل الشر، وكيف أنهم يقدمون الفضيلة قربانا على مذبح الأغراض فقلت: صدقت يا مولاي، إن صحبة هذا الكلب خير من صحبة كثيرين، ولكن القضاء نفذ فيه، ولا عجب؛ فتلك عاقبة أهل الفضل من المخلوقات الناطقة أيضا.
فتنهد الشيخ وتغيرت سحنته، وكأنه أفاق من غفلته والتفت إلى الفتاة وعيناه تقدحان شررا وقال: ويدلك ذلك على صدق ما وعد به ربك من العقاب والثواب، وإلا فإن الحياة ضرب من العبث؛ لأن العدل في هذه الدنيا غريب تائه لا يعرف مأوى، ولا نرى في أعماق الناس غير المظالم الفادحة. نرى الأشرار في رغد وهناء وسعادة، والأبرار يقاسون مر العذاب، وما كان ربك ليثيب الظالمين، وستأتي ساعة تلقى فيها كل نفس ما كسبت، إن خيرا وإن شرا، وويل للذين ظلموا من مشهد يوم عظيم.
فشعرت سلمى والشيخ يتكلم كأنه ينطق بلسان أهل السماء، فقالت: نعم، لا بد من ذلك، وقد رأينا خير الصالحين يقتلون بأسياف الظالمين، وهؤلاء يعيشون في سعة وسلطان، ولكن الله عادل، فلا بد من يوم ينال فيه كل امرئ ما كسبت يداه.
وسكتا والشيخ يمسح دموعه، ثم قال: هلم بنا ندفن هذا الصديق الأمين فقد بكيناه وسنبكيه كلما لقينا سرورا. قال ذلك ونهض فحفر حفرة، دفناه فيها، وتوقعت سلمى أن تسمع من الشيخ خبرا، وتذكرت ما شاهدته من كراماته في دير خالد فقالت: لعله ينبئني بشيء ينفعني، فلما عادا إلى مخبئهما همت بخطابه فإذا هو يفرك أنامله وقد أطرق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فأمسكت هي عن الكلام تهيبا وإجلالا. أما هو فقال لها: وما الذي جاء بك يا سلمى إلى هذه الديار وقد كنت سمعت بمقتلك؟
فلما سمعت قوله استغربت اطلاعه على سر قتلها، ثم تذكرت ما تعلمت من كرامته فزال استغرابها وقالت: قتلوني يا سيدي ثم أحيوني، ويا ليتهم أبقوني ميتة. قالت ذلك وخنقتها العبرات.
ففهم الشيخ أنها تحسب عبد الرحمن ميتا، وهو يعلم أنه حي، فأراد أن يستطلع فكرها فقال: وهل قتلوا عبد الرحمن؟
قالت : أتسألني عن قتله وأنت أعلم مني بذلك؟
فصمت الشيخ وأطرق، وحدثته نفسه أن يخبرها ببقاء عبد الرحمن حيا، ولكنه رأى بقاءها على اعتقادها أقرب لنيل ما يتمناه وما عقد النية عليه، فظل صامتا مترددا.
أما هي فمسحت دموعها وقالت: ولكنني لا أعلم ما جرى لعامر. هل علم بما أصاب عبد الرحمن وما أصابني؟ وأين هو الآن؟
فتجاهل الشيخ برهة ثم قال: لا شك أنه علم بموته، وهو يعتقد أنك قتلت أيضا، ولا أدري أين هو، فلعله سار إلى المدينة أو إلى الكوفة، وربما كان قد انتحر يأسا وأسفا.
فلطمت وجهها وقالت: وا أسفاه عليك يا عماه، وا حسرتاه على آمالك ويا لخسارة ما قضيته من سني الشقاء في خدمتنا. إني لا ألومه إذا قتل نفسه.
فأراد الشيخ أن يشغلها عن البحث في مسألة عبد الرحمن فسألها كيف نجت، فقصت عليه الحديث من أوله إلى آخره ثم قالت: وها أنا ذا نجوت من الموت وأنا أشتهيه، إلا إذا كان في بقائي خدمة للمسلمين، فالآن إما أن تقتلني وتدفنني في هذه الخرائب أو ترشدني إلى سبيل للانتقام.
فقالت لها: أتريدين الانتقام؟
قالت: كيف لا أريد وهو وحده الذي يحبب إلي البقاء؟! وإلا فالموت أشهى لدي.
قال: إذا كنت تطلبين الانتقام فإنك تلقينه في الكوفة.
قالت: لا أبالي أين هو ولا كيف هو، وإنما أريد الحياة من أجله، فإذا قتلت يزيد وابن زياد، أو رأيتهما مقتولين، فإني أموت بعد ذلك قريرة العين.
قال: اعلمي يا بنية أن الحسين بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليدعو الناس إلى بيعته، فبايعه منهم ثمانية عشر ألفا، فإذا جاء الحسين إلى الكوفة تمت البيعة فيفشل ابن زياد ويقتل، ثم يسيرون إلى الشام فيحاربون يزيد ويقتلونه أيضا.
ولم يتم الشيخ كلامه حتى أشرق وجه سلمى وقالت: يا حبذا ذلك! هل أراه يتحقق؟ هل أقتل يزيد؟ هل أقتل ابن زياد. إني أريد أن أقتلهما بيدي، ولكن قل لي يا عماه ، أواثق أنت من ذلك؟
قال: إني أقول الصحيح الذي لا ريب فيه، فامكثي معي هنا بعضة أيام ريثما ينصرف هؤلاء القوم إلى الكوفة ثم نلحق بهم، ومتى وصلنا إلى الكوفة أنبئك بما سيكون. •••
ترك ابن زياد سلمى مصلوبة، وهو لا يشك أنها لا تلبث أن تذعن له وتخاف بطشه، فلما عاد إلى الهيكل ورأى بقايا الوثاق ولم يجدها تملكه الذهول والغضب، وأخذ يبحث عنها بين الأساطين في الهيكل وخارجه، وأرسل رجاله يفتشون في كل مكان فلم يقفوا لها على أثر، وما زال في البحث يومين حتى مل، ولامه رفاقه على التأخير والأمر يقتضي سرعة المسير، فحمل أحماله وسار يلتمس الكوفة وهو يلتفت وراءه ولا يكاد يصدق أن سلمى خرجت من يده على هذه الصورة، ولو أطاعه رفاقه لما خرج من تدمر قبل الوقوف على مكان سلمى ولو أدى به ذلك إلى نقض أحجار تلك الخرائب حجرا حجرا.
وكان أهل الكوفة قبل وصوله قد رحبوا بمسلم بن عقيل وبايعه منهم جمع غفير، وضعف أمر الأمويين بها، فذهب عبيد الله بن زياد أولا إلى البصرة فحث أهلها على الطاعة، ثم جاء الكوفة وأهلها قد تشيع أكثرهم للحسين، وأصبحوا ينتظرون قدومه ليبايعوه ويولوه أمره، فلما سمعوا أن يزيد ولى عبيد الله رجوا أن يصل الحسين قبله لتكون الولاية له، ولكن عبيد الله وصل إلى الكوفة قبل الحسين، فدخلها وحده عليه لباس الأمراء، فكان لا يمر بمجلس أو جماعة إلا ظنوه الحسين فيقولون: مرحبا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم فساءه ما رآه من ترحابهم بالحسين. حتى وصل إلى دار الإمارة وفيها النعمان بن بشير أميرها السابق، والنعمان يحسبه الحسين فأغلق الباب في وجهه وقال: أنشدك الله ألا تنحيت عني. فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك حاجة، فدنا منه وقال له: افتح لا فتحت! فلما سمع النعمان صوته عرفه وفتح له، وصعد عبيد الله المنبر وخطب في الناس فقال: «أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني ثغركم ومصركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق على نفسه.» ثم نزل وأخذ يعنى بإرهاب أهل الكوفة وردهم إلى الطاعة بما عرف به من الدهاء، وأهل الكوفة ضعفاء سريعو الانقلاب. •••
أما ما كان من سلمى والشيخ فإنهما بعد أن تحققا مسير ابن زياد من تدمر خرجا وسارا يلتمسان الكوفة من طريق غير الذي سلكه هو، وكان سيرهما بطيئا والطريق وعر خطر.
وبعد أيام أشرفا على الكوفة من تل وقد تعبا تعبا عظيما، فاستراحا يوما وسلمى لا تصبر عن النزول إلى الكوفة، فلما عزما على ذلك قال الشيخ: اعلمي يا بنية أني عاهدت الله ألا أقيم بالمدن ولا أسكن العمارة، فانزلي إلى الكوفة وحدك.
فبغتت سلمى وقالت: وكيف العمل يا مولاي؟ وأين أقيم؟
قال: اذهبي إلى هذا البيت في طرف الكوفة، هل ترينه؟
قالت: نعم.
قال: إنه بيت كندية مثلك اسمها طوعة، وكانت جارية للأشعث وأعتقها، ثم تزوجها رجل آخر وولدت منه أولادا اسم أحدهم بلال. هل تذكرينها؟
قالت: نعم أذكر أني رأيتها في أثناء إقامتي بالكوفة، وأظنها تعرفني.
قال: اذهبي وأقيمي عندها، وأنا أتردد إليك في منزلها ونرى ما سيكون.
فقالت: وأنت أين تقيم؟
قال: أما أنا فذاهب إلى سهل صغير في طرف البرية، وراء الكوفة من جانب الفرات، اسمه كربلاء، فإذا احتجت إلي فإنك تجدينني هناك.
قالت: اذكرني في دعائك، وإني داخلة الكوفة وقلبي ممتلئ أملا، وعسى الله أن يفتح علينا ويفرج كربنا ونرى الحق سائدا.
قال: وأنا أرجو ذلك. ثم ودعها ومضى وفي خاطره أن يزيدها اطمئنانا على حقيقة أمر عبد الرحمن، ولكنه أجل ذلك إلى فرصة أخرى مخافة أن تسير إلى عبد الرحمن بمكة، وهو يرى الكوفة أوسع مجالا للانتقام.
فمشت سلمى حتى دخلت الكوفة كأنها فتاة من فتياتها عائدة من الاحتطاب أو الاستقاء، ومرت بالأزقة فرأت الناس في هرج وسمعت بعضهم ينادون: «يا منصور أمت.» وآخرون يلعنون ابن زياد. فاستبشرت بنقمة الناس عليه، ولكنها أحبت استطلاع الواقع فعولت على الاستفهام من طوعة.
وبعد قليل وصلت إلى دار طوعة فرأتها جالسة لدى الباب وحدها فحيتها، فلما عرفتها رحبت بها واستقبلتها، وكانت قد رأتها قبل سفرها إلى دمشق، فسألتها عن عامر وعبد الرحمن فأجابتها جوابا مبهما وكظمت ما في نفسها، وأدخلتها طوعة البيت وقدمت لها الطعام، فأكلت شيئا واستراحت ولم يبق لها صبر على استطلاع الخبر فقالت: ما بالي أرى أهل الكوفة في هرج؟ ما الذي أصابهم؟ وما معنى قولهم: «يا منصور أمت»؟
فأشارت طوعة إليها أن تخفض صوتها ثم قالت: لعلك كنت غائبة عن الكوفة؟
قالت: كنت في البصرة وقد عدت منها اليوم.
قالت: إن أهل البصرة لا يجهلون ما أصابنا؛ لأنهم شركاؤنا في الأمر.
قالت: سمعت بانتقاض أهل الكوفة على الخليفة الجديد ومبايعتهم الحسين بن علي، على يد ابن عمه مسلم بن عقيل، ولكنني سمعت الناس يلعنون ابن زياد لأنه تولى الإمارة على أن يقاوم المبايعين، ولم أفهم شيئا غير ذلك.
الفصل الخامس عشر
مسلم بن عقيل
قالت طوعة لسلمى: إن مسلم بن عقيل نزل في دار المختار بن عبيد وأمير الكوفة يومئذ النعمان بن بشير، وهو رجل ضعيف، فجعل مسلم يدعو الناس إلى بيعة الحسين، ولو أنه جاء الكوفة لبايعه كل أهلها، فلما رأى الأمويون ذلك بعثوا إلى يزيد في دمشق فولى عليهم عبيد الله بن زياد، وهو داهية مثل أبيه.
فتنهدت سلمى وقالت: كيف لا أعرفه وهو الذي قتل أبي؟!
قالت طوعة: فلما جاء ابن زياد الكوفة دخلها وحده فلم يشك الناس أنه الحسين، ثم ما لبثوا أن عرفوه، فدخل دار الإمارة وخطب في الناس وحرضهم على مقاومة شيعة الحسين، ولكي يتم له ذلك مع قلة أشياعه بعث إلى العرفاء (مشايخ الحارات) فجمعهم وأمرهم أن يكتبوا إليه أسماء من في مناطقهم من شيعة الحسين، وشدد في ذلك حتى هددهم بالصلب والقتل، فلما سمع مسلم بما نواه ابن زياد خرج من دار المختار ونزل في بيت هانئ بن عروة المرادي، وهو رجل ذو وجاهة.
فقطعت سلمى كلاما وقالت: إني أعرفه.
فقالت طوعة: فلما جاء مسلم إلى هانئ، خاف هذا أن يقبله في داره؛ لما سمع من تشديد ابن زياد في طلبه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فلم يعد هانئ يستطيع رده فقبله. فصارت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ، وبلغ ذلك ابن زياد من بعض الجواسيس، فأراد أن يحتال في الدخول على هانئ ليتحقق الأمر، وحدث أن مرض هانئ بن عروة فبعث ابن زياد إليه أنه قادم لعيادته، فقال بعض الحضور من الشيعة: الطاغية قادم إليكم فاقتلوه وأنقذوا المسلمين من شره.
فبهتت سلمى عند ذلك وصارت تتوقع أن يقتلوه؛ لأنها فرصة ثمينة لو اغتنموها، ولكنهم أضاعوها فضاعت بضياعها كل مساعيهم، وكم من غلطة صغيرة أدت إلى خراب كبير!
فاستطردت طوعة كلامها وقالت: فلما اقترح الرجل قتل ابن زياد، اعترض هانئ بأنه لا يريد أن يقتل أمير الكوفة في داره، فجاء ابن زياد فعاده وخرج سالما.
فصاحت سلمى: يا للخسارة! ويا للضعف! لله ما أضعفهم!
فقالت طوعة: إنهم ضعفاء يا بنية، ولكن ذلك أمر الله، فأصبح هم ابن زياد أن يقبض على هانئ ويسأله، فبعث إليه أن يوافيه إلى قصره، فاعتذر هانئ بالمرض، فألح عليه وبعث إليه رجلا استقدمه بالحيلة، فلما وصل هانئ إلى دار الإمارة أحس بالشر، ولكنه دخل ووقف بين يدي ابن زياد فقال له هذا: «يا هانئ، ما هذه الأمور التي تدبر في دارك لأمير المؤمنين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال، وظننت ذلك يخفى علينا؟!» فأنكر هانئ في بادئ الرأي وهو لا يظن أمره معلوما عند ابن زياد، ولكن هذا واجهه بالرجل الذي كان قد جعله عينا عليه، فتحقق هانئ أنه مطلع على جلية الأمر فقال: «اسمع مني وصدقني؛ فوالله لا أكذبك، والله ما دعوت ابن عقيل ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي يسألني النزول، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام، فأدخلته دار ضيفا، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت فإني أعطيك الآن موثقا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك.» فلم يقتنع ابن زياد بإخراج مسلم من دار هانئ، بل طلب أن يأتيه به إلى القصر، فقال هانئ: «لا آتيك بضيفي لتقتله أبدا، وله علي حق الضيافة وهو في ذمامي.» فتوسط بعض الحضور في إقناع هانئ بأن يأتيه بمسلم ولا خوف عليه، فلم يقنع وقال: «لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.»
فقالت سلمى عند سماعها ذلك: لا فض فوك يا ابن عروة هذه هي رعاية الذمام.
فقطعت طوعة كلام سلمى وقالت: اسمعي يا حبيبتي ما كان من عاقبة تلك الرعاية، فإن ابن زياد لما سمع كلام هانئ قال: أدنوه مني. فأدنوه، فأعاد التهديد عليه، فلما لم يطعه تناول عبيد الله قضيبا كان في يد بعض رجاله وأمر واحدا فأمسك هانئا بضفيرتيه، ثم أهوى على هانئ بالقضيب، ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده على لحيته حتى انكسر القضيب، وأراد هانئ أن يدافع عن نفسه فمد يده إلى قائم سيف شرطي كان واقفا بجانبه فمنعه منه، وأمر عبيد الله به فألقي في حجرة وأغلق عليه.
فدقت سلمى كفا بكف وقالت: وماذا فعل رجاله وأهل عشيرته؟
قالت طوعة: بلغ عشيرته أنه قتل، فجاءوا وأحاطوا بالقصر وفيه ابن زياد ورجاله، فخاف ابن زياد منهم وسألهم عما يريدونه فقالوا: «إنك قتلت هانئا.» فأفهمهم أن هانئا ما زال حيا، واستشهد شريحا القاضي وكانوا يعتقدون صدقه، فأخبرهم بأنه حي فانصرفوا.
فصاحت سلمى: يا للفشل! ماذا أصاب الناس!
فقالت: تمهلي يا سلمى، إنك ستسمعين ما يسرك وفيه الفوز والنجاة إن شاء الله. إنك سألتني عن معنى قولهم: «يا منصور أمت»، فاعلمي يا بنية أن هذه العبارة هي شعار أنصار الحسين ينادي بها بعضهم بعضا، وأما سبب الهرج الذي رأيته فإن مسلما لما علم بما أصاب هانئا نهض ونادى رجاله بذلك الشعار حتى اجتمع حوله ثمانية عشر ألفا من كندة ومذحج وتميم وهمذان وأهل المدينة، ولكل عشيرة من هؤلاء ربع، فعقد على كل ربع لقائد، وساروا في هذا الصباح وأحاطوا بالقصر وليس مع ابن زياد في القصر إلا ثلاثون رجلا، وهو الآن في ضنك شديد ولا أظن مسلما إلا فائزا.
فتهلل وجه سلمى وأبرقت أسرتها وبان الاهتمام في وجهها وقالت: يا رب يا كريم، انصر قومك. قالت ذلك ونهضت تريد الخروج، فأمسكت طوعة وقالت: إلى أين تذهبين؟
قالت: دعيني، أريد أن أرى ما يكون من أمرهم.
قالت: تمهلي واقعدي؛ فإنك فتاة، لا آمن عليك من الغوغاء.
وفيما كانت سلمى تحاول الخروج، سمعتا وقع أقدام بباب الدار، فتغير وجه طوعة وخفق قلبها، إذ ليس في بيتها رجال، فأشارت إلى سلمى أن تمكث وخرجت هي إلى الباب فرأت رجلا واقفا والبغتة والكآبة ظاهرتان في وجهه فسألته عما يريده؟ فقال: أريد ماء.
فقدمت له كوبا شربها وجلس، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب؟
قالت: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فسكت وظل في مكانه لا يبرحه بعد أن طلبت منه الانصراف ثلاثا.
فقالت: يا سبحان الله! إني لا أحل لك الجلوس على بابي.
فقال لها: إني غريب، وليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر معلوم، ولعلي أكافئك فيما بعد؟
قالت: من أنت؟
قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء الأقوام وغروني.
وكانت سلمى واقفة تسمع، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها في صدرها وأسرعت إلى الباب، فلما وقع بصرها عليه عرفته، وقد رأته من قبل في المدينة، فأرادت أن تستعطف طوعة في قبوله فإذا هي قد دعته من تلقاء نفسها.
فدخل مسلم وسيفه تحت عباءته والهم والتعب قد أثرا في سحنته، فعرضت عليه عشاء فلم يتعش، فوقفت سلمى بين يديه وقد أرسلت نقابها على رأسها وترقرقت الدموع في عينيها وقالت: ما أصابك يا مولاي؟
فتنهد مسلم وكادت العبرات تسبق كلامه وقال: دعيني يا أخية، ولا تسألي عن قومي، فقد قلت لكما إنه لا قوم لي ولا عشيرة في هذه المدينة.
فقالت طوعة: ولكنني سمعت في هذا الصباح أنك جمعت ثمانية عشر ألفا وأحطتم بقصر زياد وهو ليس عنده إلا ثلاثون رجلا، فما الذي جرى لقومك؟
قال وهو يحرق أسنانه: لقد تفرقوا عني.
قالت سلمى: كيف تفرقوا؟ وما الذي حملهم على هذا التفرق وهم كثيرون؟
قال: لا تسألي عن القضاء إذا وقع. إن أهل الكوفة قوم لا يركن إليهم، وقد أخطأنا بالاعتماد عليهم بعد أن سمعنا عمي الإمام عليا كرم الله وجهه يخاطب أهل العراق بقوله: «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه.» فقد غرني من هؤلاء الأقوام ما رأيت من إقبالهم على بيعة الحسين حتى تكاثر عددهم، فلما دعوتهم في هذا الصباح اجتمعوا وتجندوا، حتى قلت: توليتها يا ابن بنت بن الرسول، ولكن ابن مرجانة - ابن زياد - داهية مثل أبيه، فلما رأى رجالنا محيطين بقصره، وقد امتلأ المسجد والسوق بالناس، وسمع جماعة يسبونه ويسبون أباه، دعا بعض رجاله وفيهم بعض أشراف القبائل وأمرهم أن يخرجوا إلى الأسواق ويخذلوا الناس بالتهديد والوعيد أو بالوعد، وأطمعهم بالمال وغيره، فخرجوا يخذلون الناس، وأمر آخرين أن يشرفوا من نوافذ قصره علينا ويؤملوا أهل الطاعة ويخوفوا أهل المعصية، فأشرفوا علينا وجعلوا ينادون بالأمان لمن أطاع وبالشر لمن عصا، فما شعرت إلا والناس يتفرقون عني ولم يبق معي منهم إلا ثلاثون رجلا، فدخلنا المسجد، ثم رأيت في البقاء هناك خطرا على حياتي فخرجت هائما لا أدري إلى أين أسير حتى وصلت إلى هذه الدار، وأنا لا أبالي الآن أموت أو أحيا، ولكنني أخاف على ابن عمي الحسين؛ لأني كتبت إليه ليجيء، وأظنه قادما وهو يحسب أهل الكوفة جميعهم على دعوته، وهم على ما رأيناهم فيه من الضعف، ثم تنهد وقال: والله إن عبد الله بن مطيع قد نصح ألا نقرب الكوفة، وقد قال للحسين لما خرج من المدينة: جعلت فداءك أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله قال: «خار الله لك وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكة فإياك إن تقرب الكوفة؛ فإنها بلد مشئومة؛ بها قتل أبوك، وخذل أخوك واعتل بلعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرب فإنك سيد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنتفرقن بعدك.» فما كان أجدرنا أن نصغي لقوله، ولكن قد نفذ السهم، ولا خيرة في الواقع.
وفيما هو يتكلم دخل بلال ابن طوعة، وهو شاب في مقتبل العمر، فلم تعرفه سلمى ولا مسلم، وأسرعت أمه إلى استقباله وهي تريد أن تفي أمر مسلم عنه، ولكن الشاب لم يسكت عنها حتى أخبرته بخبر مسلم، وطلبت إليه أن يكتم أمره وأخذت عليه الأيمان، فسكت وهو يضمر السوء، وبات تلك الليلة ومسلم هناك، وأما سلمى فإنها باتت منقبضة النفس وقد أسقط في يدها وتحققت الفشل، ففكرت فيما ينبغي أن تفعله، فاعتزمت أن تسعى أولا في سلامة الحسين بأن تسير لملاقاته في الطريق وتقص عليه الخبر وترجعه عن الكوفة حتى يقضي الله بما يشاء. •••
لما أقبل الصباح أفاقت طوعة فلم تجد ابنها فظنته خرج لعمله، وأفاق مسلم فجاءته سلمى وعرضت عليه أن تسير هي بنفسها لإبلاغ الحسين الخبر، فأعجب بحميتها وقال لها: والله لو أن في رجالنا عشرة مثلك ما أصابنا ما أصابنا، بورك فيك يا بنية، إننا إذا احتجنا إلى إرسالك أرسلناك، ولكنني لا أرى فائدة من بقائي هنا فأذهب بنفسي.
فتنهدت سلمى وتذكرت مصائبها وما ألم بحبيبها في سبيل ذلك الأمر، فغلب عليها الحزن، ولكنها تجلدت رغبة في تشجيع مسلم.
ولم تمض برهة حتى سمعوا وقع حوافر حول الدار، وعلت الضوضاء، فأجفل مسلم وامتقع لونه، فلما رأت سلمى ذلك فيه خرجت تنظر ما أثاره فرأت فرسانا رجالا يزيد عددهم على السبعين، وفي مقدمتهم شاب شاكي السلاح وعليه الدرع، فعلمت أنه زعيم القوم، فلما استقبلتهم صاح فيها الفارس قائلا: أين مسلم؟ فليخرج إلينا الساعة.
قالت: وماذا تريدون منه؟
قالوا: مالك ولهذا التطفل؟! أين مسلم بن عقيل؟
فلما سمع صوت الرجل يناديه جرد حسامه وهجم عليه وقال: ما بالكم؟ ماذا تريدون؟
فصاح فيه الفارس: تعال معنا إلى الأمير.
فقال: خسئتم أنتم وأميركم. وهجم عليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار وقتل واحدا منهم. فتناولت سلمى سيف الرجل المقتول وشدت وسطها وهجمت وهي تفضل الموت بعد ذلك الفشل، وكان ابن عقيل ينظر إليها ويعجب بها ويقول لها: ارجعي يا سلمى، مالك ولهذا الخطر؟
أما هي فلم تصغ له، فضربت ضربتين ثم سمعت ابن عقيل يصيح: قتلوني قتلهم الله، فالتفتت وإذا بسيف أصاب فمه فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه، لكنه لم يقتل، فهجم على الضارب فضربه على رأسه وثنى بأخرى على العاتق كادت تطلع على جوفه، وسلمى تناضل معه، فلما رأى القوم ذلك صعدوا إلى سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه، فلما رأى مسلم ذلك خرج من الدار بسيفه وهو يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حرا
وإن رأيت الموت شيئا نكرا
أو يخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرئ يوما يلاقي شرا
أخاف أن أكذب أو أغرا
وخرجت سلمى معه، وقاتلاهم في الطريق، فصاح رئيس القوم بابن عقيل: لا نكذب ولا نخدع، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاريك، وكان مسلم قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى حائط الدار وقد ضعف ولم يعد يستطيع قتالا، فجاءه سيد القوم وهو محمد بن الأشعث، فحمله على بغلة وأمنه على حياته.
وما زالوا سائرين به حتى جاءوا القصر وأوقفوه عند بابه، فرأى هناك جرة ماء باردة فقال: اسقوني من هذا الماء.
فقال واحد منهم: أتراها؟ ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار الجحيم.
فقال له: ومن أنت ؟
فقال له: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمر.
فقال له مسلم بن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك وما أفظعك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم.
ثم جاء رجل فصب ماء وأعطى مسلما فشرب ثم نظر في القدح فإذا هو قد امتلأ بالدم.
وأمر ابن زياد بمسلم فأصعدوه إلى أعلى القصر فضرب عنقه، ثم أخرجوا هانئا وقتلوه، ولم يبال ابن زياد بعهده الذي أعطاه لهانئ ولمسلم باستبقائهما.
وكانت سلمى لما تحققت فشل مسلم ورأت الدم في وجهه، تذكرت مقتل عبد الرحمن فهاجت عواطفها ومضت تضرب بسيفها وتناضل مناضلة الأبطال، ولولا النار التي اتصلت بها ولحقت بشعرها ما كفت عن الضرب.
فلما انصرفوا أسرعت طوعة إلى سلمى، فأطفأت شعرها ونقابها، وحملتها إلى الفراش وهي غائبة عن الدنيا، ورشتها بالماء حتى أفاقت وصاحت: أين مسلم؟ أين ابن عم الحسين؟
فقالت طوعة: قد حملوه إلى القصر.
قالت: وماذا يفعلون به هناك؟ أظنهم سيقتلونه، قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم!
فجعلت طوعة تخفف عنها، ولم يمض النهار حتى سمعت بمقتل مسلم فانصدع قلبها، وفكرت في أمرها فرأت البقاء لا يجديها نفعا، وتذكرت الشيخ الناسك فهمت بالمسير إليه. •••
وفي صباح اليوم التالي، خرجت سلمى من بيت طوعة وسارت تلتمس كربلاء، فجعلت طريقها من خارج الكوفة لئلا ترى ما تكرهه من فوز الأمويين، فيممت شاطئ الفرات حتى أطلت على سهل مقفر لا شجر فيه ولا عشب ولا ماء، فعلمت أنه سهل كربلاء، ورأت في بعض أطرافه شجرة قد تقادم عهدها وتحتها شبح نائم فعلمت أنه الشيخ الناسك، ولم تكد تصل إليه حتى جلس وقد شعر بقدومها عن بعد كأنه اشتم رائحتها. أما هي فلما رأته لم تتمالك عن البكاء لفرط ما هاج خاطرها من مصير مسلم وحزبه.
فلما رآها الشيخ ناداها قائلا: أراك باكية! كأني بهم فتكوا بابن عقيل؟
فأجابته وقد خنقتها العبرات: نعم، لقد قتلوه شر قتلة . قتلوه ومثلوا به، وفازوا بالأمر دونه، وخابت مساعينا، كأن الله قد كتب علينا الشقاء!
فابتدرها قائلا: قتلوا ابن عم الحسين؟ وكيف قتلوه ولم يخافوا غضب الله وملائكته؟ أعوذ بالله من ظلم الإنسان.
قالت: نعم قتلوه بعد أن ساموه مر العذاب، وكنت أحسب الملائكة تدفع عنه؛ لأنه إنما جاء للدفاع عن الحق! أهذا جزاء نصراء الحق عند الله؟!
فقطع الشيخ الناسك كلامها وقال: رويدك يا سلمى، لا تعارضي أحكام الله، فإننا لا ندرك مقاصده سبحانه وتعالى، وما نحن إلا تراب صنعنا بيده، وهو يفعل بنا ما يشاء لحكمة يعلمها. فأخبريني كيف قتلوه؟
فجلست على حجر بالقرب منه وقصت عليه الحديث وهي تبدي خلال ذلك تحسرها، حتى إذا أتت على آخر كلامها أوغلت في البكاء وجعلت تندب حال المسلمين، وجرها ذلك إلى ندب حبيبها عبد الرحمن فقالت: لست أعارض حكم الله، ولكنني لا أدري الحكمة في ذلك. إن الحسين قام يدعو الناس إلى الحق، وأرسل ابن عمه لنصرته، أفيقتل هذا ويفشل ابن بنت الرسول ويظلم كل من قام بنصرته؟! ألم يقتلوا ابن عمي عبد الرحمن لأنه طالب بدم أبي وانتصر لأهل البيت؟! ألم يقتلوه شر قتلة؟! آه منهم! كيف قتلوه؟! قالت ذلك وعادت إلى البكاء، ثم قالت وقد خنقتها العبرات: كيف ينصر الله قوما يحاربون سبط الرسول ويقتلون كل من قام بنصرته، وخليفتهم مشغول عن شئون الخلافة بشرب الخمور وضرب الطنابير ومجالسة النساء؟! إنه لأمر غريب!
فلما سمعها تندب ابن عمها وهو يعلم أنه حي، رثى لها، وكان قد علم من سياق حديثها أنها ذاهبة إلى الحسين لإطلاعه على جلية الخبر لعلها ترجعه عن عزمه، والشيخ يرجح أن عبد الرحمن وعامرا مع الحسين فأراد أن يطمئنها ويطلعها على الواقع، فمسح لحيته بيده ثم مسح عينيه بأنامله من آثار دموع كادت تبللها في أثناء سماعه نبأ مقتل ابن عقيل، ثم قال: وما الذي أنت عازمة عليه يا سلمى؟
قالت وقد رجع إليها رشدها وبان الاهتمام في وجهها: أتسألني عما عزمت عليه وأنت لا تجهله؟! أتجهل يا سيدي أني فقدت كل شيء في سبيل نصرة بيت الرسول، ولم يبق لي ما أبذله إلا نفسي، وليس بذلها بالأمر العظيم عندي في هذا السبيل. أريد أن أذهب لألاقي الحسين قبل وصوله إلى الكوفة وأخبره بما وقع، وأنصح له بأن يتربص حيث هو ريثما يتم له التأهب لطلب حقه، ثم أمكث في خدمته حتى يتأتى له ذلك فأحارب معه وأموت بين قدميه، فأذهب إلى حيث ألقى عبد الرحمن وأبي، وأرجو أن يكون مصيري معهما إلى النعيم؛ لأني أعتقد صدق الدعوة التي نحن قائمون بها، فإذا قدر الله لنا النصر وفزنا على أولئك الطغاة وقتلناهم، عشت سعيدة بالانتقام لأبي وابن عمي وللإمام علي.
فضحك الشيخ حتى أغرب في الضحك، وسلمى تنظر إليه وتعجب من ضحكه بعد أن قصت عليه خبر الفشل الذي أصابها، فلبثت صامتة وهي تسمع قهقهته وترى اهتزاز لحيته حتى خيل لها أنه أصيب بجنون، ولكن اعتقادها بكرامته غلب عليها فحملت ضحكته محمل خير يضمره لها، فلما انتهى من الضحك تفرست في وجهه فإذا هو قد غاب إلى الانقباض بغتة ولمعت عيناه بما غشاهما من الدمع، ورأت سلمى ذلك من خلال حاجبيه المسترسلين على عينيه، فقالت له: أيأذن لي مولاي بسؤال؟
قال وقد عاد إلى الابتسام: إنك تسألينني عن سبب ضحكي، وأنا أقول لك السبب وأرجو أن يضحكك أيضا.
فقطعت كلامه وقالت: لا أظن شيئا في العالم يضحكني، فلن أضحك إلا ضحكة الظفر أو ضحكة الموت.
قال: وما قولك إذا أضحكتك الساعة؟
قالت وهي تستخف بقوله: قل ما شئت واضحك ما شئت، وسترى أني لا أبتسم لشيء قط، وكيف أضحك أو أبتسم وقد قتل أبي وابن عمي ظلما ولم أقتل معهما؟
قال: وإذا أخبرتك خبرا يسرك؟
فقالت: إذا كان خبرك رجما بالغيب فللأولياء كرامات، وقد تتنبأ بخبر نرجوه في المستقبل. ولكنني رأيت من الفشل في الأيام الأخيرة ما سود الدنيا كلها في عيني، فلا أضحك إلا لخير أراه أو لخير أتوقعه، وأي خير أرجو بعد هذه المصائب؟
قال: وإذا أطلعتك على خبر عن عبد الرحمن؟
فلما سمعت اسم حبيبها اختلج قلبها واصطكت ركبتاها وبغتت وقالت: وأي خبر عنه يا مولاي لم أسمعه بعد؟! واختنق صوتها وبكت.
قال: وماذا سمعت عنه؟
قالت: ألم أندبه بين يديك مرارا؟ آه يا مولاي! دعني من هذه الذكرى ولا تهج أشجاني. دعني أشغل عن الحزن بالانتقام، ودعني أمض لسبيلي لألاقي الحسين وأهل بيته وأنبئهم بالخطر الذي ينتظرهم.
قال: سيري يا بنية في حراسة الله، وأرجو أن تلاقي عبد الرحمن هناك.
فصاحت: ألاقي عبد الرحمن؟! وكيف ألاقيه وأنا حية؟! إلا إذا بعث في هذه الحياة الدنيا، وما سمعنا بالبعث إلا في الآخرة، لا أراك يا مولاي إلا ضاحكا مني هازئا بعواطفي. أو أنك تتنبأ بقرب أجلي لألقى حبيبي في الآخرة، فإذا كان ذلك فمرحبا بالموت، إنه حلو شهي. قالت ذلك وهي لا يخطر لها ببال أن يكون عبد الرحمن حيا، ولكن قلب المحب سريع الاطمئنان قريب التصديق، فأوحى إليها حبها أن الله قادر على إحيائه، وأن الشيخ الناسك لا يقول عبثا، على أن عقلها بقي يرى استحالة ذلك، فلبثت تتردد بين الأمرين.
أما هو فلما شاهد اضطرابها نظر إليها جادا وقال: إني لا ألقي القول جزافا يا سلمى، إن عبد الرحمن حي باق لم ينله كيد أولئك الأشرار.
فوثبت سلمى من مجلسها بغتة، وأحست كأن شعر رأسها وقف، واقشعر بدنها، وكاد الدم يجمد في عروقها، وصاحت في الشيخ وأمسكته بيده وهي تقول: بالله اصدقني الخبر يا مولاي ولا تهزأ بي؛ فإني أكاد أجن! قل لي: هل عبد الرحمن حي؟ عبد الرحمن! هل هو حي؟ حي مثلي ومثلك؟! قالت ذلك والدمع ملء عينيها، لا تدري أتضحك أم تبكي.
فخشي الشيخ أن يصيبها ضر، فأجابها بصوت خافت: نعم يا سلمى هو حي بإذن الله.
قالت: كيف ذلك وقد حققت مقتله من قبل؟ يا ربي ماذا أسمع؟ هل أنا في حلم؟ هل عبد الرحمن حي يمشي ويتكلم؟ هل أكلمه فيسمعني وألاقيه فيراني؟ آه يا عبد الرحمن! أأنت حي وأنا أندبك؟! إني أراني في حلم! ثم التفتت إلى ما يحدق بها من السهل القاحل كأنها تتحقق وجدانها وترامت على يدي الشيخ وجعلت تقبلهما والدمع يتساقط عليهما وهي تشهق من شدة البكاء وتقول: بالله يا سيدي اصدقني، أحي عبد الرحمن حقا؟ وهل أراه، وأين هو؟ قل لي يا مولاي. قل لي وأشفق على حياتي. عبد الرحمن حي؟! أين هو؟
فأمسكها الشيخ ويده ترتعش، وأوقفها وهو يتأمل حركاتها ويقرأ عواطفها، فدمعت عيناه وقال: احمدي الله يا سلمى، إن عبد الرحمن وعامرا على قيد الحياة، وهما مع الحسين، وأظنهما آتيين معه في طريقه هذه.
فبهتت سلمى، واستجمعت رشدها ولبثت مطرقة تنظر إلى الأرض وهي تراجع في ذاكرتها ما سمعته عن مقتله في دمشق، فلم تجد دليلا على أنه قتل غير ما سمعته من ابن زياد والحكيم، فهان عليها تصديق بقائه حيا، فأحست للحال أن غمامة انقشعت عن عينيها، وكأن جبلا نزل عن قلبها، فانبسط وجهها وابتسمت، فابتدرها الشيخ قائلا: أراك تضحكين، وكنت تقولين أنه لا شيء يضحكك!
قالت: لم يدر في خلدي أن أسمع هذا الخبر. أيكون عبد الرحمن حيا ولا أضحك؟! ثم انقبضت بغتة وقالت: ولكن ما الفائدة؟ أين هو؟ ما الذي يجمعني به، فقد أصبحت بعد ما لقيته من الفشل المتواتر لا أصدق شيئا حتى يقع، وقد يقع ولا أصدقه.
قال: لا تيأسي من نعم الله، فأن معسكر الحسين يجمعك بعبد الرحمن، فقد سار إليه وأنت في دمشق مع عامر، وهو يحسبك ميتة كما كنت تحسبينه ميتا! ثم قص عليها الخبر من أوله إلى آخره، فاطمأن بالها وسكن روعها ووثقت من بقائه على قيد الحياة.
الفصل السادس عشر
خروج الحسين إلى العراق
كان الحسين قد انتقل من المدينة إلى مكة وأرسل ابن عمه مسلما إلى الكوفة كما تقدم. وجاءته كتبه بأن معظم أهل الكوفة على بيعته، فعزم على الخروج إليها وهو يحسب أنه إذا جاءها استتب الأمر له، وكان يستشير أصحابه فمنهم من يخوفه من الذهاب ومنهم من يحرضه عليه، وكان في جملة المحرضين عبد الله بن الزبير، وكان طامعا في الخلافة لنفسه؛ لأنه من كبار أبناء الصحابة، كما كان أبوه الزبير بن العوام طامعا فيها قبله على عهد الإمام علي، وقد حاربه عليها في وقعة الجمل إلى جوار البصرة، ولكنه قتل هناك هو وطلحة وفاز علي بالأمر، فلما قتل علي وتولى الخلافة معاوية بن أبي سفيان لم يجرؤ ابن الزبير على مناجزته، فلما مات معاوية كان ابن الزبير والحسين في الكوفة فطلبوا منهما البيعة ليزيد كما تقدم فأبيا، ثم خرجا إلى مكة وفي نفس كل منهما أن يطلب البيعة لنفسه، فرأى ابن الزبير أنه لا يستطيع ذلك والحسين معه في مكة؛ لأن الناس يؤثرون الحسين عليه، فرغبه في طلب بيعة أهل الكوفة وحبب إليه المسير إليها، وكان الحسين مخلص الطوية صادق اللهجة مثل أبيه، والمخلص سليم النية سريع التصديق، وما أضاع علي الخلافة إلا لطيبة قلبه وحلمه ورغبته عن الدهاء والمكر.
وكان ابن الزبير يظهر للحسين عكس ما يضمره، وربما أعرب له عن بقائه بمكة وهو يريد خروجه منها، وفي جملة ما دار بينهما من الحديث في هذا الشأن أن ابن الزبير قال له مرة: «ما أدري ما ترك لنا هؤلاء، وقد كفننا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم. خبرني ماذا أنت صانع؟»
فقال الحسين: «لقد هممت بالذهاب إلى الكوفة، وكتبت إلى شيعتي فيها وأشراف الناس، وأستخير الله.»
فقال ابن الزبير: «أما والله لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.» ثم خشي أن يتهمه فقال له: «أما إنك لو أقمت بالحجاز وأردت هذا الأمر ههنا لما خالفناك بل ساعدناك وبايعناك ونصحنا لك، فأقم إن شئت واندبني لهذا الأمر فتطاع ولا تعصى.»
فلما خرج ابن الزبير قال الحسين لمن عنده: «إن هذا الرجل ليس شيء في الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي، فود لو أني خرجت حتى يخلو له الجو.» ويظهر من ذلك أن الحسين لم يكن يجهل طمع ابن الزبير ، ولكنه ظل راغبا في الخروج، ولعله خاف مناوأته إذا بقي هناك.
وممن نصح للحسين ألا يخرج من مكة عبد الله بن عباس، ابن عم أبيه، وكان قد أدرك غرض ابن الزبير فنصح للحسين مرارا بأن يبقى، فلم يطعه، فجاء في مساء اليوم الذي كلمه فيه ابن الزبير فقال له: «يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، أني أتخوف عليك من الذهاب إلى أهل العراق، فلو أنهم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، ثم دعوك، فسر إليهم، وإن كانوا قد دعوك وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تحيي بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، فاكتب لهم فلينفوا عاملهم ثم اقدم عليهم. أما إذا أبيت إلا أن تخرج من مكة، فسر إلى اليمن؛ فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتبث دعاتك حتى يقوى شأنك وتنظر ما يكون.»
فقال الحسين: «يا ابن عم، إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكنني أزمعت المسير إلى الكوفة.»
فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك؛ فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.» ثم قال: «لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك، والله الذي لا إله هو لو أعلم أني إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس وأنت تطيعني وتقيم لفعلت.» ثم خرج. •••
خرج الحسين من مكة ومعه نساؤه وأولاده وأبناء عمه، وما زال ينتقل من مكان إلى آخر والناس ينضمون إليه، حتى أتى مكانا اسمه «الثعلبية»، كان قرية ثم خرب، وهناك جاءه الخبر بمقتل مسلم بن عقيل، وبما حل بشيعته، وحذروه المسير إلى الكوفة، فكاد يرجع عن طلبها لولا أن قام بنو عقيل إخوة مسلم فحرضوه على المسير وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.
فتحمس الحسين وقال: «صدقتم، لا خير في العيش مع هؤلاء.»
وما زال سائرا حتى دنا من ضواحي الكوفة والناس يأتونه في الطريق ويحذرونه ، فأصر على المسير، ولكنه أطلق الحرية للذين معه فقال لهم: «قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام.»
فتفرقوا عنه يمينا وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة وفي جملتهم عبد الرحمن وعامر، وكانا من جملة من حرضوه على المسير للانتقام، وكان عبد الرحمن لا يستصعب شيئا في ذلك السبيل بعد ما كان يعتقده من مقتل سلمى.
أما سلمى فإنها كانت قد صممت على النهوض لملاقاة الحسين لكي تطلعه على جلية الخبر وهي تحسبه لا يعلمه، وباتت ليلتها تحت تلك الشجرة على أن تصبح في الغد وتسير، ولما أصبحت ودعت الشيخ وخرجت، ولم تمش قليلا حتى رأت الغبار يتصاعد من جهة الكوفة ثم ظهرت من تحته الخيل، فعلمت أن ابن زياد أرسل جنده لملاقاة الحسين، فتظاهرت بالاستسقاء من بعضهم وسألت عنهم، فعلمت أن قائدهم عمر بن سعد وأن عددهم يبلغ بضعة آلاف، فنزل هذا الجند في القادسية ونظم الخيول بين القادسية إلى ضفان، ومن القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع، فخفق قلب سلمى خوفا على الحسين ورجاله، ولكنها ظلت سائرة وقلبها طائر أمامها التماسا لملاقاة عبد الرحمن. حتى بلغت جبلا اسمه ذو جشم، فوقفت لتطل منه على الطريق، وإذا بغبار يتعالى عن نحو ثلاثين فارسا وأربعين راجلا ما عدا النساء والأطفال، فعلمت أن القادمين هم الحسين ورجاله، ولكنها استقلت عددهم واستغربت مجيئهم بهذه القلة بعد أن رأت جند الكوفة وكثرتهم، ثم تبادر إلى ذهنها أنها ترى طليعة الجيش وأن البقية آتية، فوقفت جانبا وقلبها يخفق وعيناها شائعتان تتفرسان في وجوههم لعلها ترى عامرا أو عبد الرحمن، فلم تر أحدا، فترجح عندها أن الذين تراهم ليسوا كل الجند، فسألت عبدا كان منفردا عن الركب، فعلمت أنهم الحسين ورجاله جميعا. فاستغربت ذلك وانقبضت لما علمته من كثرة جند الأمويين في القادسية، واشتغل خاطرها على عبد الرحمن وعامر، ثم رأت جماعة أسرعوا فنصبوا فسطاطا كبيرا في سفح الجبل، وبعد قليل أقبل فارس حسن اللباس والقيافة جليل القدر يحيط به الرجالة وعليه جبة من خز وعلى رأسه عمامة، وقد اختضب بالوسمة (وهي ورق النيل أو نبات يخضب بورقه) وهو في نحو السابعة والخمسين من عمره ولا يزال الجمال ظاهرا في وجهه مع ما فيه من آثار الانقباض، فعلمت أنه الحسين، فاشتغلت لحظة بالتطلع إليه فإذا هو قد ترجل ودخل الفسطاط وهو صامت كأنه يفكر في أمر ذي بال، وأشار إلى رجاله أن يرشفوا الخيل ترشيفا، وسلمى بالباب في جملة الواقفين وعيناها تتنقل في الناس، ثم تحولت إلى سائر المعسكر وتفحصت الرجال ببصرها فلم تجد عامرا ولا عبد الرحمن فاضطرب قلبها وارتابت في كلام الناسك، ثم عادت إلى الخيمة لعلها تجد أحدهما فيها، فرأت فارسا قادما من جهة الصحراء وعليه لباس الأمراء، ففتح له الناس طريقا حتى أقبل على الخيمة وترجل ودخل على الحسين، فلم تعرفه سلمى ولكنها سمعت بعض الناس يتحدثون عنه ويتذمرون من قدومه، ثم علمت أنه الحر بن يزيد التميمي قدم من القادسية في ألف فارس لرد الحسين عن الكوفة، فالتفتت سلمى إلى الناحية الثانية من الجبل فرأت الخيل قد ملأت السهل.
ثم دخل الحر على الحسين وقال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فقال الحسين: «إني ما جئتكم حتى جاءتني كتبكم بأن أقدم إليكم.»
فقال الحر: إننا والله ما ندري ما هذه الكتب.
فقال الحسين: «أتكتبون ثم تنكرون؟!»
قال: إننا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وإنما نحن أمرنا إذا لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد.
فقال الحسين: «الموت أدني إليكم من ذلك.» ثم صاح في أصحابه: «قوموا فاركبوا وانصرفوا.»
فاعترضه الحر قائلا: بل لا ينصرفون.
فصاح الحسين فيه: «ثكلتك أمك، ماذا تريد؟»
قال له الحر: أما لو غيرك من العرب قالها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا ما كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه.
فقال الحسين: «فما تريد؟»
قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله .
قال: «إذن والله لا أتبعك.»
فنظر الحر إليه وعيناه تعتذران عن جرأته وقال: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة ريثما أكتب إلى عبيد الله فأستشيره في أمرك.
الفصل السابع عشر
زينب بنت علي
رضي الحسين بذلك، وأمر الناس بالركوب، فلما سمعت سلمى ما دار بينهما تحققت عجز الحسين عن قتال هؤلاء، واستعاذت بالله من عاقبة ما تراه، ثم عادت إلى شأنها واعتزمت أن تبحث عن عبد الرحمن وعامر بحثا دقيقا، فلم تر خيرا من أن تدخل خباء النساء، وكانت تعرف أكثرهن وهن لا يكدن يعرفنها؛ لأنها لم تقم بينهن طويلا، فتحولت إلى فسطاط دخلته فرأت امرأة لم يقع نظرها عليها حتى عرفت أنها زينب أخت الحسين، وكانت شديدة الشبه به؛ لأنهما من أم واحدة (فاطمة بنت الرسول)، فرأتها في انهماك وبغتة وقد علت جبينها دلائل الاهتمام وعيناها تتوقدان ذكاء وتعقلا، وكانت زينب مشتغلة بطفل بين ذراعيها لا يزيد عمره على سنة وبعض السنة، تربته وتشدو له وعيناه ذابلتان للرقاد وقد أشرق وجهه كأنه يتدفق نورا وحياة، والطفل في غفلة عما حاق بأهله من الأمر العظيم، فعلمت سلمى أنه علي الأصغر ابن الحسين، وهو أصغر أولاده، وكان للحسين ثلاثة أبناء كل منهم اسمه علي، وإنما يعرف بعضهم من بعض بلقب السن فالأكبر اسمه علي الأكبر والثاني علي الأوسط - زين العابدين - والثالث علي الأصغر، وهو هذا.
أما زينب فحالما وقع نظرها على سلمى عرفتها، واستغربت حضورها في تلك اللحظة، ولكنها لعظم ما عانته من الأهوال لم تعد تستبعد شيئا، فابتسمت ابتسامة الترحاب بالرغم من شواغلها واستأنست بها، فأسرعت سلمى إليها تعرض عليها مساعدتها، فأشارت إليها قائلة: خذي هذا الغلام على ذراعك ريثما ينام، فتناولته وحنت عليه حنو الوالدة على ولدها، فلما خلت يد زينب تحولت إلى فراش في بعض جوانب الخباء عليه غلام مضطجع، فتبعتها سلمى ببصرها وتفرست في الراقد فإذا هو علي الأوسط وقد توردت وجنتاه وتصبب العرق من جبينه وذبلت عيناه وهما مفتوحتان حمراوان كالدم ودلائل الحمى بادية فيهما، ورأت صبية جملية الخلقة نجلاء العينين جاثية بجانب المريض، وهي مرتبكة والدموع في عينيها مع ما يتجلى في وجهها من البشاشة الغريزية، فعلمت سلمى أنها سكينة بنت الحسين أخت ذلك الراقد، وكانت سكينة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقا مع خفة في الروح.
فوقفت سلمى وهي تتشاغل بتربيت الطفل وتنظر إلى زينب فإذا هي قد دنت من فراش المريض وجست يده ومسحت العرق عن وجهه، ثم التفتت إلى سكينة وقالت: لا بأس عليه يا حبيبتي بإذن الله، ولا تلبث الحمى أن تفارقه عما قليل بما ينسكب منه من العرق.
فأجابتها سكينة بالبكاء ثم رفعت صوتها وقالت: صبرا على حكم العناية، أما كفانا ما أحدق بنا من الأخطار حتى أصيب أخي هذا بالمرض، فماذا عسى أن تكون عاقبة هذه النوازل؟ قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فأومأت إليها زينب وهي تتجلد: لا تقولي هذا على مسمع من المريض؛ لئلا يشتد مرضه. ثم أمسكتها بيدها وأنهضتها وقالت: قومي يا بنت أخي هلم بنا نتأهب للرحيل فإن أباك قد أمر بالركوب.
فنهضت الفتاة وأخذت تهتم بنفسها، فوقع نظرها على سلمى فعرفتها واستأنست بها؛ لأنها لم تكن تطيق الانقباض؛ لانطباعها على المرح والسرور.
وكان الطفل قد نام على ذراعي سلمى وهي تضمه إلى صدرها وتتيمن بقربه؛ لأنه ابن الحسين وفيه من دم الرسول، فلما أرادت زينب أن تأخذه منها قالت لها: دعيه نائما على ذراعي فإن ذلك أكثر راحة له من الانتقال.
قالت: بورك فيك يا بنية، ولكنني أرى أن أضجعه في الهودج ونحن على أهبة الرحيل.
قالت: إني أذهب في خدمته إلى حيث يسير. دعي أمر العناية به إلي واشتغلي بشئونك.
فأثنت عليها وتحولت إلى فراش علي الأوسط فأنهضته، وأمرت من معها من النساء والجواري أن يأخذن في شد الرحال.
وكان الرجال قد أخذوا في تقويض الخيام وتحميل الأحمال، وركب كل منهم في مركبه، وركبت سلمى في هودج مع زينب والطفل، وهي تشتاق إلى الاستفهام عن عبد الرحمن، ولكنها استحيت أن تسألها وهي في تلك الحال.
أقلع الركب وساروا في طريق وسط؛ بحيث تكون الكوفة إلى يمينهم، والحر ورجاله سائرون بالقرب منهم ليمنعوهم من الرجوع إذا أرادوه.
وكانت زينب وهي في الهودج تشرف من خلال الستور على أخيها ومن معه بعد هنيهة وتعود إلى مقعدها وهي تتأوه، فعلمت سلمى أنها إنما تفعل ذلك لعظم قلقها واضطرابها، فأرادت أن تسليها وتخفف عنها وهي تتوقع أن تستطرق إلى حديث حبيبها فقال: ما لي أراك في هذا الاضطراب يا مولاتي؟
فتنهدت زينب ونظرت إلى سلمى وقالت: تسألينني عن سبب اضطرابي وأنت ترين ما نحن فيه؟! ألا تعلمين أننا ذاهبون إلى القتل؟!
قالت: ولماذا تقولين هذا؟! أن الله ينصر نصراءه ويرفع كلمتهم.
قالت: صدقت يا بنية، ولكنك لو عرفت ما ينتظرنا في الكوفة وفي ضواحيها من الأهوال، وما هنالك من الأعداء وفيهم الفرسان والرجالة لعجبت لمسيرنا، ومعنا الأطفال والغلمان والنساء، وفيهم المرضى والضعفاء والرضع، وليس معنا من الرجال إلا إخوتي لأبي وهم ستة: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، وعبيد الله، وأبو بكر، وما من أولاد أخي الحسين من يستطيع القتال إلا علي الأكبر، وهذا علي الأوسط غلام مريض، ومعنا من أبناء أخي الحسن رحمه الله اثنان صغيران هما أبو بكر والقاسم، وبضعة آخرون من أبناء عمي عقيل الذين قتل أخوهم مسلم في الكوفة. ثم تنهدت وقالت: آه لو تعلمين كيف قتلوه؟
فتذكرت سلمى مقتل مسلم وحان لها أن تظهر نفسها وتستطرق إلى حديث حبيبها، فقالت: إني أعلم بمقتل ذك الشهيد يا مولاتي.
فانتبهت زينب لنفسها وأدركت أنها كان يجب أن تسألها عن حالها فقالت: أظنك من أهل الكوفة، متى جئت منها؟
فقالت: نعم كنت في الكوفة، ورأيت مسلما يناضل بسيفه في بيت طوعة الكندية، ثم رأيتهم يسوقونه والدم يسيل من شفتيه، وعلمت أنهم لما بلغوا به دار ابن زياد قتلوه قتلة لم نسمع بمثلها من قبل؛ أصعدوه إلى أعلى القصر فضربوا عنقه وقذفوا بجثته إلى أسفل.
فصاحت زينب: قتلهم الله! ما أقسى قلوبهم! إني كلما فكرت في ذلك يقشعر بدني.
فقالت سلمى: من أنبأكم بمقتل مسلم؟
قالت: لم نسمعه إلا بالأمس، وكان أخي قد أرسل نفرا من أصحابه للبحث عن حقيقة الحال وفيهم اثنان كنديان لم أر أشد غيرة منهما على الإسلام، جاءانا من أمد بعيد، وقد قص أخي علي من أخبار غيرتهما ما يفرح قلب كل مسلم.
فلما سمعت سلمى ذكر الكنديين خفق قلبها عساهما أن يكونا عامرا وعبد الرحمن، ولكنها تجلدت وسألتها: ومن هما ذانك الرجلان يا سيدتي؟
قالت: لم أرهما يا بنية، ولكني سمعت أخي يذكر أن أحدهما ابن أخ لحجر بن عدي صاحب الغيرة المشهورة في نصرة الحق، وهو الذي قتله معاوية بن أبي سفيان ظلما.
ولم تكد زينب تتم قولها حتى ارتعدت سلمى، وكان الطفل لا يزال على حجرها فأجفل لإجفالها، وصعد الدم إلى وجهها بغتة وأخذت الدموع تتجلى في آماقها. •••
استغربت زينب ذلك من سلمى، ولم تكن تعرفها جيدا ولا تدري علاقتها بعبد الرحمن فقالت: ما الذي غيرك يا بنية؟
فلم تتمالك سلمى عن إرسال الدمع وهي تقول: وهل سمعتم شيئا عن ذلك الوفد يا مولاتي؟
فتنهدت زينب وقالت: والهفي عليهم! فقد بلغني أن ابن زياد اللعين قبض عليهم وفعل بهم مثل ما فعله بابن عمي مسلم.
فصاحت سلمى: أقتلوهم يا سيدتي؟ أقتلوهم جميعا؟! قالت ذلك وهمت بإضجاع الطفل في الهودج إلى جانبها لئلا يعوقها عن الحركة أو إذا تحركت توقظه.
فأدركت زينب أن في الأمر سرا فقالت: لا، لم يقتلوهم جميعا، لا أدري سوى أنهم قتلوا بعضهم.
فقالت: هل قتلوا عبد الرحمن؟ أواه! قتلوه؟! قالت ذلك وهي تلطم وجهها.
فأمسكتها زينب وقد نسيت مصيبتها واشتغلت بما رأته من لهفة الفتاة وبكائها وقالت لها: ومن هو عبد الرحمن يا بنية، وهل من قرابة بينك وبينه؟
قالت: إنه ابن عمي، هل قتلوه وألحقوه بأبي؟
فلما سمعت قولها تفرست في وجهها فرأت فيها شبها بحجر بن عدي فقالت: لعلك ابنة حجر بن عدي؟
فقالت: نعم يا مولاتي إني ابنة ذلك المقتول ظلما، ابنة شهيد الحق الذي ذهب في سبيل نصرة أبيك صهر النبي وابن عمه ووصيه وحبيبه. بالله أخبريني، فرجي كربي، هل قتلوا عبد الرحمن؟
فصمتت زينب لحظة وقد تفتقت جروحها، وتذكرت مقتل أبيها وما يقاسونه من العذاب والبلاء بسبب ذلك، ولكن خاطرها اشتغل بسلمى لما رأته من غريب أمرها إذ تذكرت أحاديث سمعتها عن عبد الرحمن وخطيبته وموتها فقالت: لعلك خطيبة عبد الرحمن؟
قالت وهي مطرقة: نعم يا سيدتي أنا هي تلك التعسة، أنا سلمى الشقية، كتب علي أن أحيا بعد موت أبي وابن عمي. آه يا رباه! ما هذه المصائب! ولكن، هل مات ابن عمي حقيقة؟
فأرادت زينب أن تخفف عنها فقالت: تجلدي يا ابنتي، إني أرى في الأمر سرا عظيما وأمرا غريبا؛ لأني سمعت أن عبد الرحمن فقد خطيبته في دار يزيد بن معاوية في دمشق، وأنه جاء للانتقام لها ولأبيها وأبي رحمهما الله، وهو إنما أراد الذهاب إلى الكوفة سعيا في هذا السبيل. كيف يقولون إنك قتلت وأنت حية؟
فقالت: إنهم قتلوني ثم أحيوني كما قتلوا عبد الرحمن وأحياه الله؛ قد خرجنا من دمشق وأنا أحسبه مات وهو يحسبني مت، ولكنني عرفت بقاءه حيا بالأمس، وقيل إنه معكم فجئت لألاقيه وألاقي عامرا وصينا، فإذا أنا أسمع ما سمعته منك. أشفقي علي يا بنت الرسول وارثي لحالي، اعذريني على ما فرط من عواطفي بالرغم مني، وما أنتم في حال تساعدكم على الاهتمام بمثلي.
فاستغربت زينب كل كلمة تسمعها ولم تفهم السر في موتها وحياتها، ولكنها قالت لها: لا تيأسي من رحمة الله. نعم إن عبد الرحمن وعامرا خرجا إلى الكوفة مع الوفد، ولكننا لم نسمع بمقتل واحد منهما بل سمعنا بمقتل سواهما، ولا أظن هذين إلا على قيد الحياة، فأخبريني عما كان من موتك وموته في دار ابن معاوية، فأخذت سلمى تقص حديثها وزينب تنظر إليها وقد شغلت بما تسمعه من الغرائب عما هي فيه.
لما فرغت سلمى من حديثها آنست زينب فيما سمعته منها عبرة وموعظة، وأعجبت بغيرتها على الإسلام، وعلى الثأر لأهل البيت وشيعتهم، فقالت لها: إن حديثك أثر في خاطري تأثيرا كبيرا، وهون علي ما كنت أتخوفه من الموت، وما الموت بالأمر الذي ينبغي أن نخافه طالما رأينا الحق في جانبنا، فاتخذي حالنا موعظة لك، ثم فتحت ستار الهودج وقالت: انظري إلى هؤلاء وهم خيرة بيت الرسول، إنهم ملقون بأنفسهم إلى القتل لأنهم يعتقدون أن الحق في جانبهم ويرون خيرا لهم أن يموتوا محقين.
فشعرت سلمى بأنها بالغت في شكواها وبيان مصيبتها مع ما تراه من المصيبة التي يتوقعونها عما قليل وهي ضربة شديدة على الإسلام والمسلمين، فابتدرتها قائلة: إني لا أجهل ما نحن فيه يا مولاتي، ومن هو عبد الرحمن ومن أنا أو كل المسلمين في جانب أبناء بنت الرسول وأولادهم. وإنما يسوءني أن يغلب الباطل على الحق، وأن أرى الطغاة ينتصرون على الكرام.
وفيما هما في الحديث شعرتا بالهودج قد وقف، وسمعتا لغطا، فأطلت سلمى من خلال الستور فرأت الركب قد وقف، ووقف الحر ورجاله بإزاء الحسين ورجاله، وإذا برجل على ناقة قادم من الكوفة وقد نكس قوسه وترجل إلى الحر ودفع إليه كتابا.
فقالت زينب: ماذا عسى أن يكون خبر هذا الساعي؟ وما في كتابه؟ قالت ذلك وترجلت، فترجلت سلمى، وأسرعتا إلى الحسين ووقفتا تنتظران ما يكون من أمر ذلك القادم، فإذا بالحر قد تناول الكتاب وقرأه ثم تحول إلى الحسين وهو يقول: هذا كتاب من الأمير عبيد الله بن زياد، هل أتلوه عليك؟ قال الحسين: «اتله.»
فقرأه فإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلا بالعراء في غير خضرة وفي غير ماء، وقد أمرت رسولي، أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.»
فلما فرغ الحر من تلاوة الكتاب نظر إلى الحسين كأنه يعتذر له من الأمر وقال: لا أقدر أن أنزلك إلا في هذا المكان. وأشار إلى سهل كربلاء على مقربة منهم، والفرات من ورائه والجند يحول بينه وبين الماء.
فتقدم الحسين إليه أن ينزله في مكان فيه ماء، فأبى وساقهم إلى كربلاء.
وأما سلمى فنسيت قلقها على عبد الرحمن وعامر، وانشغلت بأمر الحسين وأهله، ولازمت زينب والطفل. أما زينب فإنها عهدت في أمر الطفل إلى سلمى واشتغلت بخدمة الباقين ولا سيما الغلام المريض؛ فإن الحمى عاودته.
وأشرفوا في الصباح على كربلاء وسلمى في الهودج، فرأت جند الكوفة قد ملئوا السهل وحالوا بينهم وبين الماء، فتطاولت بعنقها لعلها ترى الشيخ الناسك قادما لكي تستطلع منه حال عبد الرحمن بعدما سمعته من مسيره إلى الكوفة أو تستفيد منه شيئا يهم الحسين فلم تر أحدا.
أما الحسين وأهله فلما بلغوا كربلاء ضربوا خيامهم وجعلوا أخبية النساء إلى الوراء وخيام الرجال إلى الأمام.
وأما زينب فلم تشأ أن تترك أخاها وحده فسارت إلى فسطاطه، وتبعتها سلمى وهي لا تقل قلقا عنها، فإذا بالحسين جاث بباب خيمته يصلي، فصبرتا حتى فرغ من صلاته، فرأتا رجلا من جند الكوفة قادما عليه، فلما وصل إلى الحسين حياه، فقال له الحسين: «من الرجل؟»
قال: جئت برسالة من أمير هذا الجند عمر بن سعد. قال: «وما رسالتك؟»
قال: إنه يسأل ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟
فقال له الحسين: «إن أهل مصركم هذا كتبوا إلي أن أقدم فقدمت، فأما إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم. أو آتي يزيد بن معاوية فأضع يدي في يده.»
فلما سمعت سلمى قوله بكت لما توسمته في جوابه من دلائل الاستسلام.
الفصل الثامن عشر
التآمر على الحسين
وفيما كانت سلمى عائدة لاحت منها التفاتة إلى بعض جوانب البر فرأت شبحا مسرعا من ناحية الكوفة. ما كادت تراه عن بعد حتى عرفت أنه الشيخ الناسك، فخفق قلبها وهرولت إلى الخباء، فدفعت الطفل إلى أخته سكينة وخرجت لملاقاة الشيخ الناسك، ولما دنت منه سمعته يدمدم ويتمتم فأقبلت عليه حتى التقيا بقرب فسطاط الحسين، فأرسل الناسك شعره على وجهه وأشار إليها أنه يريد أن يكلم الحسين، فاستبشرت بإشارته ، ومشت معه إلى باب الخيمة، فلما رآه الحسين استغرب منظره ولكنه رحب به وتوسم فيه الخير فقال: «أهلا بالشيخ.»
فقال الشيخ: ارجع يا حسين، ارجع إلى المدينة، إنها خير لك وأبقى. إن الناس هنا يريدون بك شرا ولا تقوى على قتالهم.
فقال الحسين: إني أراك مخلصا، فقل ما يبدو لك.
قال: انظر يا مولاي إلى هذا الجند، إنهم أربعة آلاف رجل بقيادة عمر بن سعد، وقد أمروا أن يقاتلوكم، وأنتم فئة قليلة لا تقوون عليهم. قال ذلك وانحدرت عبراته على لحيته.
فتأثر الحسين من منظره ولكنه تجاهل ما يراه وقال: «إني أرى رأيك، فهل من رجوع؟»
قال: اطلب الرجوع، فإن قبلوا كان به وإلا فإنك ... وبكى بصوت عال، فبكت سلمى، وأما الحسين فقال: «لقد علمت مصيري؛ لأني رأيت جدي
صلى الله عليه وسلم
الليلة يدعوني إليه، وما عنده خير مما في هذه الدنيا الفانية.»
فكفكف الشيخ دمعه وقال: أما وقد رأيت رغبتك في الآخرة فاعلم أن ابن زياد لم يجب طلبك، وقد أوشك أن يجيبه، لولا ذلك الخائن.
قال: ومن هو؟
قال: لما بلغت رسالتك ابن زياد قبلها، ولكن رجل السوء كان حاضرا، وهو شمر بن ذي الجوشن، فقام إليه وقال له: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك، والله إن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة؛ فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبته فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.»
فاستحسن ابن زياد الرأي، وبعث معه بكتاب إلى عمر بن سعد رئيس هذا الجند يأمره فيه أن يعرض عليكم النزول على أمره، فإن فعلتم بعث بكم إليه وإن أبيتم قاتلكم، وقال ابن زياد لشمر: «فإن فعل عمر بن سعد فاسمع له وأطع، وإن أبى قتالهم فأنت أمير الجيش، فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.» وهاك فحوى كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد:
إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا تمنيه السلامة والبقاء، ولا لتكون له عندي شافعا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم إلي، وأما إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر؛ فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام.
وقد جاء مولاي شمر اللعين بذلك الكتاب إلى عمر، فعنفه عمر وقال له: «ما أظنك إلا نهيته أن يقبل ما كتب إليه، وأفسدت علينا أمرا كنا قد رجونا أن يصلح، والله إن للحسين لنفسا أبية بين جنبيه.» فلم يصغ شمر لقوله، وخاف عمر أن يخالفه فيقتل، فاتفقا على أن يعملا معا، وتولى شمر إمارة الرجالة، وأظنه قادما إليك في الغد. •••
لم يتم الشيخ كلامه حتى كانت سلمى قد غرق وجهها في الدموع، وزاد في شجونها ذكر شمر بن ذي الجوشن، وكانت تحسبه قد قتل في دمشق على ما قصه عليها الناسك من حديث عامر عند إنقاذه عبد الرحمن من السجن. أما الحسين فسمع كلام الناسك وكأنه ليس بالأمر الجديد عنده، وتجلد وقال: «إننا صابرون لحكم الله، والله مع الصابرين.»
ثم انصرف الناسك فتبعته سلمى وهي ترجو أن تستفهم منه عن عبد الرحمن، فإذا هو قد توغل في الصحراء ولم يلتفت إليها، فوقفت حائرة مستغربة أطواره، ثم حدثتها نفسها أن تلحق به فتنجو من خطر القتل، ولكنها قالت في نفسها: لست خيرا من هؤلاء، فإذا قتلوهم فما الفائدة من بقائي؟ وإذا كان عبد الرحمن ما زال حيا وقتل الحسين فإنهم يقتلونه معه. ثم رأت أن تذهب لعلها تراه ثم تعود، ولكنها لم تدر من أين تعود وكيف؟ فعادت تقول لنفسها: ويلاه! ماذا أعمل؟ أأترك عبد الرحمن لا أعرف مقره ولا أبحث عنه؟ ولكن كيف أخرج من هنا؟ ومن ينبئني بمكانه؟ لا بل أبقى هنا أناضل مع الحسين وأحارب معه ، فإذا انتصرنا كان الحظ حليفنا، ونلنا السعادة في الدارين، وإذا قتلنا فلا أسف على الحياة، ولا أشرف من موتة أموتها مع الحسين وأهل بيته، وما أنا خير من زينب أو سكينة بنت الحسين. ولكني إن استطعت الخروج فقد يحسبني الحسين خرجت هاربة. وبعد التردد استقر رأيها على أن تبقى مع الحسين فإما أن تموت معه أو تحيا معه. فعادت وقد أيقنت بالهلاك إلا أن يأتيهم الله بفرج من عنده.
واتجهت إلى خباء زينب وتحول خاطرها إلى الطفل، فقالت في نفسها: إذا قدر الله فشل الحسين أو قتله فماذا يكون من أمر هذا الطفل؟ وشعرت بانعطاف إليه، ودخلت الخباء فإذا بالطفل يبكي، فأسرعت إليه وضمته وقبلته وسألته عما يريد، فإذا هو يشكو الظمأ، وما في المعسكر قطرة ماء، فبحثت عن زينب حتى رأتها بجانب فراش ابن أخيها المريض وقد تعاظمت الحمى عليه وهو يهذي، فلما سمعت زينب صراخ الطفل نهضت إليه وتناولته وجعلت تقبله ودموعها تتساقط على خديه وهي تقول: اشرب من هذا الدمع لعله يرويك، اشرب إنهم منعوا الماء عنا والكلاب تشربه.
فقالت سلمى: أليس عندنا شربة ماء؟ إني أرى الفرات أمامي؟
فصاحت زينب: إنهم منعونا الماء. ألم تسمعي هؤلاء الظالمين يقولون لأخي: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشا.
فقالت سلمى: قبحهم الله ما أقسى قلوبهم وما أغلظ طباعهم! أيمنعون الماء عن المرضى والأطفال؟ وأخذت تعلل الطفل بخرقة وضعتها في فمه وما زال يمضغها ويمصها، وهو إنما يمص ريقه حتى غلب عليه النعاس فنام.
وفي عصر ذلك اليوم (الخميس 9 المحرم سنة 61ه) كانت سلمى وزينب وسكينة جالسات في الخباء يتحادثن فيما يخفنه على الحسين ورجاله، فسمعن قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات الرجال، فخرجت زينب ثم عادت وهي تقول: لقد أتوا قتلهم الله.
فلما سمعت سلمى ذلك تحمست وثارت الحمية في رأسها وقالت في نفسها: لقد حان وقت الاستشهاد في سبيل الحق، وهل أرى سبيلا إلى الجنة خيرا من هذا؟ وتلثمت بخمارها وأسرعت إلى قوس معلقة في دعامة الخباء فتناولتها وجعلت تبحث عن السيف، وفيما هي في ذلك رأتها زينب فقالت لها: ماذا تفعلين يا سلمى؟
قالت: لا شيء إنما أنا طالبة وجه ربي اليوم.
قالت: لعلك تريدين النزول إلى ساحة الحرب؟
قالت: نعم.
قالت: وأنى لنا ذلك؟ يا حبذا لو أننا ننزل جميعا فنقاتل حتى نقتل مع هؤلاء، ولكن أخي منعنا واستحلفنا أن نأوي إلى الخباء. ألم تري أني خرجت الآن إليه فرأيته جالسا بباب خيمته ومعه سيفه وكأنه لم يسمع صهيلا ولا صليلا، فدنوت منه فرأيته نائما ورأسه إلى ركبته فناديته فأفاق فقلت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه وقال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.» فلما سمعت قول أخي لطمت وجهي وناديت بالويل، فقال لي: «ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله.» واستحلفني ألا أرفع صوتي. وكلامه لا يرد، فهل تريدين غضبه؟ امكثي معنا يا سلمى ويكفيك أن تلاحظي هذا الغلام، وأنا أعالج المريض حتى يقضي الله بما شاء.
فشق ذلك على سلمى وأسقط في يدها، وقد كانت تود أن تستقتل حتى تقتل، أو تلقى شمرا فتطعنه بالحربة أو ترميه بالسهم؛ لأنه سبب كل هذا البلاء، فضلا عما لقيت بسببه في دمشق، وكانت تحسبه مات، فلما علمت أنه حي تضاعف بلاؤها، ولكنها لم تكن لتعصي إشارة الحسين، فوقفت مبهوتة لا تدري ماذا تعمل، على أنها تظاهرت بالإذعان ثم خرجت ملثمة حتى وقفت بإزاء خيمة الحسين، فرأت أخاه العباس قادما على راحلته من معسكر العدو، فعلمت أنه سار إليهم في مهمة، فاستقبله الحسين وسأله عما كان من أمرهم، فقال العباس: «قد استمهلتهم إلى الغد فأمهلونا على أن نستسلم فيسرحونا إلى أميرهم عبيد الله بن زياد، وإلا فليس عندهم غير الحرب.»
لما سمع الحسين ذلك قال: «خسئوا»، ووقف وصاح في أهله، فاجتمع حوله كل إخوته وأبناء عمه وكل من معه من الرجال، ووقفوا ينتظرون ما يقوله وكلهم طوع إشارته، فلما تكامل جمعهم وقف فيهم وقال: «أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء. اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرا. ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا، فإنكم في حل، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.»
فصاحوا جميعا بصوت واحد: لن نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا، فلما سمعت سلمى كلامهم لم تتمالك أن قالت مثل قولهم والدمع ملء عينيها، فانتبه لها بعض الوقوف فالتفتوا إليها فاستحيت وبالغت في إخفاء وجهها.
أما الحسين فعاد إلى الكلام وخاطب أبناء عمه فقال: «يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.»
فأجابوه: سبحان الله! ماذا يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله ما نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
فأرادت سلمى أن تقول قولا فإذا برجل رفع صوته بين الناس وقال: «نحن نتخلى عنك؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدروهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسله فيك. أما والله لو قد علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقي حسامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا؟!»
فسألت سلمى عن القائل فقيل لها: إنه مسلم بن عوسجة، ثم سمعت غيره قال مثل قوله، فانتعشت آمالها وأعجبها ما رأته من الاتحاد والتفاني في سبيل الحق.
فأثنى الحسين عليهم، وتحول إلى خبائه، وتحول الباقون، وسارت سلمى إلى خباء زينب لتفتقد الطفل، وكان الليل قد أقبل، فإذا هو ما زال نائما، فسرت بنومه، ورأت زينب بجانب فراش المريض تمرضه فجلست إلى جانبها وقد انتعشت آمالها بما سمعته في ذلك المساء، وذهب كل إلى فراشه وبقيت زينب وسلمى ساهرتين تمرضان عليا، وتتحدثان.
وفيما هما تتكلمان همسا والليل هادئ، وعلي قد نام وهو يئن من شدة المرض سمعتا قائلا يقول:
يا دهر أف لك من خليل
كم لم بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل
وكل حي سالك سبيلي
وكان الصوت خارجا من فسطاط الحسين فعلمت زينب أنه صوته فلم تتمالك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وهي حاسرة الرأس، فتبعتها سلمى حتى انتهتا إلى الحسين فرأتاه جالسا وبجانبه خادمه يعالج سيفه ويصلحه، فصاحت زينب: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم. ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن. يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
فنظر الحسين إليها وقال: «يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان.» ثم ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «لو ترك القطا لنام.»
فقالت زينب: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، وغلبها الحزن وبرح بها الأسى فخرت مغشيا عليها، فهمت سلمى بها وأجلستها، وقام الحسين لها وقال: «يا أختاه، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله. جدي خير مني، وأبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة.» ثم قال لها: «يا أخية، إني أقسمت عليك فأبري قسمي، ولا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.»
فأطاعته وخرجت وسلمى تتبعها صامتة، وقد أحبت الموت مع الحسين، أما هو فقضى ليله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وأصحابه كذلك، وقضت سلمى ليلتها مثلهم وقد أخذ العطش منهم مأخذا عظيما.
وأصبحوا في اليوم التالي وهو العاشر من المحرم، فاشتغل الحسين بترتيب رجاله فأمرهم أن يدخلوا أطناب الأخبية بعضها في بعض حتى تصير كأنها خباء واحد، وأن يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم، ولم يكادوا يفعلون ذلك حتى رأوا الخيل أقبلت عليهم وفي مقدمتها شمر بن ذي الجوشن، وكانت سلمى واقفة في باب الخباء، فلما رأت شمرا ارتعشت أعضاؤها ورفعت نظرها إلى السماء وطلبت إلى الله أن ينتقم منه.
ثم حدثتها نفسها أن ترميه بسهم ولكنها تذكرت أن الحسين أبى عليهم القتال فصبرت واكتفت بالدعاء وملاطفة الطفل.
أما الحسين فركب راحلته وعليه جبته وقلنسوته وتقدم وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، فسمعه أكثرهم وأصغوا لما سيقوله فقال: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق علي، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. أما بعد: فانسبوني وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين المصدق لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما جاء من عند ربه؟! أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟! أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لي ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة.» فإن صدقتموني فهو الحق، والله ما تعودت كذبا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.» ثم قال: «فإن كنتم في شك من هذا فتشكون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطالبونني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»
فأجابوه: إننا لا نفهم ما تقول. وحملوا وحمل رجاله.
فلما علت الضوضاء صحا الطفل من نومه فأسرعت سلمى إليه وقلبها يتقطع حزنا عليه، واشتغلت بإسكاته وهو يصيح من العطش كأنه ذعر لأصوات الناس فازداد بكاء وعويلا، وزينب مشغولة بنفسها لا تدري ماذا تعمل وقد اشتد المرض بابن أخيها فشغلها الاعتناء به.
وفيما هم في ذلك وقد علت الضوضاء، رأت سلمى فارسا مقبلا من معسكر أهل الكوفة يستحث فرسه نحو الحسين، وكان الحسين واقفا ينتظر ما يبدو وهو لا يصدق أنهم يحاربونه، فلما رأى الفارس مقبلا لبث يتوقع وصوله، ولم يكد يقترب حتى عرف أنه الحر بن يزيد الذي كان قد لقيهم قبل وصولهم إلى كربلاء، ورأته سلمى أيضا من خلال الخيام فعرفته وتعجبت لقدومه، فلما وصل إلى الحسين رمى قوسه بين يديه وهو يقول: جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، أنا صاحبك، حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، جعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ويبلغون بك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، فإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل لي من توبة؟
فقال له الحسين: «نعم يتوب الله عليك، فانزل.»
قال: فأنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول آخر ما يصير أمري.
فقال له الحسين: «فاصنع ما بدا لك.»
فلما سمعت سلمى كلام الحر دمعت عيناها وقالت في نفسها: هل يشعر مثل هذا الشعور ابن زياد أو يزيد؟ ثم رأت الحر يسوق فرسه أمام الحسين نحو أهل الكوفة فتبعته ببصرها وأذنيها، لترى ما يكون منه فإذا هو ينادي أهل الكوفة قائلا: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر، دعوتم هذا السيد الصالح، حتى إذا جاء أسلمتموه. وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه؟ ثم عدوتم عليه لتقتلوه، وأمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومنعتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟ فها هم قد صرعهم العطش. بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ.
ما أتم الحر بن يزيد كلامه حتى حمل أهل الكوفة وفي مقدمتهم عمر بن سعد، وكان عمر هذا أول من رمى سهما في الوقعة، وتصاول الفريقان وتراموا بالسهام حتى وقع بعضها في الخيام.
وكان النهار قد أضحى وسلمى تشاغل الطفل وتسكته، وقلبها يميل إلى النزال لعلها تلقى أجرا في الدفاع عن الحق، وشاعت عيناها وهي تنظر إلى القوم عن بعد لعلها ترى ابن ذي الجوشن فلم تره بين الرجال، فطلعت على مرتفع والطفل بين ذراعيها تقيه بكفيها وزنديها وقلبها يختلج. فأرسلت بصرها في ذلك السهل فرأته مملوءا بالرجال والفرسان من أهل الكوفة بما يزيد عددهم على أربعة آلاف، وليس مع الحسين إلا اثنان وثلاثون فارسا وبعض الرجالة، ولكنها رأت رجال الحسين لا يحملون على جانب من جوانب العدو إلا كشفوه، ثم ما لبثت أن رأت الحر بن يزيد وقع قتيلا، ووقع غيره، فحولت بصرها إلى الحسين فرأته لم يحمل بعد، فما زالت ترجو أن يستبقوه إذا ضعف أمره أو قتل رجاله، ولم تستطع سلمى البقاء هناك خوفا على الطفل من نبل يصيبه، فعادت إلى الفسطاط فرأت زينب وسكينة وفاطمة يبكين بجانب فراش المريض، وسمعته يخفف عنهن ويهون عليهن كأنه شيخ محنك وما به من مرض، ولما رآها مقبلة وأخوه بين ذراعيها يبكي، قال لعمته وأخته: قمن فاستسقين له واتركنني فلا بأس علي، فصاحت زينب: ومن أين نستسقي له وهو يسقينا؟ يا ليته يشرب الدمع فنرويه من آماقنا! قالت ذلك ونهضت إلى الطفل فتناولته وجعلت تقبله وهي تبكي وتضمه إلى صدرها، فبكت سلمى مثل بكائها، ولكنها رأت من الحكمة أن تتجلد وتصبرها، فاسترجعت الطفل إلى حجرها وقالت: تصبري يا سيدتي وسكني روعك، لعل الله يأتينا بفرج من عنده.
وكانت الشمس مالت عن خط الهاجرة فسمعت سلمى في المعسكر أصواتا متداخلة، فهرعت وخرجت من الفسطاط، وخرجت زينب في أثرها، فرأت الحسين يصيح في رجاله يدعوهم إلى صلاة الخوف، فتجمع الرجال ووقفوا والنبال تتساقط عليهم وصلى فيهم الحسين صلاة حارة يخشع لها قلب الجماد، فلما فرغوا من الصلاة تجددت آمالهم واطمأنت قلوبهم - والصلاة أحسن معز للإنسان في ضيقه - فتقدم أحد رجال الحسين حتى أقبل على أهل الكوفة، وفيهم حملة النبال والسيوف بين فارس وراجل، وقال لهم: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى. قال ذلك وهجم وهو يقاتل حتى قتل، وهجم غيره في أثره، وما زال رجال الحسين يقاتلون حتى لم يبق منهم إلا أهل بيته خاصة.
حدث ذلك وسلمى لا تدري ماذا تعمل، والطفل بين يديها، وقد شغل خاطرها بالغلام المريض، فلما رأت رجال الحسين يقتلون طار خوفها ونسيت مصيبتها وغلب عليها اليأس، وأحبت أن تخالف الحسين وتقاتل معه، ولكنها لم تجد سبيلا إلى ذلك والطفل يتوجع وقد تقطع قلبها لبكائه، وفيما هي في تلك الحيرة بباب الخباء رأت عليا الأكبر ابن الحسين، وهو شاب أصبح الوجه جميل الصورة، في التاسعة عشرة من عمره، تنبعث الهيبة من عينيه، قد هجم على القوم بسيفه وهو ينشد قولا حماسيا، فخيل إليها أنه فرج مرسل من السماء، ولكنها ما لبثت أن رأته أصيب في صدره فخر صريعا يتخبط بدمه، وكان أبوه الحسين بالقرب منه فصاح: «قتل الله قوما قتلوك يا بني، ما أجرمهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول!» قال ذلك وانهملت الدموع من عينيه، فلم تتمالك سلمى أن صاحت: قتلوه قتلهم الله.
وما أتمت كلامها حتى رأت زينب تهرع وهي تنادي: وا أخياه وابن أخياه! وجاءت حتى أكبت عليه، فأخذ الحسين برأسها فردها إلى الفسطاط، ونادى فتيانه فقال: «احملوا أخاكم.» فحملوه حتى وضعوه في الفسطاط، فتكاثرت النبال المتساقطة هناك فأصيب غيره، وكلما أصيب واحد حملوه إلى ذلك المكان.
وخافت سلمى على الطفل فأرادت أن تلجأ إلى الخباء، فرآها الحسين والطفل بين يديها، فأشار إليها أن تأتي، فأتت والطفل يبكي من العطش وقد بح صوته، وهي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من ذراعه وأسرع نحو المعركة فأسرعت إليه وشخصت ببصرها إليه وقلبها يختلج خوفا عليه، ولم تفهم معنى ذلك ولم تدر ما تعمل، فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة والطفل مرفوع بين يديه ويقول لهم: «يا أهل الكوفة خافوا من الله واسقوا هذا الطفل، إذا كنت أنا في اعتباركم ظالما أستوجب الموت فما ذنب هذا الطفل الصغير؟ يا قوم خافوا من الله واذكروا عذاب يوم أليم.»
فتأثرت سلمى من ذلك الكلام وحسبت أولئك القوم يحنون على الطفل فيسقونه، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلا من نبالة الكوفة أوتر قوسه ورمى الطفل وهو يقول: خذ اسقه. فأصاب السهم أحشاءه، فصاح الطفل صيحة الألم، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم أصاب قلبها، وركضت إلى الحسين والطفل يختلج بين يديه وقد تدلى رأسه على صدره والدم يقطر من جبينه، فصاحت: ويلاه! ما أظلمهم! ويلاه! ما أقسى قلوبهم! وهمت بتناول الطفل فمنعها الحسين من ذلك وقال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده وعمه وأهله الصالحين.» ثم رفع يديه والغلام بينهما وشخص ببصره إلى السماء وقال: إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته وفيهم إخوة الحسين وأولاده وأبناء عمه وأبناء أخيه، والتفت إلى سلمى وقال لها: «ارجعي يا فتاة إلى الخباء.» فتراجعت وقلبها يقطر دما وعيناها تسكبان الدمع ولم تجد سبيلا إلى مخالفة الحسين.
وبينما هي راجعة وكفاها على عينيها تستلقي الدمع وتندب القتلى أحست بيد قبضت على يدها وجرتها بعنف شديد، فأرادت أن تجذب يدها ونظرت فإذا بالشيخ الناسك وهو كالأسد الكاسر قد طوق خصرها وحملها بين ذراعيه كأنه من مردة الجان، وخرج بها من بين الخيام حتى أتى مضيقا فوق الخندق مر فوقه، وهي تظن نفسها في حلم. حتى إذا وصل بها إلى كهف وراء الخيام، ألقاها إلى الأرض وهو يلهث من شدة التعب فصاحت فيه: إلى أين تذهب بي يا عماه؟ دعني أمت مع الحسين فإنها أحسن موتة يرجوها المؤمن في دنياه.
فلم يستطع الشيخ أن يجيبها لتسارع أنفاسه من التعب، ولكنه أشار إليها أن تصبر فحاولت الإفلات منه والرجوع إلى المعركة فأمسكها وأقعدها وهو يقول بصوت متقطع: ليس الموت مما يسرع إليه. وكيف تتركين عبد الرحمن؟
فلما سمعت اسم عبد الرحمن تجددت أحزانها وزادت شجونها فبكت بصوت عال وقالت: أين هو عبد الرحمن؟ ألم يسبقني إلى العالم الآخر. دعني أمت وألحق به.
قال: من أنبأك بموته؟
قالت: نعم إنه مات وسبقني. دعني ألحق به. دعني أمت مع الحسين وأهل بيته.
قال: إن عبد الرحمن لم يمت يا بنية، فهدئي روعك واعلمي أن الحسين مائت، ولا فائدة من الدفاع عنه.
قالت: أتعلم أنه مائت وتطلب بقائي؟ وما الفائدة من بقائي وبقاء عبد الرحمن إذا مات سيد شباب المسلمين؟ دعني أمت معه. قالت ذلك ونهضت وهي تقول: لا. لا. لا يموت. من يجرؤ على قتله؟! ومن يمد يده إليه ولا تيبس؟! وأي أرض تتلقى دمه ولا تجف؟! لا. لا يجرءون على قتله وهو ابن بنت الرسول وسيد شباب المسلمين.
فأمسكها الشيخ بيدها وقال: ألا تصدقين أنه مائت؟
قالت: لا.
قال: قومي وانظري موته.
فقامت وهي تهرول في مشيتها حتى وقفت على أكمة تشرف على الوقعة فرأت الحسين يمشي نحو فسطاطه والدم يقطر من فمه لسهم كان قد أصابه هناك ولم يقتله، ولم يصل إلى الفسطاط حتى أحاط به جماعة من رجال الكوفة فيهم رجل أبرص ما كادت سلمى تراه حتى عرفت أنه شمر بن ذي الجوشن، فأرادت أن تصيح فأمسكها وأسكتها.
فوقفت كأنها على الجمر وعيناها على الموقعة فرأت رجلا يضرب الحسين على رأسه بالسيف فقطع السيف القلنسوة وأصاب رأسه وامتلأت القلنسوة دما، فرفع الحسين القلنسوة وشد رأسه بخرقة، ثم وضع عليه قلنسوة أخرى بينما رجع عنه شمر ومن كان معه، فحسبتهم قد عدلوا عن قتله، ثم رأت الحسين عائدا إليهم ومعه ابن أخيه عبد الله، وهو غلام لم يراهق كان عند النساء، فلما رأى عمه في ذلك الضيق لم يتمالك عن أن تبعه وزينب في أثره، فسمعته يقول لها: «احبسيه يا أختي.» فأرادت أن ترجعه فأبى وامتنع عليها امتناعا شديدا وقال: والله لا أفارق عمي. ولم يتم كلامه حتى رأى رجلا يهوي بالسيف على الحسين، فصاح الغلام فيه: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟!
فضربه الرجل بالسيف فاتقاها الغلام بيده فانقطعت يده إلى الجلد حتى تدلت وهي معلقة بقطعة من جلد وأصيب رأسه، فنادى الغلام: يا أماه! فهم الحسين به وضمه وهو يقول: «اصبر يا ابن أخي على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين.»
ومات الغلام لساعته وألحقت جثته بجثث أهله وسلمى تنظر، فطار صوابها ولم تعد تستطيع صبرا، فإذا بالحسين قد دعا بسراويل يمانية قطعها ولبسها، فلما رأته يقطعها استغربت ذلك منه، فقال لها الشيخ: أتعلمين لماذا فعل ذلك؟ لقد قطع السراويل لكيلا يسلبوها بعد موته.
قالت: أهو مائت كما تقول؟ لا أظنهم يقتلونه.
ولم تتم كلامها حتى رأت شمر بن ذي الجوشن هاجما عليه، ولم يكن قد بقي أحد مع الحسين إلا ثلاثة رجال قتلوا بين يديه، فهجم الحسين عليهم وعليه القلنسوة والجبة وتلك السراويل المقطعة، وهي هجمة اليأس، وكأنهم ذعروا لهجومه ففروا من بين يديه فرار المعزى من الوحش، فاستبشرت سلمى بذلك وقالت للشيخ: ألم أقل لك إنهم لن يقتلوه؟! ألا تراهم كيف يفرون أمامه؟!
ولم تقل ذلك حتى رأت السهام تتساقط عليه كالمطر، وقد صار كالقنفذ، فأحجم الحسين والرجال واقفون بإزائه لم يجرؤ أحدهم أن يبدأ بقتله، وعند ذلك خرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط وصاحت وجند الكوفة يسمعها: يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها.
فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد.
الفصل التاسع عشر
مقتل الحسين
ثارت الحمية في رأس سلمى وأفلتت من يد الناسك وانطلقت نحو الخيام فاعترضها الخندق والنار لا تزال تتقد فيه، ولم تجد المضيق الذي حملها الناسك عليه، فوقفت وهي تتلفت لعلها تجد مسلكا إلى المعركة فسمعت ابن ذي الجوشن يقول لرجاله: ويحكم! ما تنتظرون؟! ثكلتكم أمهاتكم. فالتفتت سلمى فرأت الرجالة حملوا عليه، فضربه أحدهم على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر على عاتقه، فكبا الحسين على وجهه إلى الأرض، فصاحت سلمى وهي لا تدري ما تقول: ويلكم! قتلتم الحسين، شلت أيديكم! وهرولت ونفسها تحدثها أن تثب من فوق الخندق ولو وقعت في النار، وكان الشيخ قد أدركها وأمسك بذيل ثوبها وهي لا تبالي به وعيناها شائعتان إلى الحسين وهو طريح بجانب جثة أولاده وإخوته وقد اختلطت دماؤهم، ولكنه لم يمت، فرأت شمرا وثب عليه وسيفه بيده فوضع السيف في عنق الحسين وحزه حتى انفصل فسمعت سلمى بعد الحز شخيرا، ثم رأت شمرا رفع الرأس بيده وقد سقطت القلنسوة عنه وبان شعره، وقد تخضب بالدماء وأغمضت العينان، وناوله إلى رجل بإزائه وقال له: احمله إلى الأمير عمر بن سعد.
فجثت سلمى وغاب رشدها ولم تعد تعرف ماذا تعمل، وكانت قد انتقلت من موضعها بغير أن تنتبه، فرأت على عوض الخندق خشبة، فأفلتت من الشيخ ووثبت عليها وأسرعت نحو المعركة وهي تصيح: ويلك يا شمر! يا ظالم يا لعين! كيف تلقى وجه ربك يوم الدين؟!
وما وصلت إلى فسطاط زينب حتى رأتها راجعة من المعركة ومعها نساء أخريات، وفي أثرهن بعض رجال الكوفة، يقبض الواحد منهم على ثوب المرأة فتنازعه وهي تفر أمامه حتى ينزع ثوبها عنها، فأرادت سلمى أن تدافع فأمسكتها زينب بيدها وأدخلتها معها الفسطاط حيث الغلام المريض.
فدخلن الخباء ودخل في أثرهن رجال والسيوف مشرعة في أيديهم، وهموا بفراش الغلام يريدون قتله، فصاحت سلمى فيهم: ويلكم! أتقتلون الصبيان؟ وخنقتها العبرات، وصاحت النساء مثل صيحتها.
وفي تلك اللحظة وصل عمر بن سعد فقال لأصحابه: لا تقتلوا أحدا من النساء، ولا تأخذوا منهن شيئا، وكفوا عن المريض. وأمرهم أن يحيطوا بالفسطاط لئلا يدخله أحد، وأوصاهم أن يحرسوا الأخبية لئلا يخرج منها أحد.
أما سلمى فانقطعت للبكاء هي وزينب وسائر النساء حتى علت الضوضاء وارتفعت أصوات العويل مما يتفتت له الصخر.
ثم سمعت سلمى وقع حوافر وضجة فأطلت من خلال الخباء فرأت عشرة فرسان جاءوا بخيولهم إلى حيث جثة الحسين ومعهم أميرهم عمر بن سعد، وقد أمرهم أن يطئوا ظهر الحسين بخيولهم.
فرأتهم يطئون جثته بحوافر الخيل حتى رضوه، وهي تتألم لذلك كأنهم يطئون على حدقة عينها، فقالت في نفسها: ما عاقبة ذلك يا رباه؟ ولكنها لم تخبر زينب خوفا عليها. •••
أرسل الكوفيون رءوس القتلى إلى ابن زياد وباتوا تلك الليلة في معسكرهم بقرب كربلاء، وقد أقاموا حراسا على خيام الحسين وفيها نساؤه وجواريه وليس فيهم من الذكور إلا ابنه علي الأوسط الملقب بزين العابدين وهو مريض.
وأسدل الليل نقابه، وانقضت المعركة وقد قتل الحسين وأهله وأصبحوا جثثا هامدة لا حراك بها، واستكنت عناصر الطبيعة، وأشرق القمر وهو في ليلته الحادية عشرة، فتكبد السماء قبيل العشاء. وأرسل أشعته على كربلاء وقد كانت في صباح الأمس قاحلة ظامئة فأمست وقد ارتوت من دماء الأبرياء، ولو أدرك ذلك التراب فظاعة ما جرى فيه في ذلك اليوم المهول لفضل الظمأ على الارتواء. أو لو علم القمر بموقع أشعته تلك الليلة لحبسها ليستر ذلك الجرم الذي لم يتفق مثله في تاريخ العمران.
أما سلمى فلما أقبل الليل وهدأت الطبيعة استولى عليها الجمود، ولبثت صامتة وطنين السهام لا يزال في أذنيها بما يتخلله من أصوات الناس، ولا سيما صوت الحسين وهو يزجر الناس ويعظهم ويستعين الله، فتمثل لها ما رأته في آخر الوقعة من مقتل الحسين وحز رأسه ووطء الخيل على ظهره، فاقشعر بدنها وشعرت بانقباض شديد، وضاق صدرها وتاقت نفسها للبكاء، ولا يحلو البكاء إلا بجانب الميت، فأحبت الخروج إلى مكان الوقعة لتشاهد تلك الجثة الساكنة وتبكيها لتفرج كربتها ، فنهضت وهي تتظاهر بحاجة نفسها حتى خرجت من الخباء، ولم يمنعها الحراس لاشتغالهم بالحديث عما كان.
فانسلت بين الخيام حتى تجاوزت المعسكر وأشرفت على الموقعة وقد عرفت المكان بما ينعكس عن مستنقعات الدماء خلال الجثث من الأشعة الحمراء، فلما رأت ذلك اختلج قلبها في صدرها لما تتوقع أن تراه هناك من الأجساد المضرجة بالدماء، ولا رءوس لها، فمشت الهويناء وركبتاها ترتعشان، وتذكرت ما كان من الضوضاء في ذلك الفضاء وما آل إليه من السكون المرعب، فازدادت رهبة حتى حدثتها نفسها بالرجوع، ولكنها تجلدت وظلت في سبيلها وهي تتلمس الطريق وعيناها شاخصتان في الجثث، فارتعدت فرائصها لما عاينته من الأمر الفظيع، رأت جثثا مطروحة لا حراك بها ولا رءوس، لها وأكثرها عار من الثياب؛ لأن القاتلين سلبوها الأثواب إلا ما يستر العورات. وبينما هي تخطو خطوة الخائف الهائب سمعت صوتا خارجا من بين القتلى، فاقشعر جسمها ووقف شعرها وجمد الدم في عروقها، فوقفت وأصاخت بسمعها وقد غصت بريقها وأمسكت نفسها وتفرست في مكان الصوت وهي على قيد أذرع منه، فرأت شبحا يتحرك، فجثت في منخفض يكاد يواريها وقد ودت لو أنها لم تتجشم القدوم إلى ذلك المكان، على أنها ما لبثت أن رأت ذلك الشبح يقول: رحمك الله يا ابن بنت الرسول. رحم الله بدنا حمله الرسول على ذراعيه وقبله بشفتيه. لعن الله القوم الظالمين. كيف تجرءوا على هذه الفعلة الشنعاء؟ كيف مدوا أيديهم إلى هذا الجسم الطاهر وفيه رائحة سيد المرسلين؟
فلما سمعت سلمى الصوت عرفت أنه صوت الشيخ الناسك، فاطمأن بالها وسكن روعها، ولكنها أحبت البقاء في مكانها لتسمع ما يقوله، حتى إذا أبكاها قوله بكت وفرجت كربتها، فسمعته يبكي ويشهق ويقول: قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم! ألم يخافوا من موقف اليوم الرهيب؟ تجرءوا على قتلك وفيك بقية من دم الرسول وأنت ابن ابنته، وقد قال فيك: «أنا من حسين وحسين مني.» كيف يلقون وجه ربهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا؟ ويل لهم! قتلوا سيد شباب المسلمين قتلة لم يقتلها كافر ولا منافق ، ولم يكتفوا بقتلك وا أسفاه عليك، بل قطعوا رأسك ووطئوا ظهرك بالخيل. ولكنني أراك مستقبلا السماء وقد بسطت ذراعيك كأنك تشكو أمرك إلى ربك وتدعو للانتقام منهم. وما ربك بغافل عما يعملون. الويل لي أنا الشيخ التعس، ويل لشيخوختي. كتب علي أن أرى خير المسلمين يقتلون، وقد كنت أتوقع إذا حييت أن أرى الحسين مالكا رقاب المسلمين فتنتقم لي من ذلك الظالم الغادر قاتل الأبرياء، فآخذ بثأر فلذة الكبد وحشاشة القلب المقتول في سبيل الحق. حتى إذا لقيت أجلي فارقت الحياة مجبور القلب وقد عاينت الحق سائدا والباطل مذعورا، فقضيت شيخوختي ناسكا هائما لا آوي المنازل ولا أبيت إلا في الخلاء، ولكن أبى الله إلا أن أرى الحسين وأولاده وأبناء أخيه وأبناء عمه جثثا لا حراك بها، وأرى الدم يجري من رقابها وجوانبها، وأرى أبدانها مكشوفة وقد تلطخت بالدماء المجبولة بالتراب، أبدانا بلا رءوس، فيا لله من هذه البلية! ولما بلغ الشيخ إلى هذا الحد خنقته العبرات فسكت وأوغل في البكاء.
أما سلمى فلم تتمالك عن البكاء وهي تسمع نواح الشيخ، ولكنها استغربت ما جاء فيه من التعريض والتلميح، ولم تفقه ما وراءه، ولو علم الشيخ أنها تسمعه ما صرح بما يكنه ضميره، وقد صبر على كتمانه بضع عشرة سنة.
ولبث الشيخ صامتا برهة، وسلمى تتوقع أن تسمع منه شيئا جديدا، لعلها تستطلع حقيقة حاله، فإذا هو قد نهض ثم ألقى بنفسه على جثة الحسين، وجعل يقبلها ويتمرغ في دمائها ويقول: «ما أطيب ريحك يا حسين، وما أذكى ترابك! تبا لهم كيف يقتلونك وأنت بقية خاتم النبيين، أستحلفك بالله إذا لقيت حجرا أن تقرئه السلام، وأن تخبره أني صبرت على قتله صبر الرجال، وسأصبر حتى ألحق به، وأراه وقد أخذت بثأره، وأرجو ألا أموت قبل أن أنال هذه النعمة، وإذا لقيت جدك رسول الله أخبره بما فعل المسلمون بعده، أخبره كيف فعل الطغاة بالصالحين، قل له إنهم انقسموا على الخلافة، وباعوا الحق بالباطل، ولا غرو فقد علم
صلى الله عليه وسلم
بذلك، وتنبأ به قبل وقوعه، وها قد نزل القضاء.»
ثم نهض الشيخ عن الجثة وقد تلطخ وجهه بالدم وازدادت لحيته تجعدا واخلاطا، فرفع بصره نحو السماء، وبسط يديه وهو يقول: «اللهم أنت أعلم بما فعل أولئك الأدعياء بابن بنت نبيك وأهله، اللهم أنت أعلم بما يقاسيه أنصار الحق من الجور العظيم، اللهم أقول كما قال الحسين: «إن منعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة منهم أبدا.» فإنهم دعوا الحسين لينصروه، ثم عدوا عليه فقتلوه.»
ولم تعد سلمى تصبر عن إظهار نفسها، فتحفزت للوقوف، ولم تكد تقف حتى رأت الشيخ ينظر إليها ويتفرس فيها، فلما عرفها ذعر ذعرا شديدا كأنه رأى ماردا من مردة الجن، وصاح قائلا: أأنت هنا يا سلمى؟! وتحول مثل لمح البصر، وعدا عدو الظبي النافر يلتمس الفضاء.
فنادته واستوقفته وهو لا يسمع ولا يصغي، فظلت واقفة حتى توارى عن بصرها، فاستجمعت رشدها ولم تستغرب ذلك النفور من الشيخ لعلمها بأطواره من ذي قبل، ثم مشت نحو الجثث وهي تتفرس فيما بين يديها من أيد مبتورة قد عفرها التراب، وسهام منثورة أغفلها الرماة، واشتمت رائحة الدماء، وقد تعفن بعضها وتصاعدت ريحه، حتى أقبلت على الجثث وكلها بلا رءوس، والجثث برءوسها ترهب قلب الشجاع، فكيف وهي على تلك الحال بين يدي فتاة لم تتعود القتال! ولكن سلمى إنما أقدمت على ذلك وقد غلب عليها اليأس، فتفرست في تلك الجثث، ولكنها عرفت جثة الطفل المقتول لأنها أصغرها جميعا، فهمت به وقبلته، وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وتذكرت مصائبها وما يشغلها من أمر عبد الرحمن وهي لا تعلم مصيره ولا أين هو، على أنها تذكرت قول الناسك ببقائه حيا، ولكنها حملت ذلك منه على رغبته في اطمئنانها لكي تبقى معه، فجعلت تندب حالها وما قاسته من العناء والبلاء حتى استنزفت الدمع.
رأس الحسين
ثم انتبهت وخشيت أن يشعر بها الحراس فطرحت جثة الطفل فوق جثث أهله، وقالت: الوداع أيها الساكنين بلا حراك، الوداع إلى يوم المحشر الرهيب ، وعسى أن ألحق بكم وأنا أحمل خبر الانتقام لكم بإذن الله. وهي إنا ترجو ذلك بما سمعته ساعتئذ من كلام الشيخ الناسك من هذا القبيل.
ثم عادت إلى الخيام حتى دخلت الفسطاط، فرأت زينب في قلق عليها، فاعتذرت بانشغالها بأمر نفسها.
وفي ضحى اليوم التالي عاد عمر بن سعد بجنده إلى الكوفة، وساقوا معهم نساء الحسين وجواريه وبنتيه سكينة وفاطمة وأخته زينب، وابنه عليا المريض، وتنكرت زينب بثياب حقيرة حتى لا يعرفها أحد، وسارت سلمى معها متنكرة أيضا حتى دخلوا الكوفة فرأوا أهلها يطلون من النوافذ والكوى ليشاهدوا بقية بيت الرسول، وسلمى تتفرس في الناس من خلال النقاب لعلها تجد عبد الرحمن أو عامرا بينهم فلم تر أحدا. حتى إذا أقبلوا بهم على قصر الإمارة مشت زينب وسلمى ومعهما بعض الجواري، وجلسن في ناحية من القصر على مقربة من مجلس ابن زياد، وكان ابن زياد جالسا والناس حوله، ورأت سلمى بين يديه رأس الحسين وقد تعفر وتقلصت شفتاه وبانت ثناياه وتلطخ شعر لحيته بالدماء والتراب حتى أصبح الشعر كتلا متجمدة، وابن زياد ينظر إلى الرأس ويبتسم وفي يده قضيب يضرب به ثنايا الحسين، ورأت بجانب ابن زياد شيخا جليل القدر عرفت بعد ذلك أنه زيد بن أرقم صاحب الرسول، فلما رآه الشيخ يضرب بالقضيب ثنايا الحسين قال له: «ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين؛ فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليهما ما لا أحصيه.» قال الشيخ ذلك وانتحب باكيا.
قال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟! والله لولا أنك شيخ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
فنهض الشيخ من بين يديه وخرج.
ثم انتبه ابن زياد إلى النساء الداخلات فالتفت إلى زينب وقال: من هذه التي انحازت وجلست ناحية ومعها نساؤها.
فلم تجبه زينب.
وعاد ثانية وسأل عنها فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله.
فنهض ابن زياد حتى أقبل عليها، فلما رأته سلمى مقبلا بالغت في التقنع لئلا يعرفها. أما هو فحسبها من جملة جواري زينب أو خدمها فلم يلتفت إليها، بل خاطب زينب قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
وطهرنا من الرجس تطهيرا. إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟
قالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وليجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة فيتحاجون إليه ويختصمون عنده.
فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له بعض أهل مجلسه: أيها الأمير، إنها امرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطئها.
فالتفت ابن زياد إليها وقال: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك.
فلما سمعت زينب ذلك الكلام أحست بضعفها ورقت وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد شفيت.
فقال لها على سبيل التهكم: هذه شجاعة ولعمري كان أبوها شجاعا شاعرا.
فقالت: ما للمرأة والشجاعة؟ إن لي عن الشجاعة لشغلا.
فهز ابن زياد رأسه هزة التهديد، وتحول إلى حيث كان علي بن الحسين ممدا وهو ما زال مريضا فقال له: من أنت؟
فقال: أنا علي بن الحسين.
فالتفت ابن زياد إلى من حوله وقال: ألم يقتل علي بن الحسين؟ فأجابه علي وقال: كان لي أخ يسمى عليا قتله قومك.
قال ابن زياد: بل الله قتله.
فقال علي: الله يتوفى الأنفس حين موتها.
فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجدالي؟! وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.
فلما سمعت زينب ذلك نهضت نهضة الأسد، وتعلقت بالغلام واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه.
فنظر ابن زياد إليه وإليها ساعة ثم قال: عجبا للرحم! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه. دعوه. ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر ودخل المسجد فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته.
فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان من شيعة علي فقال له: يا عدو الله إن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه. يا ابن مرجانة، أتقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟!
فقال ابن زياد: علي به.
فأخذه الجلادون ثم قتلوه، وكان قتله قاضيا على المجاهرة بنصرة أهل البيت.
أما سلمى فإنها لم تفتر لحظة عن التفرس في وجوه الناس، والتسمع لما يصل إليها من أحاديثهم لعلها تسمع شيئا عن عبد الرحمن أو عامر، فلم تقف لهما على أثر، ولم تكن قادرة على الخروج إلى المدينة للبحث عنهما؛ لأنها معدودة من جملة نساء زينب، ولا بد من إرسالها معهن مخفورة إلى دمشق، ولم يكن لها أمل في بقاء عبد الرحمن لو لم تسمع الناسك يؤكد بقاءه، وكانت قد حملت قوله محمل التشجيع لها فلم تصدقه، ولكن الإنسان مفطور على التعلق بحبال الآمال ولو كانت أوهن من نسيج العنكبوت.
أما ابن زياد فأمر برأس الحسين فداروا به في سكك الكوفة على رمح، ولم يبق أحد إلا رآه، وفيهم من شمت بموته، وهم قليلون، ولكن أكثرهم ودوا لو أنهم لم يقتلوه.
الفصل العشرون
في دمشق الشام
وبعد أن طافوا بالرأس في أسواق الكوفة أمر يزيد جماعة من رجاله أن يحملوا رأس الحسين ورءوس أصحابه ومن بقي من أهل بيت الحسين إلى دمشق ليرى رأيه فيهم، فحملوا الأحمال وقاموا يطلبون الشام، وسلمى في جملة الأسرى لا تفارق زينب وسكينة وفاطمة، وكانت تعزية كبرى لهن، ولم يكن عالما بحالها إلا زينب، ولكن مصابها شغلها عن التحدث معها عن عبد الرحمن وعامر، ولم تجرؤ سلمى على فتح ذلك الحديث.
وكان يزيد بن معاوية بعد أن أمر ابن زياد على الكوفة وأوصاه بدفع الحسين لم يهدأ له بال وهو يفكر في حال الشيعة؛ لعلمه أن قلوب المسلمين مع الحسين، ولكنه كان شديد الثقة بابن زياد؛ لما يعلمه من دهاء أبيه زياد من قبله، وكان يرجو أن يكون له كما كان أبوه لأبيه ، على أنه لم يكن يتوقع بلوغ الشدة بابن زياد حتى يفتك بالحسين وأولاده وأهل بيته إلى هذا الحد.
وكان لا ينفك عن استطلاع الأحوال ممن يرد عليه من رسل ابن زياد حينا بعد حين، فعلم بنهوض الحسين من مكة وقدومه إلى الكوفة، ثم لم يعد يسمع شيئا. حتى إذا كان في مجلسه ذات يوم وقد جلس الأمراء والأعيان بين يديه إذا بغلامه دخل وأنبأه أن بالباب رسولا من الكوفة، فخفق قلب يزيد لما يتوقعه من الخبر الجديد فقال: ليدخل.
فدخل رجل عليه أمارات السفر وقد تزمل بعباءته واعتم بكوفيته، فابتدره يزيد قائلا: من الرجل؟
قال: زجر بن قيس رسول عبيد الله بن زياد إلى أمير المؤمنين.
قال: وما وراءك؟
قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره.
فاستبشر يزيد وأشرق وجهه وابتسم وقال: بشرك الله بالخير.
قال: اعلم يا أمير المؤمنين أن الحسين بن علي ورد علينا في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال.
فقال: وهل قاتلتوهم؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، إننا عدونا عليهم من شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون بالآكام والحفر كما لاذ الحمائم من صقر.
فصاح يزيد: بورك فيكم وشد أزرنا بكم.
فقال زحر: ثم والله ما كان إلا جزر جزور أو نومة نائم حتى أتينا على آخرهم.
فابتدره يزيد وقد بغت وقال: وهل قتلتموهم جميعا؟
قال: نعم يا مولاي، وهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقاع سبسب.
فصاح يزيد صيحة قوية وقال: والحسين؟
قال زحر: والحسين أيضا.
فدمعت عينا يزيد وأطرق وهو يقول: لعن الله ابن سمية! لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. رحم الله الحسين . قال ذلك وانتهر الرسول وأخرجه من مجلسه ولم يصله بشيء.
فخرج الرسول ويزيد ما زال مطرقا وقد قطب حاجبيه وبان الحزن في جبهته، وفيما هو في ذلك سمع رجلا في صحن الدار يقول: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم.
فصاح يزيد: من ينادي هذا النداء؟
قالوا: هذا محفر بن ثعلبة ومعه جماعة يقولون إنهم جاءوا برأس الحسين.
فقال يزيد: خسئ محفر، والله ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه. ثم قال: أين الرجل. ادخلوا به علي.
فأدخلوه عليه ورأس الحسين على كفه وقد تصاعدت ريحه، فأقبل الرجل حتى وضع الرأس بين يدي يزيد على البساط ومنظره ينفطر له القلب وقد تكمش جلده وتجعد شعره واختلطت رائحة الطيب بروائح الدم المتعفن، وتغير لون الشعر بما خالطه من الدم والتراب، فلما وقع نظر يزيد عليه اقشعر بدنه وتصور هول ذلك العمل الفظيع، وتذكر أنه يرى رأس ابن بنت الرسول فتخشع وتهيب.
وما كاد ينظر إلى الرأس حتى خرجت إليه من وراء الستار امرأة مقنعة هي إحدى نسائه، واسمها هند بنت عبد الله، فاستغرب القوم خروجها على تلك الحال وهم يزيد أن يسألها عن سبب خروجها فصاحت فيه وهي تشير بإصبعها إلى الرأس قائلة: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله؟
قال وهو يتلجلج بكلامه: نعم، فأعولي عليه والبسي الحداد على ابن بنت الرسول، عجل ابن زياد فقتله، قتله الله.
فأخذت في العويل والبكاء ثم أدخلوها إلى خدرها، وأذن يزيد للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه وهو ينظر إليه ومعه قضيب ينكت به ثغره ويقول: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت
قواضب في أيماننا تقطر الدما
يفلقن هاما من رجال أعزة
علينا، وهم كانوا أعق وأظلما
وكان في جملة الحضور رجل من أصحاب الرسول اسمه أبو برزة الأسلمي، فلما رأى يزيد بنكت ثغر الحسين قال له: «أتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ أما والله لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذا لربما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه.» قال ذلك ثم قام وولى.
فلما سمع يزيد قول الرجل نظر إلى الرأس وعيناه لا تزالان تدمعان وقال: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم التفت إلى الناس وقال: «أتدرون من أين أتى هذا ولماذا قتل؟ لأنه علم أن الله أكرم يزيد بالخلافة. قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه.» فأما قوله: أبي خير من أبيه، فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم الله له. وأما قوله أمه خير من أمي فلعمري فاطمة بنت الرسول خير من أمي. وأما قوله: جدي رسول الله خير من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله وباليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه ولم يقرأ:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء .
فلما فرغ يزيد من كلامه علم الناس أنه إنما قال ما قاله تخفيفا لهول فعلته، ولم يجرؤ أحد منهم على قول فسكتوا، ثم سمع يزيد جلبة في الدار فقال: ما هذه الجلبة؟
فقال غلامه: هؤلاء نساء الحسين في صحن الدار.
قال: أدخلوهن.
فأدخلوهن وفيهن زينب أخت الحسين، ومعها فاطمة وسكينة بنتا الحسين وبقية النساء، وفي جملتهن سلمى، وكانت سلمى مقنعة كسائر النساء فلم تكن تخاف أن يعرفها يزيد، وبالغت في التقنع لإخفاء أمرها، ولكنها ما كادت ترى تلك القاعة حتى تذكرت يومها في دار يزيد وموقف عبد الرحمن هناك، فتجددت أحزانها، على أنها صبرت لترى ما يكون.
أما سكينة وفاطمة فتطاولتا من وراء الناس لتريا رأس أبيهما، ويزيد يستره عنهما، فلما رأتا الرأس صاحتا وصاح سائر النساء، وولولت بنات معاوية، وقالت سكينة وكانت أكبر من فاطمة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟!
فأثر قولها فيه فقال: يا ابنة أخي إني لهذا كنت أكره.
فقالت: والله ما تركوا لنا خرصا.
فقال: ما أتى إليكن لأعظم مما أخذ منكن.
فقام رجل من الحضور وهو من أهل الشام وقال ليزيد: هب لي هذه. يعني فاطمة.
فلما سمعت فاطمة قوله ارتعدت فرائصها وعلمت أنه يريد أن يأخذها سبية فخافت وأمسكت بثوب زينب، فالتفتت هذه إلى الرجل وقالت: كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا له.
فغضب يزيد وقال لها: كذبت والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.
قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
فغضب يزيد واستطار ثم قال: أإياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.
قال: كذبت يا عدوة الله.
فقالت: أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك.
فاستحيى وسكت.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخلوه عليه والغل في يديه ورقبته، وهو غلام صغير وقد تعب من حمله على الأقتاب في أثناء الطريق، وكان المرض قد فارقه ولكنه ما زال ضعيفا مهزولا، فوقف الغلام بين يديه وقال: لو رآنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مغلولين لفك عنا.
فخجل يزيد وقال: صدقت، وأمر بفك غله عنه.
فقال علي: لو رآنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعداء لأحب أن يقربنا.
فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين. أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما رأيت.
فقال علي:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور .
فقال يزيد:
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ثم سكت عنه.
وكانت سلمى في أثناء ذلك تنتفض من شدة الغضب، وتوقعت أن يتكشف أمرها فتهيأت للدفاع بأي وسيلة كانت، فلما رأت سكوت يزيد هدأ روعها ، ثم رأته يشير بيده أن يخرجوهن، فخرجوا بهن إلى دار النساء، فخافت أن يفتضح أمرها هناك؛ إذ لا تستطيع البقاء مقنعة بين النساء، فاحتارت في أمرها ولم تر خيرا من أن تشكو حالها إلى زينب وتستشيرها؛ لأنها كانت عالمة بحكايتها مع يزيد.
فلما خرجوا بهن من مجلس يزيد وأدخلوهن دار النساء، أقبل عليهن نساء يزيد وسائر أهل بيته، وبكين معهن وأقمن المأتم، وسلمى تتظاهر بالانشغال وهي ترى نساء يزيد وبينهن العجوز قيمة الدار وتستتر منها، وتنتظر فرصة لتخاطب زينب على انفراد، حتى إذا جاء المساء خلت إليها واستشارتها في أمرها، فقالت زينب: لا تظني أني نسيت حالك، وقد كنت وأنا في بكائي ونحيبي أفكر في أمرك، فاعلمي يا بنية أن يزيد خيرنا في الإقامة حيث نشاء، وسنختار الإقامة بالمدينة، فإذا شئت المضي معنا فأهلا بك ومرحبا.
قالت سلمى: إني على ما تشائين يا مولاتي، ولكنني ما زلت آملة أن ... وبكت.
فأدركت زينب أنها تعني عبد الرحمن فقالت: لا قطع الله لك أملا، وسكتت لأنها لا تدري ما آل إليه أمر عبد الرحمن وعامر بعد مسيرهما إلى الكوفة، وإن كانت ترجح موتهما، وبعد السكوت برهة قالت زينب: ذلك أمر سننظر فيه بعد خروجنا، ولكنني لا أرى بقاءك هنا إلا خطرا.
قالت: وأنا أراه كذلك، فهل تأذنين لي في الخروج إلى الغوطة فأقيم بدير خالد ريثما تخرجن، فأكون معكن إن شاء الله؟ وقد اختارت الدير لكي تزور قبر أبيها وتبكيه مرة أخرى.
فقالت زينب: لقد رأيت حسنا، امكثي هناك حتى نخرج.
ثم تظاهرت زينب بأمر تريد إنفاذ سلمى فيه إلى خارج القصر، وأخرجتها منه فخرجت وهي كالضائعة الرشد لفرط ما هاج من أشجانها هناك؛ إذ تذكرت كل ما قاسته من الأهوال في ذلك المكان، فلما أصبحت خارج القصر سارت في أسواق المدينة تطلب الغوطة حتى إذا اشتمت رائحة البساتين ووقع بصرها على تلك الغياض تذكرت حالها مع عبد الرحمن وثارت أحزانها، فسارت تلتمس قبر أبيها وقد اشتد بها اليأس ولم تعد ترى في الحياة لذة.
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فترددت سلمى بين أن تتحول إلى الدير أو تسير إلى قبر أبيها، وساقتها قدماها إلى تلك الجوزة وهي لا تشعر، فلما أطلت على المكان وقد غابت الشمس سارعت إلى القبر وألقت بنفسها على التراب وأخذت في البكاء والنحيب وهي لا تبالي بما يتهددها من الظلام المقبل، وما زالت تبكي حتى بللت ذلك التراب وجعلت تندب أباها بصوت قد أضعفه التعب وتقول: ويلاه يا أبتاه! قم وانظر إلى فتاة خلفتها وخلفت لها الشقاء، وحملتها فوق ما تحملته النساء! شببت وشب معي حب الانتقام، ولكن وا أسفاه لم أجد إلى الانتقام سبيلا. قم وانظر ما جرى. انظر إلى فتاة عاشت يتيمة حزينة لم يكن لها من معدات الحياة إلا حبيب يحبك، وقد بذل نفسه من أجل الانتقام لك، ولكنه وا لهفي عليه! لا أرى ما آل أمره إليه. آه! من ينبئني ببقائه حيا فأسعى إليه! ولكن أنى له الحياة وقد كتب القتل على الصالحين والأبرياء؟! هل خطر لك يا أبتاه وأنت على قيد الحياة أن الناس سينقمون على الحسين ابن بنت الرسول ويقتلونه، ويحملون رأسه من الكوفة إلى الشام؟ •••
وفيما هي في تلك الحال وقد أمسكت تنفسها لئلا يكدر ذلك السكون، وأصبحت كالجماد لفرط خوفها ووحشتها، سمعت سعالا قويا، فوثبت بالرغم منها وصاحت صيحة الرعب، ولم تكد تتحقق جهة الصوت حتى رأت شبحا قادما إليها من وراء شجرة بالقرب من الجوزة، فصاحت: ويلاه! من أنت؟ أمن الجن أم من الإنس؟ خف الله وابتعد عني.
ولم تتم كلامها حتى سمعت قائلا يقول: لا تخافي يا سلمى، لا تخافي.
فتبادر إلى ذهنها لأول وهلة أن أباها قام من القبر، فوقف شعرها واقشعر بدنها.
ثم دنا الشبح منها فإذا هو الشيخ الناسك، فلما عرفته وقعت مغشيا عليها، فأنهضها وجعل يروح لها بيديه حتى أفاقت فقال لها: سامحيني يا سلمى على هذا السعال، فقد حدث بالرغم مني، وما كنت لأزعجك إلا مكرها، فتشددت وجلست وهي تقول: أين عبد الرحمن؟ قل لي أيها الشيخ أين هو ؟ وإلا فادفني هنا في هذا التراب الآن.
فلم يجبها الشيخ إلا بالبكاء بصوت عال وكأنه أصيب بجنة، وتركها وجعل يحثو التراب على وجهه ويبكي بكاء الطفل ويقول: يا حبيبي يا حجر، مت في سبيل نصرة الإمام علي، قم فانصر ابنه، بل قم فابكه وابك أولاده وسائر أهله، فقد ماتوا جميعا! هنيئا لك أنك جالس معهم الآن في دار البقاء.
فلما سمعته يقول ذلك ورأت حاله، نسيت نفسها وتذكرت ما سمعته منه ليلة مقتل الحسين في كربلاء، فازدادت حيرتها وودت لو عرفت ما بعثه على ذلك، فقالت: من أنت أيها الشيخ. قل لي وفرج كربي؟
فلما سمع كلامها تغيرت حاله وسكت، كأنه ندم على ما فرط منه، ثم تجلد وقال لها: إنك تسألينني عن أمر ليس من شأنك يا سلمى. اسكتي وابكي ما شئت، وإذا شئت أن تعلمي من هو الشيخ الناسك فسوف تعلمين. ستأتي ساعة ينكشف لك فيها أمره، وأرجو ألا ينكشف إلا كما يريد هو.
فسكتت سلمى وخافت أن يبدو منه ما لا تريده، ثم أرادت أن تغير مجرى الحديث فقالت: أخبرني أين عبد الرحمن، أحي هو كما قلت لي؟
قال: لا أعلم، ولو لعلمت ما كنت لأقول لك؛ لأنك لا تصغين إلى قولي.
قالت: قل، بالله قل، إني مصغية.
قال: أتعملين بما أقول لك؟
قالت: نعم، أفعل كل ما تريده، ولو أمرتني بأن أدفن نفسي حية.
قال: اطلب إليك أن تعتزلي هذا العالم وتأتي معي إلى دير نقيم به لا نرى فيه الناس ولا نسمع بمظالمهم.
فجاء ذلك الاقتراح صدمة قوية على قلبها فقالت: وعبد الرحمن؟
قال: لا تسأليني، بل افعلي ما أقوله لك.
فسكتت ولم تدر بم تجيبه، ولكنها عولت على الإصغاء لقوله فقالت: وأي دير تريد أن نقيم به؟ أنقيم بهذا الدير؟
قال: كلا، لا نقيم في جوار أولئك الظالمين، هيا بنا إلى دير بحيراء في بصرى، وإن كان يعز علي أن أفارق هذا القبر. قال ذلك واختنق صوته.
قالت: وأين هو هذا الدير؟
قال: على بضع مراحل من هذا المكان في جهة البلقاء.
الفصل الحادي والعشرون
في دير بحيراء
كانت سلمى قد استأنست بالناسك وذهب اضطرابها وخوفها، وقد آنست انعطافه إليها وبكاءه على أبيها، فزاد استئناسها به وتوسمت فيه شيئا ترجو أن يفرج كربها، ولكنها ما زالت في ريب من أمره، ولم تجسر على استفهامه عن حقيقة حاله بعد أن سمعت ما سمعته من تمنعه، على أنها عولت على استطلاع ذلك في فرصة أخرى.
فلما رأت عزمه على السفر إلى بصرى والإقامة بدير بحيراء، شق عليها الانزواء هناك وهي في ريعان الصبا، ولم تنل غير الفشل في مقاصدها وضياع حبيبها، ولبثت برهة تفكر في سفرها إلى بصرى وتردد في ذهنها أمر خطيبها وقد علمت من زينب أنه سار إلى الكوفة، فلما رآها الشيخ صامتة قال: ما الذي يجول في خاطرك يا سلمى؟ أظنك تترددين في سفرك إلى دير بحيراء؟ وكأني بك تقولين كيف أسير إلى بصرى وقد تركت عبد الرحمن في الكوفة، فاعلمي يا سلمى أني لو لم أيأس من وجوده هناك ما دعوتك إلى ذلك الدير. آه لو علمت أين هو ولو في الصين لقصدته كما قصدتك هنا. قال ذلك وصوته يتلجلج كأن البكاء يعيقه عن الكلام.
فلم تزدد سلمى من ذلك إلا أسفا؛ لأنها كانت لا تزال عالقة الذهن ببقاء عبد الرحمن في الكوفة، فإذا لم يكن هناك فأين يكون؟ فازداد قلقها، ولم تجد بدا من تسليم قيادها إلى ذلك الشيخ، وهي تعتقد حسن قصده وصدق غيرته، على أنها لولا بقية أمل بلقاء عبد الرحمن ما فضلت مكانا على الدير أو القبر، ثم قالت للشيخ: وهل أترك بقية بيت الرسول وقد فارقت زينب على أن أنتظرها هنا ريثما تخرج مع أهل بيتها إلى المدينة فأسير معها.
قال: لا أرى أن تسيري معهم، فقد كفاك ما لقيته من الأهوال في رفقتهم، تعالي إلى دير بحيراء فنقيم هناك حتى يأتي الله بالفرج. قالت: إني فاعلة ما تريد والاتكال على الله، ولكن أين نبيت الليلة؟
قال : نبيت هنا ولا خوف علينا والبلاد في أمان. نامي أنت وسأسهر أنا لأني قد نمت طول النهار.
وباتا تلك الليلة وسلمى في بحر من الهواجس لا تدري ما يصير إليه أمرها.
فلما أصبحا قال الشيخ: اعلمي يا بنية أن طريقنا من هنا إلى بصرى كثير الوعر، ولا بد لنا من قطعه على أقدامنا.
قالت: لا يهمني ذلك؛ فما أنا أولى بالراحة منك وأنت شيخ وأنا صبية.
قال: سنسير بضعة أيام نحو الجنوب حتى نقبل على بصرى مدينة الروم ومركز تجارة بلاد العرب، فسكتت ولم تجب.
فقال لها: امكثي هنا ريثما أعود إليك.
ثم تركها ومضى، وعاد بعد قليل ومعه جراب فيه زاد وفاكهة وقال: هذا طعام يكفينا يوما كاملا ورزق الغد إلى الغد. •••
وبعد أن سارا بضعة أيام سيرا بطيئا أشرفا قرب العصر على مدينة بصرى (وهي غير البصرة في العراق)، وكانت سلمى قد تعبت واستوحشت وتغيرت حالها ولم تذهب صورة عبد الرحمن من ذهنها، وإن لم تر سبيلا إليه لأنها لا تعلم مقره، ولكنها كانت قد استسلمت إلى الشيخ الناسك لاعتقادها أنه إنما يسير بها إلى الخير، وأنه ذو كرامة ولا يخطو خطوة إلا لغرض فيه نفع لها.
فلما أطلا على بصرى وهي من أكبر مدن حوران في ذلك العهد، انبهرت سلمى لعظمها وعمرانها وخصبها وسط تلك البلاد الجرداء التي يندر فيها الشجر، ورأت خارج المدينة من جهة الغرب بحرا لامعا بما ينعكس عنه من أشعة الشمس، فسألت الشيخ الناسك عنه فقال: ما هو بحر يا بنية، وإنما هو حوض كبير يخزن البصريون مياههم فيه إبان الشتاء ليستقوا منها في الصيف، وهو خزان للمياه طوله نحو 1200 ذراع وعرضه 500 ذراع، وكان لبصرى أحواض أخرى تهدمت.
ثم قال: إن بصرى مدينة قديمة عاصرت دول اليهود فاليونان فالرومان، وفيها أبنية رومانية ويونانية وسريانية.
فالتفتت سلمى إلى تلك المدينة والشيخ واقف بجانبها، فإذا هي بديعة الانتظام يكتنفها سور يزيد محيطه على أربعة أميال، ويحيط بالمدينة غياض وبساتين بها أنواع الأشجار والثمار، ووراء ذلك سلاسل جبال حوران ممتدة على عرض الأفق، ورأت لون أبنية المدينة مغبرا كأنها تلوثت بالدخان فقالت: وما الذي غير لون هذه الأبنية؟
قال: ذلك هو لون أحجار هذه البلاد، فإن فيها حجرا أسمر يسمونه الحجر الحوراني، هذا لونه، ومما يزيدك عجبا أن أبينة حوران لا يدخل في بنائها شيء من الخشب، وإنما هم يصنعون سقف بيوتهم وأجنحة أبوابها ونوافذها من الحجر الصلد.
فاشتاقت سلمى إلى النزول للمدينة لمشاهدة أسواقها، فقال لها الشيخ: إذا أردت النزول إليها فما أنا نازل معك؛ لأني كما قلت لك لا آوي المدن ولا أمر بها، ثم إني أعرف هذه المدينة كما أعرف بيتي؛ فقد زرتها غير مرة وأنا شاب وكنت على دين النصرانية، وزرت كنائسها وحمامتها وشوارعها وقصورها فإذا هي من أعظم المدن، وربما سنحت لك الفرصة بعد حين بمشاهدتها، أما الآن فتعالي معي إلى الدير.
فلما سمعت قوله أنه كان على دين النصرانية في شبابه تفرست في سحنته فرأته يشبه أن يكون كنديا من قبيلة أبيها؛ لأن كندة كانوا نصارى حتى جاء المسلمون بلادهم فاعتنقوا الإسلام، وزادها ترجيحا لذلك ما رأته من غيرته على أبيها والانتصار لبيت علي، ولم يزدها كل ذلك إلا حيرة وشكا، وهي مع ذلك لا تستطيع مخاطبة الشيخ في هذا الموضوع لئلا يغضب، فلم تر خيرا من الصبر حتى يتأتى لها استطلاع الحقيقة.
أما هو فقال ما قاله وسار، فسارت هي في أثره حتى أشرفا على الدير فإذا هو بناءان: أحدهما كبير وفيه قبة فوقها صليب علمت سلمى أنه كنيسة، والآخر صومعة على رابية، فمشيا نحو الكنيسة، فلما أقبلا عليها تفرست سلمى في بنائها فرأتها مبنية على النمط الروماني، فدخلا صحنها حتى جاءا البيعة فرأيا المكان ديرا وفيه كنيسة، وشاهدا الرهبان والقسوس وكلهم من الروم يتكلمون اللاتينية وبعضهم اليونانية والسريانية الممزوجة بالعبرانية، وهي لغة تلك البلاد بعد الفتح.
فقالت سلمى: ما لي أرى الناس هنا أخلاطا من لغات شتى؟
فقال: لأن بصرى يا ابنتي عند النصارى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى، وفيها يقيم رئيس الأساقفة، ومنها يرسلهم إلى الآفاق.
قالت: أين دير بحيراء؟
قال: هذا هو الدير الآن، وأما المكان الذي كان يقيم فيه الراهب بحيرا، فهو صومعة بجانب الدير.
قالت: هلم بنا إليه.
فخرج بها، والرهبان لم يلتفتوا إليهما ولا استغربوا حالهما؛ لأن الدير ملتقى الغرباء، وفيهم النساء والمهاجرون والمسافرون والمرضى وأهل النذور وغيرهم.
فلما خرجا من الدير التفتت سلمى إلى الصومعة فإذا هي لا تشبه الأبنية، بل هي مؤلفة من خمسة أحجار ضخمة، أربعة منها للجدران وواحد للسقف، والباب حجر واحد مرتكز على مصراع يفتح ويغلق بسهولة، فاستغربت تلك الصومعة فقالت: ما هذه يا سيدي؟
قال: ألم أقل لك إن هذه البلاد لا أخشاب بها، وأهلها يصنعون أبواب بيوتهم وأجنحة نوافذهم ومقاعدهم وسائر آنية القعود والرقاد من الحجر، وقد يفعلون ذلك ولو كان المنزل مؤلفا من عشر غرف أو عشرين، فإنك لا تجدين فيه أثرا للخشب. قال ذلك ومشى أمامها وعكازه بيده وهو على ما وصفناه به من إرسال الشعر وعليه رداؤه القديم، وسارت هي في أثره، حتى دخلا الصومعة فلم يجدا فيها من الآنية إلا مصباحين معلقين أمام صورتين إحداهما تمثل مريم العذراء، والأخرى تمثل السيد المسيح، وهناك صورة أخرى لم يعرفاها، ولم يجدا في الصومعة أحدا.
فلما دخلت سلمى تخشعت وتذكرت حالها، فقالت للناسك: ها أنا ذا الآن في دير بحيراء، فكيف ترى أن تكون إقامتنا به؟
قال: إن في الدير الذي خرجنا منه الآن غرفا يقيم بها المسافرون، والدير يقدم لهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة مجانا، فتقيمين أنت بغرفة، وأقيم أنا بهذا البستان بالقرب منك، فنجتمع في أثناء النهار ونفترق في الليل.
أطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: ولكنني لم أر في الدير نساء فكيف أقيم وحدي؟ قال: في الدير نساء كثيرات، وأكثرهن يعملن في إعداد الطعام وغسل الثياب. قالت: أرى أن أكون معهن لكي يكون في إقامتي فائدة. •••
خرج الشيخ الناسك وسلمى من الصومعة، وسارا إلى رئيس الدير، وقال له: إنني وابنتي هذه نريد أن نقضي بقية حياتنا هنا نعبد الله، وأنا شيخ ناسك لا آوي إلى البيوت، وابنتي تريد أن تلتحق بخدمة الدير فتساهم في إعداد الطعام وتنظيف الغرف، فهل تقبلوننا؟
فقال الرئيس: أهلا بكم ومرحبا، ثم أمر لسلمى بثوب مما ترتديه خادمات الدير فلبسته، وهو لا يقضي على لابسه باتباع شروط الرهبنة، ولكنه يفرض عليه الخدمة في الدير ... فرحبت بها وأعجبت بما رأته من جمالها وما توسمته في عينيها من الذكاء، وسمتها باسم جديد على العادة المتبعة في مثل هذه الحال، فصار اسمها مريم، ولم يمض قليل حتى أحبها كل من في الدير من نساء ورجال، وأعجبوا بما آنسوه من تعقلها وصدق خدمتها، وقد زادها الانقباض والسكوت هيبة ووقارا، وأصبحت بعد حين مرجع مشاوراتهم وزهرة جمعياتهم.
ولم يكن يمضي يوم لا يأتي الدير فيه وفود الأضياف من أنحاء جزيرة العرب والعراق والشام، وفيهم أهل التجارة وأهل السياحة وأصحاب النذور ونحوها، فأصبحت مريم مضرب أمثال أهل الدير واضحا في الرزانة والتعقل.
أما هي فكانت تجد في تلك الخدمة راحة وعزاء عن مشاغل العالم، وأحست بسعادة لم تكن تشعر بمثلها من قبل لولا ما كان يعترض سعادتها من تذكر عبد الرحمن وما مر بها من الحوادث المؤلمة، على أنها بمضي الأيام كادت تنسى كل ذلك إلا عبد الرحمن.
وكانت إذا اجتمعت بالراهبات أو الرهبان ودار الحديث على الأحوال العامة، سمعت طعنا قبيحا في يزيد وسوء تصرفه وما يرتكبه من شرب الخمور والانشغال باللهو والطرب وضرب الطنابير وتربية القرود، وكانت إذا سمعت ذلك ينقبض قلبها وتقول في نفسها: لا يصلح الحاكم إلا إذا أتيح له الاطلاع على سرائر رعيته وما يدور في مجالسهم الخاصة من نقد أعماله، ولو أنه أتيح له ذلك ما بقي على غيه مهما يبلغ من حمقه وجهله. كذلك كان يفعل عمر بن الخطاب؛ فكان يتنكر ويخالط الناس فيسمع ما يقوله عجائزهم وصبيانهم وشبانهم وكهولهم، ويتدبر ما يسمعه من الانتقاد، فينصف المظلوم ويضرب على أيدي الظالمين، فساعده ذلك على تشييد مملكة الإسلام وتقويم دعائمها على العدل والحق. وأما يزيد فإنه انشغل بنسائه وخموره واستبد بأبناء الرسول واضطهد أهل بيته حتى كاد يهدم ما أسسه الخلفاء الراشدون، ولو أنه وجد من أصحاب شوراه من يطلعونه على حقيقة أمره وما يقوله الناس عن حكومته وعن ضعفه وإهماله، لاضطر إلى الإصلاح جهد طاقته، ولعل الله أراد ذلك تعجيلا لخروج الخلافة من يده. •••
قضت سلمى في دير بحيراء سنتين وبعض السنة وهي على تلك الحال، حتى ألفت الوحدة وكادت تنسى مصائبها، ولكن ذكرى عبد الرحمن كانت تعادوها فتستغرق في التأملات، ويخيل إليها أحيانا أنه ما زال حيا فيتجدد أملها بلقياه، ثم لا يلبث ذلك الأمل أن يضمحل من مخيلتها فتعود إلى البكاء عليه في خلوتها، ولا سيما أن الشيخ الناسك لم يكن يشفي غليلها بخبر صريح.
وأصبحت ذات يوم فرأت أهل الدير في هرج ومرج، وقد أخذوا في تزيين الأبواب والنوافذ، ومد الأبسطة وذبح الذبائح، فسألت عما دعاهم إلى ذلك، فقيل لها: إن الخليفة قادم إلى حوران، ولا بد له من المرور بالدير والإقامة به يوما أو يومين، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها وانقبضت نفسها ولم تجد بدا من الذهاب إلى الشيخ الناسك، فلما أقبلت عليه رأته جالسا تحت شجرة وعكازه بيده ينكت الأرض بها وقد بالغ في الإطراق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فلما دنت منه رفع بصره إليها وعيناه تتلألآن كأنهما شعلتان، وابتدرها قائلا: إن الطريدة أوشكت أن تقع في الفخ، فهل تفلت منك هذه المرة؟
فشعرت سلمى بتجدد آمالها في الانتقام وقالت: أرجو ألا تفلت والله المستعان.
قال: إن يزيد قادم إلى الدير مساء اليوم، وسيقيم هنا ليلة ريثما يستريح ثم يشخص إلى حوران، فإذا استطعت أمرا ينسينا مصائبنا وأحزاننا فإنك تفرجين كربنا وترفعين عن عاتق المسلمين ثقلا كبيرا.
فأطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: إني فاعلة ذلك بإذن الله، ولكن هل يسعدني الحظ بعد ذلك بلقيا عبد الرحمن؟
قال: إذا نجحت في قتل هذا الرجل فإنك تحيين عبد الرحمن وتقيمينه من بين الأموات.
فاقشعر بدنها وقالت: إذن أنت واثق من موته؟
قال: كلا، ولكن أرجو أن تؤدي الواجب عليك والله نصير المظلومين، وإذا كتب لك لقاء عبد الرحمن في هذه الدنيا فإنك تلقينه ظافرة وتعيشان سعيدين، وإلا فإنك تلاقينه في الآخرة وقد انتقمت لأبيك ولأهل البيت.
وأرادت أن تجيبه فسمعت الناقوس يدعو الرهبان وسائر أهل الدير إلى العمل فهمت بالرجوع. فناداها وقال: تمهلي يا سلمى، ثم تناول طرف ثوبه فحل عقدة فيه وأخرج منها ورقة دفعها إليها وقال: خذي هذه الورقة فإن فيها دواء الظلم، إذا شربه يزيد شفي الإسلام من دائه.
فعلمت أنه سم فتناولت الورقة وفتحتها فرأت فيها مسحوقا ناعما، فعادت وطوتها وخبأتها في جيبها، وهرولت إلى الدير حتى أتت المطبخ واشتغلت مع سائر النساء بإعداد الطعام.
ولما مالت الشمس إلى الأصيل ظهر غبار في عرض الأفق، ولم يكد يراه الرهبان حتى خرجوا بالمباخر والقماقم واصطفوا في ساحة الدير، وعليهم الملابس الرسمية تتلألأ بألوانها الزاهية، وفيهم المرتلون وضاربو الصنوج والرئيس في مقدمة القوم وبين يديه غلمان يحملون سعف النخل وطاقات الزهور.
وبعد هنيهة أقبل الركب تتقدمه الخيالة، وأولهم يزيد راكبا على جواد عربي عدته من الفضة الناصعة البياض، وعلى كتفه قباء وردي اللون مزركش بالقصب، فلما وقع نظر سلمى عليه عرفته، واقشعر بدنها إذ تذكرت حالها معه، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر ما يكون، فإذا بالرجالة أسرعوا فضربوا فسطاطه بقرب الدير، وترجل الفرسان وأقبل الخدم وفيهم خدمة الصيد يحملون البزاة والقرود ويسوسون الكلاب والفهود كما رأتهم في دير خالد منذ نحو عامين، وكان يزيد إذا رحل جعل همه الاشتغال بالصيد.
ولما ترجل يزيد استقبله الرئيس وكبار أهل الدير ورحبوا به، فلما دخل الفسطاط دخلوا في أثره واستعطفوه ليقيم بينهم ويتناول العشاء عندهم فأجاب دعوتهم.
فأمروا بالأبسطة ففرشت في مكان معد لذلك، وجاءوا بأصناف الأشربة الحلوة بألوانها الزاهية وقدموا ليزيد ورجاله فشربوا، ثم أمر الرهبان بإحضار الطعام فحملوه إلى هناك وكانت النساء تهيئه وتساعد الخدم في إحضاره.
فلما رتبت المائدة وصفت الآنية والأطباق، نزع يزيد كوفيته وغسل يديه وتصدر المائدة جالسا على وسادة من الحرير المزركش، وجلس أمراؤه بين يديه، وأخذوا جميعا في تناول الطعام.
وفيما هم في ذلك، التفت يزيد إلى الراهبات الواقفات للخدمة، فوقع بصره على الأخت مريم فبهره جمالها، وتذكر سلمى وكان يعلم أنها ماتت منذ عامين أو أكثر فقال في نفسه: يا للعجب! كم يتشابه الآدميون.
وقضى مدة الطعام وهو يردد بصره فيها ولم يتمالك عن الميل إليها والإعجاب بأمرها لشدة شبهها بسلمى.
وكانت سلمى تتجاهل وتتظاهر بتقديم الأطعمة والأشربة وهي مطمئنة البال إلى أن يزيد لا يمكن أن يعرفها بعد أن بلغه موتها من طبيبه، وبعد أن بدلت اسمها وثيابها وسائر أحوالها.
أما يزيد فكتم شغفه بها ريثما يحتال في استقدامها إليه، فأخذ يلاطف الرئيس ويثني على ما لاقاه من كرمه وحسن وفادته ويعده خيرا، فلما نهضوا عن المائدة دعاه إلى خيمته وبالغ في إكرامه حتى غربت الشمس ودق ناقوس الصلاة، فاستأذن الرئيس في الانصراف فأذن له، ثم أسر إلى بعض أهل بطانته ما أضمر من أمر الأخت مريم وكلفه استقدامها بحيلة، فخرج الرجل إلى الرئيس وقال له: لقد تعود الخليفة أن يتناول المرطبات قبل النوم.
فقال الرئيس: إننا أعددنا كل ما ترتاح إليه نفسه، ونحن طوع إشارته.
قال: ولكنني لا أظنكم تستطيعون القيام بكل ما يحتاج إليه.
قال الرئيس: وكيف ذلك ونحن لا ندخر وسعا في سبيل مرضاته؟
قال: إن مولانا أمير المؤمنين تعود أن تصلح له الطعام فتاة جئنا بها معنا من دمشق، ولكنها مرضت في أثناء الطريق فأرجعناها، وقد قضينا طول الرحلة والخليفة لا يكاد يلتذ بالطعام، ولكنه لما تناول العشاء عندكم، أعجبه حسن طهيه، ورأى بين الخادمات فتاة أعجبته لباقتها في إعداد المائدة، وتمنى لو أنها تصحبه بقية سفره إلى حوران.
فابتدره الرئيس قائلا: إن بين النساء هذا الدير فتاة ليست راهبة ولكنها من أحسن النساء عقلا وذكاء، وهي تصلح الطعام أحسن إصلاح، فإذا كانت هي التي وقعت من مولانا أمير المؤمنين موقع الاستحسان، ألحقناها ببطانته في هذا السفر، ولا نظنها إلا فرحة بهذا الشرف العظيم.
فاستبشر الرجل بنيل المرام وقال: وأي فتاة هي؟
قال: هي التي ندعوها الأخت مريم ...
فقطع الرجل كلامه قائلا: إنها هي التي أعجبت الخليفة، فهل تظنها ترضى بخدمته؟
فهز الرئيس رأسه هزة الاستخفاف وقال: ومن ذا الذي يرفض هذا الشرف؟
ونادى الرئيس قيمة الدير وطلب إليها أن تدعو الأخت مريم، فلما جاءت ووقفت بين يدي الرئيس قال لها: اعلمي يا بنية أن مولانا الخليفة مسافر إلى حوران ويحتاج إلى فتاة تصلح له الطعام، وقد امتدحت له مهارتك في ذلك، وقد تنازل أن تكوني في خدمته، فأبشري بإقبال سعدك واذهبي إليه، وأوصيك أن تبذلي الجهد لإرضائه.
فسكتت سلمى وأبدت الاستحسان بملامح وجهها وقد خفق قلبها سرورا بتلك الفرصة.
ففرح الرئيس أيضا وأثنى على لطفها وقال لها: سيري منذ الآن مع هذا الأمير، وكوني ساهرة في خدمة الخليفة، فإنه قد غمرنا بفضله وإحسانه.
فسارت سلمى وقد تهيبت تلك المهمة ولكنها صممت على الفتك بيزيد مهما يكلفها ذلك.
وكان يزيد في انتظار رسوله، فلما عاد إليه ظافرا غانما أثنى على صدق خدمته، وأمره أن يعد المرطبات والفاكهة ليتناولها قبل الرقاد، فأعد كل شيء وانصرف، وبقي يزيد في الخيمة وحده فدعا بالأخت مريم، فدخلت وقد تلثمت بالخمار متظاهرة بأن اللثام من تقاليد أهل الدير.
وسايرها يزيد في ذلك ترغيبا لها في خدمته، على أن ينال منها مرامه بعد سفره، واكتفى بأن يتمتع بمرأى ما ظهر من عينيها، فلما وقفت بين يديه أمرها أن تناوله بعض الفاكهة فقدمت له ما شاء وهو لا يبدي شيئا مما في نفسه مخافة أن تأبى الذهاب معه، ثم تظاهر بالرغبة في النعاس وقال: اسقيني كأسا من الماء المحلى بالعسل.
فقالت في نفسها: إني والله قاتلته بسلاحه، فتناولت الكأس وصبت فيها العسل وتظاهرت بإحضار ماء بارد فخرجت من الخيمة ويداها ترتعشان من عظم الاضطراب، وفكرت هنيهة في أمر السم الذي أعطاها إياه الشيخ الناسك، فرأت أنها إذا صبته كله ربما يظهر تأثيره عاجلا قبل أن تتمكن من الفرار فيقبضون عليها، فصبت جانبا منه في الماء ومزجته بالعسل وقدمته له، فتناوله وشربه إلى آخره وهو يريد أن ينام ليبكر في الرحيل ويخلو بالفتاة في حوران.
أما هي فلما تحققت أنه شرب الكأس خرجت من الخيمة، وسارت توا إلى الناسك فرأته واقفا في ظل الشجرة، فأشارت إليه إشارة فهم منها أنها أتمت مهمتها وتريد الفرار فقال: هيا بنا لا تخافي.
وتسلق الشجرة وعاد منها بصرة تأبطها، وأمسك سلمى بيده، ومضى بها في طريق لا يراهما أحد فيه، ولم تمض برهة حتى كانا قد بعدا من الدير وأصبحا في الصحراء، فوقف الشيخ وفتح الصرة فأخرج منها ثوبين من أثواب أهل البلقاء أعطى سلمى أحدهما فلبسته، ولبس هو الآخر، فأصبح من يراهما لا يشك في أنهما رجلان من أهل البلقاء، فعجبت سلمى لتأهب الشيخ الناسك وتحوطه، ولكنها ما زالت خائفة فقالت: أخشى أن يلحق بنا الجند فما العمل؟
قال: لا تخافي. اتبعيني والله المنجي، فسارت في أثره، وقضيا بقية الليل يلتمسان الطريق والناسك يرشدها كأنه يسير في ضوء النهار. •••
أصبحا في اليوم التالي فإذا هما بالقرب من بناء خرب تدل بقاياه على فخامة أصله لكبر أحجاره وسعة مساحته، فقالت سلمى: أين نحن يا مولاي؟
قال: إننا في البلقاء، وهذا صرح الغدير الذي يتغنى به الشعراء.
قالت: ألا يسكنه أحد الآن؟
قال: كلا فإنه من بناء الغساسنة، وكانوا عربا نصارى، فلما جاء المسلمون الشام وفتحوها دخلوا في حوزتهم، وكان القصر لبعض ملوكهم يقيمون فيه بعض السنة، وهو من بناء ثعلبة بن عمرو أحد أجدادهم، بناه منذ أربعة قرون، وقد درس كما درسوا، وسبحان الحي الباقي، ثم أشار عليها بالاستتار هناك بقية النهار، على أن يستأنفا المسير ليلا فقالت: والله لا أبالي إذا مات يزيد أن أموت أنا في أثره؛ إذ أكون قد قمت بالواجب وشفيت ما في نفسي ونجيت المسلمين من شر عظيم.
قال: إنه مائت لا محالة؛ لأن نصف ذلك السم كاف لقتله.
قالت: ولكنني لم أسقه أكثر من النصف فهل يميته؟
قال: إنه يميته بعد أيام وقد فعلت حسنا بتقليل المقدار.
ومشيا وهما يتكلمان حتى دخلا من باب القصر إلى ساحة تراكمت فيها الأتربة والأحجار، وانسابت فيما بينها بعض أنواع الحشرات، فتحول الشيخ وسلمى إلى بقايا غرفة كأنها كانت مجلس أهل ذلك القصر في أيام عمارته، لها نافذة تطل على واد فيه آثار جدول جف ماؤه منذ أعوام. فاختار الشيخ حجرا نظيفا بجانب النافذة أجلسها عليه وجلس هو بجانبها، ثم نهض بغتة وقال: دعيني أنصرف عنك برهة ثم أعود إليك بالطعام. هل تخافين الانفراد؟
قالت: لا أخاف، ولكنني أستوحش وأنا في هذه الخرائب المرهبة. دعنا من الطعام فإني لا أحتاج إلى شيء منه غير الذي جئتني به من الدير ريثما ننتقل إلى مكان آخر.
قال: تحدثني نفسي أن نختبئ في هذا المكان حتى نرى ما يكون، ولكن ما معنا من الزاد لا يكفي، فامكثي هنا ولا بأس عليك، وإني أعرف عربا من بقايا الغساسنة على مقربة من هذا المكان، فأذهب إليهم وآتيك بما تصل إليه يدي، والله الموفق، فلم تر بدا من طاعته.
وخرج الشيخ الناسك وعليه ثوب أهل البلقاء، وبقيت سلمى بين تلك الأطلال وحدها، فما لبث الشيخ أن توارى عن بصرها حتى أحست بالوحشة، وندمت على بقائها في ذلك المكان، وودت لو أنها سارت معه إلى حيث سار، ونظرت إلى ما حولها فإذا هي بين آكام من الأتربة تزحف بينها الخنافس وأنواع النمل، فملت الجلوس هناك، فوقفت وأرادت أن تشغل نفسها عن وحشتها فمشت لتتفقد بقايا ذلك الصرح وتتأمل في أصل تكوينه، فخرجت من تلك الحجرة إلى غيرها فغيرها حتى انتهت إلى دهليز مشت فيه فأفضى بها إلى سلم يطل على الوادي، فعلمت أنه كان مخرج أهل القصر إلى ضفاف ذلك الجدول، فانحدرت على السلم حتى انتهت إلى مصطبة صغيرة، وكانت قد تعبت فجلست عليها، وأعجبها الظل وأنعشها النسيم البارد فطاب لها البقاء هناك، وجلست وقد أحست بالتعب الشديد والنعاس الثقيل على أثر ما قاسته في الليل الماضي من التأثر والسهر والركض، فغلب عليها النعاس فنامت واستغرقت في النوم، ولا تسل عما مر في مخيلتها من الأحلام وفيها المرعب والمزعج. •••
استيقظت سلمى من نومها مذعورة؛ إذ طرق سمعها جعجعة جمال، فنهضت وتلفتت إلى ما حولها فرأت ثلاثة رجال قادمين من عرض البر نحو القصر، وعلى الرجال لباس الدماشقة، فارتعدت فرائصها ولم تشك في أنهم من أتباع يزيد وقد اقتفوا أثرها بعد أن أصيب يزيد بسوء، فهرولت على السلم وعادت إلى الدهليز ومنه إلى الحجرة التي كانت فيها وانزوت بحيث ترى القادمين ولا يرونها، فإذا بهم ترجلوا بجانب شجرة على قيد أذرع من القصر، وعقلوا الجمال وأخرجوا طعاما وجعلوا يأكلون. فتوارت سلمى وعادت إلى جهة باب القصر لعلها تجد الشيخ عائدا من مهمته فتستأنس به، فلما استبطأته شغل بالها، ثم عادت إلى الحجرة، ولبثت حتى مالت الشمس عن خط الهاجرة ودنت من الأصيل ولم يعد الشيخ، فازداد قلقها وعادت إلى باب القصر، ولم تكد تصل إليه حتى رأت الشيخ يعدو نحوها فوقفت في انتظاره، فلما أقبل استغربته لأنها رأته قد قلم أظافره ومشط لحيته وقص شعره ورفع حاجبيه عن عينيه، ولولا الثوب الذي رأته عليه في ذلك الصباح لأنكرته ولكنها رأت التعب والبغتة في وجهه فقالت: ما وراءك يا مولاي؟ وما الذي جرى؟
قال: ما ورائي إلى الخير، دعيني أسترح، ثم أقص عليك الخبر ولكنه خبر مفرح فلا تخافي. فاطمأن بالها بعد أن كانت تضطرب، وبينما هي في انتظاره وهو يلهث من التعب، سمعت وقع أقدام خارج الباب، وسمع الشيخ ذلك أيضا، فجلس حتى استراح وهدأ نفسه، ثم وقف ومشى إلى الباب وأمر سلمى أن تبقى داخل القصر ريثما يعود فمكثت حسب إشارته.
ورأى الشيخ رجلا عليه لباس أهل دمشق فرحب به وحياه، فقال الرجل: هل في هذا المكان منزل للأضياف؟
قال الناسك: كلا إنه قصر خرب لا يسكنه أحد.
قال: ولكننا رأينا فيه أناسا.
قال: ليس فيه أحد إلا أنا وابني، وقد مررنا به هذا الصباح فأقمنا ريثما نستريح. من أين أنت قادم؟
قال: إنني قادم مع رفيقي هذين - وأشار إلى رفيقيه - من دمشق.
قال الشيخ: وإلى أين تقصدون؟
قال: إلى بصرى، ويظهر لي من لباسك أنك من أهل البلقاء، فهل كنت في بصرى؟
قال: نعم، إني قادم منها.
قال: هل مررت بدير بحيراء؟ قال: نعم.
قال: أرأيت في الدير أو جواره شيخا ناسكا لا يأوي المنازل؟
فلما سمع الشيخ كلام الرجل خفق قلبه وقال: نعم أظنني رأيت مثله هناك، ولكن ما الذي يهمك من أمره؟
قال: لا يهمني شيء، ولكن رفيقي عرفاه مذ كان في جوار دمشق، ثم سمعا أنه يقيم بجوار بصرى وهو شيخ ذو كرامة لو لقيته وخاطبته لعلمت أنه من الأولياء.
فأدرك الشيخ أن في الأمر سرا يهمه استطلاعه فقال: ومن هما رفيقاك؟ قال: لا أدري من هما، ولكنني صحبتهما من جوار دمشق على أن آتي بهما بصرى ثم أعود، وهما اللذان قصا علي كرامات الشيخ الناسك.
قال الشيخ: لماذا لا يتأتيان إلى هنا فأقص عليهما من نبأ الشيخ الناسك وما يغنيهما عن التعب الكثير. •••
تحول الرجل إلى رفيقيه، وسار الشيخ في أثره حتى أقبل على الرجلين، وكانا جالسين تحت الشجرة، فلما رأيا رفيقهما ومعه آخر تبرما كأنهما استاءا من ذلك. أما الشيخ فلم يكد يراهما حتى عرف أنهما عامر وعبد الرحمن، ففرح فرحا عظيما ولكنه تجلد وأراد أن يمتحنهما، فلما أطل عليهما رحبا به وهما لا يعرفانه لتغير هيئته، فقال لهما: ماذا تريدان من الشيخ الناسك؟ لعلكما من أهله؟
فقال له عامر: لسنا من أهله، ولكننا عرفناه في دمشق وأحببنا أن نلقاه، فهل رأيته؟
قال: لقيته في دير بحيراء، ولكنكم إذا ذهبتم إليه فلن تجدوه هناك.
قال عامر: وأين نجده؟
فالتفت الشيخ إلى رفيقهما وخاف من التصريح أمامه فقال لعامر: إذا شئت أن ترى الشيخ الناسك فإني أدلك على مكانه في هذه الساعة تعال معي.
وكان عبد الرحمن جالسا يسمع حديث عامر والشيخ ولا يتكلم، فلما سمعه يقول ذلك، نهض ونهض عامر، ومضيا حتى بعدا عن الشجرة، ودنوا من القصر فقال الشيخ: إن الشيخ الناسك مقيم بهذا القصر.
فقال عبد الرحمن: ما زلت منذ صباح هذا اليوم وأنا أنظر إلى هذا القصر فلم أجد فيه غير شخص يظهر أنه في ريعان الشباب، وقد استغربنا مقامه وحده هنا.
قال وقد رفع صوته: يا للعجب! أقول لكم قولا فلا تصدقونني؟!
فلما سمع عامر صوت الشيخ، داخله الشك في أمره، وأخذ يتفرس في سحنته فرآه يشبه الناسك من جهة، ويشبه من جهة أخرى شخصا آخر يعرفه، ولم يكن قد رآه منذ بضعة عشر عاما، فلبث صامتا لا يتكلم كأنها أصيب بالبله.
فقال له الشيخ: ما بالك؟ ما الذي ربط لسانك يا عامر؟
وما أتم كلامه حتى ترامى عامر على الشيخ وجعل يقبل يديه ويقول: أنت الشيخ الناسك؟ أنت؟
فلما سمع عبد الرحمن ذلك صاح فيه: أين سلمى؟
قال: وما أدراك ببقائها وأنت أخبرتني أنها ماتت ورأيت قبرها محفورا؟
فقال: قلت لك ذلك وكان هذا اعتقادي واعتقاد عمي عامر، ولكن زينب بنت علي أنبأتنا ببقائها على قيد الحياة، وأنها صحبتها في وقعة كربلاء، ثم إلى دمشق، ثم لم تعد تعرف مقرها.
فنظر الشيخ إلى عبد الرحمن وقال: وهي أيضا كانت تعتقد أنك ميت حتى أنبأتها ببقائك حيا ونحن في كربلاء، ثم علمت أنك خرجت إلى الكوفة في مهمة وانقطع خبرك فيئست من بقائك و ...
فقطع عبد الرحمن حديثه وقال: والآن قل لي أين هي سلمى، هل هي معك أم أين؟ قل لي. بالله قل لي.
قال: ألم ترها اليوم؟
قال: أين؟
قال: في هذا القصر.
فأطرق عبد الرحمن ثم قال: لعلها الشخص الذي رأيته وحسبته شابا؟ قال: نعم.
فهم عبد الرحمن بالمسير إلى القصر وقد شاعت عيناه وخفق قلبه ولم يعد يصبر عن رؤية سلمى، فمنعه الشيخ وقال: تمهل لأطلعها على خبرك رويدا رويدا لئلا تضر البغتة بها، وأرى أن تصرفا هذا الرفيق لئلا يطلع على شيء من أمرنا.
فقال عامر: إنه رفيق مأجور ليدلنا على الطريق.
قال الشيخ: اصرفه الساعة ونحن نعرف الطريق.
قال: سأرسله إلى بصرى ليسأل عن الشيخ الناسك هناك. •••
أشرق وجه عبد الرحمن، وأبرقت أسرته، وأخذ يتطلع إلى القصر ويتطاول لعله يلمح سلمى.
وعاد الشيخ إلى القصر، فرأى سلمى في الحجرة وقد ملت الانتظار لتعلم من هو ذلك الرجل وتستطلع ما دعا إلى تغيير سحنة الشيخ، فلما أقبل عليها ابتدرته بالاستفهام عن سبب ذلك التغيير فقال: دعي عنك ذلك الآن وفكري معي في سبيل للنجاة من الورطة التي نحن فيها.
قالت: وأي ورطة؟ وعلت الحمرة وجهها.
قال: إن هؤلاء الرجال قادمون من عند يزيد للبحث عنك، فهل أخبرهم بمحلك؟
فبغتت سلمى وقالت: قلت لك إني لا أبالي بالموت إذا علمت أن سهمي أصاب مقتلا من يزيد.
قال: إذا أكدت لك أن يزيد مات من تلك الجرعة، هل تسلمين نفسك إلى رجاله ليقتصوا منك؟
قالت: إذا استطعت النجاة فلا ألقي بنفسي بين أيديهم، أما إذا قبضوا علي وأرادوا قتلي فإني لا أبالي، ولكن ... وسكتت.
قال: مالك تترددين؟ قولي، إن هؤلاء الثلاثة تتبعوا خطواتنا حتى أدركونا هنا وهم يبحثون عنك فهل أقول لهم أنك هنا؟
فاستغربت سؤاله ولم تفهم أمازح هو أم جاد، فقالت: قلت لك إني إذا نفذ سهمي لا أبالي أن أقتل إلا إذا كان ... وخنقتها العبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء والشيخ صامت لا يتكلم، ثم سألها: إذا كان ماذا؟
قالت والبكاء يغالبها ويخنق صوتها: أراك تهزأ بي، وعهدي بك أحن علي من الوالد على ولده، فما بالك تتجاهل عواطفي؟ على أني مع ذلك لا أستحيي أن أقول: إذا كان حبيبي عبد الرحمن ما زال حيا فإني أضن بحياتي وأحب البقاء من أجله، وإلا فإني لا أنتظر رجال يزيد ليبحثوا عني، بل ألقي بنفسي بين أيديهم وأعرض صدري لأسنتهم أو أتجرع بقية السم وهو ما زال معي. قالت ذلك وهي تشهق من شدة البكاء.
فأجابها الشيخ بضحكة طويلة طالما سمعتها منه وقال لها : عبد الرحمن؟! ومالك وعبد الرحمن؟ وإذا فرضنا أن يزيد مات وعبد الرحمن ما زال حيا صحيحا معافى فماذا تقولين؟
قالت: لا تهزأ بعواطفي يا مولاي، فقد كفاني ما أصابني، أستحلفك بالله أن تتركني وشأني.
قال: وما معنى الاستهزاء الآن، إني أقول الجد، وإذا كنت لا تصدقينني فإني أرفع صوتي مناديا عبد الرحمن فإذا هو بين يديك وعامر معه.
فتفرست في الشيخ وقد تملكتها الدهشة، وفكرت قليلا وهي لا تزال تظنه يمزح ولكن قلبها خفق خفوق الفرح وكأنه دلها على صدق قوله فقالت: نعم ادع لي عبد الرحمن، أو قل لي أين هو فأسعى إليه على رأسي ويدي.
قال: بل هو الذي يسعى إليك، تربصي ريثما أدعوه إليك. قال ذلك وخرج وهي لا تزال تحسبه يعبث بها، ولكنها سارت في أثره، فما كاد بصرها يقع على الرجلين حتى عرفت عبد الرحمن، فأسرعت نحوه، وأسرع هو نحوها حتى تقابلا، فرمت نفسها بين ذراعيه فضمها ودموعها تتساقط من شدة الفرح، وعامر والشيخ واقفان وقلباهما يرقصان فرحا.
ثم دخلوا جميعا إلى القصر ويد سلمى في يد عبد الرحمن، وعامر لا يزال يفكر في أمر الناسك ومشابهته رجلا يعرفه.
ولما دخلوا الحجرة جلسوا يقصون ما مر بهم من الحوادث.
فبدأ عامر يقص ما أصابه وأصاب عبد الرحمن منذ ذهبا إلى الكوفة، فقال: ذهبنا إلى الكوفة للبحث عن أمر مسلم بن عقيل، فقبضوا على رفقائنا ونجونا نحن واختفينا في مكان ريثما نرى ما يكون من أمر الحسين ورجاله، فلما علمنا بمقتلهم وإرسال أهلهم إلى دمشق اقتفينا أثرهم إليها فقيل لنا إنهم أرسلوهم إلى المدينة، وكان اليأس قد أخذ منا مأخذا عظيما؛ لاعتقادنا بموت الحبيبة سلمى، مع حبوط مسعانا في نصرة الحسين، وسرنا إلى المدينة فأقمنا فيها حينا، ولم يتفق لنا لقاء زينب إلا بعد وقعة الحرة التي أتم بها يزيد فظائعه.
وكنت في أثناء هذه الوقعة مع أهل البيت، وقد أوصى بهم يزيد خيرا هذه المرة فلم يصابوا بسوء، فلما انقضت المذبحة لقيت زينب فسألتني: هل لقيت سلمى؟ ثم أخبرتني بما كان من أمرها، وبأنها فارقتها آخر مرة خارج دمشق، فركبنا إلى دمشق وبحثنا عنها فلم ينبئنا منبئ بخبرها، ولكننا فهمنا في أثناء البحث أنك كنت هنا في ذلك الوقت، فترجح لنا أنكما سرتما معا، وبعد التحري علمنا من بعض القادمين من بحيراء إلى دير خالد أنك تقيم إلى جانب بصرى، فجئنا لعلنا نراك ونبحث عن سلمى، فالحمد لله على هذه الصدفة الغريبة.
وقصت سلمى ما اتفق لها منذ كانت في قصر يزيد إلى آخر حديثها.
وقص الناسك ما كان من وقعة كربلاء، حتى أتى على حديث الأمس وجرعة العسل فابتدرته سلمى قائلة: لم تخبرني بعد عن سبب تغير سحنتك.
قال: هذا لا أخبرك به الآن، ولكنني أخبرك بسبب تأخري عن الرجوع؛ ذلك أني لما خرجت لجلب الطعام، رأيت أن أستطلع عاقبة تلك الكأس، فهرعت إلى بصرى لأتنسم الأخبار، فعلمت أن يزيد ركب في ذلك الصباح وهو يشكو جنبيه، وقد أصابته بحة، وهي أول أعراض ذلك السم، وما أظنه إلا مائتا قريبا فينجو الإسلام والمسلمون من خلافته.
وكان الشيخ يتكلم وعامر يتأمل في ملامحه وحركاته؛ لمشابهته رجلا يعرفه، فلما سمعه يذكر قرب موت يزيد، شغله الفرح بذلك عن كل شاغل، وكذلك عبد الرحمن وسلمى، وباتوا تلك الليلة ولم يناموا إلا قليلا لشدة الفرح.
وفي ضحى اليوم التالي عاد رسولهم الذي أنفذوه إلى بصرى فسألوه عما وراءه فقال: لم أجد الشيخ الناسك، ولكني سمعت بموت يزيد على حدود حوران.
فصاح الشيخ: هل تحققت من موته؟
قال: نعم يا مولاي.
فقال الشيخ: وما سبب موته وعهدنا به صحيح البدن، ولم يجاوز الثامنة والثلاثين؟
قال الرجل: سمعتهم يقولون إنه أصيب بداء الجنب والذبحة، وكأنه ذاب ذوبان الرصاص.
فتظاهر الشيخ بالأسف وأشار إلى عامر أن يصرف رسوله ففعل ثم عاد، وخلا الأربعة في إحدى حجرات صرح الغدير، ولم يمر بأحدهم يوم أسعد من ذلك اليوم، ولا سيما سلمى؛ لأنها هي التي باشرت الانتقام بنفسها.
ونظر إليها عبد الرحمن نظرة المحب المفتون وقال: لا أدري كيف أبدي لك حبي وقد أحرزت أشرف خلال النساء وأندر خلال الرجال، فحويت الجمال والوقار والحكمة والعقل والشجاعة، وحسبك أنك قتلت ذلك الدعي وأنقذت المسلمين من ظلمه، وانتقمت لأبيك انتقاما عجزنا كلنا عنه.
فقالت سلمى: إني إنما فعلت ذلك لأنه الواجب.
وكان الشيخ في أثناء ذلك شاخصا في الفضاء كأنه مستغرق في أمر ذي بال، وعامر ينظر إليه من طرف خفي ويتفرس في وجهه لمشابهته رجلا يعرفه، وهو عزيز عليهم جميعا، ثم انتبه الشيخ الناسك كأنه هب من رقاد والتفت إليهم وقال: آن لي أن أقص عليكم ما تتساءلون عنه من خبري. تعالوا معي. فساروا في أثره حتى دخلوا غرفة، فجلس وقد تغير وجهه وبان الجد في عينيه وكأنه كان مصابا بالجنون وعاد عقله إليه في تلك الساعة، وظهر ضعف الشيخوخة فيه، وقبل أن يقص حكايته التفت إلى عامر وقال: ألم تعرفني يا عامر؟
فتفرس فيه عامر وقال: قد عرفتك الآن فقط، ألست عديا والد حجر؟
قال: نعم.
فلما قال ذلك التفتت سلمى إليه وقالت: جدي؟
قال: نعم يا حبيبتي، ولعلك أدركت شيئا من ذلك يوم سمعتني أرثي الحسين في سهل كربلاء.
فترامت سلمى على يديه تقبلهما، فقبلها عدي وهو يبكي ويشهق، وبكى عبد الرحمن وقبل يد الشيخ، ثم عاد الشيخ إلى إتمام الحديث فقال: أما سبب تكتمي فذلك أني لما أصبت بمقتل حجر لم يعد يحلو لي البقاء، ولكن قلبي ظل عالقا بالانتقام، فعللت نفسي بموت معاوية ومبايعة الحسين، وجعلت مقامي فوق قبر ابني في غوطة دمشق أستنشق ترابه وأتنسم ريحه، فلما لم يظفر الحسين بالبيعة، وتولى الخلافة يزيد، صبرت في انتظار الفرج أو الموت، فلما جئتم إلى دير خالد واجتمعتم تحت الجوزة وتعهد عبد الرحمن بقتل يزيد، كنت أنا مختبئا في أعلاها، وأنا القائل لكم في تلك الليلة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، وظللت كاتما أمري وأنا أسعى في مساعدتكم جهدي، وأخفي وجهي حتى لا يعرفني عامر، وقد عاهدت الله منذ مقتل حجر ألا أقص شعري ولا آكل غير الفاكهة ولا آوي إلى المنازل، فلما علمت أمس بقرب موت يزيد حللت نذري وقصصت شعري كما ترونني.
وسكت الشيخ قليلا ثم قال: أما وقد مات يزيد، فقد آن لي أن أسلم الروح، وإني أوصيكم بتقوى الله، والتفاني في نصرة أهل النبي، فأقيموا بمكة وحجوا إلى كربلاء وابكوا قتلاها ما استطعتم، وسيقتص الله من القوم الطاغين.
قال ذلك وقد تلجلج صوته، وكلهم يبكون ويعجبون، ثم توسد وتمطى وهو يقول: إني أتلقى الموت بالترحاب. وما أتم قوله حتى أسلم الروح.
فبكوه وهم في دهشة من أمره، ثم دفنوه في أصيل ذلك اليوم.
وبعد أيام رحلوا عن البلقاء، حتى أتوا مكة وفيها ابن الزبير ولا سلطان للأمويين فيها، فعقدوا لعبد الرحمن على سلمى، وعاشوا في هناء وسلام.
نامعلوم صفحہ