قال: إن في الدير الذي خرجنا منه الآن غرفا يقيم بها المسافرون، والدير يقدم لهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة مجانا، فتقيمين أنت بغرفة، وأقيم أنا بهذا البستان بالقرب منك، فنجتمع في أثناء النهار ونفترق في الليل.
أطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: ولكنني لم أر في الدير نساء فكيف أقيم وحدي؟ قال: في الدير نساء كثيرات، وأكثرهن يعملن في إعداد الطعام وغسل الثياب. قالت: أرى أن أكون معهن لكي يكون في إقامتي فائدة. •••
خرج الشيخ الناسك وسلمى من الصومعة، وسارا إلى رئيس الدير، وقال له: إنني وابنتي هذه نريد أن نقضي بقية حياتنا هنا نعبد الله، وأنا شيخ ناسك لا آوي إلى البيوت، وابنتي تريد أن تلتحق بخدمة الدير فتساهم في إعداد الطعام وتنظيف الغرف، فهل تقبلوننا؟
فقال الرئيس: أهلا بكم ومرحبا، ثم أمر لسلمى بثوب مما ترتديه خادمات الدير فلبسته، وهو لا يقضي على لابسه باتباع شروط الرهبنة، ولكنه يفرض عليه الخدمة في الدير ... فرحبت بها وأعجبت بما رأته من جمالها وما توسمته في عينيها من الذكاء، وسمتها باسم جديد على العادة المتبعة في مثل هذه الحال، فصار اسمها مريم، ولم يمض قليل حتى أحبها كل من في الدير من نساء ورجال، وأعجبوا بما آنسوه من تعقلها وصدق خدمتها، وقد زادها الانقباض والسكوت هيبة ووقارا، وأصبحت بعد حين مرجع مشاوراتهم وزهرة جمعياتهم.
ولم يكن يمضي يوم لا يأتي الدير فيه وفود الأضياف من أنحاء جزيرة العرب والعراق والشام، وفيهم أهل التجارة وأهل السياحة وأصحاب النذور ونحوها، فأصبحت مريم مضرب أمثال أهل الدير واضحا في الرزانة والتعقل.
أما هي فكانت تجد في تلك الخدمة راحة وعزاء عن مشاغل العالم، وأحست بسعادة لم تكن تشعر بمثلها من قبل لولا ما كان يعترض سعادتها من تذكر عبد الرحمن وما مر بها من الحوادث المؤلمة، على أنها بمضي الأيام كادت تنسى كل ذلك إلا عبد الرحمن.
وكانت إذا اجتمعت بالراهبات أو الرهبان ودار الحديث على الأحوال العامة، سمعت طعنا قبيحا في يزيد وسوء تصرفه وما يرتكبه من شرب الخمور والانشغال باللهو والطرب وضرب الطنابير وتربية القرود، وكانت إذا سمعت ذلك ينقبض قلبها وتقول في نفسها: لا يصلح الحاكم إلا إذا أتيح له الاطلاع على سرائر رعيته وما يدور في مجالسهم الخاصة من نقد أعماله، ولو أنه أتيح له ذلك ما بقي على غيه مهما يبلغ من حمقه وجهله. كذلك كان يفعل عمر بن الخطاب؛ فكان يتنكر ويخالط الناس فيسمع ما يقوله عجائزهم وصبيانهم وشبانهم وكهولهم، ويتدبر ما يسمعه من الانتقاد، فينصف المظلوم ويضرب على أيدي الظالمين، فساعده ذلك على تشييد مملكة الإسلام وتقويم دعائمها على العدل والحق. وأما يزيد فإنه انشغل بنسائه وخموره واستبد بأبناء الرسول واضطهد أهل بيته حتى كاد يهدم ما أسسه الخلفاء الراشدون، ولو أنه وجد من أصحاب شوراه من يطلعونه على حقيقة أمره وما يقوله الناس عن حكومته وعن ضعفه وإهماله، لاضطر إلى الإصلاح جهد طاقته، ولعل الله أراد ذلك تعجيلا لخروج الخلافة من يده. •••
قضت سلمى في دير بحيراء سنتين وبعض السنة وهي على تلك الحال، حتى ألفت الوحدة وكادت تنسى مصائبها، ولكن ذكرى عبد الرحمن كانت تعادوها فتستغرق في التأملات، ويخيل إليها أحيانا أنه ما زال حيا فيتجدد أملها بلقياه، ثم لا يلبث ذلك الأمل أن يضمحل من مخيلتها فتعود إلى البكاء عليه في خلوتها، ولا سيما أن الشيخ الناسك لم يكن يشفي غليلها بخبر صريح.
وأصبحت ذات يوم فرأت أهل الدير في هرج ومرج، وقد أخذوا في تزيين الأبواب والنوافذ، ومد الأبسطة وذبح الذبائح، فسألت عما دعاهم إلى ذلك، فقيل لها: إن الخليفة قادم إلى حوران، ولا بد له من المرور بالدير والإقامة به يوما أو يومين، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها وانقبضت نفسها ولم تجد بدا من الذهاب إلى الشيخ الناسك، فلما أقبلت عليه رأته جالسا تحت شجرة وعكازه بيده ينكت الأرض بها وقد بالغ في الإطراق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فلما دنت منه رفع بصره إليها وعيناه تتلألآن كأنهما شعلتان، وابتدرها قائلا: إن الطريدة أوشكت أن تقع في الفخ، فهل تفلت منك هذه المرة؟
فشعرت سلمى بتجدد آمالها في الانتقام وقالت: أرجو ألا تفلت والله المستعان.
نامعلوم صفحہ