فقالت طوعة: إنهم ضعفاء يا بنية، ولكن ذلك أمر الله، فأصبح هم ابن زياد أن يقبض على هانئ ويسأله، فبعث إليه أن يوافيه إلى قصره، فاعتذر هانئ بالمرض، فألح عليه وبعث إليه رجلا استقدمه بالحيلة، فلما وصل هانئ إلى دار الإمارة أحس بالشر، ولكنه دخل ووقف بين يدي ابن زياد فقال له هذا: «يا هانئ، ما هذه الأمور التي تدبر في دارك لأمير المؤمنين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال، وظننت ذلك يخفى علينا؟!» فأنكر هانئ في بادئ الرأي وهو لا يظن أمره معلوما عند ابن زياد، ولكن هذا واجهه بالرجل الذي كان قد جعله عينا عليه، فتحقق هانئ أنه مطلع على جلية الأمر فقال: «اسمع مني وصدقني؛ فوالله لا أكذبك، والله ما دعوت ابن عقيل ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي يسألني النزول، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام، فأدخلته دار ضيفا، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت فإني أعطيك الآن موثقا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك.» فلم يقتنع ابن زياد بإخراج مسلم من دار هانئ، بل طلب أن يأتيه به إلى القصر، فقال هانئ: «لا آتيك بضيفي لتقتله أبدا، وله علي حق الضيافة وهو في ذمامي.» فتوسط بعض الحضور في إقناع هانئ بأن يأتيه بمسلم ولا خوف عليه، فلم يقنع وقال: «لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.»
فقالت سلمى عند سماعها ذلك: لا فض فوك يا ابن عروة هذه هي رعاية الذمام.
فقطعت طوعة كلام سلمى وقالت: اسمعي يا حبيبتي ما كان من عاقبة تلك الرعاية، فإن ابن زياد لما سمع كلام هانئ قال: أدنوه مني. فأدنوه، فأعاد التهديد عليه، فلما لم يطعه تناول عبيد الله قضيبا كان في يد بعض رجاله وأمر واحدا فأمسك هانئا بضفيرتيه، ثم أهوى على هانئ بالقضيب، ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده على لحيته حتى انكسر القضيب، وأراد هانئ أن يدافع عن نفسه فمد يده إلى قائم سيف شرطي كان واقفا بجانبه فمنعه منه، وأمر عبيد الله به فألقي في حجرة وأغلق عليه.
فدقت سلمى كفا بكف وقالت: وماذا فعل رجاله وأهل عشيرته؟
قالت طوعة: بلغ عشيرته أنه قتل، فجاءوا وأحاطوا بالقصر وفيه ابن زياد ورجاله، فخاف ابن زياد منهم وسألهم عما يريدونه فقالوا: «إنك قتلت هانئا.» فأفهمهم أن هانئا ما زال حيا، واستشهد شريحا القاضي وكانوا يعتقدون صدقه، فأخبرهم بأنه حي فانصرفوا.
فصاحت سلمى: يا للفشل! ماذا أصاب الناس!
فقالت: تمهلي يا سلمى، إنك ستسمعين ما يسرك وفيه الفوز والنجاة إن شاء الله. إنك سألتني عن معنى قولهم: «يا منصور أمت»، فاعلمي يا بنية أن هذه العبارة هي شعار أنصار الحسين ينادي بها بعضهم بعضا، وأما سبب الهرج الذي رأيته فإن مسلما لما علم بما أصاب هانئا نهض ونادى رجاله بذلك الشعار حتى اجتمع حوله ثمانية عشر ألفا من كندة ومذحج وتميم وهمذان وأهل المدينة، ولكل عشيرة من هؤلاء ربع، فعقد على كل ربع لقائد، وساروا في هذا الصباح وأحاطوا بالقصر وليس مع ابن زياد في القصر إلا ثلاثون رجلا، وهو الآن في ضنك شديد ولا أظن مسلما إلا فائزا.
فتهلل وجه سلمى وأبرقت أسرتها وبان الاهتمام في وجهها وقالت: يا رب يا كريم، انصر قومك. قالت ذلك ونهضت تريد الخروج، فأمسكت طوعة وقالت: إلى أين تذهبين؟
قالت: دعيني، أريد أن أرى ما يكون من أمرهم.
قالت: تمهلي واقعدي؛ فإنك فتاة، لا آمن عليك من الغوغاء.
نامعلوم صفحہ