وكان الشيخ يبكي ودموعه تنحدر على لحيته فتنسكب على الكلب وتختلط بدمائه، ثم رفع الشيخ بصره إلى سلمى وقال لها: لا تعجبي يا بنية لما ترينه من بكائي على حيوان أعجم، فإنه خير عندي من أولئك الآدميين. ألا ترينه ذكر صحبتك ومات في سبيل إنقاذك؟ ولكنه لم يمت رخيصا. إنه ذكر صحبة يوم ويومين، فلما اشتم رائحتك بين هذه الخرائب وكان نائما إلى جانبي نهض كالليث الكاسر وأسرع إليك ثم عاد ودمه يفور من جرحه لشدة الطعنة وكأنه أشار إلي أن ألحقه فتبعته، وفيما أن مار بين هذه الأساطين بصرت بذلك الرجل اللئيم خارجا من الهيكل ولا عمامة على رأسه والخنجر بيده وهو يهم بإغماده، فلما أتيت إليك ورأيتك مصلوبة أدركت أنه صلبك تهديدا، فأنقذتك، والفضل لهذا الحيوان الذي ترينه يقاسي غمرات الموت بين أيدينا، فمن يفعل ذلك من الآدميين؟! كم من رجل تربينه في حجرك وتعمينه بخيرك ثم يكون وبالا عليك!
فتصورت سلمى أحوال البشر ومظالم بني الإنسان ومطامع أهل الشر، وكيف أنهم يقدمون الفضيلة قربانا على مذبح الأغراض فقلت: صدقت يا مولاي، إن صحبة هذا الكلب خير من صحبة كثيرين، ولكن القضاء نفذ فيه، ولا عجب؛ فتلك عاقبة أهل الفضل من المخلوقات الناطقة أيضا.
فتنهد الشيخ وتغيرت سحنته، وكأنه أفاق من غفلته والتفت إلى الفتاة وعيناه تقدحان شررا وقال: ويدلك ذلك على صدق ما وعد به ربك من العقاب والثواب، وإلا فإن الحياة ضرب من العبث؛ لأن العدل في هذه الدنيا غريب تائه لا يعرف مأوى، ولا نرى في أعماق الناس غير المظالم الفادحة. نرى الأشرار في رغد وهناء وسعادة، والأبرار يقاسون مر العذاب، وما كان ربك ليثيب الظالمين، وستأتي ساعة تلقى فيها كل نفس ما كسبت، إن خيرا وإن شرا، وويل للذين ظلموا من مشهد يوم عظيم.
فشعرت سلمى والشيخ يتكلم كأنه ينطق بلسان أهل السماء، فقالت: نعم، لا بد من ذلك، وقد رأينا خير الصالحين يقتلون بأسياف الظالمين، وهؤلاء يعيشون في سعة وسلطان، ولكن الله عادل، فلا بد من يوم ينال فيه كل امرئ ما كسبت يداه.
وسكتا والشيخ يمسح دموعه، ثم قال: هلم بنا ندفن هذا الصديق الأمين فقد بكيناه وسنبكيه كلما لقينا سرورا. قال ذلك ونهض فحفر حفرة، دفناه فيها، وتوقعت سلمى أن تسمع من الشيخ خبرا، وتذكرت ما شاهدته من كراماته في دير خالد فقالت: لعله ينبئني بشيء ينفعني، فلما عادا إلى مخبئهما همت بخطابه فإذا هو يفرك أنامله وقد أطرق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فأمسكت هي عن الكلام تهيبا وإجلالا. أما هو فقال لها: وما الذي جاء بك يا سلمى إلى هذه الديار وقد كنت سمعت بمقتلك؟
فلما سمعت قوله استغربت اطلاعه على سر قتلها، ثم تذكرت ما تعلمت من كرامته فزال استغرابها وقالت: قتلوني يا سيدي ثم أحيوني، ويا ليتهم أبقوني ميتة. قالت ذلك وخنقتها العبرات.
ففهم الشيخ أنها تحسب عبد الرحمن ميتا، وهو يعلم أنه حي، فأراد أن يستطلع فكرها فقال: وهل قتلوا عبد الرحمن؟
قالت : أتسألني عن قتله وأنت أعلم مني بذلك؟
فصمت الشيخ وأطرق، وحدثته نفسه أن يخبرها ببقاء عبد الرحمن حيا، ولكنه رأى بقاءها على اعتقادها أقرب لنيل ما يتمناه وما عقد النية عليه، فظل صامتا مترددا.
أما هي فمسحت دموعها وقالت: ولكنني لا أعلم ما جرى لعامر. هل علم بما أصاب عبد الرحمن وما أصابني؟ وأين هو الآن؟
نامعلوم صفحہ