لم كانت هذه الآثار أنطق وأفصح من غيرها من الآثار القديمة والحديثة؟ لأنها فيما أظن تمثل حياة شعب مهما يوصف به من ضروب العيوب والقصور فلن ينكر عليه أنه شعب سهل صريح قريب إلى غيره من الشعوب، لا غموض فيه ولا عسر ولا التواء.
تستطيع أن تقرأ التاريخ الفرنسي والأدب الفرنسي والفلسفة الفرنسية والعلم الفرنسي، وأن تنظر في الفن الفرنسي على اختلافه، فسترى في هذا كله خصلة مشتركة تميزه من غيره عند الأمم الأخرى؛ وهي الوضوح والجلاء. لا يخطئ الفرنسيون حين يتحدثون عن أنفسهم في شيء من الفخر والإعجاب، فيقولون إنهم يقومون من أمم هذا العصر الحديث مقام اليونانيين من أمم العصر القديم.
11
ولذة أخرى أجدها حين أزور فرنسا - وهل تنقضي لذاتي حين أزور فرنسا؟ هي هذه التي أجدها حين أنغمس في الحياة الفرنسية الصرفة بقراءة الصحف والكتب والمجلات، ذلك أني لا أفهم زيارة بلد من البلاد إلا إذا كانت الغاية من هذه الزيارة - قبل كل شيء وبعد كل شيء - تعمق هذا البلد، والاتصال بحياته الحقيقية الداخلية، والوقوف على أسرار هذه الحياة، وعلى هذه الأمور الخفية التي تبعث الأفراد على أن يعملوا، والجماعات على أن يجاهد بعضها بعضا، ويمكر بعضها ببعض، ويتغلب بعضها على بعض. لغيري من المصريين أن يفتن بالطبيعة وجمالها، ولغيري من الفنيين أن يفتن بالعمارة والتصوير والنحت، ولغيري من المؤرخين أن يفتن بالآثار وما يتصل بها من مصادر التاريخ.
ولست أزعم أن هذه الأشياء لا تعنيني، ولكني أزعم أن الذي يعنيني قبل كل شيء حين أزور بلدا من البلاد إنما هم أهل هذا البلد، وأساليبهم في التصور والحس والشعور والحياة بوجه عام.
وليس من اليسير على الأجانب إذا وصلوا إلى فرنسا أن يتصلوا بالفرنسيين اتصالا صحيحا، وأن يروهم كما هم؛ فالفرنسيون - وإن رأى الأجانب فيهم غير ذلك - مغلقون دون الغرباء، لا يظهرون أنفسهم للزائرين إلا بمقدار، وهم لا يظهرون من أنفسهم للأجانب إلا ما يريدون إظهاره؛ من لطف مبالغ فيه أحيانا، ودعة وحسن ضيافة تبعثهما المنفعة في أكثر الأحيان، وضروب من اللهو والدعابة والمجون تستهوي كثيرا من الأفئدة إلى بلادهم. فأما حياتهم الخالصة فيجب أن نلتمسها نحن وأن نتكلف في التماسها شيئا من العناء غير قليل.
يخطئ الأجنبي الذي يتصل في الملاعب والحانات ببنات اللهو والمجون حين يظن أنه عرف الفرنسيين أو عرف المرأة الفرنسية، وخطؤه أشد وأعظم حين يتخذ من هذه المعرفة الضئيلة الكاذبة وسيلة إلى الحكم وتقرير النظريات.
إنما يلتمس الفرنسي في غير باريس؛ في القرى وفي أعماق الريف، في هذه الحياة المقفلة التي لم يتعود الأجنبي أن يتورط فيها، والتي يظهر فيها الفرنسي كما هو؛ جادا كما تعود أن يجد، هازلا كما تعود أن يهزل، مقتصدا كما تعود أن يقتصد، ومسرفا كما تعود أن يسرف.
وظاهر أن الوصول إلى هذه الحياة ليس يسيرا لمن يقضي في فرنسا أسابيع يلتمس فيها اللذة والراحة.
على أن هناك سبيلا أخرى للوصول إلى ناحية من الحياة الفرنسية لا يسلكها المصريون إذا ذهبوا إلى فرنسا عادة، وهي الإمعان في قراءة الصحف الفرنسية والكتب الفرنسية والإمعان في تفهمها وتعرف حقيقتها، أما أنا فأجد في هذه القراءة لذة لا تعدلها لذة. ومع أني أقرأ كثيرا من الآثار الفرنسية في مصر، فإني أحب أن أقرأ الآثار الفرنسية في فرنسا، ويخيل إلي أني أفهمها في فرنسا على وجهها، ولا أفهمها في مصر كما ينبغي أن تفهم، كأن البيئة الفرنسية نفسها تخلع على هذه الآثار غشاء يجعلها أشد إلى النفس قربا، وأدنى إلى الفهم والتعمق. وإنها لقوية جدا هذه اللذة التي أجدها حين أقرأ ما يكون من الخصومة المتصلة بين الأحزاب السياسية، والخصومة المتصلة بين الأدباء وأصحاب الفن، ومن هذه الشروح والتعليقات التي تتناول بها الصحف المختلفة أعمال الحكومة والحياة البرلمانية، وكم أقارن بين ما نقرأ في مصر من هذه الآثار وما نقرأ في فرنسا، وكم يمتلئ قلبي حزنا حين أفرغ من هذه المقارنة.
نامعلوم صفحہ