في الصيف‏

في الصيف‏

في الصيف

في الصيف

تأليف

طه حسين

في الصيف

1 «امكثوا؛ وأنا زعيم بتنبيهكم إذا استيقظ الفجر!» قال ذلك، ومس المائدة أمامه بعصاه مسا رفيقا، فلما أقبل خادم الفندق، قال له: «إذا تمت الساعة الخامسة من صباح غد، فتحدث في التليفون رقم كذا ... فسل عن صحة فاطمة، ثم أنبئني بها حين تقدم إلي قهوة الصباح.» وكانت فاطمة خادما لنا، وكان مدير الجامعة قد استنبط هذه الحيلة ليكلف خادم الفندق تنبيهنا مع الفجر، وكنا قد أزمعنا السفر من غد وجئنا نودعه، وهممنا أن ننصرف، فأراد أن يستبقينا ساعة أخرى من الليل.

وكنا قد خلعنا يوما قائظا محرقا، ودخلنا في ليل رطب ثقيل، وكان الجو من حولنا ساكنا جامدا كأنه مخنوق مكدود، قد احتبست أنفاسه احتباسا، وكانت نفوسنا قد وقفت، وملكاتنا قد ثبتت في مكانها؛ لا تدور بخاطر ولا تفكير، وكانت ألسنتنا تتحرك بكلام لا يكاد يدل على شيء ذي غناء، ولا يكاد يعدو ما نحس من حر، وما نجد من ضيق، وكان الليل قد انتصف أو كاد، وكنا نتعجل الأوبة لنستريح قبل استئناف السفر الشاق الطويل، ولكن اليد التي كانت تخنق الجو أرسلته شيئا فتنفس خائفا مشفقا، ومست وجوهنا منه أنفاس رقيقة خفيفة، لم تكد تبلغنا حتى بعثت الحياة في النفوس، فلما نهضنا أنكر مدير الجامعة هذا النهوض، وهو يقول: «الآن وقد خف الليل، وتحرك النسيم، وطاب المجلس، وحسن السمر!» فجلسنا ما شاء الله أن نجلس، وتحدثنا ما وسعنا الحديث، وعدنا وقد تقدم الليل نقضي بين النوم واليقظة هذه الساعات المضطربة التي يقضيها من يحرص على ألا يفوته القطار الأول.

أين أنا؟ فيم أفكر؟ وماذا أسمع؟ إن من حولي لأصواتا لا أتميزها، أو لا أتميز منها إلا قليلا، وإني لأجد هذا الشعور الغريب الذي يخيل إلي أني في النوم، ويدعوني إلى الراحة، ويخيل إلي في الوقت نفسه أني مع الناس، وأن من الحق علي أن أتخذ هيئة الرجل الاجتماعي، لا أكاد أتميز أصوات قوم يتحدثون من حولي؛ فيهم زوجي وابناي وجماعة من الأصدقاء، وما أشك في أنهم يذكرون القاهرة وأحداثها في الأسابيع الأخيرة، أما أنا فقد امتلأت نفسي بجملة واحدة ترددت علي كثيرا أمس، وترددت علي كثيرا صباح اليوم، وهي «إلى اللقاء»، سمعتها أمس ممن زرته أو زارني مودعا، وسمعتها اليوم من هؤلاء الأصدقاء الكثيرين الذين أبوا إلا أن يتكلفوا الغدو مع الطير؛ ليصافحوني قبل أن أركب القطار. «إلى اللقاء» كلمة كلها أمل ورجاء قد تصدقه الأيام وقد تكذبه. فمن يدري؟ لعلي أعود فأصافح هؤلاء الأصدقاء، وأسمع لهم، وأتحدث إليهم، وأشاركهم في جد الحياة وهزلها، ومن يدري؟ لعلي لا أعود، فلا لقاء ولا حديث، ولا استماع ولا مشاركة في الجد أو الهزل. «إلى اللقاء» كلمة ينطلق بها اللسان، فإذا هي خفيفة لا وزن لها حينا؛ لأنها كلمة مجاملة ليس غير، ولعل من الناس من يقول لسانه «إلى اللقاء»، ويقول ضميره: «اذهب لا رجعت!» وإذا هي ثقيلة على بعض الألسنة؛ لأنها مملوءة مثقلة بالمعنى قد أودعها صاحبها كل ما في نفسه الراضية الحنون من حب وبر، ومن خوف وإشفاق، ومن أمل ورجاء، يتحرك بها لسانه؛ وإن قلبه ليتحرق حزنا للفراق، وإن ضميره ليود لو لم يحتج الناس إلى أن يودع بعضهم بعضا، وإن نفسي لتتمنى أن يتم هذا الرجاء؛ وأن يكون هذا اللقاء قريبا، والألسنة تنطلق بهذه الكلمة مسرعة حينا، مبطئة حينا آخر.

والأصوات تنبعث بهذه الكلمة مشرقة واضحة، أو مظلمة قاتمة، والقطار يتحرك، والأبصار تتبعه، والأنفاس تخرج من بين الشفاه زفرات المحزون أو نفثات المصدور، كل هذه الأصوات المختلفة المتباينة التي يملؤها الحب والبغض، ويضيء في جوانبها الأمل، ويغشيها اليأس بغشاء صفيق، كل هذه الأصوات، وكل هذه الأنفاس، وكل هذه النظرات، تصل إلى نفسي، وتقع في قلبي، فتترك فيه آثارا وندوبا، وأنا لها كلها شاكر، وبها مغتبط، فهي مظهر من مظاهر المجاملة، ودليل على أن لي في نفوس هؤلاء الناس جميعا مكانة ما، فإن الحب والبغض أوضح آيات التقدير.

2

والحديث من حولي متصل، تبلغني الأصوات، وتقع في أذني كلمات يخلص إلى نفسي بعضها، ويقف بعضها الآخر دون صماخ الأذن، والقوم فيما يظهر يرون أني مغرق في النوم فيخلون بيني وبين الراحة، ولا يوجهون إلي حديثا، وما أنا بالنائم ولا المغرق في النوم، ولكنها الخواطر تغمر نفسي، وتطيف بها من جميع جوانبها، إني لأودع قوما لأستقبل قوما آخرين، إني لأغلق من ورائي بابا لأفتح من أمامي بابا آخر، أغلق باب الحياة العاملة لأفتح باب الراحة والدعة، وإني لألقي من حولي حجبا صفاقا وسجفا كثافا حتى لا يصل إلي مما حولي شيء؛ لأني أريد أن أفرغ لنفسي، وأريد أن أتحدث إليها وأسمع منها، وأحدث بينها وبيني هذا الحساب الذي طال به العهد وبعد به الزمان، والذي أقبل عليه كارها له وراغبا فيه! نعم، فأنا أنسى نفسي أو أتناساها طوال فصل العمل في مصر، فأريحها وأستريح منها، فإذا أقبل الصيف أقبلت معه عليها، فكان بيني وبينها حساب ما أشد يسره حينا، وما أشد عسره في أكثر الأحيان، وما يكاد يتقدم الصيف أسابيع حتى أسأمها وتسأمني، وحتى أنفر منها وتنفر مني، وحتى أفر منها إلى ألوان القراءة وضروب اللهو، وتنكمش هي فتختبئ في ناحية ضئيلة خفية من نواحي الضمير.

نعم، إذا أقبل الصيف دنوت من نفسي فاستفتحت بابها، فإذا فتح لي هذا الباب نظرت؛ فما أسرع ما أذكر الحطيئة حين رأى وجهه في صفحة الماء فهجاه، أستعرض ما عملت، فإذا هو منقوص، وإذا التقصير يعيبه ويفسده، وأستعرض ما قبلت من الناس فإذا هو رديء مشوه مهين، وإذا أنا قد هدأت حين كانت تجب الثورة، وسكنت حين كانت تجب الحركة، وسكت حين كان يجب الكلام. وإذا أنا ساخط على ما أعطيت، ساخط على ما تلقيت، منكر لكل ما أتيت، وإذا أنا ضيق بنفسي، وإذا نفسي ضيقة بي، وإذا أنا أود لو ينقضي الصيف، وأتمنى لو أستقبل فصل العمل؛ فإن النشاط على ما به من قصور وتقصير خير من هذا الهدوء الهادئ الذي لا يرى الإنسان فيه إلا نفسه، ما أشد عجبي للذين يطيلون النظر في المرآة!

3

كانت هذه الخواطر وكثير أمثالها تضطرب في نفسي متصلة، فأقف عند بعضها، وأمر ببعضها الآخر سريعا، بينما القطار يسير بنا من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان حديث رفاقي يصرفني عنها آنا بعد آن، ولكني لم أكن ألبث أن أعود إليها أو أغرق فيها، أو لم تكن هي تلبث أن تعود إلي فتغمر نفسي، وتستغرق تفكيري حتى لم يكن بد من الانصراف المؤقت عنها إلى ما يشغل المسافر عادة حين ينتقل من القطار إلى السفينة، ويهيئ نفسه لاقتحام البحر، على أن السفينة لم تكد تغادر الثغر حتى أخذت هذه الخواطر وأمثالها تعاودني، ولست أخفي أني كنت قد سئمتها وضقت بها، فتعمدت حينئذ أن ألتمس ما يصرفني عنها، وإن كان ذلك لسهلا يسيرا؛ فقد كان معي من الكتب المختلفة المتنوعة ما يكفي لصرفي عنها إلى ما هو ألذ منها وأكثر نفعا، فقضيت أيام السفينة في نوم وأكل وحديث وقراءة في التوراة.

4

ليس من الضروري ولا من المحتوم، أن تكون حبرا، أو قسيسا، أو شيخا من شيوخ الأزهر، لتقرأ في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وإنما يكفي أن تكون إنسانا مثقفا له حظ من «الفهم» والذوق الفني لتقرأ في هذه الكتب المقدسة، ولتجد في هذه القراءة لذة ومتعة وجمالا، بل ليس من الضروري، ولا من المحتوم أن تقرأ في هذه الكتب المقدسة، مدفوعا إلى القراءة فيها بهذا الشعور الديني، الذي يملأ قلب المؤمن فيحبب إليه درس آيات الله، ويرغبه في تدبرها والإنعام فيها، بل تستطيع أن تنظر في هذه الكتب نظرة خصبة منتجة؛ وإن لم تكن مؤمنا ولا ديانا؛ ففي هذه الكتب جمال فني أظن أنه يستطيع أن يستقل عما فيها من مظاهر الدين والإيمان، أليس فيها ما يمس عواطف النفس فيبعث فيها الرحمة والحنان، ويملؤها طمأنينة ودعة، ويثير فيها الغضب والسخط، ويملؤها نفورا واشمئزازا، ثم أليس فيها من الصور الفنية الخالصة ما يستطيع أن يثير إعجابك لنفسه، لا لأي شيء آخر، وهذا القصص الساذج الحلو، وهذه العظات والعبر التي تستخلص منه، وهذه الألوان من التصوير الذي يتحدث إلى العقل الإنساني، وإلى القلب الإنساني، أحاديث تلائم ما اكتنفهما من الأطوار المختلفة، والظروف المتباينة. كل ذلك يكفي لأن يحبب إليك القراءة في التوراة والإنجيل والقرآن، تلتمس فيها اللذة والمتعة والجمال والفن وإرضاء الذوق، وإن لم تكن من الأحبار ولا من الرهبان ولا من القسيسين، ولا من الشيوخ ولا من طلاب الدين والإيمان، وإن في نفسي لخاطرا لن أتردد في تسطيره، وإن كنت أعلم أنه سيحفظ قوما؛ لأني لم أتعود التردد أمام ما أقدر من سخط الساخطين في نفسي. إن من الحق على كل مثقف مهما يكن مؤمنا أو ملحدا، ومهما تكن ملته أو نحلته، أن يقرأ في هذه الكتب، ويكثر القراءة على نفس النحو الذي يقرأ عليه في آيات البيان القديمة والحديثة، لا يبتغي في ذلك إلا هذه الآيات من حيث هي آيات. ليس ضروريا أن تكون يونانيا أو رومانيا أو فرنسيا أو إنجليزيا أو ألمانيا؛ لتجد اللذة الأدبية عند «هوميروس» أو «سفوكليس» أو «فرجيل» أو «هوجو» أو «شكسبير» أو «جوت»، وإنما يكفي - كما قلت آنفا - أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق لتقرأ، وتلذ وتستمتع؛ ثم ليزداد حظك من القراءة واللذة والاستمتاع، كذلك لم تقصر التوراة على اليهود، ولا الإنجيل على النصارى، ولا القرآن على المسلمين، وإنما هي كتب دين من ناحية، ومظاهر للأدب والفن والبيان من ناحية أخرى؛ فهي من ناحيتها الدينية من قسمة اليهود والنصارى والمسلمين؛ وهي من ناحيتها الفنية متاع للإنسانية كلها. وما رأيك في هذه البيع والكنائس والمساجد والمعابد التي أتقن الفنيون إقامتها وتنسيقها، وجعلوها آيات فنية في العمارة والنقش والتصوير؟ أتظنها مقصورة على الذين يقيمون الصلاة فيها، ويتوسلون فيها إلى آلهتهم بالوسائل المختلفة؟ أم هي إلى ذلك متاع مباح للذين يستطيعون أن يذوقوا الفن ويحبوه، ويلتمسوا درسه وفهمه وتحليله؟ أترى أنه لا يجوز لغير المسلم أن ينظر إلى مسجد أو يدخله، ولا لغير المسيحي أن يتوسم كنيسة أو يتأملها، وأن الحكومات القائمة آثمة حين تبيح هذه المساجد والكنائس لطلاب الفن غير المسلمين والنصارى؟ كلا، إن هذه الحكومات تأثم وتجرم حين تقصر هذه المساجد والكنائس على الذين يريدون أن يقيموا فيها شعائرهم الدينية، وتقصي عنها الذين يريدون أن يقيموا للفن شعائره أيضا.

وأنا أحب أن أمضي إلى أبعد من هذا؛ فأزعم أن من الممكن، بل من الأشياء الواقعة، أن قراءة طلاب الفن والجمال الأدبي لهذه الكتب تنتج للإنسانية نتائج لا ينتجها عكوف الأحبار والرهبان والشيوخ على قراءة التوراة والإنجيل والقرآن! فهؤلاء يقرءون متعبدين يلتمسون الدين والإيمان، وهم يقرءون ويفسرون ويقربون هذه الكتب إلى الناس من ناحيتها الدينية، وقلما يعنون بالناحية الفنية، وقلما يدركون دقائق هذه الناحية إن هم عنوا بها أو التفتوا إليها. بينما أولئك يعنون بهذه الناحية الفنية، وقد تمكنهم هذه العناية أن يفتحوا للناس أبوابا لحياة فنية قوية الأثر، بعيدة المدى. انظر إلى هذه الآثار الفنية المختلفة التي لا تحصى، والتي تراها منبثة في أقطار الأرض المسيحية شرقا وغربا، والتي إنما نشأت من تأثر أصحاب الذوق والفن بما قرءوا، أو ما ألقي إليهم من العهدين القديم والجديد.

أتظن أن لو قصرت التوراة والإنجيل على الأحبار والرهبان والقسيسين لأحدثت هذه الآثار؟ وهل تستطيع أن تحصي كثيرا من الأحبار والرهبان والقسيسين كانوا إلى ناحيتهم الدينية أصحاب فن وأدب وذوق؟! وأين هو الحبر أو القسيس أو الراهب الذي تأثر بالعهدين القديم والجديد، فأنتج مثل ما أنتجه «فيكتور هوجو» حين قرأهما وتأثر بهما؟ وسل شيوخ الأزهر عن جمال القرآن الفني، فلن تجد عندهم غناء؛ سيجيبونك بأن القرآن معجز، وهم مضطرون إلى هذا الجواب لأن الدين يلزمهم إياه كما يلزم كل مسلم - وإن لم يكن شيخا - أن يؤمن بأن القرآن معجز، ولكن سلهم عن هذا الإعجاز: ما هو؟ وما مظاهره ومصادره؟ فلن تجد عندهم غناء، وستجد أشدهم ذكاء، وأحدهم ذهنا، وأنفذهم بصيرة، وأكثرهم اطلاعا مضطرا إلى أن يعيد عليك عن ظهر قلب نظرية الإعجاز والتحدي، كما صاغها المتكلمون منذ أكثر من عشرة قرون، فأما أن يذوق هو جمال القرآن ، وأما أن يشعر هو بما فيه من مواضع الإعجاز، فشيء لا سبيل إليه، وإن زعمه لك فلا تصدقه؛ لأن الشعور بالجمال الأدبي موقوف على درس الأدب نفسه، وإتقان اللغة، وتعمق أسرارها ودقائقها، وليس شيوخ الأزهر من هذا كله على شيء.

وسل شيوخ الأزهر وكثرة القسس والرهبان عما في المساجد والكنائس والأديرة من الجمال الفني، فلن تجد عندهم غناء. وأنا أراهن على أنك لن تجد بين شيوخ الأزهر من يستطيع أن يؤرخ الأزهر نفسه من الناحية الفنية، فضلا عن غيره من المساجد، وفضلا عن تذوق هذه الناحية الفنية، وتكوين رأي فيها؛ حيل بين شيوخ الأزهر وبين هذا، وأتيح هذا - لا أقول لغيرهم من المسلمين، بل - لغيرهم من النصارى وأهل الديانات والنحل الأخرى، فسل مدير دار الآثار العربية وهو فرنسي مسيحي يؤرخ لك مساجد القاهرة كلها، ويحلل لك ما فيها من ضروب الجمال الفني على اختلافها وتنوعها.

كل ما أريد من هذه الإطالة إنما هو أن أصل إلى أن الكتب الدينية، والعمارات الدينية، لا ينبغي أن تكون وقفا على أصحابها وحدهم، وإنما هي متاع للإنسانية كلها كغيرها من الآثار الفنية التي كان لها حظ عظيم في تكوين نفسية الأمم والأجيال.

وإذا كان هذا حقا - وهو حق، بل هو واقع كما ترى - فقد بقيت خطوة يجب أن نخطوها، ولست أدري أيتاح لنا أن نخطوها في هذا العصر الذي نحن فيه؟ أم يحول بيننا وبينها الجهل والجمود؟ إذا كان من حق الناس جميعا أن يقرءوا الكتب الدينية ويدرسوها ويتذوقوا جمالها الفني، فلم لا يكون من حقهم أن يعلنوا نتائج هذا التذوق والدرس والفهم ما دام هذا الإعلان لا يمس مكانة هذه الكتب المقدسة من حيث هي كتب مقدسة؛ فلا يغض منها، ولا يضعها موضع الاستهزاء والسخرية والنقد؟ وبعبارة أوضح: لم لا يكون من حق الناس أن يعلنوا آراءهم في هذه الكتب من حيث هي موضوع للبحث الفني والعلمي، بقطع النظر عن مكانتها الدينية؟

أما الغربيون، فقد كسبوا لأنفسهم هذا الحق، وهم يدرسون الكتب الدينية والسماوية وغير السماوية، ويعلنون نتائج درسهم في حرية وصراحة، منهم الغلاة في التعصب لها، والغلاة في التعصب عليها، والمقتصدون بين أولئك وهؤلاء. وأما الشرقيون، فقد كانوا أيام الأمويين والعباسيين آخذين في أسباب هذه الحرية والصراحة، يدرسون ويعلنون نتائج درسهم دون أن يتعرضوا لكثير من الخطر أو الأذى، ولكنهم لم يكادوا يفقدون سلطان السياسة العربية حتى تورطوا في شيء من الجهل والجمود حرمهم هذه الحرية والصراحة، وجعل حسهم فيما يمس الدين يصبح حادا رقيقا شديد التأثر، سريع الانفعال، ثم كان هذا العصر الحديث، ونهضت شعوب الشرق العربي؛ وطلبت حرية الرأي، كما طلبت الحرية السياسية والاقتصادية، في ذلك كله، ووصل بعضها إلى حظ لا بأس به، ولكن الحس الديني ما زال في الشرق العربي رقيقا حادا كما كان، ولعله قد أصبح في هذه الأيام أشد رقة وحدة، وأسرع تأثرا وانفعالا؛ لأن الأهواء السياسية الناشئة قد أخذت تستغل الدين طلبا للغلب والفوز. وأنا أعلم أن هذا طور انتقال، وأن استغلال السياسة للدين في الشرق العربي إنما هو نتيجة الجهل وقلة التجربة، وأن هذه الحال لا بد أن تحول، ولا بد من أن يشعر الساسة غدا أو بعد غد بأن استغلال العواطف الدينية لمصلحة الأهواء السياسية شر منكر يضر كثيرا ولا يغني شيئا. أعلم هذا، وأعلم أنا منتهون غدا أو بعد غد إلى هذه الحرية التي كسبها الغربيون في العصر الحديث، والتي استمتع بها العرب في الشرق حينا إبان القرون الوسطى.

ولكني آسف أشد الأسف لهذا الوقت الذي نضيعه، ونسرف في إضاعته، ونحرم فيه، إن لم أقل لذة البحث والدرس، فلذة الحرية وإعلان الرأي على أقل تقدير.

خطر لي هذا كله في مضجعي من السفينة، وقد آويت إليه لأستريح بعد أن فرغت من قراءة سفر التكوين، فكانت السفينة تقترب مسرعة من مضيق صقلية، وكان المسافرون يزدحمون على الجسر؛ ليروا ما سيتكشف عنه الأفق بعد دقائق من سواحل هذا المضيق.

5

كانت السماء صافية، والجو معتدلا، وكان البحر هادئا يداعبه نسيم طلق خفيف، وكأنما كانت السفينة تنزلق على سطحه الأملس في دعة المطمئن المبتسم للحياة، وكان السفر أفرادا وجماعات يرسلون أعينهم في هذه الناحية أو في هذه، ينظرون إلى إيطاليا أو صقلية، وكان هنا وهناك على الجسر سيدات قد استلقين على كراسيهن الطوال يمعن فيما في أيديهن من كتب لا شك في أنها كانت كتبا قصصية، وربما رفعت إحداهن رأسها، ومدت طرفها مدا طويلا كأنما تريد أن تأخذ مما حولها صورة كاملة قوية، حتى إذا استوفت حظها من ذلك عادت إلى قصصها، وغرقت فيه ريثما تدفعها حاجتها إلى النظر والاستطلاع، فترفع رأسها وتمد طرفها مدة طويلة أخرى. وكان في صالونات السفينة جماعات من الرجال والنساء؛ منهم من يتحدث همسا، ومنهم من يقرأ، ومنهم من يداعب البيانو، فأما «البار» فقد امتلأ بجماعات انتحى بعضها ناحية إلى ورق اللعب، وأخذ بعضها الآخر في حديث لا يخلو من لغط تقطعه من وقت إلى وقت جرع من أشربة مختلفة. وفي ناحية من نواحي هذا البار جلس عالمان من علماء الآثار المصرية، وأخذا يتحدثان عن نقوش ثم عن كتب، ثم ينغمسان شيئا فشيئا في نحو اللغة المصرية القديمة، وفعلها واسم الفاعل فيها بنوع خاص، وهما يتجادلان ويستظهران الأدلة والنصوص حتى نسيا كل النسيان السماء والماء وإيطاليا وصقلية والسفينة وهذه الجماعات اللاغطة من حولهما. وكان أمامهما إلى الناحية الأخرى من المائدة رجلان يعبثان بالعلم والعلماء، والبحث والباحثين، ويتناولان كل شيء في هزل ودعابة لا تحفظ فيهما: أحدهما أستاذ تاريخ في الجامعة المصرية، والآخر أستاذ آداب.

ومضت السفينة في طريقها، ومضى المسافرون فيما كانوا فيه حتى دقت أجراس العشاء، فتفرق أصحاب المائدة الأولى، وبقي أصحاب المائدة الثانية فيما كانوا فيه، ثم تدق الأجراس مرة أخرى فيتفرق هؤلاء ويعود أولئك فيستأنفون ما كانوا فيه؛ من حياة فارغة فيها عبث ولعب، وفيها نشاط، وفيها شراب، وفيها حديث كثير.

وكذلك يقضي أكثر الناس أيامهم في السفن، وفيما تريد أن تقضى هذه الأيام؟ وإنما انصرف السفر عما كانوا فيه من جد الحياة اليومية ليستريحوا ويرفهوا على أنفسهم ؛ فكل يلتمس من الراحة ما يلائم ذوقه ومزاجه ومقدرته على الراحة.

على أن من الحق أن نلاحظ أن ليست أيام السفينة أيام راحة وترفيه بريئين بالقياس إلى الناس جميعا؛ فمن الرجال من يتخذ من هذه الأيام فرصة لعله لا يصادفها كثيرا في حياته العادية، فرصة لاتباع النساء ومغازلتهن ومداعبتهن باللحظ حينا وباللفظ حينا آخر، ومن الرجال من يتخذ هذه الأيام والليالي فرصة لعله لا يصادفها كثيرا في حياته العادية، وينتهزها ليتجمل بأحسن ما عنده من ثياب، وليمشي قبل الغداء وبعد العشاء على الجسر ذاهبا جائيا يكاد جسمه يعلن عن نفسه في هذه الأشكال المختلفة التي يأخذها حين يقف وحين يتحرك، وحين ينظر وحين يلتفت، وحين يشعل السيجارة أو السيجار، وحين يرسل الدخان من فمه. ومن النساء كذلك من تتخذ هذه الأيام والليالي فرصة للهو والعبث والدعابة، وفرصة للتبرج وإبداء الزينة، وفرصة - على الجملة - للاستمتاع بنوع من الحياة قلما يظفرن به في حياتهن العاملة في المدن.

أما سمر الليالي وما فيه من قصف وعزف ورقص ومناجاة ومناغاة، فلست أحدثك عنه؛ لأني لا أذكر أني شهدته قط منذ تعودت أن أعبر البحر، إنما قصاراي في هذه الأسفار إذا فرغت من العشاء أن أصعد إلى الجسر فأذهب عليه وأجيء حينا - مهما يطل فلن يتجاوز إحراق سيجارة أو سيجارتين - ثم أهبط إلى حيث مضجعي فآوي إليه. وأنا لا أذوق النوم في السفينة إلا غرارا، فما أطول ما يكون في هذه الليالي الطوال بيني وبين نفسي من حديث! أهو حديث حلو؟ أهو حديث مر؟ أهو مزاج من الحلو والمر؟ لست أدري! ولكني أعلم أني أحب هذه الليالي، وآنس إليها أشد الأنس؛ لأني أفرغ فيها إلى نفسي، ولأني أجد فيها من الحرية والخلوة ما لا أجده في مكان آخر ولا في زمان آخر.

ولعل كثيرا من الناس لا يفهمونني إن قلت إني أجد لذة غريبة قوية إذا تقدم الليل، وهدأت حركة الناس جميعا في السفينة، وكنت وحدي يقظا أو كاليقظ، أسمع لاصطخاب الموج حين يكون البحر هائجا، ولعزف الريح واصطفاق الموج حين يكون البحر هادئا، ولما يكون في الحالين من هذا الصوت الأصم القوي الذي تبعثه السفينة في اضطراد وتشابه واستمرار منذ تبرح الإسكندرية حتى تصل إلى مرسيليا. نعم، أجد لذة غريبة في هذه الأصوات التي أسمعها، وربما حاول خيالي أن يلائم بينها، ويؤلف منها موسيقى فيها قوة، وفيها عذوبة، ولها قدرة غريبة على أن تخلطني بها، فإذا أنا جزء لا يكاد ينفصل من هذه الطبيعة التي تتألف في خيالي من الموج والريح والسفينة، وربما كانت الخواطر التي تشغلني من حين إلى حين قوية جذابة، فتملأ نفسي وتملك علي قلبي وتصرفني عن كل شيء، فلا أحس ولا أسمع، وإنما أنا في تفكير مطلق طويل، حتى إذا مضيت في هذا التفكير إلى غايته أحسست كأني قد فقدت شيئا، وإذا أنا أجمع إلي حسي وعقلي وشعوري، وأتخلص قليلا قليلا من هذه الخواطر التي غمرتني، وأتلمس العودة إلى عالمي الذي أجد فيه الأنس واللذة والدعة - والليل مظلم مدلهم - عالم الأصوات المختلطة تتألف من الموج والريح والسفينة. كذلك أقضي ليالي بين الإسكندرية ومرسيليا.

ففيم كنت أتحدث إلى نفسي هذه الليلة بعد أن آويت إلى مضجعي نحو الساعة العاشرة، وقد أنبئت أن قد بعد ما بيننا وبين المضيق حتى لا ترى السواحل، وإنما هي السماء والماء يمتدان ما امتد الأفق أمام الناظرين، كنت أستحضر المرات المختلفة التي أخذت فيها السفينة وعبرت فيها البحر من مصر إلى فرنسا.

وإذا استحضرت هذه المرات فإنما أستحضر ما كان يرافقني من الخواطر فيها، وكانت الخواطر التي تعرض لي أثناء هذه الليلة، ولا تكاد تفارقني، خواطر سفري الأول من الإسكندرية منذ أربع عشرة سنة، ثم سفري الثاني من بورسعيد منذ ثلاث عشرة سنة، ثم سفر آخر من بورسعيد منذ أربع سنين.

كنت أراني حين تركت مصر لأول مرة شيخا معمما قد صعد إلى السفينة يتعثر في أذيال جبته وقفطانه اللذين كانا يزيدانه حيرة إلى حيرته الطبيعية التي قضت بها عليه عاهته التي حالت بينه وبين الضوء ، فلم أكد أصل إلى غرفتي حتى طارت العمة عن رأسي. ولقد أريد أن أتذكر إلى أين، فلا أجد إلى ذلك سبيلا؛ كل ما أعرفه أني خلعتها حين دخلت الغرفة، ثم لست أدري إلى أي حال صارت، ولو قد عثرت عليها لحفظتها تذكارا باقيا، ولوجدت شيئا من الحنان والحزن والأمل حين آخذ بين يدي ذلك الطربوش الكالح، وتلك الخرقة التي ما أظن أنها كانت يومئذ ناصعة البياض. وخلعت الجبة والقفطان، وأنا أعلم إلى أين صارا؛ منحهما أخي هدية لسيدة كان يألفها في فرنسا، ولست أدري ماذا اتخذت منهما! خلعت العمة، وخلعت الجبة، وخلعت القفطان، ودخلت في هذه الثياب الأوروبية، فكم ضقت بها، وكم كرهتها، وكم ندمت على جبتي وقفطاني طوال الأسبوع الذي قضيته على ظهر «أصبهان» رحمها الله! فقد هوت «أصبهان» إلى قاع البحر، وعبث الموج بأجزائها كما عبث بأجزاء عمتي في أكبر الظن.

وكان البحر في هذه السفرة يروعني ويخيفني، ويملأ قلبي هولا ورعبا. كنا في نوفمبر، وكان البحر هائجا شديد الهياج، وكانت سفينتنا صغيرة ضئيلة عتيقة تحب الترجح والرقص، فكانت تعلو وتهوي، وتميل ذات اليمين وذات الشمال، وكانت الريح هوجاء في أكثر الوقت، ولا سيما إذا أظلم الليل، وكنت أسمع عصف الريح وقصفها، واصطخاب البحر وهديره، وكنت أحس اضطراب السفينة عنيفا قويا، ولم أكن أرى على ذلك كله شيئا، فتصور هذا الذي لم يتعرض قط لخطر، ولم يعرف قط الحياة المضطربة العنيفة، ولا حظ له من العلم بالبحر، ولا تجربة له فيه، ولم يقدر الله له حظا من النور يرى به أن هذا الاضطراب، وهذه الضوضاء، وهذا الموج المتراكب مهما يكن عظيما، فهو لا يعرض السفينة للهلكة ولا للعطب. واشتد الذعر وكدت أيأس من كل شيء ذات ليلة حين وقفت السفينة فجأة، وقيل إن بعض أدواتها قد عطب، حينئذ ذكرت مصر في حسرة، وذكرت فرنسا في لوعة، واستلقيت على سريري أنتظر الموت، بينما نهض صديقي ... فلبس وازين؛ لأنه كما كان يقول لا يريد أن يموت في قميص النوم! ثم انجلت تلك الغمة، واستأنفت السفينة سيرها هادئة في جو هادئ. وما هي إلا ساعات حتى أشرفنا على الساحل الفرنسي، ومضت بعد ذلك سنة كان فيها ما شاء الله من حلو الأمر ومره، وإذا أنا في آخر ديسمبر سنة 1915 في القاهرة، أتهيأ لاستئناف الرحلة إلى فرنسا بعد أن كنت قد يئست من عبور البحر مرة أخرى، وأقبلت ذات مساء إلى الجامعة أودع موظفيها قبل السفر إلى بورسعيد، فيا هول ما سمعت حينئذ! أنبأني السكرتير أني قد أضطر إلى البقاء؛ لأن الحكومة الإيطالية ترفض أن أمر بأرضها إلى فرنسا. ولم هذا؟ لأنك ضرير وإيطاليا لا تريد أن يمر بأرضها أو يستقر فيها إلا من كان قادرا على أن يعيش دون أن يكلف الحكومة الإيطالية مشقة أو عناء، وإذن فلن تسافر غدا إلا أن يأتي الله بما ليس منتظرا. لا أذكر أن شيئا وقع من نفسي موقعا مؤلما كهذا النبأ.

وكانت لهذا الألم مصادر مختلفة؛ أولها: تأجيل هذا السفر الذي امتدت إليه نفسي بكل قوتها ثلاثة أشهر كاملة. والثاني: علة هذا التأجيل، وهي أني ضرير لست كغيري من الناس، ماذا أصنع في مصر وليس لي عمل فيها، ولا مورد للحياة؟ ثم أشياء أخرى كانت تمتلئ بها النفس ليس إلى تفصيلها من سبيل.

وسأشكر ما حييت لرئيس الجامعة يومئذ وصاحب عرش مصر الآن، ولمدير دار الكتب يومئذ ووزير المعارف حين أملي هذه السطور وللمرحوم «علوي باشا»، ما كان لهم من جهد حميد وبلاء حسن في تذليل هذه الصعوبة الطارئة والعقبة المفاجئة، فقد اتصل رئيس الجامعة بوزير إيطاليا المفوض، وكان من أثر هذا السعي أن أذن لي بمرافقة أصحابي إلى فرنسا عن طريق نابولي.

وانتصف نهار الغد، وإذا نحن على ظهر سفينة هولاندية صغيرة ظريفة أنيقة قادمة من الشرق الأقصى عليها قوم فرحون، فيهم شباب نشيط مرح، وفيهم بنوع خاص ناهد لم تبلغ الخامسة عشرة بعد، رأت صاحبا لي في عمته وجبته وقفطانه، وكان وسيما أنيقا متظرفا، فأنست إليه، وفتنت به أو بزيه.

وكان أنسها وفتنتها موضع حديثنا وعبثنا حتى أقلعت السفينة، وتركنا صاحبنا الشيخ في زورقه يتبادل مع الفتاة التلويح بالمناديل، وأقبل الليل وآوينا إلى مضاجعنا آمنين مطمئنين رغم ما كان يذكر من حديث الغواصات، ألم نكن في سفينة محايدة لا سبيل عليها للمتحاربين؟ ولكن باب الغرفة يطرق ثم يؤذن للطارق فيدخل، وإذا هو يتحدث إلينا في فرنسية مضطربة أنه إذا دق الجرس فأسرعوا إلى جسر كذا، وقفوا أمام الزورق رقم كذا ... قال صاحبي: «وفيم يدق الجرس؟» قال الطارق: «وهل نسيت الغواصات.» وانطلق وأقفل الباب من ورائه، وكان الدوار قد أخذ يلعب برأس صاحبي، فانضم إليه الخوف والوجل، وما أزال أراه يقيء، ويعالج الدوار، ويدعو أمه، ويذكر إخوته الصغار في لهجة كانت تؤلمنا وتضحكنا معا، وكان هو أسرعنا إلى الضحك وأشدنا ألما.

كانت حلوة لذيذة تلك الأيام السعيدة بين بورسعيد ونابولي آخر سنة 1915، ألم أكن قد وفقت إلى العودة إلى فرنسا حيث باريس، وحيث السوربون، وحيث استئناف الدراسة وتحقيق الأماني، وحيث تلك التي لم تكن قد جاوزت العشرين من عمرها، والتي فارقتني في مونبلييه أول الصيف على أن نلتقي في باريس إذا أقبل الشتاء، والتي عرفت عودتي إلى مصر، وإشفاقي من البقاء فيها، فكتبت إلي وضمنت كتابها وردة من ورد فرنسا ما أزال أحفظها إلى الآن؟ أكان ما أضمر لها في قلبي حبا، أم كان مودة خالصة، أم كان شيئا بين ذلك لم أكن أتبينه حينئذ، وإنما تبينته بعد ذلك بشهرين كاملين؟ كانت حلوة لذيذة تلك الأيام بين بورسعيد ونابولي، وكان أحلى منها وألذ ذلك اليوم الذي وصلنا فيه إلى نابولي، بل تلك الساعة التي أسرعت فيها إلى مكتب البريد فوجدت فيه كتابين قرأهما علي صاحبي مرة ومرة، فلما طلبت إليه القراءة الثالثة قال في شيء من اللطف والسخرية: لعلك تنسى أن القطار يسافر في الساعة الثالثة، وأن من الحمق أن نسافر ولما نطف قليلا في هذه المدينة التي لم نرها قبل اليوم، ولعلنا لا نراها بعد اليوم، وكان أحلى من ذلك وألذ، ذلك اليوم الذي وصلت فيه إلى باريس، بل تلك الساعة التي طرق فيها باب غرفتي، ثم فتح، ثم أقبل علي شخص فصافحني في قوة ومودة وصراحة، وجلس إلي ساعة يسألني وأساله ويجيبني وأجيبه، ثم افترقنا على أن نلتقي من غد، والتقينا من غد فما افترقنا منذئذ يوما ولا ساعة ولا بعض ساعة إلا أحسست - شهد الله - في نفسي ألم الفراق وشوقا إلى اللقاء.

وانقضت في باريس وفي القاهرة أعوام كان فيها ما شاء الله من حلو الأمر ومره حتى كان يوم 5 يوليه سنة 1924، وإذا أنا في بورسعيد كما كنت آخر سنة 1915، ولكني لم أكن وحدي، وإنما كان معي في هذه المرة زوجي وابناي، وكان معي صاحبي الذي رافقني إلى بورسعيد، وداعب الفتاة وداعبته على ظهر السفينة الهولاندية، ولكنه لم يكن في هذه المرة شيخا ولا متأنقا ولا متظرفا، وإنما كان رجل جد ودعابة لم تفارقه، كنا في بورسعيد، وكنا نأخذ طريقنا نحو السفينة، ولكنا كنا نسأل أنفسنا: أنبلغها؟ أيخلى بيننا وبينها؟ حتى إذا عرض لنا بعض عمال الثغر يطلب الباسبور، لم تشك زوجي، ولم أشك أنا في أنه يريد بأمر من الحكومة أن يحول بيننا وبين السفينة، ولكنه لم يفعل، فأخذنا الزورق وصعدنا إلى السفينة وجلين، ولم نكد نبلغها حتى آوينا إلى غرفتنا فلم نفارقها إلا بعد أن أقلعت السفينة. وكان صاحبي قد صعد معنا، ولكننا فقدناه ساعة حتى إذا دقت الأجراس مؤذنة بإقلاع السفينة أقبل فودع مسرعا وانصرف، ولكنه همس في أذني قائلا: «يوم كيوم السفينة الهولاندية!» ثم عرفت منه بعد ذلك أن قد كانت له قصة فيها غزل ودعابة، ولكنها دعابة لم تكن من البراءة بحيث كانت تلك.

وأقلعت السفينة ومضت في سبيلها، وخرجت من الغرفة وصعدت إلى الجسر وأنا أتمثل في صدق وإخلاص وابتهاج قول ذلك الشاعر القديم:

عدس ما لعباد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق

مم كنت أخاف؟ ومم نجوت؟ كنا يومئذ أشد ما نكون في مصر فرقة وانقساما، وكانت الخصومة السياسية عنيفة منكرة، وكانت الحكومة القائمة قد أمرت بالتحقيق مع «السياسة» وكتابها، وكانت النيابة قد دعتني وسألتني فأبيت أن أجيب واضطرت إلى وقف التحقيق، وكانت وزارة المعارف قد تسلمت الجامعة، وكانت قد ماطلت في الإذن بالسفر، ثم أذنت كارهة.

وكنت أنتظر من وقت لآخر أن تأمر النيابة بالقبض ثم السجن، وكنت أحرص ما أكون تلك السنة على السفر إلى فرنسا لأستريح وأريح زوجي وابني، فليس غريبا أن أتنسم الهواء الطلق بكل صدري منشدا:

نجوت وهذا تحملين طليق ... والآن تمضي السفينة بنا هادئة مطمئنة مسرعة بين مضيق صقلية ومضيق بونيفاسيو، والليل مظلم مدلهم، وكل شيء هادئ وادع إلا هذه النفس، فإنها ثائرة مضطربة مغيظة محنقة تستعرض هذه الحوادث التي مرت، وتستعرض آخرها الذي لم يفرغ بعد، وهي تنشد في غيظ وحنق لا في ابتهاج وسرور:

نجوت وهذا تحملين طليق

ذلك أني لم أسافر هذه المرة كما تعودت أن أسافر في لين ورضا واستبشار بالسفر، وإنما سافرت على كره من الناس، وعلى كره من نفسي. سافرت ولو استطاع قوم لحالوا بيني وبين هذا السفر، ولأقمت في مصر أراهم ويرونني، وأغيظهم ويكيدون لي.

نعم، كل شيء من حولي هادئ حتى موج البحر، ورياح الجو، وحتى صوت السفينة المطرد؛ إلا هذه النفس فإنها ثائرة مضطربة ليست بالهادئة ولا المطمئنة ... تذكر سنة 1924 حين سافرت على كره من قوم لو استطاعوا لأمسكوني في مصر. وأنا الآن أسافر رغم هذا الشيخ الذي نهض في مجلس الشيوخ يستصرخ المسلمين، ويستغيث برئيس الوزراء علي؛ لأني - فيما زعم مسخروه - عرضت الدين للخطر، نعم، ورغم هؤلاء الشيوخ الأزهريين الذين أبرقوا إلى رئيس الوزراء من أقصى الصعيد يستغيثون به؛ لأن الصحف نقلت إليهم أني عرضت الدين للخطر. نعم، ورغم هؤلاء الشيوخ الأزهريين الذين توسلوا إلى رئيس الوزراء ألا يدعني أسافر حتى يؤلف لجنة تستوثق من أني لن أعرض الدين للخطر أمام مؤتمر المستشرقين في أكسفورد. نعم، ورغم قوم كثيرين كانوا يسعون هنا وهناك سرا وجهرا، يكيدون ويغرون ويضللون.

لقد سئمت هذا كله، وتقدمت إلى مدير الجامعة معتذرا فأبى وألح، وسافرت مغيظا محنقا على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد، وبث الفساد في الأرض، وإنهم ليعلمون حق العلم أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر رجل كائنا من كان، وإنهم ليعلمون حق العلم أن هذا الرجل الذي يكيدون له، ويسعون به، أحرص منهم على سلامة الدين، والتمكين له في الأرض، وأقدر منهم على ذلك، وأحسن منهم بلاء في حمايته، والذود عنه، ولكنهم بين مأجور وموتور.

نعم، كل شيء من حولي هادئ مطمئن حتى موج البحر، ورياح الجو، وحتى صوت السفينة المطرد، وحتى إني لأسمع ابنتي النائمة في سريرها تلقاء سريري يتردد نفسها البريء في صدرها ترددا هادئا منتظما. فما لهذه النفس الثائرة لا تهدأ! وما لها لا تتصل بهذه الطبيعة الهادئة من حولها؟ أكل شيء في مصر كان يدفع إلى الثورة النفسية، ويهيج عواطف الغضب والغيظ؟ ألم يكن في مصر ما يبعث في النفس شيئا من الرضا، ويحمل إلى القلب شيئا من الطمأنينة؟ بلى، وإني لجاحد منكر للجميل إن نسيت هذا الرجل الذي لم أكن أعرفه ولم يكن يعرفني، إلا بما كان بيننا من خصومة سياسية عنيفة، والذي وقف أمام البرلمان كله - وهو يتألف من كثرته الحزبية - وقفة الحزم والمروءة والإباء والدفاع عن حرية الرأي. نعم، إني لجاحد منكر للجميل إن نسيت موقف علي باشا الشمسي أمام النواب وأمام الشيوخ، وأمام أولئك وهؤلاء من السعاة وأصحاب الكيد، لا يضطرب ولا يتردد ولا يفرط. وإني لجاحد منكر للجميل إن نسيت أني ذهبت أودعه، وأشكر له بعض مواقفه أمام مجلس الشيوخ، فقال لي: «لست أقبل منك شكرا؛ لأني لم أقف هذا الموقف دفاعا عنك، وإنما وقفته دفاعا عن رأي، وأنا أعلم أنهم يأتمرون بك، ويكيدون لك، ولكني لا أسمح بأن يكون للكيد والسعاية أثر في الحياة العامة وأنا وزير، فسافر مطمئنا، وثق بأني لن أبرح الأرض حتى أقضي على هذا الكيد.» هو الآن بعيد عن الحكم، ولم تكن بيني وبينه - وما أظن أن ستكون بيني وبينه - صلة غير هذه الصلة التي تحملني على أن أذكر مروءته ووفاءه للحق والحرية، والتي تحملني على أن أسطر هنا ما أشعر به من أسف شديد؛ لأن وزارة المعارف حرمت رجلا كهذا الرجل.

أأذكر عدلي وموقفه يوم ثارت الثائرة؟ كلا؛ فما كنت أنتظر من «عدلي» غير هذا! أأذكر ثروت وموقفه يوم استقلت فرفض الاستقالة، ويوم سعى إليه الساعون، وكاد عنده الكائدون، فأبى إلا أن يكون وفيا شريفا؟ كلا؛ فلم أكن أنتظر من ثروت غير هذا. فأما علي الشمسي باشا فإني أذكره، ولن أفرغ من الثناء عليه؛ لأني أظن، بل أثق بأن قليلا من الناس يستطيعون أن يقفوا مثل مواقفه بإزاء خصم سياسي تظاهرت عليه قوى أقل ما توصف به أنها شديدة الأثر في حياتنا العامة كلها، وفي حياة الوزراء بنوع خاص.

نعم، وهؤلاء الذين كنت أعمل معهم في الجامعة، والذين كانوا إذا أصبحوا قرءوا وتلقوا احتجاجا واعتراضا أو نذيرا، فلا يزيدهم ذلك إلا حرصا علي، ورفقا بي، وتشجيعا لي، هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا كلما اشتد الأمر، وجد الجد، افتنوا في التماس الوسائل لتسليتي والتسرية عني.

أليس هذا كله يكفي لتهدئة هذه الثورة، وإخماد هذا الغيظ؟ بلى؛ بل هو يكفي لأكثر من ذلك، يكفي لإحياء الأمل، وتنشيط الرجاء، وتقوية الثقة بأن ما في مصر من أعراض الشر سحابة صيف لا تلبث أن تبددها هذه الشمس المشرقة الحارة التي تمتلئ بها نفوس الأخيار من أذكياء مصر وأولي الرأي والضمائر والقلوب والإخلاص فيها، وإنهم على قلتهم لكثير. نعم، يجب أن تهدأ هذه النفس الثائرة، وأن يطمئن هذا القلب المضطرب، وأن تخمد جذوة هذا الغيظ، وأن يقوم الأمل مقام اليأس، والنشاط مقام الخمول، وأن أستأنف القراءة إذا انجلى الليل، وبسطت الشمس رداءها الفضي على هذا البحر الهادئ الصافي، وانقضت هذه الحركة التي نأتيها مصبحين في السفينة بين إفطار وتدخين وتهيئ وصعود إلى الجسر، ووضع للكراسي في مواضعها، وتبادل التحيات والسجائر؛ نعم، يجب أن أستأنف قراءة التوراة؛ فقد فرغت من سفر التكوين، ولست أشك في أني سأجد في قراءة سفر الخروج لذة فنية وعقلية ودينية معا.

6

وأصبحت ممتلئ النفس بحديث الأزهر، لا يفارقني ولا أنصرف عنه، كأنما فرضت علي التفكير في الأزهر والأزهريين قوة قاهرة لا أستطيع لها دفعا، ولا أجد عن الإذعان لها محيصا، كنت أفكر في الأزهر مشفقا آملا، على شيء من السخط بين هذا الأمل وذلك الإشفاق، ولم كنت أفكر في الأزهر هذا التفكير الذي حملني على أن أرفض في رفق ما عرض علي صاحبي من قراءة التوراة، حين تمت الساعة العاشرة، وفرغنا من حركة الصباح على السفينة، ولم يكن لنا إلا أن نقرأ أو نتحدث حتى تدق أجراس الغداء؟ هذه زوجي قد اعتزلتنا وعن يمينها كتاب، وعن شمالها علبة فيها من أدوات الخياطة والتطريز ما شاء الله، وهي تتنسم هواء البحر، وتلقي نظرة على اليمين، وأخرى عن الشمال، وكأنها تسأل نفسها؛ أتأخذ الكتاب أم تفتح العلبة؟ وهذان ابناي في نشاط ومرح وصياح واضطراب، يجريان ويقفان، ولا يدريان بأي أطراف اللعب يأخذان. وهؤلاء المسافرون يلقى بعضهم بعضا في تحية وبشر، وحديث عن البحر والجو وقرب الوصول إلى مرسيليا. وهذا صاحبي قد هيأ لي كرسيا وأجلسني في دعة ورفق، ثم هيأ كرسيه في بطء ورزانة لا تلائم سنه ولا شخصه، ثم جلس متثاقلا متباطئا وهيأ صحفه وهو يسألني: «أأبدأ في قراءة التوراة؟» فأجيبه: «لا.» فيسألني: «فأي كتاب آخر تريد أن أقرأ؟» فأجيبه: «لا شيء.»

وما أشك في أنه ابتهج بهذا الجواب واغتبط؛ فقد ظل لحظات ثم نهض وعاد وغرق في كتاب من هذه الكتب التي تعود أن يغرق فيها متى أعفيته من العمل؛ لأنه يتهيأ للامتحان، وتركت أنا زوجي مترددة بين الكتاب والثوب، وابني مضطربين على جسر السفينة، وصاحبي غرقا في المدني أو الدولي، ومضيت أنا أفكر في الأزهر؛ أفكر فيه حين دخلته لأول مرة أشهد صلاة الجمعة، وكنت أعتقد أن قدمي تطآن أشد بقاع مصر تقديسا وطهرا، وأفكر فيه حين كنت أختلف إليه أول النهار وآخره وإبانه، مقتنعا بأني حين أختلف إليه أؤدي واجبا لا يعدله واجب، وأقدم إلى نفسي أقوم اللذات وأقواها، وأفكر فيه حين أخذ هذا الشعور يفتر ويضعف، وحين كنت أختلف إلى الأزهر في شيء من الكره والملل، مقتنعا بأني إنما أفعل هذا لأخلص من واجب ثقيل، وأفكر فيه حين كنت أوثر عليه دار الكتب، وحين كنت أزوره لماما لأسمع فيه درس الأدب، ولأعبث فيه مع طائفة من الرفاق بجماعة من الشيوخ كانوا يكرهوننا مخلصين، وكنا نكرههم مخلصين أيضا، وأفكر فيه حين أقصيت عنه سعيدا راضيا وساخطا في الوقت نفسه، ثم أفكر فيما بيني وبينه الآن من صلات لا أكاد أحددها إلا في مشقة وعسر، فهو يكرهني، وأنا أشفق عليه وأرثي له، ولعلي لا أقول الحق إن لم أضف أني أضيق به من حين إلى حين.

نعم، كنت أفكر في الأزهر مستعرضا هذا كله جملة وتفصيلا، واقفا من وقت إلى آخر عند قصة تضحكني، وأخرى تغضبني، وثالثة تبعث على شفتي ابتسامة لا تخلو من غيظ ورثاء، ولكن لم كنت أفكر في الأزهر؟ أهي تلك الخواطر التي كانت تضطرب في نفسي الليلة البارحة فتبعث فيها الغضب والثورة؟ نعم، وهذا الأمل الذي أحسسته قبيل سفري حين نشرت الصحف تنصيب الشيخ الجديد، وتنصيب المفتي الجديد، وإن كنت لشديد الأسف لأني لم أستطع أن أصافح هذين الشيخين قبل أن أبرح القاهرة، وإن كنت لشديد الحيرة حين كنت أحاول أن أحلل هذا الشعور الذي وجدته حين قرئ علي في الصحف رفع هذين الشيخين إلى منصب الرياسة الدينية العليا، وإلى منصب الإفتاء.

ذلك أني أعرفهما، وتصل بيني وبينهما صلات قوية، وتصل بيني وبين أحدهما بنوع خاص صلات من تلك التي يحرص الناس على تقديسها، ويجدون شيئا من اللذة في تذكرها واستعراضها؛ أحدهما كان أستاذا لي، والآخر كان شيئا بين الأستاذ والرفيق، سمعت على أحدهما دروسا في علم الكلام وكنت به معجبا، وعنه شديد الرضا، وأسفت أشد الأسف حين ولي القضاء في السودان، فترك الأزهر والدرس فيه. وكان الآخر زميلا لأخي في الدرس، وجارا له في المسكن، وشريكا له في الحياة، وكنت بحكم هذا كله أعاشره وأخالطه أشد المخالطة في جماعة من زملائه وشركائه في الحياة فرقتهم الأيام الآن، وبعدت بيني وبينهم الآماد، واختلفت بيني وبينهم الصلات، إلا هذا الشيخ، فقد بقيت الصلة بيني وبينه على تقلب الدهر وتبدل الظروف واختلاف الحوادث، كما كانت متينة يسيرة، لا كلفة فيها ولا مشقة. هو الآن مفتي الديار المصرية، وكان قبل ذلك رئيسا لمحكمة مصر الابتدائية، وكان قبل ذلك صاحب الصلاة في القصر الملكي، وكان قبل ذلك يشغل منصب القضاء في المحاكم المختلفة، ولكني حين أتصوره الآن أجرده من كل هذه المناصب، ومما تخلع عليه من جلال وهيبة، ولا أتصور منه إلا هذا الطالب الأزهري الذي كنت أعرفه ساذجا يتوقد ذكاء، ويتقطع نشاطا، حادا في المناقشة، غليظ الصوت كأنه الرعد حين يقرر مسألة من المسائل، شديد الحياء، شديد التواضع، قوي الإيمان، لا حد لإخلاصه حين يواجه أمرا من الأمور، أو يعامل صديقا من الأصدقاء، شديد التأثر بما يقرأ، يؤمن به حتى يقرأ ما هو أشد منه تأثيرا في نفسه، فيتبدل رأيا برأي، ونحوا من التفكير بنحو آخر، قويا بنوع خاص في علوم المنطق والفلسفة والتوحيد والفقه والأصول، مزدريا إلى حد غير بعيد علوم النحو والصرف والبيان وما يتصل بها من علوم الرواية، عاش في البيئات المختلفة طالبا وأستاذا وقاضيا، ولكنه ظل كما كان رجلا من أهل الريف، فيه كل ما في الريفيين من وداعة وسذاجة، وفيه خيرة ما في المتحضرين من ذكاء ونشاط.

كان هذا الشيخ كما كان الشيخ الآخر، وكما كان هذا الجيل الذي درس في الأزهر آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، من أشد الناس تأثرا بالشيخ محمد عبده وتعصبا له، وإيمانا به، وافتنانا بما كان يدعو إليه. إن هذا الجيل الذي أشير إليه لخليق بالعناية، وإن تاريخنا العصري ليفقد حلقة من حلقاته القيمة إذا لم ينهض بعض المؤرخين لدرس هذا الجيل من الأزهريين، وتقييد ما كان يملؤه من نشاط، وما كان يسيطر عليه من إيمان بالمثل الأعلى، وحرص على التجديد والإصلاح، ونفور من القديم، وسخط وازدراء لأنصاره من الشيوخ.

كان هذا الجيل يؤمن إلى حد التعصب بحرية الرأي، وبغض الجمود، ووجوب الاجتهاد، وتحطيم هذه الأغلال التي كانت تأخذ بأعناق الشيوخ وأيديهم وأرجلهم. وكانوا يختلفون إلى دروس الشيخ محمد عبده في التفسير والبلاغة والمنطق، مؤمنين أشد الإيمان بأنهم ليسوا كغيرهم من طلاب الأزهر يدرسون ليعلموا ما كان يعلمه شيوخهم، إنما كانوا رسل إصلاح وتجديد ونهضة، وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تستمع إليهم وهم يتحادثون بين درس ودرس، يذكرون ما قال الشيخ وما عمل، يقلدونه في الصوت ونبراته، كما كان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تراهم يسرعون إلى الصحف يقرءون فيها متلهفين ما كان يكتبه خصوم الشيخ، وما كان يوحي به القصر حينئذ من كيد للشيخ، وتأليب عليه. وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تسمعهم وهم يبسطون آمالهم العراض إذا انتهوا من الدرس، وظفروا بالشهادة، وارتفعوا إلى مناصب التدريس والقضاء، إذن فسيدرسون العلم على وجهه، وسينفذون في المحاكم الشرعية آراء الشيخ، وسيمحقون الرشوة محقا، وسيلغون تعدد الزوجات، وسيقيدون الطلاق، وسيؤيدون آراء قاسم أمين التي رضيها الشيخ، وسيحيون فلسفة ابن سينا وابن رشد، وبلاغة الجرجاني، وسيقضون على هذه الكتب السقيمة التي قضت على عقل الأزهر والأزهريين.

وكان من ألذ الأشياء وأحبها إلى النفس أن تستمع إليهم وهم يقلدون شيوخ الأزهر عابثين بهم ساخرين منهم، هذا يتشدق كما يتشدق الشيخ فلان، فيفخم القاف، ويملأ فمه بالراء، في عبارات كلها جهل وغفلة مضحكان، وهذا يتغنى ويترنم في القراءة والتحقيق، وهذا يكثر من قال وقيل وبقي، وهذا يستعمل ألفاظ الريفيين، وهذا يسفه ويشتم، وعلى هذا النحو كان يمر جلة شيوخ الأزهر بين هؤلاء الطلبة العصاة، فلا يخلصون منهم إلا وقد أصابهم من ضروب التشويه والتمثيل شيء كثير.

كانوا كذلك، وكانوا لا يفترون عن درس هذا العلم الأزهري القديم ليصلوا إلى الشهادة، وكانوا يرون هذا العلم شرا لا بد منه، وكانوا يرددون هذه الجملة: «الضرورات تبيح المحظورات.» ثم أبعد شيخهم من الأزهر، فلم يزدهم ذلك إلا حقدا على الأزهر والأزهريين، وافتتانا بالشيخ وتهالكا عليه، يزورونه في عين شمس، ويزورونه في بيت الإفتاء، ثم مرض الشيخ ثم مات، ولا تسل عن القلوب المفطورة، والنفوس المحزونة، والدموع المنهمرة، والزفرات المتصاعدة، والعهود يقطعونها على أنفسهم ليحين سنة الشيخ، وليحققن ما كان يريد من إصلاح. ثم أتيح لهم أن يظفروا بشهادة العالمية، ثم اندفعوا في الحياة العاملة؛ فمنهم الأستاذ، ومنهم القاضي. ولست أريد أن أسألهم عما أحيوا من سنة الشيخ، ولا عما حققوا من ضروب الإصلاح، ولكني ألاحظ أن الحياة العاملة قد غمرتهم وألهتهم عن الشيخ وسنته وإصلاحه، فما يزالون يذكرونه بالخير - إن ذكروه - فأما إذا جد الجد فأنت تعلم كما أعلم أن بلاءهم في الإصلاح والتجديد قليل.

ولقد أذكر فيما أذكر - وأراني أضحك وحدي حين أذكر ذلك - أن جماعة من هؤلاء التلاميذ المحبين للشيخ اتفقوا ذات يوم على أن يسيروا سيرة الشيخ، فيدرسوا لغة أجنبية كما كان الشيخ يتكلم الفرنسية ويفهمها. جلسوا يتحاورون، فأجمعوا على أن في درس اللغة الأجنبية فائدة لا تعدلها فائدة؛ لأن ذلك يمكن من معرفة ما يكتبه خصوم الإسلام والرد عليه. أليس الشيخ قد رد على هانوتو ورينان لأنه كان يعرف لغتهما؟ نعم، لا بد من درس اللغات الأجنبية، ومن السفر إلى أوروبا، ومن تعرف الداء في موضعه لحسمه والقضاء عليه. ولكن أي اللغات يجب أن تدرس؟ قال قائل: «الفرنسية التي درسها الشيخ.» وقال قائل آخر: «الإنجليزية؛ لأنها لغة الحكام ولغة المدارس، ولا بد من أن نعرف هذه اللغة لنكون كهؤلاء الشبان الذين يخرجون من المدارس فيتيهون علينا بهذه الرطانة التي لا نحسنها، وما أيسر أن نلوي ألسنتنا وأفواهنا، ونخرج هذه الأصوات التي يسمونها لغة إنجليزية.»

واتفقوا فيما بينهم، وأرسلوا واحدا منهم إلى مدرسة الجمالية، فاتفق لهم مع شاب من المعلمين في هذه المدرسة على أن يلقنهم الإنجليزية أربع ساعات في الأسبوع، وينقدوه جنيها آخر الشهر؛ وكانوا أربعة. وتستطيع أن تصدقني حين أقول لك إنهم كانوا يشقون على أنفسهم حين يدفع كل منهم نصيبه من هذا الجنيه.

وجاء الشاب ونصب على الحائط لوحته السوداء، واستطاع أن يعلمهم حروف الهجاء، ثم أخذ يعلمهم كيف يلوون الألسنة، ويمدون الشفاه، ويوسعون الحلوق، ويباعدون بين الألسنة وسقف الفم؛ لينطقوا بهذه الرطانة الإنجليزية. ولقد تعب الشاب، وتعبت الجماعة، ولكنهم لم يصلوا إلى طائل، وكنت أنا حينئذ في زاوية من زوايا الغرفة أجلس القرفصاء، وقد انعطف أعلاي على أسفلي، فكأني كرة، وأشهد أني انتفعت بهذه الدروس فأعانتني بعد ذلك بسنين طوال حين أردت أن أتعلم الإنجليزية. لا أعرف هذا الشاب المعلم ولا أذكر اسمه، ولكني مدين له؛ لأنه علمني كيف ألوي اللسان، وأمد الشفتين، وأخرج هذه الرطانة الإنجليزية.

واجتمع أصحابنا ذات يوم إلا واحدا منهم، وإذا هم في ثورة واضطراب، يضحكون ويغرقون في الضحك، ويتهامسون فيما بينهم بحديث لم أكن أتبينه، ثم يضحكون ويغرقون في الضحك - والأطفال مكرة مسرفون في المكر - فقد أحسست حينئذ أن بين القوم سرا يلهيهم ويضحكهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجهروا به لمكاني منهم. وما هي إلا أن أحتال حتى أنسل من الغرفة التي كانوا فيها إلى دهليز ضيق كان أمامها فيه جرة الماء من ناحية، وفيه من ناحية أخرى صندوق من الخشب طويل عريض، كان يحوي كتب أخي، وإلى جانب هذا الصندوق صندوق آخر أعرض منه وأعمق وأقصر، كان فيه ما شاء الله من خبز وعسل وسمن ومتاع، فأنسل أنا من تلك الغرفة إلى الدهليز، وآوي إلى الزاوية بين الصندوقين، فأجلس القرفصاء مسندا ظهري إلى الحائط، معتمدا بشمالي على صندوق الكتب، ويميني على صندوق الخبز.

كم ضحكت في هذه الجلسة الغريبة حين أحس الجماعة أنهم أحرار، وخيل إليهم أني تركت البيت، وجلست كما كنت أتعود أن أجلس أمامه في هذه الطريق الضيقة التي كانت تمتد، وما تزال تمتد فيما أظن بين البيوت في ربع السلحدار!

عرفت في هذه الجلسة ما كان يضحك القوم؛ ذلك أن صاحبهم الذي كان غائبا قرأ من أيام فصلا للشيخ أو لغير الشيخ في إحدى المجلات، فتأثر بما قرأ، وعاهد نفسه على حماية الدين، وتطهير المسلمين من البدع والفساد، وكتب على ورقة ألصقها بالحائط أمامه هذه الجملة: «حررت نفسي لخدمة الدين.»

ثم فكر في أول عمل يأتيه لخدمة هذا الدين، فخطر له أن يذهب إلى حيث الفساد أشد انتشارا، وإلى حيث الإثم أبعد في النفوس أثرا، فيحارب الرذيلة في موطنها، ولكنه لم يجرأ أن يتحدث بعزمه هذا إلى أصدقائه وزملائه، فجمع إليه نفرا من الطلاب المحدثين من بلده، فيهم سذاجة وقلوب طيبة، وفيهم ابن عم له ضئيل البصر جدا، وعرض عليهم رأيه هذا فأقروه وانتدبوا لمعونته، فلما أشرف الليل أو كاد، خرج خمسة القوم من حوش «عطي» ومضوا حتى وصلوا إلى حيث دور الفسق والدعارة يريدون الوعظ والإرشاد، فلم تكد تراهم المومسات حتى هممن بهم متضاحكات يدعون ويغرين، وهم أصحابنا أن يعظوا ويرشدوا، فانعقدت الألسنة ونضب الريق وجفت الحلوق.

واستمر أولئك النساء يعبثن، وما هي إلا أن أحس الوعاظ أنهم في خطر، فإذا هم يهرولون، ومنهم من يتعثر في جبته، ومنهم من يتعثر في عباءته، والنساء من خلفهم يدعون ويغرين ويتضاحكن، حتى انتهوا إلى درج في أقصى الشارع تدافعوا إليه، فتزل أقدامهم فيتساقطون، وقد فقد هذا عباءته، وطاحت عن رأس ذاك عمامته، وعادوا مع العشاء إلى بيوتهم، وإن قلوبهم لتجف هلعا، وإن وجوهم لممتقعة أشد الامتقاع.

وعرف الجماعة يومئذ أن ليس من اليسير اجتثاث الرذيلة من أصلها، ولا محاربة الشر حيث ينبت، وزالت عن حائط صاحبنا هذه الورقة التي كانت تذكره بأنه قد رصد نفسه لخدمة الدين.

وطائفة أخرى من الخواطر - لا أكاد أحصيها - كانت تضطرب في نفسي على ظهر السفينة، والقوم من حولي في جدهم ولعبهم، ولكني لا أستطيع ولا أريد أن أسطر من هذه الخواطر الآن شيئا، وإنما كانت تضطرب كل هذه الخواطر في نفسي حول ارتقاء الشيخين إلى منصب الرياسة الدينية العليا ومنصب الإفتاء.

هذان تلميذان من أخص تلاميذ الشيخ محمد عبده به، وأقربهم إليه، وأشدهم إيمانا بمذهبه، واقتناعا بدعوته إلى الإصلاح، وحرصا على أن تعود للإسلام - كما كان يريد الشيخ - مكانته العالية، فيؤثر في نفوس المسلمين، وتظهر عليه الهيبة والجلال أمام غير المسلمين، وعلى أن يكون الأزهر - كما كان يريد الشيخ - مهدا وملجأ ومنبعا لهذا النور الإسلامي الجديد، الذي يجب أن يغمر البلاد الإسلامية كلها، فيجتث منها أصول الشر، وينكس فيها أعلام البدع، ويعيد فيها إلى القلوب ما كان لها أيام السلف من نضرة وطهارة، ثم يتجاوز هذه البلاد إلى بلاد الديانات الأخرى، فيدعو إلى دين الله في دعة ولين، وإقناع بالحجة والموعظة الحسنة.

هذان تلميذان من أخص تلاميذ الشيخ به وأقربهم إليه، قد ارتقى أحدهما إلى حيث لم يستطع الشيخ نفسه أن يرتقي، فأصبح شيخ الأزهر، ورئيس المعاهد الدينية، وزعيم الهيئة الجديدة التي يسمونها هيئة «كبار العلماء»، ووصل أحدهما الآخر إلى حيث كان الشيخ، فجلس على كرسيه وتلقب بلقبه وأصبح مفتيا للديار المصرية، أو قل مفتيا للبلاد الإسلامية.

أفتراهما يذكران الآن ما كان يملأ نفسيهما حين كانا يختلفان في الأزهر إلى دروس الشيخ؟ أفتراهما يجدان فيما كان الشيخ يريد أن يجد فيه؛ من إحياء الإسلام على وجهه حرا سمحا طلقا، صديقا للحياة والحضارة والعلم والأدب، عدوا للجمود والتقليد والكيد والفناء في المستبدين وتأييد سلطتهم المطلقة؟

نعم لأول مرة منذ مات الشيخ وصل تلاميذه إلى حيث السلطان والقدرة على العمل والنفع، أفترى هؤلاء التلاميذ لا يزالون تلاميذ الشيخ يذكرونه ويتأثرونه، أم هي الحياة العملية وما يحيط بها من ظروف مختلفة قد تضطرنا إلى أن نقتنع مرة أخرى بأن الشيخ قد مات؟ ومع ذلك فلم يحتج الإسلام في يوم من الأيام إلى أن يفيق المسلمون فيحوطوه، ويذودوا عنه كما هو محتاج إلى ذلك في هذه الأيام ...

كم أحب أن يقرأ الشيخان بعض ما نقرأ، وأن يريا بعض ما نرى، وأن يقدرا نشاط رجال الديانات الأخرى في أنواع العلم على اختلافها، وضروب الأدب على تنوعها، وصنوف الفن على تباينها، حتى لقد زاحموا العلماء والأدباء والفنيين، ولست أغلو إن قلت إن منهم من بذ هؤلاء وتفوق عليهم.

لن يكون إصلاح الأزهر حقيقة واقعة مثمرة إلا إذا قام الإصلاح على هذه القاعدة التي لا قوام للإصلاح بدونها، وهي أن الدين لا ينبغي أن يحول بين أهله وبين ضروب النشاط المختلفة للعقل والشعور والجسم، بل لن يستطيع الدين أن يحيا آمنا إلا إذا أباح لأهله أن يأخذوا بحظوظهم من هذا النشاط على اختلافه وتنوعه.

هل يقدر الشيخان ما يطلب إليهما من عمل؟ بل هل كان الشيخ محمد عبده نفسه يقدر مهمته؟

هل يعلم الشيخان أن مهمة الشيخ كانت يسيرة جدا بالقياس إلى عصره، على حين أصبحت مهمتهما شاقة شديدة العسر؛ لأن ظروف الحياة العامة في مصر وفي البلاد الإسلامية قد تغيرت أشد التغير في هذه الأعوام الأخيرة، حين اشتد الاتصال بين الشرق والغرب، وأخذ سلطان الحضارة الغربية والتفكير الغربي يستأثر بعقول المسلمين؟

7

أكانت باريس التي رأيتها هذا العام كباريس التي رأيتها منذ عامين؟

أما الدور والشوارع والعمارات والملاعب والمعاهد فهي هي، لم تتغير أو لم تكد تتغير، ولكن الذين عرفتهم، وتعودت أن أراهم أو أسمع الحديث عنهم في هذه الناحية الصغيرة من الحي اللاتيني قد مضى أكثرهم، ولم يكد يبقى منهم أحد؛ منهم من سئم الحياة أو سئمته الحياة، فانتقل إلى حياة أخرى؛ ومنهم من كان إنما استوطن باريس ليتجر فيها طلبا للثروة والسعة، فلما ظفر منهما بحظه ترك باريس إلى حيث يصبح من أغنياء الأقاليم، أو من أهل الدعة والمكانة.

وكذلك لم ألق البوابة التي كنت أعرفها في البيت أيام الطلب، والتي كنت أحب أن أسمع إليها تصف علمها ودرايتها وحسها وشعورها، بينما تكنس السلالم أو تمسحها.

ولم ألق البوابة الأخرى التي خلفت هذه، والتي كانت على حظ عظيم من المرح والنشاط، تشرب ما استطاعت، وترقص ما استطاعت، وتداعب من المختلفين إلى البيت من تجد إلى مداعبته شيئا من الراحة.

فوجدت مكان هذه وتلك بوابة أخرى جديدة، تتسلط على السكان وتحكم فيهم بأمرها، مستبدة مسرفة في الاستبداد، فارضة عليهم ما تشاء من العقوبات إذا قصروا في ذاتها بعض التقصير، أليس بيدها بريد البيت، تستطيع أن تؤخره وأن تحبسه وأن تضيعه؟ أليس إليها يتجه الزائرون قبل أن يصعدوا إلى طبقة من طبقات البيت؛ فهي تستطيع أن تجيبهم بما شاءت من جواب؛ بأنك في البيت أو بأنك قد خرجت؟ أليس إليها تتجه السلطة حين تريد أن تتعرف من أمر السكان ما تحتاج إليه لفرض الضرائب؛ فهي تستطيع أن تصورك غنيا وفقيرا ومتوسط الحال؟ ولا بد لك إذا كنت تريد الحياة الهادئة من أن ترشوها وتتملقها وتتوسل إليها بمختلف الوسائل، فإن لم تفعل فحياتك منغصة من غير شك.

نعم، وقد افتقدت بائع الخضر الذي كان يحب المزاح، والذي كان يحمل أمتعتي كلما سافرت من باريس أو عدت إليها.

وافتقدت بائعة اللبن التي كانت سيئة الخلق، تخيف المختلفين إليها، وتملؤهم رعبا وفزعا.

وأنا أسأل عن الظاعن وعن المقيم، وأجد في السؤال والجواب لذة وذكرى يملؤها الحنان.

ولكن ليس هذا كل ما طرأ على باريس أو على حيي في باريس من صنوف التغيير؛ فقد حدث في هذا الحي كما حدث في غيره من أحياء باريس شيء جديد لم أكن أعرفه، وقد احتجت إلى زمن طويل لأتعوده، وتركت باريس ولما تطمئن نفسي إليه، فوجدته في غير باريس، وكأن الله قضى بأن أجده أمامي حيثما توجهت في فرنسا فأضيق به، وأحتمله على كره، وهو مستقر متسلط في هذه الطبقة السادسة من هذا البيت الهادئ في هذه الغرفة الضيقة المسرفة في الضيق التي طالما قضيت فيها الساعات الطوال إلى كتاب من كتب الفلسفة أو التاريخ هادئا مطمئنا، لا أكاد أسمع ضوضاء السيارات ثقيلها وخفيفها، وهو مستقر متسلط في مدخل هذا الفندق الذي عرفته منذ عامين، صامتا شديد الصمت، ساكنا مغرقا في السكون، وهو مستقر متسلط في حوانيت الباعة على اختلافها، ماذا أقول؟ بل مستقر متسلط في المحطات، حيث تعودنا ألا نسمع إلا صفير القطر وضجيجها، وصياح العمال وحملة الأمتعة، وذلك هو الراديو ...

قد انتشر في باريس وانتشر في فرنسا، بل في أوروبا ، انتشارا مخيفا، كما تنتشر الأمراض المعدية، أو كما تنتشر الصحف التي تنشر الأخبار والقصص السهل وتباع بثمن زهيد.

تجده في غرفة البوابة، وتجده في كل طبقة من طبقات البيوت، ولا تكاد تخطو في باريس الهادئة المطمئنة خطوة دون أن تسمع هذا الصوت الذي لا هو بصوت الرجال ولا بصوت النساء، وإنما هو شيء بين بين، يخرج من الأنف متغنيا متحدثا، ممثلا خطيبا، معلنا مفتنا فيما شاء الله من فنون الجد واللهو، التي تعودتها الجماعات في البلاد المتحضرة. وقد نظم أمر الراديو، كما نظمت الصحف تنظيما ديمقراطيا دقيقا، ملاكه السرعة والكثرة والرخص. فقد مضى ذلك العصر الذي كان الجمال الفني فيه مقصورا على الأغنياء وأصحاب اليسار، وأصبح من حق الناس جميعا أن يتعلموا ويقرءوا، ويشهدوا التمثيل، ويسمعوا الموسيقى، ويعرفوا أخبار الأرض كلها، وأخبار السماء إن كانت للسماء أخبار، ولا قيمة للديمقراطية إذا لم تسو بين الأغنياء والفقراء في الاستمتاع بهذه الحظوظ من لذات الحياة وآلامها.

والديمقراطية جادة في أداء واجبها؛ فهي تمحو الفروق بين الطبقات، وتجعل الناس سواسية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. كل الناس يستطيع الآن أن يقرأ الصحف، والصحف تنافس أشد التنافس في أن تحمل إلى الناس جميعا من الأخبار والآثار الأدبية والعلمية والاقتصادية والتجارية أضخم مقدار وأيسره هضما.

ولكن القراءة تحتاج إلى وقت، وهي تصرف القارئ عن كثير من الأعمال، وهناك أشياء لا يمكن أن يقرأها الناس جميعا، وأشياء لا يمكن أن يسمعها الناس جميعا، وأشياء لا يمكن أن يشهدها الناس جميعا؛ ومن الحق على الديمقراطية أن تقرب هذه الأشياء كلها إلى الناس جميعا، وقد وفقت الديمقراطية بفضل العلم إلى هذا التقريب، فأصبح أشد الناس فقرا في فرنسا يستطيع - في غير مشقة ولا جهد، ولا انصراف عن العمل - أن يأخذ بحظه من كل اللذات التي يمكن أن تصل إلى النفس من طريق السمع.

يكفي أن تشترك في الراديو - وليس الاشتراك فيه شاقا ولا كثير النفقة - فتقرأ عليه الصحف مرات في كل يوم. وإذا ذكرت الصحف فأنا أستعمل الكلمة في معناها الدقيق، فتصور صحيفة من الصحف وما فيها من المواد: من الأخبار والمقالات الأدبية والعلمية والقصص، وأنباء السوق والبورصة، وأخبار البلاد الأجنبية، وكل ما يمكن أن تشتمل عليه صحيفة خليقة بهذا الاسم. واعلم أن هذا كله يتلى على المشترك في الراديو مرة على الأقل في كل يوم.

ثم ليس الأمر مقصورا على هذا، وإنما يحمل الراديو إلى المشتركين فيه ما يكون في الملاعب ودور الموسيقى واللهو من تمثيل وعزف وغناء ومزح، ذلك كله دون أن يتكلف المشترك من المشقة إلا إدارة زر من أزرار الكهربا، فإذا سئم أو مل أدار الزر مرة أخرى فيقطع الصوت ويعود الهدوء، قد أثر هذا في الطبقات الفقيرة التي كان من العسير عليها جدا أن تختلف إلى الملاعب ودور اللهو، وإلى المحاضرات ومعاهد العلم، أو أن تجد من الوقت ما يمكنها من القراءة، والأخذ بحظ من الثقافة العامة.

قد أثر هذا في التقريب بين الطبقات من ناحية، وفي نشر الثقافة وإلغاء المسافات بين الأمم من ناحية أخرى، فتستطيع أن تفهم أمر هذه الخادم التي أخبرتني بأنها إذا كان الليل آوت إلى سريرها، وأشعلت سيجارتها، واستلقت تدخن وتسمع لهذا الراديو، وهي تستفيد من هذا كله، وتستطيع أن تحدثك الآن عن الكتاب والشعراء والعلماء والموسيقيين، وهي تعتقد أن ليس بينها وبين غيرها فرق في تصور الأشياء والحكم عليها. أما أن هذه الأداة الجديدة من أقوى أعوان الديمقراطية على نشر الثقافة والمساواة فشيء لا شك فيه، ولكن من يدري؟ لعل هذه الأداة الجديدة من أشد الأشياء خطرا على الديمقراطية نفسها ... فهي تنشر المساواة والثقافة بغير حساب وفي غير تقدير، وهي لا تدري أين تلقي ما تلقي من البذور، وهي لا تعلم مقدار استعداد المستمعين لها لإساغة ما تنقل إليهم من المواد، وهي توشك بإسرافها في نشر المساواة أن تكون أداة للشيوعية، وتوشك بإسرافها في نشر الثقافة أن تكون أداة للغرور.

وكذلك تخلق الديمقراطية والعلم من الأشياء والأدوات ما هو عدو للديمقراطية والعلم.

ولكن لهذه الأداة الجديدة نواحي لا تخلو من فكاهة وجد؛ فتصور خطيبا من الخطباء، أو ممثلا من الممثلين، أو أستاذا من الأساتذة يتحدث أو يخطب أو يمثل، وهذه الأداة تنقل عنه ما يقول إلى أطراف من الأرض يجهلها هو، ويجهلها غيره من الناس، وتصور موقع خطبته أو درسه أو تمثيله في نفوس الذين يستمعون له وهم بين معجب وساخط ومزدر، أما أنا فأتمنى لو وفق العلم إلى أن يرد إلى الخطيب والأستاذ والممثل الآثار المختلفة التي يحدثها في نفوس المستمعين إليه، إذن لأحجم كثير من الخطباء والممثلين عن التحدث إلى هذه الأداة. وماذا عسى كان يقول المرشال فوش، أو وزير الحربية الفرنسية، لو ردت إليهما هذه الأداة يوم كانا يخطبان في حفلة من حفلات مدرسة الهندسة، ما كان يقول ابناي وهما يستمعان لهما، وما كان يتبادلان من رأي في أصواتهما وأنغامهما، وما كان يطلبان إليهما من صمت سريع؟!

بل ماذا عسى كان يقول هذان الخطيبان لو ردت إليهما هذه الأداة ما كان يلقاهما به الاشتراكيون والشيوعيون من ألوان السخط والنقمة والوعيد؟!

على أن لهذه الأداة يدا عندي! فكثيرا ما استمعت لصحيفتها التي كانت تتلوها في المساء، وكثيرا ما نقلت إلي من أخبار مصر ما لم أكن أنتظر أن أظفر به إلا بعد أيام حين تصل إلي الصحف المصرية.

8

أريد الليلة أن أضحك، وأن أضحك في انتفاع واستفادة، فما هي إلا أن أقصد إلى أحد الملاعب، أو إلى أحد هذه الملاهي التي لا توجد إلا في فرنسا، بل لا توجد إلا في باريس، وإذا أنا أمام طائفة من الأغاني الهجائية فيها ألذ ما يسمع ويضحك، ويدعو إلى التفكير والعبرة والعظة.

بالقرب من السوربون يقوم ملهى يسمى

Les Noctambules

لا أستطيع أن أذهب إلى باريس دون أن أزوره، وقد زرته هذه السنة، فمهما أقل فلن أستطيع أن أصف لك ما وجدت فيه من لذة مضحكة باعثة على التفكير. ليس في هذا الملهى شيء غريب، وإنما هم جماعة من المغنين الهازلين يتعاقبون أمامك، يسمعك كل منهم طائفة من الأغاني لا جد فيها، أو قل كلها جد ولكنها صيغت في صيغة الهزل، وقد أرادت المصادفة أن أصل إلى باريس هذه السنة بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية، وأن تكون الأغاني التي تسمع في هذا الملهى كلها متصلة بالحياة الفرنسية السياسية. فلو قد سمعت هذا العبث الذي لا حد له برئيس الجمهورية، ورئيس الوزارة، والوزراء والنواب والشيوخ، والبرامج السياسية لأولئك وهؤلاء والجمهورية نفسها، ونظم الحكم الأخرى، لسألت نفسك إلى أي حد من الفوضى يريد أن يصل الفرنسيون؛ ذلك أنهم لا يحفلون بشيء، ولا يقدرون شيئا، ولا يرعون لنظام ولا قانون حرمة ولا ذمة، وإنما يعرضون عليك كل شيء عاريا مجردا، يظهرون لك منه أقبح ما يمكن أن يظهر، لا يكرهون أن يتناولوا حياة رئيس الجمهورية الخاصة بأقبح ما يمكن أن يتناول به من ألفاظ التشنيع، فأما رئيس الوزارة القائمة بوانكاريه، فالفرنسيون يحبونه، ولكن ذلك لا يعفيه من أن يعرض عليك في أقبح صورة، وأفظع شكل، وإذا المغنون يعبثون به خطيبا، ويعبثون به وزيرا، ويعبثون به منقذا للمالية الفرنسية، ثم يتناولون معدته وأمعاءه وكبده وكلاه، وقل مثل ذلك في وزراء فرنسا وزعمائها، فإذا فرغ المغنون من السياسة والساسة التفتوا إلى العلم والعلماء، وكم تلقى السوربون ورجالها من سخرية هؤلاء الساخرين، وأغرب ما في الأمر أن كثيرا جدا من هذه الأغاني الهجائية يخرج من السوربون نفسها، ينشئ بعضه الطلاب، ولعل من الأساتذة من لا يتحرج عن إنشاء بعضه الآخر.

9

وفي باريس ملعب

لا يعرف باريس من لا يعرفه، ولا يزور باريس من لا يزوره، ولا يصل إلى حقيقة النفس الفرنسية من لم يختلف إليه، ويتذوق ما يلعب فيه، وكيف تفهم أثينا من غير أرستوفان؟

إذن فملعب

من باريس هو كملعب أرستوفان من أثينا في القرن الخامس قبل المسيح. في هذا الملعب الباريسي الصغير تظهر من النفس الفرنسية ناحيتان مختلفتان؛ إحداهما حلوة جدا، والأخرى مرة جدا، وكلتاهما مضحكة تحمل على الإغراق في الضحك، وأنا زعيم لك - إذا شهدت ما يلعب في هذا الملعب وفهمته على وجهه - أن تضحك كما لم تتعود أن تضحك قط، وأن تضحك بعد فراق الملعب بيوم وأيام، وأن تضحك كلما ذكرت هذه القصة التي شهدتها، وإني لأذكر الآن قصصا شهدتها منذ عشر سنين، فلا أستطيع أن أدفع الضحك عن شفتي.

في هذا الملعب الصغير تعرض عليك الحياة الفرنسية كلها: أدبها، وسياستها، وعلمها، وتجارتها، وزراعتها، وطبقات الشعب المختلفة فيها، على ألا يظهر الممثلون من هذا كله إلا ما هو خليق بالنقد، حري أن يبعث الاستهزاء والسخرية. شهدت فيه هذا العام قصتين فلن أنسى ثانيتهما التي كان موضوعها الوزراء الفرنسيون في حياتهم الخاصة بين أزواجهم وخليلاتهم، ومهما أنس فلن أنسى أحد هؤلاء الوزراء، وقد كلف بفتاة كانت تعمل في مكتبه، وما يزال بها حتى ترتفع بينهما الكلفة، وإذا هو قد نسي نفسه ومكانته ومنصبه وامرأته وكل شيء، وأصبح رجلا من عامة الشعب أمام امرأة من عامة الشعب، وإذا هو مستلق على الأرض يعبث بيديه ورجليه، ويمتلئ فمه بالضحك وأشنع ألفاظ المزاح، ويدخل رئيس الوزراء فيرى زميله في هذه الحالة، فهو دهش مبهوت، ولكنه لا يكاد يخلو إلى هذه المرأة حتى يكلف بها، وإذا هو يكيد لزميله، وإذا هو يتملقها ويتقرب إليها، وإذا الكلفة قد ارتفعت بينهما، وإذا أنت تسمع من الرئيس مثل ما كنت تسمع من صاحبه، ولكنك تضحك من الرئيس أكثر مما كنت تضحك من صاحبه؛ لأن هذا الرئيس قد اتخذ في شكله وحديثه وحركاته ما يذكرك أو يفرض عليك أن ترى وزيرا من وزراء فرنسا القائمين، كان رئيس وزارة فيها عشر مرات، ويبلغ الضحك أقصاه حين تسمع هذا الرئيس يسمي نفسه أرستيد

Aristide .

على أن للهزل في ملاهي باريس وملاعبها ألوانا مختلفة وفنونا متباينة، فأنت تشهد في بعض الملاعب هذا الهزل المريح الذي يقصد به إلى الضحك ليس غير، لا يدعوك إلى تأمل، ولا يضطرك إلى تفكير، ولا يخيل إليك أنه يمثل الحياة أو ناحية من الحياة، وإنما أنت مقتنع منذ ترى أول التمثيل أنك أمام هزل خالص لا أكثر ولا أقل.

هذه القصة التي شهدتها تمثل الموتى في الدار الآخرة، وهم يعبثون في الجنة ضروبا من العبث تشبه عبثهم في الدنيا، ومنهم من يحتال على بواب الجنة حتى يظفر بالإذن في أن يهبط إلى الأرض أول النهار على أن يعود إلى الجنة منتصف الليل، فإذا هبط إلى الأرض رأى أرملته وقد كادت تفتن برجل من الأحياء، فما يزال بها وهو متنكر حتى يصيبها ويصرفها عن خصمه، حتى إذا كانت ساعة الصعود إلى الجنة أبت صاحبته إلا أن تصعد معه، وخيل إليها أنه صاحب طيارة، فتطير معه وإذا هي في الجنة، ثم تنتهي القصة وإذا كل ما فيها حلم حلمه رجل بعد أكلة دسمة، وشراب كثير.

فإن أردت الجد فما أكثر ملاعب الجد، وما أكثر ما يعرض فيها من الفنون؛ منها القديم ومنها الجديد، منها الهادئ ومنها العنيف، منها ما يقصد إلى التسلية والعظة، ومنها ما يقصد إلى الدرس والبحث، ومثل ذلك في الموسيقى الجادة والموسيقى التي تتوسط بين هذا وذاك، ولديك الموسيقى الخالصة لا تسمع فيها إلا الأدوات الموسيقية يصحبها الغناء، والموسيقى يصحبها الرقص والغناء جميعا.

ولديك في باريس فنون أخرى تلهيك عن نفسك إن كنت لا تريد أن تعود إليها، وأنت تستطيع أن تأخذ بحظك من هذه الفنون في أي ساعة شئت من ساعات الليل، وفي أي ساعة شئت من ساعات النهار، وفي أي فصل شئت من فصول السنة.

ثم يزعم بعض الناس على ذلك أن باريس ليست مدينة فرحة مبتهجة، ولست أدري إذا لم يكن الفرح والابتهاج في باريس فأين يكونان؟

كلا! في باريس الفرح والابتهاج، وفيها البؤس والحزن، وفيها الرجاء والأمل، وفيها اليأس والقنوط، فيها اجتمع كل ما يحتاج إليه الناس وكل ما لا يحتاجون إليه، فيها اجتمع كل ما يشخص الحضارة الإنسانية في هذا العصر الذي نعيش فيه.

10

ولذة أخرى أجدها حين أزور فرنسا، ولعلي أستطيع أن أجدها في أي بلد آخر، ولكنها في فرنسا قوية أشد القوة، متنوعة أشد التنوع، خصبة أشد الخصب، هذه هي اللذة التي تجدها حين تزور الآثار والمعالم التي تحدثك عن الماضي القريب أو البعيد.

ليس في الأرض بلد متحضر إلا وله قديمه وحديثه وآثاره ومعالمه، ولكن للآثار الفرنسية والقديم الفرنسي فضلا على غيرها من الآثار؛ فهي سهلة يسيرة يمكن أن يفهمها الناس جميعا، وأن يجدوا في فهمها لذة وعظة وعلما، على اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أوطانهم وبيئاتهم، ليس كل الناس يستطيع أن يسعد ويلذ بزيارة الآثار اليونانية والرومانية والمصرية والآشورية والبابلية؛ بل لا بد لتحقيق اللذة والسعادة بزيارة هذه الآثار من حد أدنى من الثقافة والعلم، وإني لأعرف علماء وقفوا أمام الأهرام وأمام معابد الكرنك دون أن يحسوا شيئا، وإني لأعرف مثقفين يمرون بأثينا وروما فلا تحيي في نفوسهم هاتان المدينتان شيئا، ولا تبعث فيها خاطرا، ولا تثير فيها عاطفة!

فإذا زرت الآثار الإنجليزية والألمانية فأنت مغتبط بهذه الزيارة؛ لأنك رأيت شيئا يجب أن تراه ويحسن أن تراه، فأما هذه اللذة الخاصة التي تحدثها في النفس زيارة الآثار عند فهم هذه الآثار، فلن تجدها أمام الآثار الإنجليزية والألمانية إلا إذا كنت على حظ من الثقافة، وبذلت مقدارا من الجهد. أما الآثار الفرنسية، فأيسر من ذلك وأدنى إلى النفس وإلى الحس معا. لا بد لك من ثقافة، ولا بد لك من جهد يختلف قوة وضعفا إذا أردت أن تفهم الآثار الفرنسية على وجهها كما يحب العلماء أن يفهموا الآثار، ولكنك مرغم على أن تجد شيئا من اللذة والسعادة وإن لم تكن مثقفا، وإن لم تكن حريصا على الفهم والتعمق في العلم حين تزور الآثار الفرنسية؛ لأنه هذه الآثار تعرف كيف تتحدث إليك، وكيف تسترعيك وتلفتك إليها.

تستطيع أن تزور قصر فرساي، فلا شك في أن لذتك لا تعدلها لذة إذا كنت تعرف تاريخ فرنسا السياسي والفني والأدبي حين تزور هذا القصر، وترى ما يمثل من هذا كله. ولكن هبك لا تعرف من هذا التاريخ شيئا، فأنت واجد على كل حال لذة قوية في قصر فرساي؛ ذلك لأن هذا القصر وما فيه يلفتانك بهذه المظاهر الجميلة التي لا يستطيع الحس أن يمر بها دون أن يقف عندها، ويمنحها حظا قليلا أو كثيرا من الإعجاب، فإذا سمعت هذه الأحاديث التي يلقيها عليك الأدلاء في غير عناية ولا تحقيق، وكنت تفهم الفرنسية بعض الفهم، فستحيي في نفسك هذه الأحاديث عواطف وضروبا من الشعور لها في نفسك أثر بعيد؛ في هذه الغرفة كان لويس الرابع عشر يفعل كذا وكذا، وفي هذه الغرفة كان لويس الخامس عشر يلقى فلانا وفلانا أو قل فلانة وفلانة، وفي هذه الغرفة كانت فلانة من خليلات هذا الملك أو ذاك تفرغ لزينتها، وفي هذه الغرفة اتخذ هذا الملك أو ذاك من القرارات ما كان له في حياة الفرنسيين ثم في الحياة الأوروبية ثم في الحياة العالمية أبعد الآثار وأقواها.

ولم أصف لك ولن أستطيع أن أصف لك مظاهر الفخامة والترف والأبهة في العصور الفرنسية الحديثة؛ فقد اجتمع من هذه المظاهر المختلفة في هذا القصر ما وضعت فيه الكتب الطوال والأسفار التي لا تحصى.

وكنا في هذا القصر مع طائفة مختلفة من الناس تمثل طبقات متباينة، وحظوظا من الثقافة متفاوتة، ولكننا كنا جميعا نشترك في مقدار من اللذة والرضا، ثم نتفاوت بعد ذلك في طبيعة هذه اللذة وهذا الرضا، وكان معي ابناي وهما طفلان، وأستطيع أن أؤكد أن رضاهما وابتهاجهما لم يكونا أقل من رضاي وابتهاجي، ولعلهما كانا أشد وأحد، ذلك في القصر، فأما الحديقة وطرقها وتماثيلها وأحواضها فحدث عما تبعث في النفس من لذة، ولا تخش أن تتهم بغلو أو بإسراف، وليس قصر فرساي بالقصر الوحيد في فرنسا، ولكنه قصر من قصور وأثر من آثار؛ فكل ما قلته وأكثر مما قلته يمكن أن يقال في قصر فونتنبلو أو في قصور اللورا أو في قصر كومبيين أو غيره من هذه القصور المنبثة في أقطار فرنسا، والتي تمثل حياة هذه البلاد في القرون الوسطى وفي العصر الحديث أصدق تمثيل وأقواه.

لم كانت هذه الآثار أنطق وأفصح من غيرها من الآثار القديمة والحديثة؟ لأنها فيما أظن تمثل حياة شعب مهما يوصف به من ضروب العيوب والقصور فلن ينكر عليه أنه شعب سهل صريح قريب إلى غيره من الشعوب، لا غموض فيه ولا عسر ولا التواء.

تستطيع أن تقرأ التاريخ الفرنسي والأدب الفرنسي والفلسفة الفرنسية والعلم الفرنسي، وأن تنظر في الفن الفرنسي على اختلافه، فسترى في هذا كله خصلة مشتركة تميزه من غيره عند الأمم الأخرى؛ وهي الوضوح والجلاء. لا يخطئ الفرنسيون حين يتحدثون عن أنفسهم في شيء من الفخر والإعجاب، فيقولون إنهم يقومون من أمم هذا العصر الحديث مقام اليونانيين من أمم العصر القديم.

11

ولذة أخرى أجدها حين أزور فرنسا - وهل تنقضي لذاتي حين أزور فرنسا؟ هي هذه التي أجدها حين أنغمس في الحياة الفرنسية الصرفة بقراءة الصحف والكتب والمجلات، ذلك أني لا أفهم زيارة بلد من البلاد إلا إذا كانت الغاية من هذه الزيارة - قبل كل شيء وبعد كل شيء - تعمق هذا البلد، والاتصال بحياته الحقيقية الداخلية، والوقوف على أسرار هذه الحياة، وعلى هذه الأمور الخفية التي تبعث الأفراد على أن يعملوا، والجماعات على أن يجاهد بعضها بعضا، ويمكر بعضها ببعض، ويتغلب بعضها على بعض. لغيري من المصريين أن يفتن بالطبيعة وجمالها، ولغيري من الفنيين أن يفتن بالعمارة والتصوير والنحت، ولغيري من المؤرخين أن يفتن بالآثار وما يتصل بها من مصادر التاريخ.

ولست أزعم أن هذه الأشياء لا تعنيني، ولكني أزعم أن الذي يعنيني قبل كل شيء حين أزور بلدا من البلاد إنما هم أهل هذا البلد، وأساليبهم في التصور والحس والشعور والحياة بوجه عام.

وليس من اليسير على الأجانب إذا وصلوا إلى فرنسا أن يتصلوا بالفرنسيين اتصالا صحيحا، وأن يروهم كما هم؛ فالفرنسيون - وإن رأى الأجانب فيهم غير ذلك - مغلقون دون الغرباء، لا يظهرون أنفسهم للزائرين إلا بمقدار، وهم لا يظهرون من أنفسهم للأجانب إلا ما يريدون إظهاره؛ من لطف مبالغ فيه أحيانا، ودعة وحسن ضيافة تبعثهما المنفعة في أكثر الأحيان، وضروب من اللهو والدعابة والمجون تستهوي كثيرا من الأفئدة إلى بلادهم. فأما حياتهم الخالصة فيجب أن نلتمسها نحن وأن نتكلف في التماسها شيئا من العناء غير قليل.

يخطئ الأجنبي الذي يتصل في الملاعب والحانات ببنات اللهو والمجون حين يظن أنه عرف الفرنسيين أو عرف المرأة الفرنسية، وخطؤه أشد وأعظم حين يتخذ من هذه المعرفة الضئيلة الكاذبة وسيلة إلى الحكم وتقرير النظريات.

إنما يلتمس الفرنسي في غير باريس؛ في القرى وفي أعماق الريف، في هذه الحياة المقفلة التي لم يتعود الأجنبي أن يتورط فيها، والتي يظهر فيها الفرنسي كما هو؛ جادا كما تعود أن يجد، هازلا كما تعود أن يهزل، مقتصدا كما تعود أن يقتصد، ومسرفا كما تعود أن يسرف.

وظاهر أن الوصول إلى هذه الحياة ليس يسيرا لمن يقضي في فرنسا أسابيع يلتمس فيها اللذة والراحة.

على أن هناك سبيلا أخرى للوصول إلى ناحية من الحياة الفرنسية لا يسلكها المصريون إذا ذهبوا إلى فرنسا عادة، وهي الإمعان في قراءة الصحف الفرنسية والكتب الفرنسية والإمعان في تفهمها وتعرف حقيقتها، أما أنا فأجد في هذه القراءة لذة لا تعدلها لذة. ومع أني أقرأ كثيرا من الآثار الفرنسية في مصر، فإني أحب أن أقرأ الآثار الفرنسية في فرنسا، ويخيل إلي أني أفهمها في فرنسا على وجهها، ولا أفهمها في مصر كما ينبغي أن تفهم، كأن البيئة الفرنسية نفسها تخلع على هذه الآثار غشاء يجعلها أشد إلى النفس قربا، وأدنى إلى الفهم والتعمق. وإنها لقوية جدا هذه اللذة التي أجدها حين أقرأ ما يكون من الخصومة المتصلة بين الأحزاب السياسية، والخصومة المتصلة بين الأدباء وأصحاب الفن، ومن هذه الشروح والتعليقات التي تتناول بها الصحف المختلفة أعمال الحكومة والحياة البرلمانية، وكم أقارن بين ما نقرأ في مصر من هذه الآثار وما نقرأ في فرنسا، وكم يمتلئ قلبي حزنا حين أفرغ من هذه المقارنة.

لقد أقرأ الصحيفة الفرنسية فأجد في قراءتها متعة لا حد لها، ثم تصل إلينا صحفنا المصرية فلا أكاد أمر بما فيها من العنوانات حتى أنصرف عنها انصراف المشمئز. في الصحف الفرنسية ثروة عقلية ومتاع للنفس والشعور، وفي خصومتها السياسية لذة؛ لأن فيها ذكاء حادا، وفيها رقة في اللفظ، وفيها إصابة في الجدال، وفيها على هذا كله براءة من السب والشتم ولغو الكلام وهراء الحديث.

فأما الفصول الأدبية التي تنشرها هذه الصحف في كل أسبوع، فحسبك أن كثيرا منها يستطيع أن يغنيك عن قراءة الكتب التي تتناولها هذه الفصول بالنقد والتقريظ، ذلك إلى عناية غريبة باستقصاء الأخبار الداخلية والخارجية، وحرص غريب على أن يكون القارئ ملما بما يقع في العالم كل يوم في غير مشقة ولا عناء، ثم حرص على أن يلم القارئ من حين إلى حين باتصال الحياة العامة في الأمم ذات الخطر. فأنت في الأسبوع تقرأ في جريدة الطان

Le temps

فصلا في ناحية من أنحاء الحياة الإنجليزية، وأنت في الأسبوع الذي يليه تقرأ فصلا عن ألمانيا، ثم فصلا عن إيطاليا، ثم فصلا عن شمالي أوروبا ... على هذا النحو، كأنما أخذت الصحيفة الفرنسية على نفسها عهدا أن تجعلك تشعر شعورا قويا بأنك فرد من أفراد الإنسانية، تحيا مع الإنسانية كلها، وتشعر مع الإنسانية كلها، دون أن يخفى عليك من أمرها شيء.

وعلى هذا النحو أفهم الصحف وواجبها في عصر الديمقراطية الحديثة؛ فلست أظن أن للإنسانية في هذا العصر مثلا أعلى يعدل حرصها على أن يفهم بعضها بعضا حق الفهم، ويتصل بعضها ببعض أشد الاتصال، وتتداخل فيها الحياة العقلية والشعورية كما تداخلت الحياة الاقتصادية والسياسية، بحيث لا يمنع اختلاف الأوطان والأجناس والبيئات من أن تشعر الإنسانية بأنها وحدة متشابهة الأجزاء، متحدة المنافع، مضطرة إلى التضامن في كل شيء.

فأما الكتب فلا ينقضي عجبي من كثرة ما يصدر منها في فرنسا، لا أقول في كل سنة، ولا أقول في كل شهر، وإنما أقول في كل أسبوع، ويكفي أن تنظر إلى الفصل الببليوغرافي الذي تنشره الطان مرة في كل أسبوع لتعرف أن الذين يرون أن فرنسا قد أخذت تضعف وتنحط لا يفقهون ما يقولون، ذلك إلى أن الطان لا تعنى إلا بطائفة خاصة من الكتب، وهناك أخرى تعنى بألوان أخرى من الكتب. وليس من الغريب أن يوجد في فرنسا من ينتجون هذا الإنتاج العقلي العظيم، وإنما الغريب أن يجد هؤلاء المنتجون جميعا قراء لما ينتجون، يمكنونهم من المضي في العمل والتنافس في الإنتاج.

كثيرا ما أفكر أمام هذا في حياتنا العقلية، وإنتاجنا الفني، وكثيرا ما تحزنني هذه المقارنة، كما تحزنني المقارنة بين الصحف هنا وهناك.

12

وإذا كانت قراءة الصحف والكتب الفرنسية تلذني وتعجبني في فرنسا أكثر مما تلذني وتعجبني في مصر، فالتحدث إلى الفرنسيين في بلادهم يترك في النفس أثرا يغاير كل المغايرة الأثر الذي يتركه التحدث إلى الفرنسيين في مصر، ولعل هذا الأمر ليس مقصورا على الفرنسيين، فمن المعروف أن كل إنسان يتخذ لنفسه شخصيتين مختلفتين؛ إحداهما في وطنه حيث يعيش في أقل حظ ممكن من التكلف والنفاق الاجتماعي، والآخر في الغربة حيث تضطره الغربة نفسها، وتضطره منافعه المختلفة المعقدة إلى أن يتخذ لنفسه شخصية أخرى، تباين إلى حد بعيد شخصيته الطبيعية، وحظ النفاق فيها أعظم من حظ الصراحة والإخلاص.

على أن الأجانب في مصر يختلفون من هذه الناحية اختلافا عظيما؛ فمنهم من يسرف في ازدراء المصري والتعالي عليه، لا يتكلف ذلك، ولا يحتمل فيه مشقة، وإنما هو طبيعة له أو كالطبيعة، ومنهم من يسرف في تملق المصري والإسفاف في هذا التملق، حتى يبعث في النفس شيئا من الازدراء والاحتقار غريبا، وبين هذين الطرفين يضطرب الأجانب المقيمون في مصر. قليل منهم يظهر نفسه للمصريين كما هي، وكثير منهم يغشي نفسه بغشاء من النفاق رقيق أو صفيق.

والفرنسي في مصر متكلف ليس صريحا، وهو لا يرسل نفسه على سجيتها، فيه غطرسة ولكنه يخفيها إلى حد ما، وفيه تملق ولكنه يجمله بعض الشيء، هو صاحب منفعة قبل أي شيء آخر، ولكنه يجتهد في أن يخفي تأثير هذه المنفعة فيما بينك وبينه من صلة، وهو يراقب نفسه إذا تحدث إليك، فلا يقول لك إلا ما تريد أن يقول، لا ما ينبغي أن يقول، فإذا وصلت إلى فرنسا، واستطعت أن تتصل بالفرنسيين الذين لا يرجونك ولا يخافونك، ولا يقدرون أن يزوروا مصر أو أن تكون لهم فيها منفعة ما، فقد وصلت إلى الفرنسي حقا، واستطعت أن تتحدث إليه، وأن ترى نفسه كما هي، دون أن يحول بينك وبينها غشاء ضعيف أو كثيف. هذا الفرنسي صريح، مسرف أحيانا في الصراحة، محب للغلو في كل شيء حين يتكلم لا حين يعمل، وهو كلف بالتناقض، وإعلان الأحكام المضحكة الغريبة، التي تفجؤك وتدهشك. ومن غريب الأمر أن الأمد بعيد جدا بين الفرنسي حين يتكلم، والفرنسي حين يعمل، فهو في حياته العملية معتدل، وهو أقرب إلى المحافظة منه إلى التطرف حتى حين يكون من المتطرفين في المذهب السياسي، ولكنه حين يتكلم أشد الناس تطرفا، وأعظمهم إسرافا في نبذ القديم، وأحدهم سخطا على حياته اليومية، وعلى عصره الذي يعيش فيه. إذا سمعت الفرنسي يتحدث عن شئونه السياسية فستراه ساخطا أشد السخط على الحكومة والبرلمان، مغضبا أشد الغضب؛ لأن شئون الدولة تمشي على غير نظام، ولأن فرنسا تفقد مركزها الممتاز الذي كان لها بين أمم العالم، هو ساخط على الجمهورية، وهو غير راغب في عودة النظام الإمبراطوري أو الملكي، وهو كاره للاشتراكية، مشفق من الشيوعية، فإذا سألته عما يريد قال لك كلاما كثيرا لا تفهم منه ما يريد، ولكنك تفهم منه أنه ساخط غير مطمئن. هو ساخط فيما يقول، ولكنه في حياته اليومية راض مطمئن، يؤدي عمله على وجهه في تأفف متصل، ويؤدي الضرائب في سخط على الحكومة والخزانة.

وسخطه السياسي ليس أعظم من سخطه الأدبي أو الفني؛ فلن ترى الفرنسي راضيا عن الحياة الأدبية في عصره، ولن تراه راضيا عن الحياة الفنية، ولن تراه راضيا عن شيء، ولكنه على ذلك كله يقرأ ويلتهم الكتب التهاما، ويزور معارض الفن، ويشهد التمثيل، ويسمع الموسيقى، ويجد في هذا كله لذة، ولكنه يجد مع ذلك وسيلة إلى السخط والتأفف والاشمئزاز. هو قلق دائما، طامح دائما إلى مثل أعلى، يجهله ولا يستطيع أن يحدده، ولكنه يطلبه مع ذلك ويلح في طلبه، يطلب دون أن يتخلص من حياته اليومية وحاله الحاضر إلا في مشقة وعسر شديد.

لا أعرف أحدا يسخط على الحياة الفرنسية من جميع نواحيها كالفرنسيين، ولا أعرف أحدا يحب الحياة الفرنسية من جميع نواحيها كالفرنسيين. هم أبغض الناس للحرب، وهم أسرع الناس إليها حين يدعون، هم أبغض الناس للجمهورية، وهم أحرص الناس عليها حين تتعرض للخطر، شعب غريب حقا لا يفهمه الأجنبي إلا بعد طول الدرس والاختبار، وبعد أن يعود نفسه أن الطبيعة الفرنسية الحقيقية تختفي أمام طائفة كثيرة من أستار التناقض والاضطراب.

ما أبعد الأمد بين هذا الفرنسي الذي تتحدث إليه في فرنسا، فإذا هو في الوقت نفسه يسخر من كل شيء، ويحرص على كل شيء، ويناقشك في كل شيء، ويلهيه اللفظ عن كل شيء، حتى يفتن بصوته وعباراته، ويتكلم ليسمع نفسه وهو يتكلم لا ليؤدي إليك شيئا في نفسه يريد أن يؤديه ويذود عنه، وبين هذا الفرنسي الذي تراه في مصر يتحدث إليك في عناية وحرص، قد وزن ألفاظه وزنا وقدرها تقديرا، وصنع له طائفة من الآراء والمعاني والخواطر قدر أنها هي التي تعجبك وترضيك، فهو يعرضها عليك في مهارة ودراية ومكر وإسراف في المكر، وهو في لفظه مقتصد معتدل لا يكاد يتكلم إلا بمقدار؛ لأنه يخشى أن يرسل نفسه على سجيتها.

عسير عليك أن تحب الفرنسيين في مصر، وعسير عليك أن تكره الفرنسيين في فرنسا. وقد سمعت من غير واحد من أصحابنا الذين يعرفون بلاد الإنجليز أن ثقل الإنجليزي في البلاد الأجنبية لا يعدله إلا ظرف الإنجليز في بريطانيا العظمى.

ومن يدري، لعل الأمر كذلك بالقياس إلى الأجانب جميعا؟

أما أنا فلم أكن قد عرفت الفرنسيين حين زرت فرنسا لأول مرة، فلما خالطتهم في بلادهم - وقد أتيحت لي هذه المخالطة كأحسن ما تتاح لأجنبي - أحببتهم حبا لا حد له، ثم عرفتهم بعد ذلك في مصر فلم أكد أصدق أن هؤلاء الفرنسيين هم مثل أولئك الذين عرفتهم وراء البحر، ولذلك تعودت ألا أسمع للفرنسيين في مصر إلا بنصف أذني ، فإذا كنت في بلادهم فأنا أسمع لهم بنفسي كلها.

13

وفي باريس دور تدخلها فلا تكاد تخرج منها إلا بشق النفس كأنها تمسكك وتحول بينك وبين الخروج، وهي تمسكك بالفعل فأنت لا تكاد تخطو فيها خطوة حتى تقف ناظرا محدقا ومتأملا مفكرا، ثم تنتزع نفسك انتزاعا من هذا المكان الذي وقفت فيه، فإذا على القرب منه مكان آخر يقفك ويقيدك، ويضطرك إلى النظر والتحديق، والتأمل والتفكير.

وكذلك أنت مضطر إلى أن تقضي اليوم كله أو أكثره في هذه الدور، تتنقل فيها من مكان إلى مكان، ولا تبرحه حتى تضطرك حاجتك أو المساء إلى الخروج.

وهذه الدور نوعان؛ أحدهما يمثل أمس القريب أو البعيد، والآخر يمثل اليوم وغدا وبعد غد. الأول يمثل أمس وما كان فيه من حوادث وفنون وحياة خصبة من جميع نواحيها، وهي المتاحف، والآخر يمثل اليوم وغدا وما فيهما من لذة وأمل ورغبة في الترف وتهالك على النعيم، وهي دور التجارة الكبرى.

هذان القصران المتقاربان اللذان يتسميان باسم واحد، واللذان يتسلطان على النفوس تسلطا متشابها في القوة والبقاء، والاستئثار بالعقل، والاستهواء للب، يحتكمان في الفرنسيين والغرباء كما يشاءان؛ أحدهما متحف اللوفر، والآخر متجر اللوفر.

وكلاهما مكتظ طوال النهار بالزائرين والزائرات من كل جنس ومن كل إقليم، وكلاهما فتنة للزائرين والزائرات، ولكن فتنة المتحف أهون على الجيوب من فتنة المتجر.

فقصاراك إذا زرت المتحف أن تفتن بما فيه من آيات الفن الفرنسي الأجنبي على اختلافها وتباينها وتفاوتها في مقدار الجمال ونوعه وطبيعته وقيمته، ولكنك واثق أنك لن تجد في هذا المتحف إلا لذة بريئة خصبة فيها علم، وفيها إرضاء للذوق والشعور.

أما المتجر، ففي زيارته لذة قوية، ولكنها خطرة شديدة الخطر، ولا سيما إذا لم تزره وحدك بل زرته مع السيدات، ومهما يكن خطر متجر اللوفر وأمثاله على الجيوب والماليات الرفيقة، فإني لا أكره إذا زرت باريس أن ألم بها إلمامات طويلة أو قصيرة، خفيفة أو ثقيلة، فيها ربح وفيها خسارة، وفيها لذة ومتاع على كل حال؛ بل أصبحت - مع الأسف أو مع الرضا - لا أفهم المرور بباريس دون المرور باللوفر والبرنتان وجاليري لا فاييت، والوقوف عند بعض الأماكن فيها أتخير وأدفع إلى الشراء، وأستمع في شيء من الراحة واللذة لأحاديث البائعين والبائعات، وفنونهم الغريبة الحلوة في إغراء المشترين، والعبث بعقولهم وأذواقهم وجيوبهم معا.

14

للناس مذاهب مختلفة فيما يتبعون من الرحلة إلى أوروبا أو غير أوروبا من البلاد الأجنبية، فهم جميعا متفقون أو كالمتفقين على أنهم يدعون بلادهم رغبة في الراحة، والتماسا للترفيه على النفس، وتغييرا للبيئة، وفرارا من الجو الحار الثقيل، ولكنهم بعد هذا كله يختلفون في تصور الراحة وتغيير البيئة والفرار من الجو؛ فمنهم من يرى الراحة في الإيواء إلى سواحل البحر أو المحيط، يقضي نهاره متجردا أو كالمتجرد، مستلقيا أو كالمستلقي على الرمل، ينغمس في الماء ليخرج منه، ويخرج منه لينغمس فيه، وهو في هذه الأطوار المختلفة يستمتع بما يرى من أشخاص مجردين مثله، ويأخذ بحظه من حرية الطرف والتفكير والدعابة والعبث، حتى إذا كان الليل لم يستلق على الرمل، ولم ينغمس في الماء، وإنما اندفع إلى الكازينو، وانغمس في هذه الأمواج الملتطمة من الرجال والنساء، حول موائد اللعب، أو في مسرح الرقص، أو في المقصف أو حول الموسيقى.

وهذان الطوران من أطوار الحياة النهارية والليلية على ساحل البحر غريبان مختلفان أشد الاختلاف، ولا سيما في ما يمس الرجال؛ فهم عراة أو كالعراة بياض النهار، يظهرون من أجسامهم ما لا متعة في النظر إليه إلا أن يكون أحدهم قد صيغ على صورة أبولون، وهؤلاء الأشخاص قلة في الرجال، وتراهم في بعض المدن والسواحل يسرفون في هذا التجرد، كما تراهم في بعض المدن والسواحل يقتصدون، لا يقفهم عند حد من ذلك إلا لين البلديات وشدتها في ملاحقة المستحمين. فإذا كان الليل فقد سترت أجسامهم كلها، ودخلوا في ملابسهم الليلية أو السموكنج، لا يظهرون من أشخاصهم إلا أقل مقدار ممكن.

أما النساء فلهن منطق معقول: هن متجردات في النهار على الساحل، متجردات في الليل إذا أقبلن إلى الكازينو، ولكنهن لا يظهرن من أجسامهن في الليل ما يظهرن في النهار، إنما يظهرن في النهار نصفا، وفي الليل نصفا آخر: للنهار الأعجاز، ولليل الصدور.

وعلى هذا النحو تستطيع أن تفهم هذه الصورة المضحكة التي نشرها «الجورنال» ذات يوم، تمثل عاملا من عمال المحطات قد جلس إلى نافذته يبيع تذاكر السفر، وأقبلت عليه امرأة قبيحة المنظر شوهاء تشتري تذكرة، فهو مفتون بهذا الوجه القبيح المشوه؛ لأنه منذ أول الفصل لا يرى وجوها وإنما يرى أعجازا ...!

ومن الناس من يرى الراحة في الصعود إلى جبل من الجبال، يختلف ارتفاعه في الجو بمقدار ما يسمح له الطبيب، وهناك يقضي نهاره متنقلا من مكان إلى مكان، صاعدا هابطا، أو مستريحا في غابة أو حديقة، أو مندفعا في الكازينو بياض اليوم وسواد الليل، مستمتعا بما في البلاد الجبلية من مناظر مختلفة، وأضواء متباينة، إلا ما تعرض عليه الحسان من أصناف الزينات وضروب الخلاعة، فإن كان من الذين يحبون السيارات ويكلفون بهذا الحس الغريب الذي يجده الناس في السرعة، فنهاره في السيارة، وليله في الكازينو، بين الرقص والعزف واللعب، ورأسه دائر ليلا ونهارا، حتى إذا انتصف الليل أو مضى ثلثاه آوى إلى سريره فاستراح.

ومن الناس من يكتفي بمدينة من المدن ذات الحظ العظيم من الحضارة، فيقضي نهاره فيها وليله كما كان يقضيهما في مصر، إلا أنه هنا يستمتع بحظ من الحرية لا يستمتع به عادة في مصر؛ يصبح فيمضي إلى القهوة، وما يزال فيها حتى يدعوه الغداء، ثم يمسي فيمضي إلى القهوة، وما يزال فيها حتى يدعوه العشاء، ثم يفرغ من عشائه ويمضي إلى حانة أو ملعب، ويقضي ليله أو شطرا غير قليل من ليله في لذة قلما تخلو من إثم، وقلما تخلو من إسراف في النفقة، وقلما تخلو من إساءة إلى العقل والجسم والأعصاب عامة، والكرامة الإنسانية في كثير من الأحيان.

ومنهم من يلتمس الراحة في مدن العيون والينابيع؛ لأن الأطباء قد فرضوا عليه ذلك، أو لأنه يجد في هذه البيئة التي تشبه بيئة السواحل لذة تصرفه عن غير هذه المدن من مواضع الراحة، فهو يستحم ويخالط المستحمين والمستحمات في غدوهم ورواحهم، وفي نشاطهم وخمودهم وراحتهم، وهو يرقص ويشهد الراقصين والراقصات، ويلعب أو يشهد اللاعبين واللاعبات، وحظه من اللذة البريئة أو الآثمة يختلف باختلاف مزاجه ومقدرته وثروته.

أما أنا فلست أفهم الراحة على نحو من هذه الأنحاء، وقد وصفت لك فهمي لباريس وحياتي فيها، وإذا تركت باريس فقلما أفكر في سواحل البحر؛ لأني أكره البحر وأجد في جواره ألما ومشقة لا أحتملهما إلا أن أضطر إلى ذلك اضطرارا.

وقد أراد الله أن يلائم في ذلك بين مزاج زوجي وابني ومزاجي، فنحن جميعا نكره البحر ولا نطمئن إليه، ونحن نكره مدن الاستحمام أيضا؛ لأن الأطباء لم يفرضوها علينا إلى الآن، ولأننا لا نكاد نذوق هذه اللذة التي يذوقها الناس حين يظهرون من أشخاصهم ما لا ينبغي أن يظهروا، وحين يرون من غيرهم ما لا ينبغي أن يروا، فأحب ضروب الراحة إلينا هو الإيواء إلى جبل معتدل الارتفاع، نتخير فيه فندقا مريحا معتدلا رخيصا كفندقنا في باريس، فنأوي إليه، لا نبتغي إلا طعاما ملائما، وغابة قريبة نقضي فيها النهار أو أكثره، وفراشا وثيرا نقضي فيه الليل كله، ولسنا من عشاق السيارات، وإنما حب معتدل للحركة والمشي إلى أن نصل إلى مرتفع شاهق، فإذا نفوسنا تنازعنا إلى أن نبلغ قمته، فنتكلف في ذلك من المشقة ما نتكلف، ثم نعود متعبين مكدودين، قد اعتزمنا أن نرتاح من الحركة يوما أو يومين، على أن أحد ابني قد كلفنا في هذه السنة مشقة لم نتعود مثلها، فهو على أنه لم يتجاوز السابعة مشغوف بالصعود والهبوط، مفتون بالعيون والغدران والجداول والمياه المنحدرة، يلتمسها حيثما كانت، وحيثما وجدت. وقد أخذ يقرأ، فلا يصل إلى مدينة أو قرية حتى يلتمس الدليل وينظر فيه، ويحفظ أسماء الجداول والعيون والينابيع، وما يزال يلح علينا بعد ذلك في التماس ما حفظ حتى نضطر إلى الاستجابة له. وإذا نحن في الطريق نلتمس جدولا أو عينا أو منحدرا من الماء قد حفظه هذا الطفل، وأبى إلا أن يراه، فنتعب ويتعب، ولكنا لا نكاد نبلغ الغاية حتى نرى في فرحه وابتهاجه ونشاطه وانغماسه في هذه الطبيعة ما يرد إلينا ما فقدنا من نشاط، ويذهب عنا ما وجدنا من ألم ومشقة.

وأنا أشهد أني أجد لذة قوية في هذا النحو من الراحة في الجبل في أول الأمر، ولكني لا أكاد أقضي في هذه الحياة أياما حتى أحس مللا لا حد له، وسأما لا سبيل إلى احتماله، إلا أن يعينني عليه كتاب أقرأ فيه، أو فصل أمليه، ولو أنني خيرت لما قضيت في مثل هذه المواطن إلا الأيام القصار، ولعدت إلى باريس أستأنف هذه الحياة التي وصفتها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها.

وليس في ذلك شيء من الغرابة؛ فأنا لا أملك الشرط الأساسي الذي يحبب إلى الناس الجبل والبحر وما فيهما من لذة بريئة، وكل ما أجده من ذلك إنما هي هذه الراحة الطبيعية التي أتلقاها مضطرا من الهواء واختلاف الأجواء. فأما هذه اللذة الفنية فيجدها من يبصر الطبيعة في أشكالها المختلفة، ومناظرها المتباينة، وألوانها البديعة، التي تتباين بتباين الأضواء، وموقعها على الأرض أول النهار وآخره وإبانه، ثم هذه المناظر البديعة التي تكون في الجبال حين تتفاوت قممها ارتفاعا وانخفاضا، وقد غطي بعضها بالجليد، وتوج بعضها بالغابات، ووقعت عليها أشكال النجوم والكواكب، وارتفعت من بينها أضواء المدن والقرى. كل هذه المناظر لا حظ لي منها، لا أستطيع أن أراها ولا أن أذوقها، وإنما يقص منها علي الشيء إثر الشيء فأحقق بعضه، وأعجز عن تحقيق بعضه الآخر. وإذا كنت راضي النفس مطمئنا، فقد أسمع ذلك مغتبطا ببعضه، غير مكترث لبعضه الآخر، فأما إن كنت مضطرب النفس سيئ الخلق - وكثيرا ما يعرض لي هذا - فلعلي لا أسمع ما أسمع من الوصف دون أن أشعر بألم يريد أن يكون شديدا، لولا أني أخذت نفسي منذ سنين طوال بهذا البيت البدوي القديم:

لا بد مما ليس منه بد

فأنا لا آسى على ما فات ، ولا أكلف بطلب ما لا سبيل إليه.

فأنا إذن من عشاق المدن، ومن عشاق باريس بنوع خاص، فيها أجد هذه اللذة التي قسم لي أن آخذ منها بأكبر حظ ممكن، وهي لذة العقل والشعور، فليس غريبا ألا أترك باريس إلا كارها، وكيف أتركها راضيا وأنا أعلم أني ما دمت في باريس فأنا أستطيع أن أرضي من عقلي وقلبي وشعوري أي ناحية شئت؟!

15

ونطوف بعد ذلك عشرة أيام في الألزاس، متنقلين بين مدنها وقراها، مجولين في وهادها ورباها، نزور ما فيها من آثار الماضي البعيد والقريب، ونشهد ما فيها من مظاهر الحياة الجديدة المضطربة.

وفي الألزاس متاع للعيون، كما أن في الألزاس متاعا للعقول، ففيها كثير من آثار القرون الوسطى لا تزال قائمة ماثلة، تعطيك من فن هذا العصر صورا مختلفة، ولكن الألزاس في هذه الأيام تعني من يزروها عناية خاصة؛ لمكانها بين الفرنسيين والألمانيين.

والمسألة التي تفرض عليك فرضا حين تتصل بالفرنسيين، وتنغمس في حياتهم القومية، هي أن تعرف أحق أن الألزاس إقليم فرنسي وأن أهله يحبون فرنسا كما يحبها الفرنسيون، أم ذلك لون من ألوان الجهاد السياسي بين هذين الشعبين المتخاصمين منذ أقدم العصور التاريخية؟

أما إذا قرأت الصحف الفرنسية، فالألزاس قطعة من فرنسا اغتصبها العدو، ثم استردتها فرنسا المنتصرة منذ سنين، والفرنسيون يختلفون فيما بينهم حين يفكرون في الصلة بين فرنسا وبين هذه القطعة التي ردت إليها، فمنهم من يريد أن تمحى الفروق كلها بين الألزاس وبقية الأقاليم الفرنسية، فيكون التشريع واحدا والنظام واحدا، وتخضع الألزاس لكل ما تخضع له الأقاليم الفرنسية؛ من نظام في السياسة والإدارة والمالية والدين والتعليم. هؤلاء هم المتطرفون، ومنهم المعتدلون الذين يريدون هذا كله، ولكن شيئا فشيئا، وقليلا قليلا؛ لأنهم يقدرون أثر الاحتلال الألماني في الألزاس، ويعلمون أن انتقال الألزاس من النظام الألماني إلى النظام الفرنسي الخالص فجأة، لا يمكن أن يتفق دون أن يستلزم اضطرابا وفسادا بعيدي المدى.

والألزاسيون أنفسهم - فيما يظهر - ليسوا أقل اختلافا من الفرنسيين؛ فمنهم المسرفون في بغض النظام الفرنسي، ومنهم المسرفون في حب هذا النظام، والناس جميعا يعلمون ما تلاقيه فرنسا من الصعوبات المعقدة في الملائمة بين الألزاس وبين النظام الفرنسي الخالص.

ولكن الأجنبي الذي يزور الألزاس بعد أن يكون قد زار فرنسا لا يستطيع أن يتخلص من أثر جديد تتركه هذه الزيارة في نفسه؛ فهو لا يسمع الفرنسية أو لا يكاد يسمعها في الألزاس، وإنما يسمع الألمانية يتحدثها الرجال والنساء في أعمالهم ومرافقهم كما يتحدثها الأطفال في لعبهم، وهو لا يسمع الفرنسية إلا حين يتكلم الألزاسي إلى الفرنسي أو إلى الأجنبي الذي لا يتكلم الألمانية، فإذا تكلم الألزاسي اللغة الفرنسية فهي فرنسية خاطئة محطمة مشوهة كفرنسية الألمان.

والأجنبي إذا أراد أن يقرأ الصحف الألزاسية وجد أكثرها ألمانيا، فإذا شهد الصلاة في كنائس الألزاسيين، فاللغة التي تستعمل مع اللاتينية هي الألمانية، ونظام الحياة في الألزاس أقرب إلى النظام الألماني منه إلى النظام الفرنسي. طعام الألزاسيين ألماني، وشرابهم ألماني، فهم يؤثرون الجعة على النبيذ، كما أنهم يؤثرون الشوكروت

choucroute

على غيره من ألوان الطعام المألوفة في فرنسا.

أهم فرنسيون كما يدعي الفرنسيون؟ أهم ألمانيون كما يدعي الألمانيون؟ ما أرى أنهم من أولئك ولا من هؤلاء، وإنما أرى أنهم ألزاسيون، ولو استطاعوا لطلبوا لأنفسهم ما يطلبه كثير من الشعوب الأوروبية الصغيرة من الحياة المستقلة بين هذين الشعبين العظيمين المختصمين. وهم إلى أن يتاح لهم طلب الاستقلال التام يجاهدون الآن في سبيل الاستقلال الداخلي، ويتكلفون في ذلك مشقة وهولا ليس أقل منهما ما تتكلفه فرنسا من المشقة والعناء.

ومهما يكن من أمر الألزاسيين والألزاس من إيثار فرنسا أو ألمانيا أو إيثار الحياة المستقلة، فإن الإقامة في الألزاس لذيذة حلوة، فيها دعة وراحة، وأكل كثير، وشراب غزير، ورياضات ممتعة، ومهما أنس فلن أنسى كلف ابني الصغير بزيارة العمارات الألزاسية والتصعيد في بروجها، والعناية بوصفها وتعديدها، ثم برسمها وتصويرها، وأظنه سيبلغ ما يشاء الله أن يبلغ من السن قبل أن ينسى كاتدرائية ستراسبورج، التي أصبحت عنده الآن مقياسا للكاتدرائيات جميعا. بفضل هذه الكاتدرائية ظهر عند هذا الطفل في السابعة من عمره ميل غريب قوي إلى زيارة الآثار زيارة إن لم تكن فنية فهي تشبه الفنية.

ونحن الآن لا ننزل بلدا ولا نصل إلى قرية حتى يلح هذا الطفل في زيارة بيعتها أو كاتدرائيتها، حتى إذا أتم هذه الزيارة أخذ يقيس البيعة أو الكاتدرائية بكاتدرائية ستراسبورج طولا وعرضا وصعودا في الجو وجمالا فنيا.

ومهما تكن الخواطر التي خطرت لنا جميعا أثناء رحلتنا الطويلة هذه، ومهما تكن العواطف التي أثارتها في نفوسنا هذه الرحلة، ومهما يكن ما لقينا فيها من خير وشر، ومن رضا وسخط، فلن يعدل هذا كله ما حفظته نفس هذا الطفل الصغير من هذه الرحلة؛ فقد كلف فيها بثلاثة أشياء، لن ينقضي يوم حتى يحدثك فيها، ويطيل ويثقل: العيون والينابيع؛ يقيس بعضها إلى بعض ويوازن بعضها ببعض، غزارة وارتفاعا وانحدار ماء. والبيع والعمارات؛ يقيسها كلها إلى كاتدرائية ستراسبورج. ثم قطر السكك الحديدية؛ يحصيها ويحصي ما تقطع من الآماد والمسافات، ويحصي ما تقف عنده ولا تقف من المحطات، يحفظ أسماءها إن استطاع، فإن أعياه ذلك أو فاته اخترع لها الأسماء اختراعا، ولعله يحفظ الاسم على غيره وجهه، ثم يعيده عليك في شكل بديع مضحك. وهو لا يكتفي بحفظ القطارات وآمادها ومحطاتها، ولكنه يقلدها، فهو قطار منذ يفيق من نومه إلى أن ينغمس في النوم أول الليل؛ يقلد القطار في حركته وصوته؛ يقف ويندفع، ثم يقف ويعلن المحطات التي يقف عندها، والتي يقصد إليها متى سافر، وسواء أردنا أم لم نرد فنحن مسافرون سفرا متصلا؛ لأنه قطار ونحن في القطار، فهو يسير ويقف بنا. وإنه ليدهش أشد الدهش حين ننسى أننا مسافرون، وأنه قد انتهى بنا إلى «جنيف» أو إلى محطة «المشمش الجديد» أو إلى محطة «للروز» وإلى ما يلهمه خياله من البلاد والمحطات.

كانت لذيذة مثيرة للعواطف مرضية للنفس هذه الرحلة بين هذين الطفلين، يعيش أحدهما في الخيال، وتتفتح نفس أخته للحياة، فإذا هي ترى الأشياء على وجهها أو تريد أن تراها كذلك، وإذا هي تنفق جهدا لا حد له لتلائم بين الحياة كما تراها الآن وبين ما حفظت نفسها الناشئة من خواطر الطفولة وصورها وأحاديثها.

يستطيع السفر أن يكون شاقا متعبا، وتستطيع الحياة أن تكون فيه مرة ممضة، وتستطيع الهموم أن تملأ النفس وتنغص عليها ما يعترضها من اللذات، ويستطيع العمل أن يكون مجهدا مضنيا، فلن يثبت هذا كله أمام هاتين الابتسامتين الحلوتين: ابتسامة الطفل الذي لا يزال يحلم، وابتسامة الصبية التي أخذت تفيق.

16

وفي الألزاس إذا زرتها مسافات لا بد أن تقطع، ومعاهد لا مندوحة عن أن تزار، وإلا فلم تزر الألزاس، ولم تستمتع بما فيها من جمال مادي ومعنوي، لا بد من أن تأخذ هذه السيارات الضخام فتذهب إلى الهوفالد

Howald

وتتغدى فيه، ثم تعود إلى السيارة وتذهب إلى سانت أوديل

Sainte Adille

وتزور الدير، ثم تعود إلى ستراسبورج من طريق آخر، وأنت في ذهابك وإيابك تمر بقرى، وترى مناظر، وتزور كنائس، ولكن الشيء الوحيد الذي أثر في نفسي من هذه الأشياء كلها إنما هو هذا الدير الذي وصلنا إليه نحو الساعة الثالثة بعد الظهر.

دير قائم على قمة شاهقة في الجو، لا تكاد تتصل بالسهل إلا من هذه الطريق التي تقطعها بك السيارة، فأما من جميع نواحيها الأخرى فهي قائمة شاهقة مشرفة على السهل، منفصلة عنه انفصالا تاما بحيث تعجب كيف اختير هذا المكان لإقامة هذا الدير، ثم لا تلبث أن تشعر بهذه الوحدة التي يستشعرها المقيمات في هذا الدير، فتملأ نفوسهن رهبة وجلالا، ثم تمكنهن من الخلو إلى ضمائرهن وقمعها ومحاسبتها، وما هي إلا أن يصلن من هذه الوحدة أمام الضمير إلى شيء من الإيمان فيه تصوف وزهد، وعكوف على النفوس، وطموح إلى الكمال الديني الأعلى.

والشعب الألزاسي من أشد الشعوب الفرنسية تدينا وإيمانا، وأحرصها على العادات والسنن الموروثة، وكان انفصاله من فرنسا سببا في بقاء هذه العادات والسنن قوية شديدة الأثر في نفسه، حتى إذا عادت الألزاس إلى فرنسا لم تخضع ولم تفكر فرنسا في إخضاعها للتشريع الديني الفرنسي، ولا للفصل بين الكنيسة والدولة، وما ينشأ عنه من الآثار في حياة الشعب والقسيسين والرهبان وفي التعليم أيضا.

وكان أشد الشعوب الفرنسية تدينا وإيمانا قبل الحرب، وأبعدهم في المحافظة، وأحرصهم عليها، أهل بريطانيا، فلما كانت الحرب وردت الألزاس أصبح لرجال الكنيسة معقلان منيعان: بريطانيا والألزاس.

وأذكر أني شهدت في بريطانيا منذ سنين حفلا دينيا اجتمع له الشعب رجالا ونساء وشبانا وأطفالا، وأقبلوا إلى كنيستهم بعد أن طافوا المدينة يتغنون بأغان دينية ووطنية محلية، فكان لهذا المشهد في نفسي أثر قوي تركه هذا الغناء، تمتزج فيه الأصوات الحلوة، أصوات النساء والأطفال، بهذه الأصوات الغلاظ الشداد؛ أصوات الرجال والشبان، وهذه المعاني الساذجة البسيطة التي تقدس الله والوطن الخاص في غير تكلف ولا إسراف.

ثم شهدت في الألزاس حين وصلت إلى هذا الدير حفلا كهذا الحفل البريطاني؛ فقد اجتمع فيه الحجيج من أهل هذا الإقليم رجالا ونساء، شبانا وأطفالا، وأقبلوا إلى ديرهم يتغنون باللاتينية مرة وبالألمانية مرة أخرى وبالفرنسية قليلا جدا، يقدسون ربهم ووليتهم ووطنهم الصغير، حتى إذ طافوا بالدير وانتهوا إلى الكنيسة وقفوا خاشعين، وقام القسيس باسمهم يتوسل إلى القديسة في لغة ألمانية قوية عذبة، فتوسل وأطال التوسل، وما كنت تشك وأنت تراه وتسمعه، وترى خشوع الشعب من حوله في أن نفوس هذا الشعب كله متصلة به، تنطق بلسانه وتخفق مع قلبه حين يخفق رغبة ورهبة، حتى إذا فرغ من صلاته الألمانية استأنفها بالفرنسية، لا لأن القديسة في حاجة إلى أن تترجم لها الصلاة، ولكن لأن الشعب نفسه في حاجة إلى أن يفهم الصلاة التي يقوم بها عنه القسيس ليصليها معه، وليكون شعوره ملائما لشعور القسيس. وكثرة الألزاسيين يفهمون الألمانية أو قل كل الألزاسيين، ولكن بينهم الآن فرنسيين هاجروا إلى الألزاس، وبينهم أولئك الألزاسيون الذين آثروا فرنسا على ألمانيا، فتركوا وطنهم بعد الهزيمة ثم عادوا إليه أو عاد إليه أبناؤهم بعد الانتصار. وللسياسة الجديدة حكمها؛ ففرنسا مضطرة إلى أن تقبل الألمانية لغة الصلاة، ولكنها مضطرة أيضا إلى أن تفرض الفرنسية لغة الصلاة. وللدين الآن في الألزاس لغتان حديثتان إلى اللغة اللاتينية المقدسة، وللتعليم كذلك لغتان، وسيظل الصراع قويا بين الفرنسية والألمانية حتى يستطيع الزمن والسياسة أن ينصرا إحداهما على الأخرى.

الفرق عظيم جدا بين هذين الحفلين اللذين شهدتهما في بريطانيا والألزاس، يمثلان نفس شعبين مؤمنين حقا، وبين هذه الحفلات التي تستطيع أن تشهدها في لورد

Lourdes

إذا أقبل الصيف من كل عام؛ فحفلات لورد لا تمثل إيمانا ولا إخلاصا في حب الله، وإنما هي الشعوذة من ناحية، والنفاق من ناحية أخرى، وضعف المرضى وتهالكم على طلب الشفاء من ناحية ثالثة. الدين في لورد تجارة رابحة، ولكنه في بريطانيا والألزاس مرآة صادقة لقلوب مؤمنة خاشعة، تخفق بذكر الله والقديسين والتوسل إليهم.

17

ولم يكن التأثر الذي ملك علي نفسي حين تركت الألزاس وقاربت الحدود الفرنسية الألمانية القديمة، وشهدنا الخنادق التي كان يكمن فيها الفرنسيون والألمان يضمر بعضهم لبعض فيها الموت وضروب الإهلاك، ويتحصن بعضهم من بعض فيها بكل صنوف الوقاية وألوانها، بأقل من ذلك التأثر الذي وجدته أمام دير سانت أوديل.

في الدير شعب خاشع أمام الله راغب إليه، يتوسل إليه بالقديسين والأولياء، يلتمس منه الأمن والسعة والعافية والرخاء والتثبيت. وحول هذه الخنادق العميقة المتقاربة، وما يمتد بينها من الأسلاك الشائكة فضاء واسع، فيه صمت عميق مهيب لا يقطعه إلا حفيف الأغصان والأوراق حين يهزها النسيم الهادئ، وإلا تصويت الطير من حين إلى حين ... وأنت تتمثل المأساة المنكرة التي كانت في هذا المكان طوال سنين الحرب، والتي سفكت فيها دماء وأزهقت فيها نفوس، ولقي فيها الإنسان من الإنسان ضروبا من العذاب لا سبيل إلى أن توصف ولا إلى أن يتمثلها الناس وهم آمنون.

نعم، وأنت تسمع في هذا المكان أنين الجرحى وحشرجة صدور الموتى، وتسمع إلى هذا الجند يتكلفون السلوة والعزاء، يشجع بعضهم بعضا، ويواسي بعضهم بعضا، ويضحكون من تعسهم وشقائهم، أنت تسمع هذا كله فيخفق قلبك وتتقطع نفسك أسى، ولكنك لا تستطيع أن تمد الطرف من هذه الناحية أو تلك حتى ترى هنا قبور الفرنسيين وهناك قبور الألمانيين ... ومن عسى أن يكون في هذه القبور؟ وأي أمل طوته هذه القبور؟ وكم عسى أن تكون عدد القلوب التي صدعتها هذه القبور؟ وكم عسى أن تكون النفوس التي اتصلت بهذه الناحية الصغيرة من أنحاء هذا الميدان المنكر ميدان الحرب؟ نفوس الأمهات والآباء، نفوس البنات والأبناء، نفوس الأزواج والصديقات! وانظر فليس مصدر هذا الألم الذي يملك نفسك هذه القبور المبعثرة وما تشتمل عليه من أشلاء ليس إلى تحديدها ولا إلى تعينها من سبيل. ليس مصدر هذا الألم ما ترى من قبور وتسمع فيها وحولها من أنين وحشرجة واستغاثة، ليس هذا كله مصدر هذا الألم فحسب، وإنما الطبيعة نفسها تبعث في نفسك ألما إلى ألم، وتغشي هذا كله بغشاء منكر مخيف.

انظر إلى هذه الأشجار الملتوية والجذوع المحترقة، انظر إلى ما حولك كله وتمثله قبل الحرب، فقد كان نضرا، وكان بديعا، وكانت فيه للناس لذة وبهجة، وكانت فيه للنفوس راحة وأنس، فلما عدا الناس على الناس وقتل بعضهم بعضا لقيت الطبيعة نفسها شر هذا العدوان، فحالت نضرتها وذهبت بهجتها، واستحالت هذه الجنة إلى جهنم. وقد عاد السلم بين الناس الآن، واتصلت بينهم الألفة والمودة، ونسي بعضهم آثام بعض، ولكن هذه القبور ما زالت قائمة، وهذه الخنادق ما زالت عميقة، وهذه الأسلاك الشائكة ما زالت ممتدة ... وهذه الأشجار ما زالت كما تراها؛ منها الملتوي، ومنها الملقى، ومنها القائم لم يبق منه إلى جزعه. وما أحسب أن هذه كله يعين على أن يستقر السلم بين الألمانيين والفرنسيين.

نعم، كانت ساعة رهيبة مؤلمة هذه التي وقفناها عند هذا المشهد، فلم تستطع عيون أن تحبس دمعها، ولم تستطع قلوب أن تستقر في أماكنها، ولم تستطع ألسنة أن تمسك عن لعن الحرب وعشاقها ...

ثم نمضي فإذا الحياة على قرب من هذا المشهد قد أخذت تستأنف نشاطها وقوتها؛ فهذه أشجار الغابات تستبق في الجو كأنها تريد أن تبلغ السماء، وهذه الأطيار تترجح وتترنح على الأغصان، قد أسكرها النسيم العذب الذي يحمل إليها ما في هذه الطبيعة الواسعة المطلقة من أرج وضوء وخصب ونعيم، وهذه الأعشاب تكسو الأرض بألوان مختلفة من الزينة، وتنجم بينها أزهار ضئيلة بديعة الأشكال والألوان، وهذه الأجراس تسمعها من بعد قد ملأت الفضاء وأخذته على سمعك، وهي أجراس القطعان ترتع مرحة فيما يكسو هذه الأرض من عشب، وهذا النسيم الخفيف الفاتر يداعب وجهك ويحمل إليك الدعة والهدوء، ويحبب إليك الحياة والحركة، ومع ذلك فكم شهدت هذه الطبيعة من هول، وماذا عسى أن تشهد غدا أو بعد غد من الهول!

18

ثم نصل إلى حيث كنا نريد أن نصل من هذه المدينة الهادئة الواسعة، مدينة جيرارمير

Gerardmer

المستقرة في جبال الفوج

Vosges

على بحيرة صغيرة بديعة هادئة، فإذا جو كأحسن ما عرفت من الأجواء، وإذا هدوء لم أشهده قط، وإذا مقام ملائم للراحة حقا، وملائم للعمل حقا، لولا هذه الجبال القريبة التي تدعوك وتكرهك على أن تدع الراحة وتدع العمل، وتمضي فيها صاعدا هابطا، واقفا من حين إلى حين تنظر وتسمع، وتستنشق هذا النسيم الخفيف النقي.

ولقد طفت في هذه الأنحاء غير قليل، ولكني أشهد ما خرجت إلا كارها، وبعد خصومات عنيفة كانت بين زوجي وبيني. أريد أن أخلو إلى كتابي، وتريد أن أنشط وأتحرك وآخذ من التروض بحظ، وأشهد ما خرجت كارها إلا عدت راضيا مبتهجا شديد الحزن؛ لأن ما لدي من العمل لا يسمح لي باستئناف مثل هذه الرياضات التي كنت أجد فيها لذة وراحة وجمالا لا تشبهها لذة ولا راحة ولا جمال.

ولست أنسى يوما خرجنا فيه بعد الظهر إلى مجتمع من الماء، فأقمنا عليه حينا ثم مضينا نتبع الغدير في غابة كثيفة لا تستوي فيها الطريق ولا تعتدل، ولا تخترقها أشعة الشمس إلا على مشقة وجهد، قد فرشت أرضها ببساط كثيف من العشب فأخذنا نتبع شاطئ الغدير في هدوء ودعة، وكنت منصرفا عمن كان معي وعما كان من حولي إلى هذا الغدير أسمع خريره وأبتهج به، وما هي إلا دقائق حتى أنسيت كل شيء غيره، وحتى اقتنعت بأني لا أسمع خرير الماء، وإنما أسمع نجوى المحبين، لا أقصد إلى خيال ولا إلى شعر، وإنما أذكر ما أحسست وما وجدت كما أحسسته وكما وجدته.

نعم، كنت مقتنعا بأني أسمع في هذا الماء المنحدر حديث المحبين، وكان هذا الحديث مختلفا باختلاف انحدار الماء قوة وضعفا: هنا ينحدر الماء في قوة وينزلق على جماعة من الصخور قائمة، فتسمع لانحداره أصواتا مختلفة مرتفعة في اعتدال، وما هي إلا أن تتمثل الحبيبين في ثورة ولوعة واضطراب وعتب وخصام، ثم تمضي فإذا مجرى الغدير قد لان واعتدل، وإذا الماء يمشى عليه هينا لينا، وإذا خريره هادئ رفيق، وإذا أنت تتمثل هؤلاء المحبين وقد هدأت ثورتهم، وبردت لوعتهم، وانصرفوا عن الخصومة والعتاب إلى هذا النحو من الرضا، المضطرب بين السخط والعفو، والذي تدنو فيه النفس من النفس دون أن تجرؤ النفس على أن تتصل بالنفس، والذي تسمع فيه ألفاظ تمازج حلاوتها المرارة، وتتخلل لينها الشدة.

ثم نمضي وإذا مجرى الغدير قد استقام أو كاد، وخلا من الصخور والأحجار إلا هذا الحصى الصغار الدقاق، وإذا ماء الغدير قد رق وقل وصفا، وإذا هو يمشي مشية خفيفة بطيئة شديدة البطء، وإذا أنت لا تسمع من المحبين خصومة ولا عتابا، بل لا تسمع منهم لفظا ولا كلاما، وإنما هي قبل هادئة حلوة، قد امتزجت فيها النفوس والقلوب، ودنا المحبون من الفناء، ثم استقام طريق الغدير استقامة تامة، وجرى ماؤه على أرض رخوة سهلة، فلست تسمع شيئا مهما تحاول، فقد هدأ كل شيء، واستقر كل شيء في نصابه، وأخذت نفسي تفيق وتتخلص قليلا قليلا من هذا الحلم السخيف، وإذا أنا أسمع ابني من حولي يختصمان: أي أطوار الغدير خير؟ أحين يضطرب ويهدر؟ أم حين يهدأ ويستقر؟

وأذكر لزوجي ما وجدت من لذة وأنس بهذا الغدير فتنتصر في غضب وسخرية قائلة: وكم تستطيع أن تجد من لذة وأنس لو أرحت نفسك وأرحتنا من «الضمائر» و«فلسفة ليبنتز»! ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل.

19

أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

وما كنت أحذر الموت على ثروت، وما كنت أفكر في أن بينه وبين الموت سببا، وإنما كنت كغيري من الناس أقدر أن هذه الحياة القوية التي تنبعث منها حياة قوية إلى أمة بأسرها سيمتد أمامها الدهر، وستصل بها الأيام حتى تنتهي من غايتها إلى ما كانت تريد.

وكذلك نحن تعظنا الأيام فلا نتعظ، وتعلمنا الحوادث فلا نتعلم، وينبئنا كل شيء بأن حياتنا غرور، وآمالنا عبث، وأمانينا لعب، فنأبى إلا أن نؤمن لأنفسنا بطول المدة، وبعد الأمد، وقوة الأمل، وصدق الرجاء.

نؤمن لأنفسنا ولأصدقائنا بهذا كله، فإذا فاجأتنا الكارثة ودهمنا الخطب وجمنا، وأخذنا الذهول، وانقطع منا كل سبب، فلم ندر ماذا نصنع، ولا كيف نقول.

وكذلك كنت حين وقع علي هذا النبأ في طرف من أطراف فرنسا، وقد تهيأت للعمل شديد النشاط، مجتمع القوى، فما هي إلا أن أسمع ثروت ولفظ الموت حتى تنقطع الصلة بيني وبين من حولي وما حولي، وحتى يأخذني شيء كالإغماء العقلي؛ لا أفكر، ولا أعي، ولا أشعر، وإنما هما لفظان يترددان في نفسي ترددا متصلا: لفظ ثروت، ولفظ الموت.

ولقد تركته في مصر كأحسن ما عرفته قوة ونشاطا، وامتلاء بالحياة وابتسامتها، وأملا فيها، وازدراء لأحداثها وكوارثها.

ولقد كنت أقدر أن أراه في مصر بعد الصيف كما تركته قبل الصيف، فما عرفته قط إلا كذلك ممتلئا بالحياة، مبتسما لها، شديد الأمل في غد، قوي الازدراء لآلام أمس.

وهذه الصحف تنقل إلي الآن أنه مات في باريس.

وإذن فلن ألقاه، ولن أراه، ولن أسمع له، ولن أتحدث إليه، ولن أقصد إلى بيته إذا انحدرت الشمس في المساء أو ارتفعت الشمس في الضحى، ولن أجلس إليه، ولن أقضي معه هذه الساعات الحلوة التي كانت ترفه علي وتحبب إلي الحياة من حين إلى حين.

أنا غارق في هذه الحسرة، والناس من حولي يقرءون هذا النبأ ويرددون قراءته؛ يكذبونه مرة، ويصدقونه مرة أخرى، ويلتمسون العلل والأسباب لتكذيبه وتصديقه، ويرون لو استطاعوا أن أشترك معهم في هذا التكذيب والتصديق، وفي هذا النقد والتحليل، ولكن ما أنا وهذا اللغو؟ لقد وصل إلى نفسي اسم ثروت ولفظ الموت. أوليس هذا يكفي لأن أعود إلى رشدي وأخلص من غرور هذه الحياة، وأتبين مرة أخرى أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها، ولا ثقة بها، ولا معتمد عليها؟!

لقد تبينت ذلك ولما أتجاوز الصبا، ولقد تبينت ذلك مرة ومرة ومرة، وكنت كلما تبينته شديد الاستسلام له، شديد الزهد في الحياة والنفور منها، أمضي في ذلك أسابيع ثم أشهرا، ثم تعمل الحياة عملها، ويستأنف الغرور بالدهر وما فيه بسط سلطانه على نفسي، فأفكر في الحياة العاملة، ثم أبتسم لها، ثم أندفع إليها، وما أزال حتى تفاجأني كارثة أخرى، فأتبين الغرور وأزهد في العيش.

وعلى هذا النحو أراد الله أن تكون حياتنا جميعا صراعا بين العبرة والفتنة، وأراد الله أن نكون نحن موضوع هذا الصراع.

هذا اسم ثروت يتردد في نفسي، ويتردد معه لفظ الموت، وتعجز نفسي عن أن تلائم بين هذين اللفظين، وعن أن تحقق هذه الجملة التي تنبئها بأن ثروت قد مات.

ومهما أنكر ومهما أعجز عن الملاءمة والتحقيق، ومهما أتردد بين الشك واليقين، ومهما أضطرب بين التصديق والتكذيب، فهذان اللفظان يترددان في نفسي ترددا متصلا، يقطعها تقطيعا ويفرقها تفريقا، وهذه الساعات يمضي بعضها إثر بعض، وهذه صحف المساء قد جاءت بعد صحف الصباح تصدق الخبر وتثبته، وترثي ثروت وتؤبنه، فليس من شك إذن في أن القضاء قد لاءم بين ثروت وبين الموت، وحقق ما لا تستطيع نفسي أن تصدقه أو تحققه.

وتضيق بي نفسي، وتضيق بي غرفة الفندق الذي أنا فيه، وأخرج هائما لا أدري إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشي على ساحل البحر لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجه، ولا أكاد أحس هذه الريح التي تعصف من حولي؛ لأني مغرق فيما أنا فيه من التفكير في ثروت وفي الموت، ومن تعويد نفسي أن تواجه الحقيقة وتثبت لها، وتعرف أن ثروت قد مات.

وليس من اليسير مواجهة هذه الحقائق إذا كان لهذا الرجل في نفسك مكانة الشقيق الوفي، الذي اتصلت أسبابك بأسبابه، وبلوته في الخير والشر، وأنست إليه حتى أصبح الأنس إليه جزءا من حياتك.

نعم، ليس هذا يسيرا، وإنما تقف أمامه موقف من يشهد الجراح يبتر عضوا من أعضائه دون أن يستطيع له وقفا، أو يجد سبيلا إلى اتقاء الألم والفرار منه.

لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم حين يفجعها الموت في الأصدقاء! هي أزهار نضرة غضة تستقبل الحياة والضوء في جمال وبهجة.

ولكن هذه اليد القاسية يد القضاء تمتد إليها من حين إلى حين في غير رفق ولا لين، فتنتزع منها ورقة ثم ورقة ... وهي كلما انتزعت منها بعض أوراقها انكمشت وتضاءلت، وسرى فيها الذبول والفناء، حيث كان يسري فيها الرواء والماء، وما تزال يد القدر تتبعها فتنزع أوراقها، وما يزال الذبول يتمشى فيها حتى تجف وتيبس، وتصبح هشيما مستعدا لأن تذروه الريح متى عصفت به، وهي عاصفة به من غير شك حين تدنو هذه الساعة التي لا يفلت منها حي، ولا ينجو منها إنسان.

نعم، لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم! فهي على هذا كله قبور حية، وهل تظن أنا نفقد أصدقاءنا حقا؟ وهل تظن أنا نحيا بعدهم ونستطيع أن نعيش بدونهم حقا؟ كلا، إنما نفقد الاتصال بأشخاصهم التي تتحرك وتفكر كما نفكر، وتحيا كما نحيا، نفقد العمل معهم، ولكنا لا نفقد جوارهم، والاتصال بنفوسهم.

إن الذي يدفن بعد الموت ويحتويه الثرى ليس شيئا إلى جانب هذا الشخص القوي الحي الذي تدفنه في قلبك، وتحتفظ به في حياتك الداخلية الخاصة، تناجيه، وتفكر فيه، وتقدم إليه من ألوان المودة والتحيات من آن إلى آن ما يلائم مكانته في نفسك. نعم، ليس هذا الجسم الذي يواريه التراب، والذي يستحيل إلى تراب، شيئا إلى هذه النفس التي تواريها نفسك، والتي تستحيل إلى قطعة من نفسك، والتي تحيا معك لا تفارقك أو تفارقك الحياة.

لله قلوب الأصدقاء ونفوسهم، فهي قبور حية، ولكنها لا تحتوي الموتى، وإنما تحتوي نفوسا حية، لها حسها وشعورها، ولها عقلها وتفكيرها .

لقد فقدت فلانا وفلانا من الأصدقاء، فأقسم ما فقدت منهم إلا أشخاصهم المادية، ولكن نفوسهم وصورهم المعنوية ملازمة، أراها في كل يوم يقظان ونائما، وأناجيها في كل يوم. وإذا كان للموت أثر في هذه النفوس والصور فإنما هو تصفيتها وتخليصها من أعراض الحياة الدنيا وأدرانها، وتحويلها إلى صور مطهرة نقية، ليس فيها إلا الخير والبر والمودة والوفاء.

الآن أستطيع في مشقة أن ألائم بين اسم «ثروت» ولفظ الموت، وأن أحقق في نفسي هذه الجملة: «ألا إن ثروت قد مات!» نعم لن ألقاه، ولن أراه، ولن أسمع له، ولن أتحدث إليه؛ لأنه في نفسي، فهو معي أبدا، وأنا أسمع له أبدا، وأتحدث إليه أبدا، ولا أجد إلى الانصراف عن حديثه وحبه ومودته سبيلا.

وأنا أستطيع أن أصعد إلى هذه السفينة التي أعرف أنها تقل رفاته في شيء من الجزع وفي شيء الغبطة أيضا؛ فقد أتيح لي أن أشيع شخصه تشييعا فيه بعض الطول، وأن أقطع معه من آماد الحياة مسافة غير قصيرة، أتيح لي أن أعبر البحر معه، فأنا جزع لأني لا أستطيع أن أسمع صوته العذب، ولا أن أعي كلامه العذب، ولا أن أسيغ نفسه الحلوة، ولا أن أتذوق أخلاقه الرضية، وأنا مع ذلك مغتبط؛ لأني أرافق شخصه على كل حال، ولأني أحس أن هذه السفينة تصل بيني وبين ما بقي منه. غريب هذا الشعور بالجزع تخالطه الغبطة، وباليأس تمازجه الطمأنينة! غريب هذا الشعور الذي لم يفارقني طوال أيام السفينة ولياليها! وكثيرة هذه الخواطر التي كانت تزدحم على نفسي في النهار والليل فتقطع الصلة بيني وبين الحياة ومن فيها أكثر الوقت.

نعم! لقد مات ثروت ... والناس يقولون إن موته كارثة آلمت مصر كثيرا فأفقدتها كثيرا، وأنا أعلم ذلك وأقدره.

والناس يتحدثون فيما عمل ثروت لمصر، وأنا أعرف ذلك وأقدره.

والناس يتحدثون أيضا في مصير مصر بعد ثروت، وأنا أفكر في ذلك أحيانا وأجزع له، ولكني أثر مسرف في الأثرة، وأنا أزعم أن الأصدقاء جميعا أثرون مسرفون في الأثرة، فأنا لا أفكر كثيرا في ثروت السياسي، ولا في ثروت الزعيم، وإنما أفكر دائما في ثروت الصديق، فخسارة الأصدقاء لا سبيل إلى تعويضها، وفقد الأصدقاء لا عزاء عنه، بينما خسارة السياسيين والزعماء شيء مهما يكن شديد الوقع فإلى العزاء عنه سبيل، تعيش الأمم قبل الزعماء، وتعيش الأمم بعد الزعماء، وقلما تقدر الأمم زعماءها، وقلما تعرف لهم حقهم عليها. وهل قدرت مصر ثروت حيا؟ وهل عرفت مصر لثروت حقه حيا؟ ولكن الصديق لا يستطيع أن يعيش حقا إذا فقد الصديق. هو لا يفقد منفعة ولا غرضا من أغراض الحياة، وإنما يفقد جزءا من نفسه وقطعة من قلبه.

أنا أرثي لمصر من رزئها في ثروت، ولكني أشد رثاء لنفسي ولأصدقاء ثروت من رزئنا فيه. وهل مات ثروت حقا؟ هل فقدته مصر؟ كلا؛ فلن تراه يذهب ويجيء، ولن تراه يدافع الإنجليز عن حقها، ولن تراه يذود عن حريتها الداخلية، ولكن ثروت كغيره من عظماء الرجال حقا لم يمت ولا يمكن أن يموت، لا لأن آثاره باقية خالدة، بل لأنه كان صاحب رأي وفكرة، ولأنه صاحب نفس وروح، ولأنه استطاع أن يقنع برأيه وفكرته قوما هم خلفاؤه، واستطاع أن يبث فيهم نفسه وروحه، فسيعملون كما كان يعمل، وسيجدون كما كان يجد، وسيضحون كما كان يضحي، وسيشقون كما كان يشقى، وسيجزون على حسن البلاء بالعقوق كما كان يجزى على حسن البلاء بالعقوق، وسيتمون الاستقلال الذي كسبه ثروت، وسيثبتون الدستور الذي وضعه ثروت.

فثروت لم يمت، وثروت لا يمكن أن يموت إذا نظرت إليه من حيث هو سياسي، ومن حيث هو زعيم، ولكن أسرة ثروت وأصدقاء ثروت هم الذين فقدوه، وهم أحق الناس بالرثاء، وهم الذين لن يجدوا إلى العزاء عنه سبيلا؛ في نفوسهم صورته المطهرة ماثلة قوية، تلازمهم ولا تفارقهم، ولكنها صورته وليست شخصه، في قلوبهم ذكراه قوية حلوة شديدة الأثر متمكنة في مكانها، ولكنها الذكرى ليس غير.

سيسمعون صوته، ولكن في نفوسهم، سيرون شخصه، ولكن في نفوسهم، سيتحدثون إليه، سيحاورونه، ولكن في نفوسهم.

في هذا بعض العزاء، ولكن هذا ليس كل شيء، لله ابن ثروت، يتردد في السفينة بين أمه البائسة قد تفطر قلبها وتصدعت نفسها، وبين مواطنيه المكتئبين لا يعرفون كيف يلقونه، ولا يعرفون كيف يهونون عليه الخطب؛ لأنهم لا يعرفون كيف يهونون الخطب على أنفسهم.

وهو بين تلك وهؤلاء فرق النفس، مفطور القلب، معقود اللسان، لا يأنس إلى شيء، ولا يأنس إليه شيء.

ولله زوج ثروت، سجينة في غرفتها على السفينة، ومعها رفيقتها البرة، لا تستطيع لها تسلية ولا تعزية، منحدرة الدمع حتى لا تجد في عينيها دمعا، مؤرقة الليل لا تأوي إلى مضجع، منغصة النهار، لا تطمئن إلى شيء ولا إلى أحد.

ولله أصدقاء ثروت في السفينة، قد عجزوا عن كل شيء حتى عن تعزية أنفسهم، وهم يذهبون ويجيئون بين جماعات المسافرين الذين لا يعرفون أن جلال الموت يرفرف على هذه السفينة، فهم فيما هم فيه من لهو ولعب، واغتباط بالحياة وابتسام لها، وإعجاب بالطبيعة، واستماع للموسيقى، وفي ضروب السمر وألوان المجون. وأصدقاء ثروت يرون هذا ويتمثلون الحياة كما هي، لاهية عمن يقبل عليها أو ينصرف عنها، ماضية في طريقها، لا تحفل بهذا ولا بذاك، فلا تزيدهم هذه العبرة إلا زهدا في الحياة وازدراء لها، ولكنهم على هذا ضجرون محنقون، يودون لو استطاعوا أن يسكتوا أنغام هذه الموسيقى، وأن يفرضوا على الناس الهدوء والرفق، في حركاتهم وأحاديثهم، حتى لا يحسوا إلا جلال الموت على السفينة، وجلال البحر من حولها.

والسفينة تمضي وهذه الخواطر تزدحم في نفسي، ونحن ندنو من مصر، ونحن نتحدث إلى أنفسنا عما أعدت مصر لاستقبال ثروت، وقد تركها حيا قويا نشيطا فعاد إليها جثة هامدة ...

لله أسرة ثروت حين رست السفينة، وحين صعدت هي إلى هذه السفينة مضناة مخلوعة الأفئدة، مفرقة بين رفات من مات وبين هذه الزوج الثكلى.

نعم، ولله أهل السفينة جميعا حين عرفوا من الأمر ما لم يكونوا يعرفون، وحين ازدحموا على ظهر السفينة ينظرون في دهش وحزن، وإن منهم لمن يأسف على ابتسامة، وإن منهم لمن يلوم نفسه؛ لأنه استمتع بالحياة والموت مرفرف على السفينة، وفي السفينة أشقياء بالحياة، وإنهم جميعا لينظرون وقد أخذتهم الهيبة، وتسلطت على نفوسهم رهبة الموت ومقام الميت.

ولله هذه الطفلة لم تعد العاشرة من عمرها، وقد نظرت فرأت نعش ثروت محمولا يهبط من السفينة، فأجهشت بالبكاء دون أن تعرف لم تبكي ومن تبكي؟

ولله أمها، ومسافرة أخرى إذ تنصرفان إليها تهدئان من روعها، وتلهيانها عن أن تتبع هذا المنظر المؤلم.

ثم لله مصر كلها؛ إذ تستقبل عظيمها لا لتحتفل به، ولا لتلجأ إليه، ولا لتتخذه رداء تتقي به الشر والكيد، ولكن لتشيعه إلى حيث أراد الله أن يستقر إلى آخر الدهر.

20

وها نحن أولاء يا بني قد أبنا إلى مصر، واستقر بنا المقام في منزلنا الصغير الهادئ من هليوبوليس، فلم تكد تبلغ الدار حتى هششت لها، واندفعت إليها فرحا مرحا، يملؤك الجذل، وتشرق في وجهك البهجة والسرور، وتأبى أن تصعد معنا إلى حيث تزيل عنك وعثاء هذا السفر الطويل حتى تدور في الحديقة دورة أو دورتين، لترى هل نما الشجر وأورق، وهل ازدهى الزهر وتألق منذ فارقت هذه الدار، حتى إذا بلغت من ذلك ما تريد، فوجدت شيئا، وفقدت أشياء، وأحسست رضا، وأحسست سخطا، صعدت فلم تلتفت إلينا، ولم تسأل عما نحن فيه، وإنما أسرعت إلى حجرتك لتريح هذا الدب الذي رافقك في رحلتك، فعبر معك البحر، وطوف معك في آفاق فرنسا، وزار معك بلاد الإنجليز، وعاد معك إلى مصر.

وأنت لا تشك في أنه قد وجد من اللذة في هذه الرحلة مثل ما وجدت، وفي أنه قد سعد بما رأى من عيون وينابيع، وبما زار من متاحف وعمارات، وشقي بهذا العناء الذي يلقاه المسافر إذا طال به السفر وألحت عليه آلامه. وأنت أب رحيم شفيق تعرف منه الجهد، وترى عليه علامات الإعياء، وتريد أن ترفق به وتريحه قبل أن ترفق بنفسك وتريحها.

أتذكر يوم ذهبنا إلى فونتنبلو لنزور القصر، وكنت قد اصطحبت دبك هذا، فلما بلغنا المحطة تقدمت إليك أمك في أن تدعه مع ما كان معنا من متاع، حتى لا يشق عليك، ولا يصرفك عن جمال القصر وما فيه، فأذعنت كارها، ولكنك أظهرت تجلدا واحتمالا لهذا الفراق، حتى إذا مضينا وبعدنا عن المحطة أجهشت بالبكاء وأغرقت فيه، فلما سألناك عما يبكيك أجبت أن الدب لن يرى القصر، فعدنا أدراجنا وزار الدب معك هذا الأثر العظيم.

ها أنت ذا قد أضجعته في سريرك، وأحطته بما يسع قلبك الصغير القوي من حب وبر وحنان، ثم أقبلت علينا تشاركنا فيما نحن فيه من عمل وحديث.

أنت راض عن هذه الرحلة، مغتبط بما لقيت فيها من خير، وقد نسيت ما احتملت فيها من مشقة، وستنسى مع الزمن ما سرك وأرضاك كما نسيت الآن ما ساءك وأحزنك، ذلك أن نفسك ستنمو، وأن صحفا جديدة غنية شديدة الغنى، مختلفة كثيرة الاختلاف، ستضاف إلى هذه الصحف القليلة الساذجة التي سطرتها الحياة في ضميرك النقي الطاهر.

سينسيك الصبا أحداث الطفولة، وسينسيك الشباب أحداث الصبا، وسيلهيك جد الحياة عن عبث الشباب، وستحاول يومئذ - كما نحاول نحن الآن - أن تلتمس من نعيم حياتك الأولى ما يهون عليك احتمال حياة الرجال، فتسعفك الذاكرة حينا وتعجز عن إسعافك في أكثر الأحيان، هنالك خذ هذه الصحف التي أهديها إليك، واقرأها وانظر فيها، فستذكرك أنك عبرت البحر، وزرت باريس وفونتنبلو، وطوفت في الألزاس، وأقمت في جيرارمير، والتمست العيون والينابيع في جبال الفوج، وزرت نيس وأقمت فيها. وكم كنت أحب أن تذكرك هذه الصحف أنك عبرت المانش، وزرت لوندرة، ونعمت بالحياة في أكسفورد، وأن ابتهاجك بما رأيت في بلاد الإنجليز لم يكن أقل من ابتهاجك بما رأيت في فرنسا، ولكنك ستعلم حين تقرأ هذه الفصول أن موت ثروت هو الذي حال بيني وبين تسجيل زيارتك هذه لبلاد الإنجليز. وكم كنت أحب أن تكون هذه الفصول كلها فرحا ومرحا، وابتهاجا بالحياة وابتساما لها؛ لتكون صورة صادقة لنفسك الحلوة في السابعة من عمرك، تنظر فيها إذا بلغت سن الجد والجهد والحزن، فتجد فيها من الراحة ما يجد المسافر في الصحراء حين ينتهي به السفر إلى واحة خضراء فيها شجر وماء، وفيها ظل ظليل ونسيم حلو، ولكني يا بني لم أستطع أن أصور نفسك، وإنما صورت نفسي أنا، وما هي بالشيء الذي يحسن أن يهدى، وما هي بالشيء الذي يجد الناظر فيه راحة أو نعيما!

وأنا على ذلك كله واثق بأنك ستقرأ هذه الفصول يوم تستطيع قراءتها، وستحبها لأني واثق بأنك تحبني. أتذكر يوم كنا نعبث في جيرارمير وكنت أحدثك بحديث أنكرته لغرابته وإغراقه في الخيال، فأبيت أن تصدقه أو تطمئن إليه، فألححت عليك في ذلك فلم يزدك الإلحاح إلا إغراقا في الإنكار، وخاصمتك حينئذ، وأعلنت إليك أني لن أداعبك منذ اليوم ولن أتحدث إليك إلا جادا. وأنت صلب الرأي كأبيك، لا تذعن للوعيد، ولا يخفيك النذير، فأعرضت عنك وأعرضت عني، وقضينا في ذلك يوما وبعض يوم، لم أقل لك شيئا ولم تقل لي شيئا، ولكن أختك أقبلت محزونة فأنبأت أمها بأنك ضيق بإعراضي عنك، لا تنشط للعب لأني لا أداعبك ولا أدعوك باسمك الذي كنا نحب أن ندعوك به، فتوسطت حينئذ أمك فأصلحت بيننا، وأعادت إلى ثغرك الابتسام، وأعادتك إلى ما كنت تحب من لعب ومرح.

سل أمك يا بني فستنبئك بأني لم أكن أقل منك شقاء بهذا الإعراض، وبأني كنت أشكو إليها بينما كنت تشكو أنت إلى أختك. أتذكر هذه القصة؟ إنها تصور ما بينك وبيني من حب، قد علمك أن تقبل مني كلما كنت أتحدث به إليك بما فيه من خيال وما فيه من إحالة، لقد تعودت ألا تراني إلا باسما لك، ولكنك ستنمو وترى أن ابتسام الآباء لأبنائهم الصغار كثيرا ما يخفي اكتئابا وحزنا، وسترى في هذه الفصول نفسي يا بني، فتعلم أن ما كنت أمنحك من ابتسام ورضا، وما كنت آتي معك من ضروب اللعب والدعابة، لم يكن خالصا كابتسامك ورضاك، ولا صفوا كلعبك ودعابتك، وإنما كان يخفي من ورائه حزنا واكتئابا ما كان لك أن تراهما صبيا، وما ينبغي لك أن تجهلهما رجلا. وما أسعد الأب حين يثق بأن ابنه يحبه محزونا مظلم النفس، كما يحبه مسرورا مشرق الفؤاد!

هلم يا بني لنطوي الآن حديث السفر والصيف، ولنستقبل الخريف وأحاديثه، فإن للخريف حديثا آخر، سيتحدث إليك عن المدرسة والأساتذة والرفاق، وسيتحدث إلى أبيك عن الجامعة والطلاب والزملاء والأدب العربي القديم.

سبتمبر سنة 1928

نامعلوم صفحہ