قلت: فما بال اسم حنين المجيد في تاريخ الإسلام قد عفي على أثره فلم يبق علما على مكان من الأماكن؟! أتراه قد اختلف فيه من بعد، وأن من الناس من يرى أن الواقعة وقعت في مكان غير هذا المكان الذي تحدثني عنه؟
قال صاحبي: «حق ما تقول، وإن من الناس لمن يحسبها وقعت بعد الزيمة في مكان بينها وبين السيل الكبير، وهي المحلة التي تليها، أما أنا فأميل إلى اعتقاد أنها وقعت حيث ذكرت، ويحملني على ذلك أن المسلمين قاموا من مكة للقاء عدوهم فقضوا في طريقهم بياض النهار ولم يزيدوا عليه، أو بياض النهار وبعض الليل، وما بين مكة والزيمة يستغرق بمسير الإبل هذا الزمن كله، ثم إن المسلمين ذهبوا بالفيء الذي غنموا إلى الجعرانة وجعلوه بواديها حين أجمعوا حصار الطائف، والجعرانة تقع إلى شمال الشرائع وتبعد عن السيل، فلو أن حنينا وقعت حيث يذكرون لترك المسلمون الفيء بوادي السيل الفسيح أو لعادوا به إلى وادي الشرائع، أقرب مكان منهم إلى مكة.» «ولعلك تسألني: وما لهم لم يفعلوا إن كانت حنين قد وقعت حيث تذكر والشرائع أدنى إليهم من الجعرانة؟ ولهذا السؤال - لا ريب - موضعه، ولقد ألقيته على نفسي والتمست الجواب عنه، فكان ذلك أن الناس يميلون إلى النزول حيث ألفوا، وقد ألف العرب في عهد الرسول ومن قبله مواضع الأسواق التي كانت تقام حول مكة قبيل الحج في عكاظ ومجنة وذي المجاز، وليس من اليسير أن تحدد اليوم مكان هذه الأسواق، ولكن الراجح في شأن مجنة أنها كانت تقام بين الشرائع والجعرانة إلى شمالها، ومن ثم سلك المسلمون طريق الشرائع إلى السوق التي تقع بينها وبين الجعرانة ثم تخطوها إلى وادي الجعرانة الفسيح الذي يسع الفيء ومن يقوم على حراسته.»
وأبديت الميل إلى تصديق صاحبي، وإني لأخاله اليوم صادقا، فقد ذكر الأزرقي في «تاريخ مكة» أن العرب كانوا يذهبون إلى عكاظ يوم هلال ذي القعدة، وعكاظ تقع عند السيل الكبير أو بعده على خلاف في الأقوال سنتناوله من بعد، فإذا قضوا بعكاظ عشرين يوما انصرفوا إلى مجنة فأقاموا أسواقهم بها عشرة أيام، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا به أسواقهم ثمانية أيام، ثم خرجوا يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، وإنما سمي الثامن من ذي الحجة يوم التروية؛ لأن الناس كان يأخذون فيه الماء من ذي المجاز ليترووا منه بعرفة وبالمزدلفة حيث لا يوجد الماء، فالظن الغالب إذن أن يكون الطريق بين الشرائع والجعرانة طريق مجنة.
السيل الكبير هو المحلة الثالثة في طريق الطائف، والطريق بينه وبين الزيمة طويل يقارب ما بين مكة والزيمة، ويبدؤه من الزيمة درب اليمانية، وهذا الدرب منثورة فيه أحجار كثيرة تنحدر إليه مع السيل من أعالي الجبال القائمة على جانبيه ، لكنها أحجار لا تعوق السيارة في انطلاقها وإن اضطرتها إلى عدم الإسراع، وعجيب أن تظل هذه الجبال جرداء على رغم ما ينحط عليها من سيول وأمطار، فلا تنبت الأشجار في قننها وعلى سفوحها، أيرجع السر في ذلك إلى أنه لم يعن أحد باستنبات هذه القنن والسفوح فظلت جرداء أن لم تبذر فيها بذور ولم يغرس بها شجر؟ ما أظن، ففي صحاري تهامة وأوديتها ألوان من الشجر تنبت بذاتها، منها السلم والعشر والطلح، ولعل هذه الألوان لا ترقى إلى سفوح الجبال وقننها؛ ولذلك ظلت جبال اليمانية جرداء رغم المياه التي تنحدر عنها.
ينتهي درب اليمانية حيث تنتهي هذه الأحجار المنثورة خلاله، ويقوم على جانبيه عند نهايته جبلان متقابلان يطلق عليهما اسم السومان، ويحسب صاحبي أن هذا الاسم محرف أصله التوءمان.
بعد هذين الجبلين ينفرج الوادي ويصلح الطريق وينفسح ويصبح في سعته وصلاحه كأنه بعض طرق برلين الكبرى، فهو طريق حجري أصفر اللون في صفرة الرمل، تنطلق فيه السيارة بما يشاء لها سائقها من سرعة، وهذا الطريق يدعى البهيتة بلغة البدو، والبهيتاء بالعربية فيما ذكر صاحبي، وقد أضاف أنه سمي كذلك؛ لأنه يبهت الإبل، أي: يجهدها؛ ذلك أنه متدرج في الارتفاع من الزيمة إلى السيل الكبير تدرجا لا يحسه راكب السيارة في انطلاقها، لكنه يراه بعينه إذا نظر إلى الطريق أمامه وارتد ينظر فيما وراءه، وصدق، وقد فعلت، فذكرت طرق الجبال في لبنان وفي أوروبا، لا يقدر الإنسان ذهابها في الارتفاع أو الانخفاض أثناء انطلاق السيارة حتى يجيل نظره فيما أمامه وفيما خلفه منها، والبهيتاء تظل ذاهبة في ارتفاعها منذ تبدأ من اليمانية حتى تبلغ السيل الكبير.
علمت بأنا بلغنا السيل الكبير حين رأيت جبالا تقوم في الطريق فتسده، ولقد رأيت بأسفل سفحها دورا من الحجر أدنى إلى الأكواخ منها إلى الدور، ورأيت المياه تجري أمام هذه الأكواخ، وقد عبرتها سيارتنا ووقفت في فناء فسيح تحيط الأكواخ به، وهبطنا منها، وأقبل علينا بعض ساكني هذا السيل، فطلب أصحابي إليهم أن يعدوا لنا شايا، وفي انتظار إعداد الشاي صلينا العصر والشمس توشك أن تغيب، وتناولنا الشاي جلوسا على الفراش الذي مد لنا، وصاحبي يقول: «من هذا الطريق الذي جئنا منه جاء جيش المسلمين الذين أرادوا حصار الطائف، ويذهب بعضهم إلى أن هذا المكان الذي نقيم الآن به هو الذي وقعت به غزوة حنين، وإن كانت الشواهد كلها تدحض هذا القول، وهذا المكان هو في المشهور وادي نخلة؛ ولذلك كان وما يزال ميقات أهل نجد والعراق، وبعد ما بين حنين ونخلة! ولذلك أميل كما قدمت إلى أن حنينا تقع بين الشرائع والزيمة.»
وأجلت بصري في هذه الدور التي حولي والتي تتكون منها هذه المحلة، فذكرت الدساكر «العزب» في الريف المصري، وزادني ذكرا إياها أنني قمت أدور في أنحاء المحلة، فألفيت بعض الخيل والدواب في أحد جوانبها، وألفيت الماء ها هنا وهناك فيما أمامها، ولم أعجب لوجود الماء واسم المكان علم عليه، بل عجبت لقلته، قال الشيخ صالح: هو قليل الآن لانتهاء فصل السيول، لكنه يكثر حين الأمطار حتى يجعل السير في هذا المكان متعذرا وكذلك تراه يتبع في قلته وكثرته ما تنحدر عنه الجبال من مياه المطر.
ولم يكن عجبي من هذا المكان لقلة الماء ولا لكثرته فيه، بل لهذا الجبل الذي يسد الطريق ولا سبيل لاجتيازه، فمن أين ترى تتخذ سيارتنا طريقها؟ وإذا كان قد قد لها في الصخر طريق، فمن أين سار جيش حنين لحصار الطائف؟ لقد كانوا اثني عشر ألفا ومعهم من الإبل ما يكفي لحملهم وحمل مئونتهم، أفتسلقوا الجبال خفافا وتسلقت إبلهم معهم؟ أم داروا حوله وستدور سيارتنا الآن كذلك حوله؟!
ثم ألقيت نظرة إلى الطريق الذي جئنا منه، إلى هذه البهيتاء المنحدرة نحو اليمامة فالزيمة، الجامعة بين فسحة الوادي وصمت الصحراء، وقد ألقت عليها الشمس المنحدرة إلى مغيبها أشعة ندية أوحت إلى صمتها معاني ينشرح لها الصدر وينفتح لها القلب وتسبغ عليها الروح ما يفيض عنها من صور ومثل، وما أبهى ما يفيض عن الروح في هذه الساعة وما أشد صفاءه! إنها الطمأنينة إلى الطبيعة الفسيحة المترامية إلى ما وراء الأفق حيث لا يتصور خيالنا للكون نهاية، طمأنينة تضمنا إلى أحضان الطبيعة وتجعلنا نضم الطبيعة إلى أحضاننا، إنها سكينة الفؤاد إلى هذا الصمت المهيب العذب، لا تفسده ضجة الحياة ولا تغشيه مشاغلها بسحب الهموم حرصا على المال والسلطان، إنه التأمل في هذا السكون العظيم وفي بارئه الأكبر - تعالى جل شأنه - تأملا يثير أمام الذهن صورة الماضي مجتمعة في النفس إلى أول الخلق، وصورة جهاد الإنسان أثناء هذا الماضي ليبلغ الكمال، ومن هذا الجهاد مسيرة جيش حنين في ذلك الطريق مترنما بأغنيات الفوز والظفر، رافعا عقيرته إلى السماء مناديا: «لبيك اللهم وسعديك»، ومن هذا الجهاد مسيرة الرسول في عزلة يريد الطائف كما أريدها أنا اليوم، لكنه يريدها لغاية أسمى وغرض أرفع من غرض الدرس وغاية المعرفة، يريدها ليدعو أهلها إلى الحق ولينقذهم من ظلمات الضلال.
نامعلوم صفحہ