ودعاني أصحابي لنتابع سيرنا، وتخطت السيارة الماء عائدة إلى الطريق، ثم سارت إلى صدر الجبل كأنما تريد أن تقتحمه، وهي تتخطى أثناء سيرها مياها تجري ها هنا وهناك منحدرة على هون من أعالي القنن، وما لبثت حين استدارت بين صخور الجبل حتى ابتلعها الجبل في جوفه، فهي تشق خلاله طريقا وعرا ما تكاد تتقدم أثناءه، ترتفع آنا على حجر وتهبط آنا إلى طريق لا يستوي بضعة أمتار حتى تكظه الأحجار؛ فيضطر السائق إلى أن يعنف بالسيارة كيما تتخطاها، والجبل تقوم قممه عن يميننا وقممه الأخرى عن يسارنا قد حجب عنا كل شيء إلا طريقا في السماء تدلنا زرقته على أن الشمس لما تغرب.
وأبديت لصاحبي عجبي لوعورة الطريق بما لم أر قط مثله، وخشيت أن يكون ذلك شأننا فيما بقي أمامنا إلى الطائف، قالا: «لا عليك! فإنما هذه ذات عرق، وهذا الريع الذي تصعد بنا السيارة خلاله لا يزيد على بضعة كيلومترات، هي وحدها كل ما في الطريق من مشقة، فإذا اجتزناها عدنا إلى مثل طريق اليمانية وطريق البهيتاء تداولا بينهما حتى الطائف، ولطالما حاولت الحكومة أن تصلح هذا الجزء من الطريق فغلبتها السيول تخريبا إياه وإلقاء للأحجار من قنن الجبال أثناءه.» وبينما نتحدث كانت السيارة تبذل مجهودا أشق مجهود وأعسره، مجهود الحبلى تريد أن تقذف بمن في جوفها سليما إلى الحياة: أتنجح وتنجو بجنينها، أم يروح مجهودها سدى فتذهب هي وجنينها ضحيته، أم يخرج من في جوفها وتكون هي الضحية؟! والسائق يعاونها في هذا المجهود ويفادي بها الصخر حينا ويدفع إلى محركها مزيدا من البنزين حينا آخر، وهي بين هذا وذاك تئن تارة كأنما تتأوه، وتقف أخرى مستسلمة للمقادير وقد بدا منها اليأس، وإنها لتندفع بين الصخور وفوقها وقد قاربت نهاية الريع إذ ارتطم بطنها بصخرة اشتدت من هول صدمتها صيحتها، وسألنا حسنا ما بالها؟ فهون الأمر، لكنه نزل من مكانه يفحصها ثم انبطح أرضا يحاول أن يعالجها، ونزلنا نحن منها وتخطينا ما بقي من الريع، فانكشف أمامنا سهل فسيح تبينا أثناءه أن الشمس قد انحدرت في هوة المغيب، ولم يبطئ السائق بل أدركنا بالسيارة وأنبأنا أن عطبا غير ذي بال أصابها، وأنها قديرة على أن تبلغ بنا الطائف، وقد اقتضاه عطبها ألا يسرع بها كما كان يود أن يسرع.
وسرنا نشق سهلا فسيحا تمشت بشائر الليل في جوفه فأكسبته رقة وجمالا وإن حجبت عن النظر الكثير مما وددت لو استمتعت به، ويطلق السائق للسيارة العنان إذا رأى الطريق صالحا فتسرع، ولكن لا كما كانت تسرع في البهيتاء، ويبعث أضواء فناره الساطعة ما بين آن وآن لتكشف له الطريق كلما غم عليه، وقليلا ما يغم الطريق على هؤلاء البدو الذين اعتادت أعينهم أن ترى خلال الظلام، وسألت عن أشجار تبدت أطيافا إذ نمر بها، فقيل لي: إنها الطلح النابت في الصحراء.
قال صاحبي: «أنساني ما عانت السيارة ساعة ارتطمت بالريع أن أذكر أن المكان الذي وقفنا عنده بعد خروجنا من ريع ذات عرق، والذي يتصل بهذا الطريق الذي نسير فيه الآن، هو مفرق الطريق بين الطائف والعشيرة ، فنحن قد سرنا إلى يمين ذات عرق نقصد الطائف، فأما الذين يقصدون العشيرة ونجدا فيسيرون إلى اليسار، وقد تواضع الناس على تسميته مفرق العشيرة.»
وبعد هنيهة أردف يقول: «ونحن الآن نقترب من السيل الصغير، وتقع ديار القثمة، بين مفرق الطريق والسيل الصغير، فهي التي تمر السيارة بها الآن، والقثمة قبيلة من هوازن لعلها اشتركت في غزوة حنين مع سائر هوازن وثقيف، وسنمر الآن عند السيل الصغير بمكان اشتهر باسم القهاوي، ولو أن النهار أسعدنا بضوئه لرأيت آثارها، وإنما يعنيك من ذلك ما يدور على أفواه الكثيرين من أن سوق عكاظ كانت تعقد عندها، وما يؤكده بعضهم من صحة هذا القول، لكنك قد سمعت أنها كانت تعقد عند السيل الكبير، وستسمع كذلك أنها كانت تعقد في وادي عشيرة مما يلي ركبة، وهو المشهور قديما بوادي العقيق، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن هذه السوق كانت تعقد على مقربة من الطائف بواد يقال له: وادي عقرب، ولقد حاول بعضهم تحقيق هذه الأقوال والقطع برأي فيها، فلعل ما تقوم به من البحوث يصل بك إلى ما لم يصل إليه غيرك، فلقد كان لعكاظ ذكر في سيرة الرسول - عليه السلام - قبل أن يبعثه الله نبيا.»
وهدأت السيارة من جريها، وقال السائق: «هذه القهاوي، وهنا المكان الذي يقولون: إنه عكاظ.» أما أنا فلم أر شيئا أستطيع أن أتبينه، فقد هبطت كسف الظلام وانطوى الوجود في دجنة الليل، وكنا في الثلث الأخير من ذي الحجة، فلم يكن للقمر في السماء أثر، ولم تكن النجوم لتكشف من غطاء الليل شيئا، وهذه الأودية الصامتة في رابعة النهار هي الساعة أشد صمتا ومهابة، فالنهار يجلو أمام النظر ما فيها من حزون وبطون، أما الآن فالعين لا ترى إلا ظلاما، فإذا تبينت خلال الظلام شيئا فأطياف لا تدري أهي أطياف الشجر أم مردة من الجن تسبح الليل في مهامه هذا القفر الموحش؟! وما لها لا تكون أطياف أولئك الأعراب الذين يقطعون على الناس الطريق وينزعون عنهم ما يملكون، إن رضوا كرما منهم أن يهبوهم حياتهم؟! هذه أخيلة تدور بخاطري الساعة وأنا أصف الطريق، أما والسيارة تسري بنا الليل أثناءه فلم يمر بي طيفها، بل كنت مطمئنا كل الطمأنينة، ولم يكن مرجع طمأنينتي إلى أننا كنا أربعة بالسيارة، وأننا كانت تتبعنا عربة «البكسفورد»، فلا خوف علينا من مردة الجن ولا من مردة الإنس، بل كان مرجعها إلى حال نفسية ألفتها في حياتي، كنت في الحجاز أشد إلفا لها، فأنا قلما يساورني الخوف من شيء، لكنني كنت في الحجاز أشعر كأنما تضاعفت قوة الحياة في نفسي؛ لأنني تضاعفت ثقتي بالله وتضاعف إسلامي له.
وتكلم صاحبي بعد زمن من عودة السيارة إلى انطلاقها كأنما يريد أن يقطع الصمت الذي سادنا خلال هذا الليل الذي يشتملنا: «لقد صرنا على مقربة من الطائف، وهذا الوادي الذي يسبقها تعمره قرى كثيرة، فعلى مقربة منا الآن أم الحمض، ويجيء بعدها وداي لقيم، ثم المليساء، ثم هضبة الزوار، ثم شبرة، ثم الطائف، وقد لا نحتاج في اجتياز هذه جميعا إلى غير ساعة أو أكثر قليلا.»
شعرت من لهجة هذا الحديث أن صاحبي يريد أن يهون علي مشقة الطريق، فقلت: «إن الجو الآن جميل يبعث إلى نفسي الغبطة والمرح، ولا حاجة بنا أن نعجل غايتنا، وما دامت السيارة لا تسرع بنا فليت «البكس» يدركنا لندخل الطائف معا.»
قال الشيخ صالح: «أحسبني أسمع صوت نفير لعله نفيره، وأحسبه على خمسة أميال منا، وهو - لا ريب - قد تخطى الريع دون أن يلحقه أذى، فعجلاته عالية تيسر للسائق تفادي الصخور التي تعترض سبيله، وسائقه جريء لا يخاف، وأكبر ظني أنه مدركنا قبل نصف ساعة من وقتنا هذا؛ بذلك ندخل معا الطائف حيث ينتظرنا الناس، فلا نضطر نحن ولا غيرنا إلى انتظاره هناك.»
ولم يخطئ ظن الشيخ صالح، فبعد دقائق سمعنا جميعا صوت نفير قرر سائقنا أنه نفير «البكس»، ثم قرر وقد التفت وراءه أنه يرى ضوء فناره، فنحن إذن بمأمن إن أصاب سيارتنا عطب يحول دون بلوغها الطائف، إذ نستطيع أن نركب البكس ونتم الطريق.
نامعلوم صفحہ