وتذكرت في تلك اللحظة سؤالا سمعه الناس، ولا يزالون يسمعونه منذ ظهرت بينهم الصناعة الحديثة والعلم الحديث، وقد سألته مرات وسئلته مرات، وأحببت في هذا المقام أن أكون أنا السائل قبل أن أكون المسئول، فقلت لصاحبي: وأيهما أحق بالعناية والتقديم؟ وأيهما أجدر بالأمم أن تفخر به وترعاه؟
قال: وهل في ذلك جدال؟ أحقها بالعناية والتقديم هو الذي تحتاج إليه ولا تستغني عنه!
قلت: ولكن هذا المقياس يا صاحبي أخطأ مقياس للتفضيل بين شيئين يتعلقان بالإنسان؛ لأن الذي لا نستغني عنه دائما هو الضرورات الحيوانية التي تقارب بيننا وبين من دوننا من الأحياء، والذي نحسبه من الكماليات هو الكمال الذي تتفاضل به منازل الناس، فدع الحاجة ومقاييسها يا صاحبي، فليست هي بمقياس صحيح، وكيف يكون مقياسا للاختيار ما يسلبك الاختيار، وينزلك على حكم الضرورة والإكراه!
قال: فماذا ترى أنت؟
قلت: إذا لم يكن في الأمر اضطرار، فنحن إذن قادرون على أن نختار، وعلينا إذن أن نختار بين أمة جاهلة ناقصة الأداة، وأمة مريضة أو يوشك أن تموت.
فالأمة بغير علم أمة جاهلة، ولكنها قد تكون على جهلها وافية الخلق والشعور، والأمة بغير صناعة أمة تعوزها أداة العمل، ولكنها على هذا قد تكون صحيحة الحس صحيحة التفكير، والأمة بغير تعبير أمة مهزولة أو مشرفة على الموت، وكذلك تكون الأمم التي خلت من الفنون؛ لأن الفنون هي تعبير الأمم عن الحياة.
ولا أكتمك يا صاح أن الاختيار بين هذه المقاصد الثلاثة خليق أن يعنت المختار؛ لأن الفن والعلم والصناعة ليست بديلا من بديل، وليست قرينا يقاس إلى قرين، وما أعطي الإنسان التعبير؛ ليبادل بينه وبين العلوم أو بينه وبين الصناعات، فإنما التعبير جزء من حياة الإنسان، والعلم حالة من حالاته، والصناعة أداة من أدواته ... ولا محل للمفاضلة بين جزء لا ينفصل من النفس الإنسانية، وحالة من حالاتها التي قد تنفصل عنها، ولا محل للمفاضلة بين هاتين وبين عصا يحملها المرء في يده، أو فأس يضرب بها الأرض أو مطية يركبها، أو شيء من هذه الأشياء المصنوعة على الإجمال. وما ظنك برجل يقول لك: تعال يا فلان! إنك حي تعبر عن سرورك وألمك وتقول: إني أحب وإني أبغض، وإني أرجو وإني أخاف، وإني أبتهج لتلك الروضة، وأنقبض لتلك المتاهة، وأعجب بهذا البطل الجسور، وأهيم بذلك الوجه الصبوح، تعال يا فلان! إنك تستطيع أن تقول هذا فلا تقله، وخذ في مكانه العلم أو خذ في مكانه عشر سيارات وبضع طيارات، ومصنعا للحديد ومنسجا للحرير ... ما قولك في هذا الرجل يا صاح! هل تراه قد عرض عليك الخيار في أمر يصلح للخيار؟ وهل تراك قادرا على أن تجيبه، ولو طاب لك أن تأخذ البدل المعروض، وتعطيه التعبير المزهود فيه؟
ذلك هو شأن الذين يفاضلون بين الفنون والعلوم والصناعات، يخيرون الناس في غير موضع للخيار، ويسألونهم عن الأسعار في غير موضع للبيع والشراء. أما إن كان المقصد من هذه التسعيرة تقويم القيم والعلم بأقدارها، فليعلموا إذن ما شاءوا أن يعلموه؛ ليعلموا أن للأصبع قيمة، وأن للمصباح قيمة، وأن للسيف قيمة وأن للرغيف قيمة، ولكن المبادلة بينها لا تقبل في سوق الاختيار، وليس في سوق البيوع الجبرية مجال للإيجاب والقبول!
ووقعت يد صاحبي على مجلدات الصور التي تسمى بصور المدارس الحديثة، وهي أشكال وألوان من المستقبليين إلى فوق الواقعيين إلى الاحساسيين الغلاة، إلى أشباه ذلك من البقع والخطوط والأصباغ التي تحمل عنوان التصوير، وليست هي من التصوير في شيء؛ لأنها في استطاعة كل من يتناول الريشة ويغمسها في الألوان، وليست بالفن الذي تعرف له أصول، وتدرس له مبادئ ويمتاز به الفنان بين سائر الناس.
نظر صاحبي إلى تلك الصور، فاشتدت عليه النقلة من فنون الأقدمين ونظرائهم المحدثين إلى هذا الهراء الذي يشبه هذيان المجانين، فقال: إن كان الفن تصويرا فليس هذا بتصوير، وإن كان هذا الفن الذي يسمونه بالحديث تصويرا فلنبحث عن اسم آخر لذلك الفن القديم، لن يجمع الفنين اسم واحد بأية حال.
نامعلوم صفحہ