ولم يكن أبو النصر شاعرا فحسب، ولكنه كان نديما أكثر منه شاعرا، وللمنادمة صفات كثيرة، وهي صنعة شاقة، أما هذه الصفات فمنها: الإحاطة بالأدب القديم, ورواية شعره ونثره ونوادره وأمثاله، ثم الذكاء الحاد, وسرعة البديهة، ومعرفة دخائل النفوس، ودراسة أحوالها المتباينة، وأهم من هذا طبيعة مرحة، قادرة على استلال سخائم النفوس، وبعث الضحك مع الاحتفاظ بالوقار والمنزلة, حتى لا يمتهن النديم ويهان, وليس الضحاك أمرا هينا, ولا سيما في مجلس أمير عظيم تشغله أعباء الحكم، وتحز به أزمات نفسية كثيرة، والنفس الإنسانية يعتورها الحزن والسرور, والانقباض والانشراح، والغضب والرضا، والمفروض في النديم أن يستطيع بعث الضحك في كل حالة، ولا سيما في حالات الانقباض والحزن، وأن يذهب بمرحه وأدبه ضر القلوب، وتجهم الوجوه، مع أنه إنسان كسائر الناس, له نفس تحزن وتنقبض، وعقل يفتر ويخبو، وقريحة تخمد وتتبلد أحيانا.
ولهذا كانت مهمة النديم شاقة، وعليه أن يخلق الجو المناسب لنكاته، وأن يروض الناس على الضحك حين يطلق النكتة, ولو لم تكن مستساغة، وهذا فن يتقنه الموهوبون من الندماء.
ثم إن النديم صدى للحوادث التي تحدث في مجلس الأمير أو العظيم، يسجلها في أدبه, فيقول الشعر في كل المناسبات الممكنة, حين يرحل الأمير، وحين يعود، وحين يرتقي أحد أفراد الحاشية, أو ينعم عليه بلقب، وحين يولد مولود جديد، وفي الأعياد والأفراح والمآتم، بل في غير ذلك من المناسبات المفاجئة والعارضة.
وإذا تصفحنا ديوان أبي النصرلم نجده شيئا غير هذا، وقلما يلتفت النديم لنفسه, فيظهر لواعج حبها، أو اهتزاز مشاعرها وعواطفها، أو يلتفت إلى غير الأمير وحاشيته.
صفحہ 125