الفصل الأول: البعث
مدخل
...
الفصل الأول: البعث
1- قبيل البعث:
ظلت مصر وبلاد العروبة ثلاثة قرون تحت حكم الأتراك، وهي في ظلام دامس، وجهل فاضح، تعاني مرارة الظلم، وقسوة البغي.
قلب ما شئت من أسفار التاريخ, فلن ترى إلا صفحات سوداء قاتمة، تنبعث منها روائح الاستبداد والبطش، وستسمع صراخ المظلومين يضم الآذان، وتلمح دماء الفلاحين في كل صقع تسيل تحت سياط الجباة، وتتمثل لك بلاد العروبة تخنقها يد غاشمة، أصابعها: الفقر, والمرض، والجهل، والذلة، والانحلال.
لم يكن لولاة الأتراك هم إلا استدرار الأموال بأية وسيلة، غير معيرين صرخات الشعوب العربية التفاتا، وغير مهتمين بما يقاسونه من ضنك وبؤس وفاقة وجهل، واشتد الخلف بين أمراء المماليك، وسلبوا الوالي سلطته، وشنوها حربا شعواء كل على أخيه، ينازعه السلطة والجاه، والضحية في هذا النزاع كله هم أبناء البلاد، فلا غرو إذا أقفرت من أهلها، وقد جاء القرن التاسع عشر، وسكان مصر أقل من ثلاثة ملايين، أكثرهم من العرب المسلمين، ويليهم الأقباط, ثم الأتراك، وكان الحاكم يفيد من الأستانة, ويقيم بالقلعة, ويدعو للخليفة، ويضرب باسمه النقود.
ولكن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، وهم أخلاط من الأتراك والشراكسة، وجميع ثروة البلاد وإداراتها في أيديهم، ولم يكن لهم عصبية؛ لأنهم لم يتوارثوا الملك إلا نادرا، وإنما الغلبة للقوي، فضربة موفقة من حسام أحدهم, تكسبه الصدارة بين أبناء جلدته، ولم يكن حظه السعيد يغير من أخلاقه، فهو في منصب الوالي تتقمصه روح العبد الوضيع، وليس له من هم إلا الاستيلاء على النساء والخيل والأموال.
صفحہ 13
وكان الفلاح المسكين يغزى وتنهب أمواله، ولم يكن التاجر المصري أو الأوروبي الغريب بأحسن منه حالا1، ولا ريب في أن الحالة الاجتماعية والأدبية تتأثر إلى حد كبير بالحالة السياسية: فرعية همل، ورعاة مستبدون، وهيهات أن يكون للأدب نصيب في مثل هذه البيئة الجاهلة.
وقد زار "فولني" الرحالة الفرنسي مصر، وبلاد الشرق العربي, وتركيا, في أخريات القرن الثامن عشر, فراعه ما بها من جهل مطبق, وفساد شائع، وهو في هذا يقول: "الجهل عام في هذه البلاد، وفي كل بلد تابع لتركيا، وقد عم كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية, وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية تراها في حالة بدائية، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وجد فهو أجنبي".
ويقول في موضع آخر: "ولى عصر الخلفاء, وليس من الأتراك أو العرب اليوم علماء في الرياضيات أو الفلك، أو الموسيقى, أو الطب، ويندر فيهم من يحسن الحجامة، ويستخدمون النار في الكي، وإذا عثروا بمتطبب أجنبي عدوه من آلهة الطب، وصار علم الفلك والنجوم شعوذة وتنجيما، وإذا قيل لعلمائهم ورهبانهم: إن الأرض تدور, عدوا ذلك كفرا؛ لأنه -في زعمهم- يخالف كتب الديانات".
ولم تكن تركيا أحسن حالا من البلاد الخاضعة لسلطانها، وحسبك أنه حينما أراد بعض النابهين من الأتراك في القرن الثامن عشر2 إدخال المطبعة لأول مرة في تركيا، وجد من ولاة الأمور، وجمهور الشعب عنتا وإرهاقا، واضطر إلى استصدار فتوى شرعية, بعد أن بذل إبراهيم بك صهر السلطان مجهودا كبيرا، وقد سمحت الفتوى بطبع الكتب غير الدينية، ثم أفتى علماء الشرع بعد ذلك -حين ظهرت فائدة المطبعة- بطبع كتب الدين اعتمادا على أن الأمور بمقاصدها".
صفحہ 14
وقد حرم الأتراك مصر أغلى كنوزها؛ فنقولوا أكثر الكتب التي كانت بخزائن المدارس إلى بلادهم، ثم نقلوا كثيرا من العلما، والأدباء، والأمراء, والمهندسين، والوراقين، وأرباب الحرف، وقد ذكر ابن إياس أسماء كثير من هؤلاء، وقال: إنهم يبلغون ألفا وثمانمائة، وصادفهم النحس, فغرقت بهم بعض السفن التي كانت تقلهم, فمات كثير منهم، مع أن ابن إياس1، أرخ لمصر حتى أوائل الاحتلال العثماني، ولم يشهد الاحتلال في أوج جبروته، وما جره على البلاد من نكبات.
وكان من نتائج هذا الاحتلال كذلك: أن قلت أموال الأوقاف التي كانت محبوسة على العلماء وطلبة العلم، فتفرق الطلاب، وانفضت سوق العلم, ولم يبق منه إلا ذماء يسير بالأزهر، ومن البديهي أن اللغة العربية لم تجد في هذا العصر المظلم من يشد أزرها، ويثيب الشعراء والكتاب المحتفين بها؛ لأن اللغة التركية طغت وصارت اللغة الرسمية في الدواوين، وفشت على ألسنة الناس، ولأن الحكام لا يفهمون العربية, ولا يقدرونها قدرها، ولا يميزون بين الجيد والغث من الكلام, حتى يلجأ إليهم الشعراء مادحين.
ولم يعد في استطاعة كثير من الكتاب أن يسلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالمفهوم المقبول، بل عز عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القوي، فلجئوا للزخرف والمحسنات يخفون بها عوار كلامهم، وقد أكثروا من هذه الحلى اللفظية حتى استغلق الكلام، وأتوا بالغث السمج الذي إن حسن فيه شيء, كالسرقة واغتصابا من آثار من سبقوهم من الكتاب.
وحسبنا أن نقدم بعض نماذج دليلا على ما وصلت إليه اللغة وآدابها نثرا ونظما من الركة والضعف.
صفحہ 15
1- قال عبد الوهاب الحلبي في رسالة إلى الشهاب الخفاجي:
"لقد طفحت أفئدة العلماء بشرا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرا وجهرا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بيمن قدوم من اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه".
2- قال عبد الرحمن الجبرتي, من النثر المرسل مبينا نشأة مدرسة الهندسة في عهد محمد علي:
"لما رغب الباشا في إنشاء محل لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، تعين المترجم رئيسا ومعلما لمن يكون متعلما بذلك المكتب، وذلك أنه تداخل بتحيلاته؛ لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك, ورتب له خروجا وشهريا، ونجب تحت يده المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها، وأعجب الباشا ذلك فذاكره, وحسن له بأن يفرد مكانا للتعليم, ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشاء ذلك المكتب، وأحضر له أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكليز وغيرهم".
3- ولم يكن الشعر -إذا صح أن نسميه شعرا- أرقى حالا من النثر, وإنما كان صناعة لفظية غثة.
وهاك مثلا مما قاله عبد الله الشبراوي1، يرثي أحمد الدلنجاوي, المتوفى سنة 1123ه:
سألت الشعر هل لك من صديق ... وقد سكن الدلنجاوي لحده
فصاح وخر مغشيا عليه ... وأصبح ساكنا في القبر عنده
فقلت لما أراد الشعر أقصر ... فقد أرخت مات الشعر بعده
441 601 81 # ومن ذلك قول الشهاب الخفاجي1:
صفحہ 16
فديتك يا من بالشجاعة يرتدي ... وليس لغير السمر في الحرب يغرس
فإن عشق الناس المها وعيونها ... من الدل في روض المحاسن تنعس
فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق ... وصارت جميعا أعينا لك تحرس
ومن هذه النماذج المتقدمة للأدب قبيل النهضة، ندرك كيف كان النهوض صعبا بطيئا، ويحتاج إلى عناء طويل، وصبر كثير، وزمن مديد ليبلغ أشده ويؤتي أكله.
2- البعث:
هبت مصر من سباتها العميق فزعة مذعورة حين دوت في آفاقها مدافع نابليون سنة 1798م, وأخذت تقلب الطرف دهشة في هذه الجيوش العجيبة، والوجوه الغريبة، فكان ذلك أول عهدها بالفرنجة منذ عصر صلاح الدين الأيوبي. ولكن شتان بين العهدين، ففي الأول كانت قوية عزيزة لا تزال فيها أثارة من علم وأدب، وكانت أوربا لا تزال تتحسس طريقها نحو النور؛ فاقتبست من مهد العروبة, وأفادت علما وحضارة، وأخذت ترقى صعدا في سلم المدنية بخطوات ثابتة سريعة، بينما أخذت مصر تهوي وتنحدر رويدا رويدا, ويتراكم عليها الجهل والغفلة حتى جاءها "نابليون" وهي في الدرك الأسفل.
صفحہ 17
اصطحب "نابليون" معه كل عدد الاستعمار والاستغلال والإيقاظ, وكانت دهشة المصريين جد عظيمة مما رأوا من مظاهر هذه المدينة؛ إذ أنشأ نابليون مسرحا للتمثيل, كانوا يمثلون فيه رواية فرنسية كل عشر ليال، ومدارس لأولاد الفرنسيين, وجريدتين، ومصانع، ومعملا للورق، وأسس # مراصد فلكية، وأماكن للأبحاث الرياضية، والنقش والتصوير في حارة الناصرية، وأسس مكتبة عامة، وقد جمعت بعض كتبها من المساجد والأضرحة، وفيها كثير من الكتب الفرنسية التي أحضرتها الحملة معها ليفد إليها كل من يريد المطالعة، وكان القائمون بأمرها يرحبون بمن يدخلها من المصريين، وكان بها عدد كبير من الكتب العربية، وأنشأ المجمع العلمي المصري على نظام المجمع العلمي الفرنسي, في أغسطس سنة 1798، وكان من أغراضه:
1- نشر المدنية, وبعث العلوم والمعارف بمصر.
2- دراسة المسائل والأبحاث التاريخية والطبيعية والصناعية، ونشر هذه الأبحاث في مجلة المجمع التي تنشأ لهذا الغرض.
3- إبداء رأيه في الأمور التي تستشيره فيها الحكومة.
وكان المجمع يتألف من أربعة أقسام: قسم الرياضيات، وقسم الطبيعيات، وقسم الاقتصاد السياسي، وقسم الآداب والفنون ، ويتألف كل قسم من اثني عشر عضوا.
وقد أفاد هذا المجمع مصر والتاريخ بآثاره وأعمال رجاله, وصارت أبحاث أعضائه هي النواة الأولى لكل بحث خاص بمصر، ولا بدع إذا ظل المجمع العلمي هو الأثر الباقي حتى اليوم من آثار حملة نابليون، وذلك لجليل فائدته, وهذا ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن حملة نابليون على مصر, كانت علمية أكثر منها حربية1:
وبذل الفرنسيون غاية جهدهم في تقريب المصريين إليهم، وترغيبهم في أسباب الحضارة، وفي الجبرتي وصف مستفيض لكل هذا، حتى موائد الفرنسيين، وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون، وما شاهده من سائر أعمالهم العلمية والكيمائية، وكتبهم المصورة وأدواتهم، وهو يمثل بدهشته هذه حال كل عربي في أيامه.
صفحہ 18
ولقد ظن كثير ممن شاهدوا التجارب العلمية التي أجراها الفرنسيون في معاملهم سحرا1، بيد أن كل هذا ذهب بذهابهم سنة 1801م.
كانت حملة نابليون هزة عنيفة لمصر، أيقظتها من سباتهات الطويل العميق, وبينت لها أنها تعيش في عالم آخر، وأن الدنيا تسير, وأهلها واقفون غارقون في أحلامهم, يجترون ماضيهم، ولا يدركون مساويهم، ويظنون أنهم الناس وأن غيرهم لا شيء.
وقد نظم نابليون شئون مصر الداخلية تنظيما حسنا، يشهد له بالنبوغ الإدراي، فوق نبوغه الحربي، على الرغم من قصر المدة التي أقامها بمصر، فأنشأ الدواوين في مصر والمدن الكبرى, وانتخب لها أكفأ المصريين, واختيار من بين المصريين المسيحيين رجال المالية والإدارة، بيد أن شراسة رجال الحملة، واستهتارهم بالشعب المصري، ودينه وتقاليده، وانتهاكهم حرمات الأهالي جهارا, ونهبهم القرى الآمنة، وإفزاع أهلها، وفرض الضرائب على الأوقاف الخيرية التي كان يصرف ريعها على المساجد وطلاب العلم، وفرضها كذلك على المنازل، جعل كل قلوب المصريين تنفر من نابليون وإصلاحاته، وعلمه، وتنظر إليه نظرة الغاصب المستبد، ولقد ثار المصريون في أكتوبر سنة 1798؛ فأخمد ثورتهم في قسوة عارمة، وعنف وغلظة، وانتهك حرمة المساجد الإسلامية2, وعبثا حاول بعد ذلك أن يتألف قلوبهم, أو يستميلهم إلى المدنية الغربية، وإن كلفوا بها بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر, واتخذوا ما وضعه لهم أساسا للإصلاح الداخلي2 .
صفحہ 19
وفي ذلك يقول المؤرخ الإنجليزي ألجود "Elgood":
"لقد ترك الاحتلال الفرنسي في مصر أثرا لا يمحى، فقد ظل المصريون يعجبون بنابليون بعد خروجه من ديارهم، وظلت طرق الإدراة الفرنسية مهيمنة على حكومة مصر، وظلت عادات التفكير الفرنسية تسيطر على الطبقة المستنيرة بمصر, وإن ما خلفته الحملة الفرنسية في مصر خلال ثلاثة أعوام لاغير، لمن أضخم ما يتسنى إنجازه في هذا الأمد الوجيز1".
ثم أتيحت لمصر الفرصة لكي تنهض وتتبوأ مركزها بين أمم العالم المتمدين, باستيلاء محمد علي على عرش مصر، وحاول أن ينشئ دولة قوية خالصة لنفسه ولذريته من بعده, فأفادت مصر من مجهوداته في هذا السبيل, وإن حكمها حكما استبداديا خالصا.
كان محمد علي طموحا، يريد أن يرى مصر ما بين طرفة عين وانتباهتها, لا تقل في حضارتها وقوتها عن دول أوروبا، فوضع أسس نهضة شاملة: في الجيش، والصناعة، والزراعة، والتعليم، والإدارة، حتى يكون البعث عاما، يدفع بعضه بعضا، ولا يعنينا في مقامنا هذا إلا ما يمس اللغة والأدب.
وقد وجد محمد علي أن خير وسيلة تنهض بالشعب المصري وترفعه إلى مستوى الأمم الناهضة, الاهتمام بالتعليم، وقد سلك في سبيل تعليم الشعب كل الطرق الناجحة: فمن بعثات وطباعة، وفتح مدارس، ونقل آثار الأمم الغربية في العلوم والآداب، وتأسيس الصحافة لتنير الحياة أمام الشعب.
البعثات:
جاء محمد علي إلى مصر جنديا في الحملة التي اشتركت في إخراج الفرنسيين منها سنة 1801م، ولم يمض عليه أربع سنوات حتى استولى على مصر سنة 1805م؛ بعد أن ثار المصريون بقيادة الزعيم العالم السيد عمر مكرم على واليهم التركي خورشيد لعسفه واستبداده؛ فقرروا عزله.
صفحہ 20
وكان محمد علي قد تقرب إليهم, وأظهر حرصا على استرضائهم, والاستجابة لكل ما يأمرون به، والخضوع لهم، فاغتروا بمظهره وخداعه، وبايعوه بالولاية، وعلى رأسهم زعيم مصر الشعبي السيد عمر مكرم، ولكنه ما لبث أن تنكر لهذا الزعيم الذي وضع بين يديه عرش مصر، خوفا من منافسته, وتخلصا من رقابته, وحسدا لمكانته فنفاه.
ورأي كذلك أنه لن يستقيم له الأمر حتى يقضي على المماليك لتمردهم وكثرة شغبهم، فأبادهم1؛ وأنه لابد له من جيش قوي يقر به الأمن, ويصون هيبة الحكم في الداخل، ويدفع به غارة المغيرين من الخارج، فانتدب طائفة من أساتذة الفنون العسكرية بأوروبا، وأرسلهم مع مماليكه إلى أطراف الصعيد؛ ليدربوهم هناك.
وفي سنة 1815 أسس مدرسة حربية إعدادية، واتخذ لها قصر ابن العيني مكانا، وكان كل تلامذتها في أول الأمر من غير المصريين, إلا أنهم لم ينجحوا, فالتفت إلى المصريين، ونقلها إلى أبي زعبل، وأكثر بها من الأساتذة الفرنسيين؛ وتعجلا للفائدة, كان قد سبق وأرسل في سنة 1813 طائفة من شبان المماليك لدارسة الفنون العسكرية بإيطاليا، وفي سنة 1818 أرسل بعثة أخرى إلى انجلترا؛ لدارسة علم الحيل "الميكانيكا" وغيرها.
ورأى محمد علي أن الجيش في حاجة إلى أطباء يأسون جراحات الجند، ويقاومون الأوبئة، ويعنون بالمرضى, وأن الطب لا أثر له ألبتة، فخاصة المصريين كانوا يعتمدون في هذا على المأثور من نسخ الأدوية في الكتب القديمة، وعلى ما تمخضت عنه التجارب، ومنها الكي والحجامة، وأما الدهماء فكانوا في عامة شأنهم يعوذون بمدعي الطب من الدجالين والمشعوذين والسحرة، أو يقنعون من طلب الاستشفاء بزيارة الأضرحة, فأنشأ في سنة 1826 مدرسة الطب في جهة أبي زعبل، وأقام بجوارها مستشفى كبيرا لمعالجة المرضى، ولتمرين الطلبة، واستقدم لها أساتذة من الغرب؛ وجعل رياستها إلى الدكتور "كلوت بك الفرنسي".
صفحہ 21
وكان الطلاب في هذه المدرسة من المصريين وغيرهم، واختير كثير من أولئك من بين نوابغ طلاب الأزهر، ثم نقلت هذه المدرسة إلى قصر ابن العيني في سنة 1838.
وقد كان لمدرسة الطب أثر لا ينكر في بعث اللغة العربية والنهوض بها، واتصالها بالعلم الحديث؛ لأن فصيح اللغة فوق أنه قد غم على الناس وعلى المصريين بخاصة من عهد بعيد، وأن آدابها ومظاهر بلاغتها قد دب إليها الضعف والانحلال إلى حد كبير، فإنها قد تخلفت عن متابعة العلم حقبا طويلة؛ فلما استوى العلم وأدرك، إذا هو في واد، وإذا حظ الناس من لغة العرب في واد آخر.
وحين فوجئت مصر بهذه العلوم التي حذقها الغرب منذ عدة قرون, تشايعها الألفاظ هناك، وتدارجها الصيغ، وتطبع لها المصطلحات التي تهيئها الهيئات العلمية المنظمة, تبين العسر أشد العسر في تعليم هذه العلوم الحديثة لطلاب يجهلون لغات أهلها، وخاصة من معلمين لا يعرفون العربية، ولو عرفوها ما تهيأ لهم أن يدرسوا بها لعجزها عن أداء الكثير والقليل مما تهيأ لهم أن تؤديه, ليس في متناول اليد، بل إنه يحتاج إلى كثرة مراجعة، وشدة تنقيب، ويحتاج إلى علماء عندهم شغف بالاطلاع, ورغبة في البحث، وجلد على العمل؛ لهذا دعت الضرورة أول الأمر أن يقام بين الأساتذة وتلاميذهم جماعة من المترجمين, يستمعون الدرس في اللغات الأجنبية، ثم يؤدونه إلى هؤلاء بالعربية، وكان هؤلاء المترجمون من المغاربة والسوريين والأرمن وغيرهم.
ولقد عانوا كثيرا في القيام بهذه المهمة الشاقة، ولكن كان علمهم هذا أول دعامة في صرح النهضة الحديثة، فلقد حفزهم ذلك إلى مراجعة معجمات اللغة، والكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار، وقانون ابن سينا، وكليات ابن رشد، وغيرها من الكتب العربية لاستخراج المصطلحات العلمية, أو لصياغة ما يؤدي مطالب العلم الحديث، إذا عجز القديم عن أدائه، وإذا كانت قد غلبتهم الألفاظ الأجنبية في كثير من الأحيان, ففضلهم في عقد الصلة بين الشرق والغرب لا يجحد.
صفحہ 22
رأى محمد علي أن تشمل نهضته جميع نواحي الحياة؛ فأكثر من إنشاء المدارس العالية والابتدائية، وقد بدأ بالمدارس العالية، وكان على حق فيما فعل؛ حتى يجد بجنبه جماعة من المتخصصين في المواد المختلفة, يشرفون على مراحل التعليم الأخرى, ويسيرون بالنهضة سريعا، فأسس مدرسة للصيدلية، وأخرى للهندسة في القلعة, ثم نقلت إلى بولاق، ومدرسة للولادة والتمريض, ورأى أن الحاجة ماسة إلى أساتذة متخصصين عالمين بعلوم الغرب وثقافته، فجلب الأساتذة من فرنسا في كل فن من الفنون، ولكنه أدرك أن النهضة الحقة لا تتم إلا على يد أبناء البلاد، فأكثر من البعثات، وفي سنة 1826 أرسل بعثة إلى فرنسا, عدتها أربعة وأربعون طالبا، ذكر أسماؤهم "المسيو جومار"1 -وقد عهد إليه محمد علي بالإشراف على بعثاته- في المجلة الأسيوية ، Journal -Asiatipue 2 وقد تخصصوا في شتى العلوم والفنون: من حقوق، وعلوم سياسية، وهندسة حربية، وطب، وزراعة، وتاريخ طبيعي، وميكانيكا، وكيمياء، وطباعة، وحفر، وغير ذلك مما استلزمته النهضة الحديثة، ومن أشهرهم وأعظمهم أثرا, إمام البعثة الشيخ: رفاعة الطهطاوي, وسنترجم له فيما بعد لجليل قدره وعظم أياديه على الترجمة والنهضة والأدبية.
ثم توالت البعثات، ومن أشهرها البعثة الطبية الكبرى في سنة 1832، وقد اختير طلبتها من نابهي مدرسة الطب المصرية، ومن نوابغ رجالها محمد علي البقلي, وفي سنة 1844 أرسلت بعثة ضمت خمسة من أمراء أسرة محمد علي، ومنهم الأمير إسماعيل3، ولذا سميت ببعثة الأنجال، وهي أكبر بعثات محمد علي, وآخر بعثاته الكبرى، وقد اختار تلامذتها سليمان باشا الفرنساوي من نوابغ تلاميذ المدرس المصرية، ومن أجل هذه البعثة فتح محمد علي مدرسة بباريس، ومن أشهر رجالها علي مبارك باشا، وحسن أفلاطون باشا، ومحمد عارف باشا، ومحمد شريف باشا.
صفحہ 23
وقد أرسل محمد علي إحدى عشرة بعثة, آخرها سنة 1847، وكان شديد العناية بأعضاء البعثات, يتقصى أنباءهم، ويشرف على دراستهم باهتمام، ويكتب لهم من حين لآخر رسائل يستحثهم فيها على العمل والاجتهاد، وينبههم إلى واجباتهم؛ وذلك لشدة حاجته في نهضته إلى من يقف بجانبه، وينفذ مشروعاته الضخمة، وقد ذكر رفاعة الطهطاوي نموذجا من الرسائل التي وجهها محمد علي إلى طلبة البعثات، ويوبخهم فيها على تقصيرهم، ويحثهم على الاجتهاد، وبتعجلهم في قطف ثمار تحصيلهم1.
كان لهذه البعثات كلها أثر بالغ في تقدم مصر ونهضتها، وإرسال نور العلم دافقا قويا في ربوعها، كما كان لها أعظم الفضل في إحياء اللغة، وجعلها مسايرة للعلم الحديث، بما ترجم أعضاؤها من كتب, وما أدخلوه من مصطلحات، وما ألفوه في شتى نواحي العلم.
الترجمة:
اقتضت النهضة أن تنقل كنوز الغرب إلى اللغة العربية, فأسست في سنة 1836 مدرسة الإدارة والألسن، وعهد بالإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي, ولما كان تاريخها مرتبطا به، ونهضة الترجمة في عصر محمد علي وخلفائه ثمرة جده وكده، رأينا أن نترجم له ترجمة موجزة, فحياته حياة مدرسة الإدارة والألسن: لأنها وجدت بفضله، وانتهت بخروجه منها.
صفحہ 24
رفاعة الطهطاوي
: 1801-1873
هو إمام النهضة العلمية في مصر الحديثة غير مدافع، وهبه الله لمصركي يزودها بنور العلم؛ فكان مشعلا ساطعا بدد الجهل وسدفته، وأنار الطريق لآلاف العقول والقلوب, ووضع اللبنات الأولى القوية في صرح ثقافتنا الحديثة.
أوتي القلب الذكي، والعقل الصافي، والنشاط الموفور، والبصيرة النفاذة، والعزيمة المبرمة؛ فما أضاع ساعة منذ وضع رجليه على سلم الباخرة التي أقلته إلى فرنسا إلا وأمامه الهدف الذي رسمه لنفسه ولوطنه، وظل هذا دبأه إلى أن انطفأ مشعل حياته.
هو مصري صميم، من أقصى الصعيد، يتصل نسبه من جهة أبيه بسيدنا الحسين -رضي الله عنه، وقد أشار إلى هذا النسب قوله:
حسيني السلالة قاسمي ... بطهطا معشري وبها مهادي1
ومن جهة أمه بالأنصار الخزرجية، ولد في طهطا، وكان أجداده من ذوي اليسار وممن تولوا مناصب القضاء بمصر، ثم أخنى عليهم الدهرن وحينما ولد كانت أسرته في عسر، فنشأ نشأة معتادة بين أبوين فقيرين، وقرأ القرآن، وتلقى العلوم الدينية، كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الأزهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار كثيرون، ولكن ذكاءه وحبه للعلم، وإقباله على التحصيل, لفت إليه نظر الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في ذياك الوقت، وكان الشيخ العطار من أفذاذ عصره في العلم والأدب والفنون الحديثة، فاقتدى به تلميذه الشيخ رفاعة، فقرأ كثير من كتب الأدب، ومهر في فنونه وهو بعد في الأزهر, ثم تولى التدريس سنتين؛ ظهر فيهما استعداده للتعليم والتثقيف؛ إذ أحبه تلاميذه حبا جما, وتتعلقوا به وبدروسه. ويقول صالح بك مجدي في هذا2.
صفحہ 25
"وكان -رحمه الله- حسن الإلقاء؛ بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتب شتى: في الحديث والمنطق والبيان والبديع والعروض وغير ذلك، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة, وما منهم إلا من استفاد منه، وبرع في جميع ما أخذوه عنه، لما علمت من أنه كان حسن الأسلوب سهل التعبير، مدققا، محققا، قادرا على الإفصاح بطرق مختلفة؛ بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب".
ثم عين واعظا وإماما لإحدى فرق الجيش في سنة 1828، فاعتاد حياة جديدة عنوانها: النظام والطاعة، ومحبة الوطن والدفاع عنه، ومواجهة الأخطار، وقد كان لذلك أثر كبير في حياته، فعاش محبا للنظام، في كل ما تولاه: في تلقي العلوم، وفي التأليف والتعريب، وفي حسن تنظيم المعاهد التي تولى إدراتها، شغوفا بوطنه مخلصا له طول حياته.
وكان من حسن حظه وحظ مصر أن طلب محمد علي إلى الشيخ العطار أن يختار له من علماء الأزهر إماما للبعثة الأولى، يرى فيه اللياقة لتلك الوظيفة1, فوقع الاختيار على الشيخ رفاعة.
ولم يكن مطلوبا من إمام البعثة أن يحصل شيئا من علوم الفرنسيين، ولكن حسبه أن يؤدي مهمته من وعظ الطلاب وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم، ونصحهم إذا ضلت بهم السبل، وإمامتهم حين الصلاة، ولكن الشيخ رفاعة كان ذا نفس طموح، فما أن أقامت به وبصحبه الباخرة من مصر حتى ابتدأ يتعلم؛ فأجلوه وأكبروه، ومنهم المستشرق المشهور "البارون دي ساسي"2. "كوسان دي برسفال"3.
صفحہ 26
واهتم في دراسته بالتاريخ والجغرافية، والفلسفة والأدب، فقرأ "فولتير", و"رسو"، "وراسين"، و"ومومنتسكيو" وغيرهم، وقرأ بعض الكتب في علم المعادن وفنون الحرب والرياضيات، ومالت نفسه وهو بباريس إلى التأليف والتعريب، فوضع رحلته وسماها: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد كان أستاذه العطار قد أوحى إليه بذلك، وعرب نحو اثنتي عشرة رسالة في مختلف الفنون والعلوم: من هندسة, ومعادن, وطبيعة, وتاريخ, وتقويم, وميثولوجيا, وعلم الصحة, والأخلاق، وترجم كذلك في باريس كتابه "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر".
وهو أول من كتب من المصريين في المباحث الدستورية، مع أن هذه المباحث كانت مجهولة في تاريخ مصر القومي، وذلك أنه درس في أثناء إقامته بباريس بنظام الحكم في فرنسا؛ وعرب في كتابه "تخليص الإبريز" دستور فرنسا في ذلك الحين, وما تضمنه من نظام المجلسين واختيار أعضائهما، وحقوق الأمة أفرادا وجماعات، ولم يكن يكتفي بالتعريف، بل كان يعلق بما يدل على سعة فهم وصحة حكم، وميل فطري للنظم الحرة1. وكان للشيخ رفاعة في باريس موضع إعجاب أساتذته وإكبارهم، لتمام رجولته، ونضج عقله، وحسن تصرفه، وشدة إقباله على الدرس والتحصيل، والعمل على نفع أمته، وفيه يقول المستشرق الفرنسي المشهور "سلفستر دي ساسي": إن الشيخ رفاعة "أحسن صرف زمنه مدة إقامته بفرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة, وتمكن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعا بلاده.. وله عنده مزية عظيمة ومحبة جسمية2".
صفحہ 27
وذكر السيد صالح مجدي تلميذه ومؤرخ حياته في كتاب "حلية الزمن": وقال لي من أثق به ممن كانمعه بباريس: "أنه كان يؤدي الفرائض والسنن، ولم يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وواظب على تلاوة القرآن1".
كان رفاعة قبل أني يغادر مصر يظن أن العلم كله قد جمع في الأزهر، وأنه سيحرم الاغتراف من هذا النبع العذب، وفي ذلك يقول:
"ولكن يتبين له به أن ذهب إلى باريس، واتصل بثقافة الغرب, أن وطنه في حاجة ملحة إلى معرفة هذه الثقافة الجديدة ليرقى وينهض، وأنه لا يكفيه علم الأزهر، ولذلك جد في الترجمة، حتى ليخيل للمرء أنه يريد أن ينقل كل شيء إلى اللغة العربية وإلى مصر، ولا بدع, فكل شيء أمام ناظريه جديد، وعلى عقله غريب".
ثم عاد إلى مصر سنة 1831، بعد ست سنوات قضاها مكبا على الدرس والتحصيل: يطالع، ويقرأ، ويكتب ويعرب، ويجالس العلماء ويسجالهم البحث والمناظرة، وينعم النظر في أحوال الشعوب الأوروبية وتاريخها، وأسباب حضارتها وتقدمها، واستقر عزمه وهو في باريس, على أن يخدم بلاده عن طريق نقل العلوم الغربية إلى مواطنيه، فتتسع أفكارهم, وتنمو مدراكهم, مقتفيا في ذلك آثار الدولة العباسية؛ إذ بدأت نهضة العلوم والمعارف في عهدها بترجمة كتب اليونان إلى العربية.
ولقد بر بوعده؛ فملأ البلاد علما وحكمة، وحمل نواة النهضة وخدمتها بتأليفه وتعاريبه وتلاميذه الذين تخرجوا على يديه في مدرسة الألسن وغيرها.
أعماله بعد عودته:
لما رجع ولي منصب الترجمة، وتدريس اللغة الفرنسية في مدرسة الطب بأبي زعبل، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية بطرة، وعهد إليه ترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية، ثم وقع وباء في القاهر اضطره إلى السفر لطهطا بلدته، فمكث بها ستين يوما، ترجم في خلالها مجلدا من جغرافية "ملتبرون" Nalt Bron وعاد به إلى القاهرة، وقدمه لمحمد علي, فأكرمه ورقاه.
صفحہ 28
عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، والتي أسست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسميها في كتابه مدرسة الألسن، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب أغراضها، ورأى في أعضاء البعثات -مهما كثر عددهم- لن يقوموا بكل ما تتطلبه النهضة من جهود، فلابد من إيجاد طبقة من العلماء الاكفاء في الآداب العربية، واللغات الأجنبية، ليضطلعوا بمهمة تعريب الكتب، وليكونوا صلة بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية.
إننا بالبعثة ننقل بعض المصريين إلى أروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوربا إلى مصر، فاقترح الشيخ على محمد علي إنشاء مدرسة الألسن، وكان من مزايا محمد علي أن يسر بالاقتراح الجيد، وينفذه فورا، فعهد إلى الشيخ رفاعة بوضع المشروع وتنفيذه، وبذلك أنشئت مدرسة الألسن، وكان مكانها "سراي الدفتردار" حيث كان فندق "شبرد القديم" وتقع بجوار قصر الألفي بك, الذي أقام به نابليون, ثم محمد علي، واختار لها الشيخ خمسين طالبا من نوابغ طلاب المكاتب المصرية, وفي هذه المدرسة التي تولى الشيخ نظارتها ظهر نبوغه عالما محققا، ورئيسا قديرا، ومعلما كفؤا، ومربيا ممتازا.
صفحہ 29
وكانت المدرسة كلية تدرس فيها آداب العربية، واللغات الأجنبية, وخاصة الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافية، والشريعة الإسلامية, والشرائع الأجنبية، فكانت أسبه شيء بكلية للآداب والحقوق مجتمعتين, وكان نهج المدرسة علميا ومفيدا، فلم يكن دروسا تكتب في دفاتر وتهمل، بل يمرن الطلبة على الترجمة في كتب نافعة، فإذا استغلقت عليهم جملة لجئوا إلى شيخهم يذللها لهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لهم لغتهم، وخاصة الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة، لما رزقه من موهبة جليلة في التدريس بلغة سهلة، وعبارة فصيحة, وقدرة على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون، فإذا # أتموا الكتاب, أو الكتب, روجعت, ثم قدمت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرا خالدا1.
وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنوات تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة, وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته, ما كان دعامة لنهضتنا الحالية.
ظل الشيخ سبعة عشرا عاما وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كل آونة يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدر رحب وعزيمة قوية، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأة وتقديرا؛ فمنحه محمد عأتموا الكتاب, أو الكتب, روجعت, ثم قدمت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرا خالدا1.
وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنوات تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة, وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته, ما كان دعامة لنهضتنا الحالية.
ظل الشيخ سبعة عشرا عاما وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كل آونة يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدر رحب وعزيمة قوية، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأة وتقديرا؛ فمنحه محمد علي رتبة "أميرالاي" و 1300 قرش في الشهر، و350 فدانا في طهطا, ولكن الدنيا لا تدوم على حال، فما أن مات محمد علي، وتولى عباس الأول الحكم, حتى أغلق المدارس جميعها إلا القليل، وألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة معها، بحجة الاقتصاد في النفقات، ولأن حاشية السوء لما رأت ميل الوالي إلى محاربة التعليم والعلماء خاضوا في الشيخ رفاعة وطريقته, ورموه بالعقم، فنفاه عباس الأول إلى السودان تحت ستار إنشاء مدرسة ابتدائية هناك, وتعيينه ناظرا لها، ومعه طائفة من أكابر العلماء.
ولم تكن الخرطوم كما هي اليوم في نظافتها ومبانيها، وتوفر وسائل العيش بها، وإنما كانت مدينة صغيرة تصعب الحياة فيها على من ألف حياة باريس والقاهرة، وعلى كل من يشرف على التعليم كله بمصر، فإذا هو يشرف على مدرسة ابتدائية صغيرة بالخرطوم.
صفحہ 30
وحز في نفس الشيخ أن يجازى على إحسانه بالإساءة, وأن يطعن الجاهلون في صلاح وطريقته, وقد أينعت وآتت أكلها شيها لذيذا، يزيد في نماء البلاد العقلي، ونهضتها نحو الكمال، وأخذ يستغيث ويندب حظه، والموت يخطف أعوانه كل يوم حتى لم يبق إلا نصفهم, وكان يستغيث أولا بمن يأنس منهم روح الجد والعمل لخير مصر، حتى إذا عجز هؤلاء عن إغاثته, لجأ إلى أولياء الله الصالحين, وأنبيائه المطهرين، ومن قصيدة له أرسلها إلى حسن باشا كتخدا مصر1.
مهازيل الفضائل خادعوني ... وهل في حربهم يكبو جوادي
وزخرف قولهم إذا موهوه ... على تزييفه نادى المنادي
قياس مدارسي -قالوا- عقيم ... بمصر فما النتيجة من بعادي
ثم يذكر أشهر مترجماته ومؤلفاته فيقول:
على عدد التواتر معرباتي ... تفي بفنون سلم أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل ... ومنتسكو يقر بلا تمادي
ومغترفو قراح فرات درسي ... قد اقترحوا سقاية كل صادي
ولاح لسان باريس كشمس ... بقاهرة المعز على عمادي
ويزفر زفرة حارة على ما صار إليه أمره, وعلى بعده عن أولاده وأهله فيقول:
رحلت بصفة المغبون عنها ... وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي ... ولاسلماي فيه ولا سعادي
وقد فارقت أطفالا صغارا ... بطهطا دون عودي واعتيادي
أفكر فيهمو سرا وجهرا ... ولا سمري يطيب ولا رقادي
أريد وصالهم والدهر يأبى ... مواصلتي ويطمع في عنادي # وهذه القصيدة على وزن وقافية:
صفحہ 31
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وحين يئس من مثل هذه الاستغاثات، أخذ يخمس قصيدة لسيدي عبد الرحيم البرعي في مدح النبي -عليه السلام, مطلعها:
حل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
ويقول فيها:
"رفاعة" يشتكي من عصبة سخرت ... لما أتى أبحر العرفان قد زخرت
فارفع ظلامة نفس عدلك ادخرت ... وهاك جوهر أبيات بك افتخرت
جاءت إليك بخط الذنب ترقمه
وظل الشيخ في منفاه أربع سنوات، وكان رفاعة وهو في السودان برما بقمامه ومصيره، ولكن رأيه في السودان حين هدأت ثائرته، وعاد إلى وطنه، يدل على بصيرة وحكمة، وفي ذلك يقول: "فمتى زالت من السودان وسائل الوخامة والسقامة, ودخلت أهاليها بحسن الإدارة في دائرة الاستقامة، صارت هي والديار المصرية في العمار كالتوأمين، وفي إيناع الأثمار صنوين، حتى ينشد لسان حالهما:
نحن غصنان ضمنا الوجد جمي ... عا في الحب ضم النطاق
صفحہ 32