فیصل اول: سفرنامہ اور تاریخ
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
اصناف
اجتمعت ذات يوم في الحارثية بالنحات الإيطالي المشهور بباترو كانونيكا، فسألت نفسي هل وجوده هناك من نعمة «اليانصيب» كذلك ؟ ولم لم يخص «اليانصيب» بصفته نحاتا إنكليزيا؟ أما إبستين فهو من المجددين، وقد يكون مثل أغسطوس جان شغفا بالمال، ولكن هناك في لندن كثيرين غيره يجيدون عملهم ولا يطمعون، وهناك النحاتون الفرنسيس والألمان، بل هناك النحات اللبناني الحويك، فما الذي حمل الملك على تفضيل الإيطالي يا ترى؟
نزا بي القلب إلى البحث والعلم، وسأذيع الآن سرا من أسرار الدولة الإيطالية؛ إن دعاية موسوليني لبلاده تتجاوز التجارة والسياسة، فتشمل كذلك الفنون الجميلة. وهب أن الأستاذ كانونيكا هو صديق حميم للسنيور غراندي وزير الخارجية السابق، فهل يدعوه لمأدبة رسمية تقام لملك من الملوك أو لوزير من الوزراء الأجانب، دون أن يستأذن موسوليني؟ وإن أذن السيد الأكبر فلغرض ما، ولا حاجة إذ ذاك إلى حركة الالتفاف في الحديث، لنصل إلى الفنون الجميلة، فنرفع اسم إيطاليا عاليا في الخارج، ونزيد بثروة أحد أبنائها النوابغ.
وهاكم النحات الشهير جالسا قرب غراندي، في المأدبة التي أقامها موسوليني للملك فيصل وحاشيته عندما زاروا روما المرة الأخيرة، وهل يسيء الأدب إذا ما فاه بكلمة تتعلق بمهنته الشريفة، إذا ما أعرب عن رغبته في تزيين بغداد بأثر من آثاره، يكون موضوعه جلالة الملك، ملك العراق؟ لا بأس بذلك، إنما يا أستاذ كن دقيق الإشارة، لطيفها. لا تجارة في مأدبة الوزارة.
بمثل هذا يمهد رئيس الحكومة الإيطالية السبل لفناني إيطاليا، فيجيء السنيور كانونيكا إلى أنقرة، ليخلد في المرمر والنحاس مصطفى كمال. وبعد ذلك يجيء إلى بغداد ليزين ساحتها الكبرى بتمثال الملك فيصل. أجل لقد كانت المأدبة واسطة التعارف، وكان سلام، وكان كلام، وكان بعدئذ العمل في تماثيل فيصل والسعدون.
استقبلنا الملك أصيل ذاك النهار باسم الفن، وهو مثال الأناقة والذوق، يرتدي ثوبا رماديا خاطه خياط إنكليزي، وقميصا ناعما، وربطة رقبة وجوارب وسدارة كلها من لون ثوبه؛ هو التناسب مجسما. وكان ساعة وصولنا واقفا أمام الأستاذ، على بضع خطوات منه، والأستاذ واقف وظهره للنور، أمام رأس من الطين يكون ملامح الوجه فيه، ووقفت أنا أمام الملك أنتظر السؤالات، فنظر إلى الأستاذ ثم إلي، وقال: «أنا الآن بين فنانين، أعوذ بالله.» - «أوليس خيرا من أن تكون بين سياسيين؟» - «والله صحيح، والله صحيح.»
وكان صفوت الخازن الأمين الرصين، واقفا في زاوية القاعة، مكتوف اليدين، وعلى وجهه مسحة من القلق. «سيتعب الملك من الوقوف.» قال هذا وبادر إلى كرسي قدمه له، ولكن صاحب الأمر في تلك الساعة إنما هو الأستاذ الإيطالي، فهز رأسه عندما جلس الملك، وقال: «واطي، لا يوافق، يجب أن يكون النور على الوجه بخط مستقيم وليس بخط منحدر.»
وقد أطنب في الشرح إكراما للملك فأبعد الكرسي، وجاء صفوت - الحريص على راحة سيده - بطاولة صغيرة، فكان يجلس عليها من حين إلى حين جلسة غير كاملة، فيريح رجلا واحدة من الوقوف.
ما كان فيصل ليرضي الفنانين؛ لأنه كان يتعب في جلوسه أو في وقوفه ساعة، فتبدو على وجهه سيماء الزعج، وقد كنت في ذاك اليوم مساعدا للأستاذ كانونيكا، في شغلي الملك عما كان يزعجه، ولو فهم الحديث لزاد ارتياحه إلى العمل، مع ذلك كان يتقدم في تكوين الوجه بينا نحن ننتقل في المواضيع من بلاد إلى بلاد، وقد ذكرني بأبيات لعمر الخيام في الطيان الأكبر، مبدع الكائنات، وها هو ذا الطيان الأصغر يلطف بإبهامه خطا في الجبين، ويرفع من الخد نتوءا بالسكين، وينقل شيئا من هذه الناحية فيضعه في الناحية الأخرى، ويحفر ويدور ويبني ويحور حتى كاد الوجه يشبه صاحبه، ولكن هناك في نفس فيصل، ساعة اكتئابه وساعة ابتهاجه، ما أظنه يبرز من بين أنامل النحات الإيطالي وسكينه، عندما كان يعدل الخطوط والظلال في الجبين مثلا، ما أدرك شيئا مما كان يشغل الملك، كنا نتحدث في المدنية الغربية المادية، وكان فيصل حائرا قلقا على عادته، لا يدري ما سيكون حظ البلاد العربية منها، هل نستطيع أن نغربل هذه المدنية، فنأخذ قمحها، وننبذ زؤانها؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
أخرج من جيبه علبة السكاير، فإذا هي فارغة، فمد بيده إلى صفوت ووجهه المنقبض يقول: «إلي بسيكارة، أنقذني.» فأسرع صفوت يملأ له العلبة. «وهل يمكننا أن نحافظ على ثقافتنا، يا أمين، ونحن غائصون إلى الركب في الثقافة الأوروبية؟! وهل يصح أن ننبذ ثقافتنا القومية، ونقبل ثقافة الغرب كلها بحذافيرها؟!»
كان يجب على الملك في تلك الساعة، من أجل الأستاذ كانونيكا على الأقل، أن يجيب على سؤالاته، فيستمر في الحديث. فطاوعته في الاقتضاب، وتعمدت إذكاء قريحته، فقلت: «أحد الجوابين على هذا السؤال هو مصطفى كمال، والجواب الآخر هو العلماء، فاختاروا ما تشاءون.» - «لا العلماء، من وجهة نظري، ولا مصطفى كمال. مدارسنا الدينية قديمة عقيمة. هي مدارس العمائم وللعمائم، تلف وتلف مثل العمامة حول موضوع واحد، ولكننا لا نزال في حاجة إليها، فإذا أبطلناها اليوم وعلمنا أولادنا العلوم الطبيعية لا غير، يصيرون كلهم ملحدين دهريين. الولد المسيحي أو اليهودي تعلمه أمه شيئا من الدين، فتغرس في صدره الاعتقاد بالله، ولكن الأولاد المسلمين لا يتعلمون شيئا في بيوتهم، أمهاتهم جاهلات، وآباؤهم في أشغالهم، وأكثرهم كذلك جاهلون، فيجيء الأولاد إلى مدرسة المسجد وعقولهم فارغة فيملؤها الإمام بقشور الدين. أنا من رأيك أن ليس من الحكمة ولا من الواجب أن تعلم الحكومة الدين في مدارسها، فإذا علمنا دين الإسلام وجب علينا أن نعلم الباقين من الطلاب أديانهم، حتى اليزيديين منهم والصابئة، وهذا غير ممكن؛ لأن العلوم الدينية كلها تستغرق معظم وقت التدريس. أنا من رأيك يا أمين، ولكنني أعدك بأننا سنصلح مدارسنا الدينية وسيصير عندنا أئمة عصريون إن شاء الله! سيتعلم بعض طلاب مدرسة التجهيز العلوم الدينية ويتشربون في الوقت نفسه الروح العلمية العصرية، فيصير عندنا علماء مجددون، وعندما يتم ذلك، عندما نصلح المدارس الدينية، نبطل تعليم الدين في مدارس الحكومة.»
نامعلوم صفحہ