فیصل اول: سفرنامہ اور تاریخ
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
اصناف
وما كان الإيمان بالله وبرسوله ملجأ فيصل الوحيد - كما قد يتبادر لذهن الناس - بل كان له ملجأ آخر، وقد يكون في بعض أحواله الملجأ الأول؛ وهو الاسترسال في التفكير والتساؤل العقلي؛ كأن يجلس ونفسه، فيطارحها الحديث بسكينته المعهودة، فيقول لها: وما هذا الذي نحن فيه؟ تعالي نبحث هذا الموضوع ونتبحر فيه.
كان فيصل تواقا إلى النور في شتى المواضيع، وكان يجنح كثيرا إلى الشك والتساؤل. «لله ما أكثر سؤالات سيدنا!» قالها ذات ليلة أحد الضيوف. قلت: وما أوسع نطاقها! فمنها سؤالات الطالب العلم، ومنها سؤالات الراغب بطريقة للتنفيذ في شئون الملك، ومنها سؤالات للتسلية، وهو لا يجهلها. إن من حق الملوك الجزية، وعلى كل من يتشرف بمحلس الملك أن يدفعها، وله بعد ذلك أن يفاخر ما شاء.
سألنا مرة سؤالا عن الحروف العربية وهل يمكن إصلاحها مع المحافظة على جمالها، ففتح بابا عسر بعد ذلك إقفاله. كان الشاعر الزهاوي من المدعوين إلى العشاء، فتناول الحديث وشرع يشرح مشروعه أو بالحري اختراعه الذي فهمت منه، وما أظن أن الضيوف الآخرين والملك فهموا أكثر مني، أن ستكون الأحرف العربية ستة عشر حرفا لا غير، وبشكل يمكن من الكتابة بها، من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين، وكان الضحك مسك الختام.
قلما كان الملك فيصل يبدي رأيا واحدا في مسألة من المسائل، بل كان يقلب بها ليتسع مجال التساؤل من نواحيها كلها، فيعطيك هو نفسه رأيين أو ثلاثة آراء فيها؛ مما جعلني أظن أن العقلية الفلسفية السقراطية هي من طبعه. ولو لم يكن سياسيا، لو ظل في مكة بعيدا عن الدوائر السياسية، لكان عالما من علماء الإسلام، له منزلة الغزالي؛ فقد كنت أشعر وهو ينتقل بنا من موضوع إلى آخر أن له رغبة خاصة شديدة؛ هي رغبة العالم الفيلسوف، في مجرد الاطلاع على حقائق الأمور والتبحر فيها.
أما المسائل التي تتعلق بشئون البلاد، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، فقد كان ينظر إليها من وجهة واحدة هي وجهتها العملية، كيف يمكننا أن نعمل بهذا المبدأ؟ كيف تطبق هذه النظرية عندنا؟ وبكلمة أخص - كما كان يقول - كيف نقاوم ما لا يوافقنا من المدنية الغربية ونتغلب عليه؟ كيف التخلص مما هو مضر منها بثقافتنا العربية؟ وما هي الأشياء النافعة لنا؟ وما هي المضرة في ثقافة الغربيين ومدنيتهم؟
تقولون: إنها مدنية مادية، وهل نحن بغنى عن الماديات؟ فإذا سلمنا أنها لازمة لنا - ولا أظنكم تنكرون ذلك - فهل ينبغي أن نتكالب في سبيلها مثلهم؟ كيف يمكننا أن نحسن أحوالنا الاقتصادية ونظل شرقيين؟ هل نتوفق إلى ذلك في اختيارنا النافع، ونبذنا المضر في هذه المدنية؟ هو ذا فيصل في حكمته وفي حيرته.
على أنه لم يكن متسائلا في كل الأمور، وقد كان له من الآراء الوضعية الفاصلة، ومن مواقف الحزم واليقين، ما يسترعي الأنظار: لا ينبغي أن تتناول الأمة دفعة واحدة أكثر مما يمكنها أن تتصرف به، ينبغي أن تكون تشوقاتها الوطنية متناسبة ومقدرتها العملية. الأمر الواقع هو غالبا مكروه، والشرقي لا يعرف به. ترانا نلجأ إلى الدين نغذي به الآمال، أو إلى الشعر فنتلذذ بالخيال؛ يجب علينا أن نروض أنفسنا في مجابهة الحقائق، يجب علينا أن ننظر إلى الحياة مجردة من الزخرف والخيال، هو ذا فيصل الفاصل الجازم، فيصل المعلم، فيصل الزعيم.
إني لأذكره خصوصا في مجلسه، وقد صفت له ساعة من الزمان، فيمدد رجليه ويدعونا أنا والقسطنطين، لمشاركته في التدخين، فيعلم أني لا أحب السيكارة، فيأذن بالغليون، أو يخرج صندوقا من الحشيش ويفتحه قائلا: «دونك والسيكار.»
عندما جئنا ذات ليلة للعشاء وجدناه جالسا يطالع بعض الأوراق، وهو مكشوف الرأس، والسدارة، وهي من لون ثوبه الرمادي، على الطاولة الصغيرة أمامه، وبعد أن انتهى من قراءة ما بيده وضمها إلى غيرها من الأوراق على الطاولة، قلت: «لا نهاية على ما يظهر لشغل جلالتكم.» فقال: «يجيئنا كل يوم شغل يومين.» - «أيعني ذلك أنه يجب عليكم أن تشتغلوا ليل نهار؟» - «إذا اقتضى الأمر، ولكن المعدل عشر ساعات، وأحيانا اثنتا عشرة ساعة.» - «هذا مخالف لنظام العمال.» - «سجلها إذن لهذا العامل الذي لا يرعى نظام العمال ... وما رأيك، يا أمين، في الحكومة البلشفية؟»
عددت هذا السؤال منه مفاجأة جائرة، وقد سأله عرضا، وهو يلبس سدارته، كأن الجواب عليه ممكن ونحن ماشون إلى غرفة الطعام. فقصصت عليه، إذ جلسنا إلى المائدة، قصة كارل ماركس يوم كان مقيما في لندن؛ فقد فكر مرة بالسفر إلى أميركا، ثم عدل عنه قائلا: «لو أنني سافرت لصرت هناك غنيا، ولما تسنى لي أن أكتب كتابي وأؤدي رسالتي.»
نامعلوم صفحہ