16
وكان صوت أفلاطون هو أعلى الأصوات احتجاجا، ولكنه لم يكن منفردا في رأيه هذا.
وقد احتفظ أفلاطون بالرأي اليوناني التقليدي القائل بعدم وجوب الفصل بين الكلمات واللحن. ومن الطبيعي أن ينظر الشاعر المغني اليوناني الذي يلتزم التراث الكلاسيكي بدقة، إلى أي تميز كهذا على أنه تميز أكاديمي بحت؛ إذ إن الشاعر والموسيقي كانا واحدا، يؤلف أنشودته ويعزفها بوصفها أسطورة أو رواية شعرية ذات إيقاع موسيقي. ولما كان أفلاطون قد أكد أن النص الكلامي أرفع مرتبة؛ لأنه أخضع القالب الموسيقي للشعر، فإنه كان أكثر من غيره استياء من أولئك الموسيقيين الثوريين الذين كانوا في أيامه يؤلفون موسيقى دون كلمات لغرض سماع أصوات تبعث اللذة في الأذن فحسب؛ ولذا كتب يقول: عندما لا تكون هناك كلمات، فمن الصعب جدا إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يحاكيان أي شيء ذي قيمة.
17
ولقد انتقد أفلاطون التحديد الموسيقى نقدا لاذعا، وعلى الرغم من أنه كان هو ذاته فنانا خلاقا، فقد ظل على الدوام متعصبا في إبداء سخطه على الفنان الضال الذي تتبدى سوراته القلقة على الدوام في صورة أشكال فنية متغيرة. وكان أفلاطون يخشى من أن يؤدي التحرر المفرط في الفن إلى انتشار فوضى في الدولة، وعلى أساس اعتقاده هذا قال في الكتاب الرابع من «الجمهورية»: ينبغي أن يحرص حكامنا على أن تظل الموسيقى والرياضة البدنية على صورتها الأصلية، دون إدخال تجديدات عليها ، وعلى هؤلاء الحكام أن يبذلوا كل ما في وسعهم للاحتفاظ بهما سليمين، فإذا ما قال الشاعر إن البشر متعقلون إلى أبعد حد ب «أحدث ما لدى المغنين من أغان»، فإن هؤلاء الحكام يخشون من أن مدحه قد لا يكون موجها إلى أغان جديدة، وإنما إلى نوع جديد من الغناء، وهذا ما لا ينبغي امتداحه، أو تفسيره على أنه المعنى الذي قصده الشاعر؛ إذ إن أي تجديد في الموسيقى يجلب أخطارا شديدة على الدولة كلها وينبغي نظره، هذا ما قال به دامون
Damon ، وما أومن به بدوري، من أن المرء في الأصل لا يستطيع تغيير أساليب الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسا على عقب.
18
ولقد كانت محاربة التجديد، على أسس فلسفية ودينية، شائعة في الشرق بقدر ما كانت شائعة في الغرب؛ فقد روى فيثاغورس أن كبار كهنة فرعون كانوا يحتجون بشدة على تجديدات أساطين العزف، وكان من رأيهم أن التغيير الفني مصطنع، وأنه بالتالي خطر على الحياة الروحية والمادية للأمة.
كذلك روى هيرودوت أن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلا مقدسا؛ ولهذا السبب لم يكونوا يسمحون بأية تجديدات أو يقبلون أنغاما أجنبية في طقوسهم الدينية. وقد توسع أفلاطون في هذه الفكرة في محاورة «القوانين»،
19
نامعلوم صفحہ