فاطمة الزهراء والفاطميون
فاطمة الزهراء والفاطميون
اصناف
هي أعجبها في موازين النصوص والأوراق، وهي أقلها عجبا في ميزان علم النفس الذي لم ينفصل عن التاريخ قط في الكلام عن دولة كما انفصل عنه في الكلام على ملوك هذه الدولة.
واضح من تطبيق علم النفس على أعراض هذا الرجل أنها حالة من حالات الهوس بالأسرار أو الحالات التي تعرف بهوس الغموض
Mystic Hallucinosis .
وأصحاب هذه الحالة مستغمضون مولعون بالأسرار، يفرطون في التفاؤل والتشاؤم لإيمانهم بالرموز، واعتقادهم أن الغيب يتحدث إليهم عن مكنوناته بتلميحات من الحوادث والمعاني المزدوجة التي تحمل في أطوائها ما ينم عليه ظاهرها للعارفين، وإذا غلا الظن بأصحاب هذه الحالة كانت من الحالات التي تختلط بمرض الاضطهاد، فيقع في روع المريض أن الناس يضمرون له الشر، ويتعقبهم بالتجسس والاستطلاع، وينتقم منهم للوهم العارض والشبهة الكاذبة؛ لأنه يصدق كل خبر عنهم غير الخبر الصراح.
ويسكن المتهوسون بالأسرار إلى مناظر الظلام، ويستهويهم الليل بخفاياه، وتروقهم الوحدة في الخلوات.
وليس المصاب بهذه الحالة مجنونا ذاهل الحس عما حوله في جميع الأوقات؛ بل هي نوبات تعتريه ولا تمنعه أن يبدع إبداع العباقرة والموهوبين في بعض الفنون.
أما علة هذا المرض فأنصار فرويد يرجعون بها كعادتهم إلى صدمات الطفولة وأزماتها التي ترتبط بالجنس على الخصوص، فتكمن في الوعي الباطن وتتمكن منه على غير علم من ضحيتها، حتى تنفجر دفعة واحدة أو رويدا رويدا في مقتبل الشباب.
وغير «الفرويديين» يعللونها باضطراب الحواس ولا سيما حاسة السمع وحاسة البصر، فيتوهم المريض أنه يرى ويسمع ما ليس يراه الأصحاء ولا يسمعونه، ويحدث أحيانا أن ينظر إلى الشيء الماثل فلا يراه، ويصغي إلى الصوت البين فلا يسمعه، وقد يتفقون مع جماعة فرويد في الرجوع بالعلة إلى صدمات الطفولة وأزماتها دون أن يربطوها بالمسائل الجنسية.
هذه الأعراض كلها ظاهرة فيما روي عن الحاكم من شتى المصادر، ولم يكن الحاكم بمعزل عن البيئة التي تندس فيها الآفات إلى نفس الطفل الناشئ؛ فقد نشأ الحاكم كما أسلفنا في عهد دسائس القصور وسياسة الحريم، وتركه أبوه وهو في الحادية عشرة من عمره، وأقام على وصايته ثلاثة متنافسين هم المملوك برجوان والقاضي محمد بن النعمان والحسن بن عمار زعيم قبائل البربر من كتامة، وأول هؤلاء برجوان كان غارقا في دسائس القصور وسياسة الحريم.
وقد أحاطت هذه الدسائس بالحاكم وهو في سن الخطر؛ لأنه لم يكن من الطفولة بحيث يجهل ما حوله، ولم يكن من الفتوة بحيث يدرك ما يحاط به ويملك الوسائل إلى استطلاعه. كان في الحادية عشرة، وكانت كل خفية من خفايا الدسائس تغريه بالتطلع وتوسوس له بالريبة والتساؤل. فإذا كان مع هذا قد نشأ في بيئة التنجيم وكبر وهو يصغي إلى أحاديث الباطن والظاهر وأسرار الغيوب التي تنكشف للواصلين من الأئمة، فلا عجب في ابتلائه بتلك الآفة، آفة الهوس بالأسرار أو الولع بوساوس الغموض، ثم يجهز على البقية الباقية من عقله أولئك الوزراء والعشراء الذين يتلمسون مواطن الضعف في نفوس الأمراء الناشئين فيمعنون في استغلالها ويبالغون في تحسينها وتزيينها، كما فعل الدرزي والأخرم من حاشية الحاكم المقربين؛ إذ قيل: إنهم وسوسوا له بمذهب الحلول وخاطبوه مخاطبة الأرباب، وأطبقت آفة الاطلاع المضلل على آفة الاستطلاع المكبوت.
نامعلوم صفحہ