فاطمة الزهراء والفاطميون
فاطمة الزهراء والفاطميون
اصناف
وبعد فراغ جوهر من بناء القصور التي أعدت لإقامة الخلفاء أبلغ المعز فقدم إلى الإسكندرية (شعبان 362 للهجرة)، وجلس لاستقبال رؤساء المدينة والوافدين إليها للتسليم عليه، ثم خطبهم قائلا: إنه لم يقصد إلى مصر طمعا في زيادة ملك أو مال؛ وإنما قصد إليها لتأمين الأنفس وحماية طريق الحج ودرء الغارة عن ديار الإسلام، وهو كلام يقول مثله كل فاتح، ولكنه كان في برنامج المعز خطة تمليها الضرورة عليه؛ لأن تأمين الطريق إلى الحجاز كان ضمانا لاستقرار الدولة الفاطمية ودفع الشبهات عنها؛ إذ كان القرامطة يعملون باسمها وكان أعداء الدعوة الفاطمية يشيعون عن القوم أنهم يقطعون طريق الحج عملا بمذهب الإسماعيليين ويزعمون أن الإسماعيليين يسقطون الحج من الفرائض، فكان تأمين طريق الحجاز من قبل مصر والشام خطة تقضي بها مصلحة الحاكم والمحكوم، ولم يلبث المعز في القاهرة سنة واحدة حتى تفاقم خطب النزاع بينه وبين القرامطة، وأعلن البراءة منهم وأعلنوا الخروج عليه، وزحفت جموعهم إلى مصر ومعها قبائل البادية التي تطلب الغنيمة وتخشى من عواقب تأمين الطريق، فاستعد لهم المعز بعدة الحيلة حقنا للدماء، وأرسل إلى زعيم القبائل البدوية حسان بن الدراج الطائي من يطمعه بالمال إذا تراجع وتنحى عن أصحابه، ووعده بمائة ألف دينار، فقبل الصفقة، وخرج المعز للقتال على اتفاق بينه وبين ابن الجراح أن ينهزم هذا بجموعه عند التقاء الصفوف، وقد فعل وحمل معه أكياس الدنانير، ولكنها لم تحو من الدنانير الصحاح غير مئات تبدو على وجه الأكياس ومن تحتها قطع النحاس المذهبة يخفيها الزعيم المخدوع جميعا عن شركائه، ودارت الدائرة على القرامطة في ذلك اليوم فقنعوا من الغنيمة بالإياب، ودبت المخاوف والشكوك بينهم وبين أصحابهم فلم يرجعوا بعدها إلى غاراتهم على مصر.
ولم ينته عهد التوطيد بانتهاء عهد المعز (في سنة 365 للهجرة)، فإن ابنه العزيز الذي تولى الملك بعده كان من كفاة الملوك، وكانت طاعته غالبة على المغرب ومصر وجزيرة العرب، لا تخرج عليه خارجة فيها إلا عجل بقمعها وأعاد الأمور في أرجاء الدولة إلى نصابها، ولكنه مات (سنة 386). وقد بدأت في أيامه دسائس القصور وسياسة الحريم، وتناثرت هنا وهناك بذور الانحلال التي اختفت إلى حين في إبان نضرة الدولة وزهوها، ثم برزت وتفرعت مع إدبار الأمور وتعاقب الضعفاء من الأمراء.
الحاكم بأمر الله
قام بعد العزيز على سرير مصر أسطورة في شخص إنسان، لو لم يكن تاريخه خبرا يقينا لشك فيه المؤرخون أو جزموا بإنكاره؛ إذ كان مجموعة من النقائض والغرائب يكذب بعضها بعضا ولا يتصور العقل لأول وهلة أنها تصدر من إنسان واحد.
ذلك هو الحاكم بأمر الله.
كان يعمر ويخرب، وكان يلين ويقسو، وكان ينهي عن المراسم ثم يفرض منها ما يشبه العبادة، وكان يجيز شعائر أهل السنة وأهل الذمة ثم يمنعها ويبطش بمن يعلنها. وكان يحرم المباح ويبيح الكفر البواح، وكان يبدل الليل بالنهار والنهار بالليل، فمن فتح دكانا بالنهار جلده ومن أغلق دكانا بالليل رماه بالعصيان، وكان يعتق العبيد والإماء ويفرق عليهم الهبات والأرزاق ثم يستعبد الأحرار ويدينهم بما يأنف منه الأرقاء، كان يخرج إلى غيران الجبل في الظلام ويختبئ في حجرات قصره منذ مشرق الشمس إلى المغيب، وكان يدعي علم الغيب ويعاقب من يحرس ماله ومتاعه كأنه يشك فيه، ثم يحاسب على الصغائر التي يغفرها المتنطسون.
قال ابن خلدون: «إن حاله كان مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبدعة». وقال ابن خلكان: «إنه كان جوادا سمحا، خبيثا ماكرا، رديء الاعتقاد، سفاكا للدماء، قتل عددا من كبراء دولته صبرا، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعية عليها.»
ولم يذكر عن ملك في أحوال العقيدة ما ذكر عن هذا الحاكم بأمر الله، وبأمره، وبأمر المأمورين والأمراء.
فمن مؤرخي القبط من يقول: إنه مات على النصرانية، ومنهم من يقول: إنه كان يعبد المريخ ويتوهم أنه يراه ويتحدث إليه، ومن مؤرخي السنة من يقول: إنه ادعى الربوبية، ومن أتباعه اليوم من ينفي الموت عنه ويزعم أنه صعد إلى السماء ليعود إلى الأرض في آخر الزمان، وأطبقت النقائض على تاريخ حياته بتاريخ وفاته، فلم يعلم أحد متى مات وكيف مات.
وفي رأينا بعد هذا أن سيرة الحاكم هي أعجب السير وأوضح السير في وقت واحد.
نامعلوم صفحہ