إنه ليس شيء أبعد عن الحق من أن يقول قائل إن الطريق إلى غرب مصر كان يشق فيافي قاحلة؛ فلدينا من الأدلة ما يذكر صريحا أن كل أرض الساحل الواقعة إلى غرب مصر بقيت آهلة يزكو بها الزرع حتى مضت قرون ثلاثة بعد الفتح العربي. ويذكر المؤرخ العربي «المقريزي» أن مدينة «لوبيا» قاعدة لإقليم يقع بين الإسكندرية و«مراقية». وذكره لهذين الاسمين على هذه الصورة يدل على أن الاسمين القديمين «لوبيا» و«مرمريقا» قد بقيا في اللغة العربية لم يكد يعتريهما تغيير. وقال المقريزي في موضع آخر إن إقليم بنطابوليس يبدأ بعد مدينتي «لوبية» و«مراقية». وجاء في كتابي «القضاعي» و«المسعودي» ما يتفق مع هذا الدليل. وكان في إقليم «لوبيا» أربع وعشرون مدينة ما عدا القرى الصغيرة. وقال المقريزي في وصف «مراقية» نقلا عن ترجمة «كاترمير»:
2 «مدينة مراقية كورة من كور مصر، وهي آخر حد أراضي مصر، وفي آخر أرض مراقية تلقى أرض أنطابلس (بنطابوليس)، وهي برقة، وبعدها عن مدينة سنترية نحو من بريدين (وقدر ذلك أربعة وعشرون ميلا)، وكانت قطرا كبيرا به نخل كثير ومزارع، وبه عيون جارية، وبها إلى اليوم بقية، وثمرها جيد إلى الغاية، وزرعها إذا بذر ينبت من الحبة الواحدة من القمح مائة سنبلة، وأقل ما تنبت تسعون سنبلة، وكذلك الأرز بها جيد زاك، وبها إلى اليوم بساتين متعددة. وكانت مراقية في القديم من الزمان يسكنها البربر الذين نفاهم داود - عليه السلام - من أرض فلسطين، فنزلها منهم خلائق، ومنها تفرقت البربر؛ فنزلت زناتة ومغلية وصريسة الجبال، ونزلت لواتة أرض برقة ... إلخ. فلما كان في شوال سنة أربع وثلاثمائة من سني الهجرة المحمدية (916 ميلادية)، جلا أهل لوبيا ومراقية إلى الإسكندرية خوفا من صاحب برقة، ولم تزل في اختلال إلى أن تلاشت في زمننا، وبها بعد ذلك بقية جيدة.»
3
والكلمات الأخيرة، كما هو ظاهر، تقصد المدينة وليس الإقليم، وهي ذات دلالة كبرى؛ لأنها تصف ما بقي من آثار المدينة حتى سنة 1400 للميلاد. وإنا لذاكرون هنا أمرا على سبيل الاستطراف، وذلك أن خرائط الملاحة لأهل البندقية كانت فيها حوالي سنة 1500 سلسلة غير منقطعة من الأسماء على هذا الجزء من ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولكن المقريزي يحدثنا حديثا آخر عن مريوط، فيقول إنها كانت قديما تزدحم بها البيوت والحدائق، وكانت أرض الإقليم كله حدائق منثورة إلى حدود برقة غربا. وكانت مريوط في أيامه مدينة تابعة لإقليم الإسكندرية، وإليها كانت ترسل ما تثمره حدائقها من الفاكهة الكثيرة. ويقول «شمبوليون» إنها كانت عاصمة لمصر السفلى في أيام الإمبراطورية المصرية القديمة، ثم اضمحل أمرها شيئا فشيئا. وكانت في أيام «فرجيل» و«سترابو»، كما يشهدان بذلك، معروفة بجودة خمرها على الأقل، وتقع أطلالها اليوم على اثني عشر ميلا إلى غرب الإسكندرية، ولكنها لا تكاد تكون معروفة لأحد. على أن الأرض التي تحت الرمال من الغرين، وهذا يعزز ما كان يعرف عنها قديما من الخصب.
فمن الجلي إذن أنه قد كانت قبل فتح العرب لمصر سلسلة متصلة من المدائن، وأرض فسيحة من مزارع أولها عند الإسكندرية إلى أن تبلغ «قيرين»؛ وأن مسير «نيقتاس» بجيشه هناك لم يكن به من الشدة ما يستوجب مهارة كبرى في القيادة، ولا جلدا عظيما على تحمل المشاق. وأغلب الظن أن ما يوصف به الطريق في الوقت الحاضر من الوعورة فيه كثير من المبالغة؛ فإن الحجاج المسلمين يسلكون ذلك الطريق من مراكش وتونس وطرابلس سائرين على أقدامهم بقرب الساحل. وتكثر آثار الإغريق والرومان في تلك البلاد، ولكن أهلها اليوم من أشد الناس تعصبا؛ فالبدوي المتنقل هناك يمنع تلك الأرض أن تطأها قدم الباحث المتنقل؛ ولهذا بقيت يجهلها التاريخ وعلم الآثار القديمة أكثر مما يجهل البقاع القاصية في قلب الصحراء، مع أن سواحلها يحف بها البحر الأبيض المتوسط، وتكاد تكون على مدى البصر من بلاد إيطاليا واليونان. وهذا بالطبع راجع إلى سببين معا؛ إلى حكم الترك، وإلى شدة البدوي في عقيدته. وهما سببان اجتمعا فكانا كافيين لأن يجعلا التنقل هناك متعذرا يكاد يكون مستحيلا؛
4
فلو أتيح لتلك البلاد أن تكون يوما تحت حكم دولة متمدينة لأصبحت ميدانا فسيحا للبحث والتنقيب، وقد يكون من الممكن أن تسترجع شيئا من خصبها القديم ورخائها الماضي إذا ما أقيمت بها الأعمال الهندسية الملائمة لها.
وبعد، فإنا قد خرجنا عما كنا بصدده من القول، وطال بنا القول في سواه، على أن ذلك يساعدنا على أن ندرك حقيقة سير «نيقتاس» بجيشه في تلك الأراضي، ومنه نستطيع أن نعرف أنه لم يلق في طريقه إلا قليلا من المشاق، على أنه لا شك قضى في سيره زمنا طويلا، وكانت المؤامرات أثناء هذا يتلو بعضها بعضا بين أحزاب يكيد بعضها لبعض في عاصمة القطر المصري؛ فقد اشترك رجلان في مؤامرة ليقتلا «فوكاس» ويجعلا التاج بعده لهرقل، وكان أحد هذين الرجلين «تيودور» بن «ميناس» الذي كان حاكم الإسكندرية تحت حكم الإمبراطور «موريق»، وكان الثاني «تنكرا»، ويظن زوتنبرج خطأ أنه قد يكون «كريسبوس»، وكان بطريق الإسكندرية الملكاني الذي أقامه «فوكاس» لا علم له بهذه المؤامرة، ولكن «حنا» حاكم الإقليم وقائد الحامية، ورجلا آخر اسمه «تيودور» كان مراقب الأموال العامة، نقلا إلى البطريق نبأها، ثم اشتركوا ثلاثتهم في إرسال خطاب ينذرون به «فوكاس» بالخطر.
وكان الإمبراطور يعرف حق العلم ما كان عليه المصريون من تقلب الأحوال وقلة الثبات؛
5
نامعلوم صفحہ