10
وهذه الحادثة لا يذكرها مشاهير مؤرخي بيزنطة إلا عرضا في بضعة أسطر، ولا يكاد أحدهم يدرك مكان مصر وخطورة محلها من هذه الثورة، ولكن قد انبعث نور جديد على تاريخ مصر منذ كشف كتاب حنا النقيوسي، أو بقول أدق منذ نقلت إلى لغة أوروبية ترجمة لنسخة مخطوطة باللغة الأثيوبية من «ديوان أخبار حنا أسقف نقيوس»، وكانت «نقيوس» إذ ذاك مدينة عظيمة من مدن مصر السفلى، وكان حنا نفسه يعيش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، وكان لا بد قد اتصل بكثير من الشيوخ المعمرين الذين شهدوا الحوادث التي أدت إلى سقوط «فوكاس»، أو بمن يكون عندهم ذكر منها؛ فديوان أخباره على ذلك له خطر كبير، ويسترعي النظر فيه دقة روايته وتحريه الحقيقة، إلا في مواضع شوهت فيها النسخة المخطوطة تشويها، وذلك مع أن هذا الديوان نقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى. حقا إن فيه بعض أغلاط، وفيه مواضع لا يتفق ما يذكره فيها مع سائر الحوادث، ولكن يعوض ذلك ويكفر عنه أن الكتاب يكشف من الحقائق شيئا كثيرا كان مجهولا؛ فالحق أن ذلك الديوان يبعث من لدنه نورا جديدا عجيبا يكسو تاريخ الدولة الرومانية الشرقية، وتاريخ بطارقة الإسكندرية، وتاريخ مصر عامة في ذلك العصر الذي قل أن يوجد عصر مثله في خطره ومكانه، على أنه عصر قد أهمل أمره إهمالا لا تبرره قلة ما ورد عنه، ونقص ما تخلف من آثاره، وفوق كل هذا فديوان حنا يكمل من نواح عدة ما جاء في الروايات الأخرى من نقص، ويصحح ما يشوبها من خطأ، مثل روايات «تيوفانز» و«قدرينوس» و«نيقفوروس».
الفصل الثاني
النضال من أجل مصر
وإن شئت قلت إن الناس لا نعلم من ديوان الأسقف المصري أنه قد كان ثمة بعض قتال في إقليم البنطابوليس نفسه؛ فقد جمع هرقل هناك جيشا من ثلاثة آلاف جندي منفقا في سبيل ذلك أموالا عظيمة، واجتمع لديه فوق ذلك جيش مما يسميه ذلك المؤرخ «الهمج»، وكانوا بلا شك من البربر، وقد جعل هؤلاء تحت قيادة «بوناكيس»، وهو تحريف في اللغة الأثيوبية لاسم يوناني؛ فانتصر بفضل هذا الجيش نصرا لم يكلفه كبير عناء على قواد الدولة، وهم «مارديوس» و«إكليزياريوس» و«إيزيدور»، واستطاع بوقعة واحدة أن يقضي على قوة فوكاس في ذلك الجزء من أفريقيا، وفي الوقت نفسه أرسل «كيسيل» حاكم طرابلس كتيبة لعلها ذهبت إلى جنوب بنطابوليس. وعلى كل حال فإن نيقتاس بدأ السير عند ذلك نحو الإسكندرية مساحلا، ثم لحق به في بعض المواضع «كيسيل» و«بوناكيس»، ولم يكن ثمة ريب في أنه سينزل على الرحب في كل مكان حتى يبلغ أكناف القطر المصري؛ ذلك بأن «ليونتيوس» حاكم مريوط - وهو الإقليم المصري في غرب الإسكندرية - كان قد استماله القوم، فوعدهم بجند كثير.
ويظن الناس أن مثل هذا السير إذا حدث اليوم حدث في صحراء مجدبة لا يكاد الماء يوجد بها، ولكن قامت أدلة كثيرة على أنه قد كان في القرن السابع في ذلك الإقليم كثير من المدن العامرة، وبساتين من النخيل، وأرض واسعة ذات خصوبة، وهو إقليم لا يعرف فيه الآن، وإن شئت قلت إن الناس لا يتصورون منه إلا أنه فياف من صخور ومن رمال محرقة. وهذا الأمر له خطر وشأن كبير عند الرواد، وعند من يهمهم الدرس والعلم؛ ولهذا نستميح القارئ عذرا إذا نحن قلنا فيه كلمات قليلة.
ذكر بطليموس أن إقليم «قيرين» ينتهي عند الجانب الشرقي لمدينة «دارنيس»، ومن ثم يبدأ إقليم «مرمريكا»، ومنذ قلنا إن «نيقتاس» قد سار إلى الشرق فإنه لا بد قد مر ببلاد كثيرة، منها مدينة «أكسيلس» و«بالوفيوس» و«بطراقس» و«أنتيبرجوس» ورأس «قطينيوم»، وكل هذه كانت في إقليم «مارماريكا». وكان أول إقليم «لوبيا» عند مدينة «بانورموس»، وكانت به مدائن كثيرة منها «قطابتموس» و«سيلنوس» و«بريطونيوم»،
1
وهي «أمونيا» بحسب تسمية «سترابو» لها. وكانت «بريطونيوم» قصبة الإقليم، وفيها مقر الحاكم، ويلوح أن ذلك الاسم ما زال باقيا في الاسم العربي «البرطون». وكان ما يلي ذلك من الشرق في الإقليم ذاته مدينة «هرميا»، ويليها «لوكاسبيس»، وكان أول إقليم «مريوط» في منتصف المسافة بين «لوكابيس» و«كيموفيكوس»، وكانت أكبر مدائن هذا الإقليم مدينة «بلينطين» في «تينيا»، ومدينة «تابوسيريس الكبرى»، وحصن «الكرسونيسوس»، ومدينة «مارية»، وهي مريوط.
وترد في كتب «بطليموس» و«سترابو» أسماء مدائن أخرى. ومن المحقق أن إقليم مصر في القرن الأول كان ينتهي حيث يبدأ إقليم «قيرين»، وأنه لم يكن يفصل بين الإقليمين مفازة من أرض لا يمكن السير فيها. وقد طرأ على إقليم «لوبيا» فيما بعد شيء من الفساد والخراب حتى أتى القرن السادس، فأصبح «جستنيان» يعوض الحاكم عن فقر إقليمه بأن ضم إقليم «مريوط» إلى حكمه. على أن الطريق بين بنطابوليس والإسكندرية بقي مع ذلك محفوظا، مراحله محددة، وليس به من قطوع تذكر، ولا من عائق يعوق السير به، بل وما زال الطريق متصلا قائما إلى اليوم الذي نصفه في هذا الكتاب. وهذا أمر ثابت قام عليه الدليل القاطع؛ ذلك لأنا نعلم أن الجيش الفارسي سار في أوائل القرن السابع بعد فتح مصر ليفتح بنطابوليس وكان سيره في البر، ثم عاد بعد أن فاز فوزا مبينا في غزوته تلك. ويقول «جبون» إن تلك الغزوة قضت قضاء تاما على المحلات اليونانية في مدينة «قيرين»، ولنذكر أن ذلك لم يكن إلا بعد سنوات تسع من غزوة «نيقتاس»، ولكن «جبون» قد أخطأ الصواب كل الخطأ؛ إذ زعم أن جيوش «كسرى» جرت على ذلك الإقليم ذيل الخراب والعفاء؛ فالحق أن تلك الجيوش أحدثت بالإقليم ضررا عظيما، ولكنه لم يكن تخريبا قضى عليه، ولا تدميرا لا قيام بعده، بل إن الأمر كان على خلاف ذلك؛ فإن عمرو بن العاص العربي عندما فتح الإسكندرية بعد نحو ثلاثين سنة من ذلك الحادث اتجه نظره بالطبع إلى إقليم بنطابوليس، وسار نحوه فاتحا «برقة» و«قيرين»، وليس في وصف تلك الفتوح ما يدل على أن ذلك المسير كان عملا حربيا خطيرا، ولا أن العرب تغلبوا فيه على صعاب طبيعية.
نامعلوم صفحہ