وأسف المعز لموت حمدون وأمر أن يجهز ويناح عليه ويدفن. والتفت إلى لمياء فإذا هي قد وقفت لا تحير خطابا كأنها أصيبت بجمود، فقال لها: «تعالي يا بنية، رحم الله والدك إنه مات مظلوما، والله يتولاه برحمته فأنت الآن ابنتنا، لا نقول ذلك تعزية لك لكنك أتيت في مصلحتنا ما لا يأتيه الابن الغيور.» ومد يده إلى كتفها وربت عليه بحنو وعطف وقال: «هيا بنا إلى قصرنا في المنصورية واحسبوا أن هذا الفرح لم يكن ... وستجدين هناك أم الأمراء وتأنسين بها ...»
فلم تجبه لكنها أخذت في البكاء وهي صامتة تناجي نفسها بأمور لا تخطر لأحد من الحاضرين، لكنها أحست بغضب شديد على سالم وجاشت عواطفها ورأت في نفسها ميلا للانتقام منه. ومن قواعد الحب وطبائع المحبين أن المتفاني في حب شخص يحتمل منه ما شاء من التجني والدلال والإعراض ولا يزداد إلا شغفا وتفانيا، لكنه لا يحتمل الخيانة ... فإذا تأكد أنه خانه في عواطفه أو خادعه أو داجاه لغرض في نفسه انقلب حبه بغضا وصار تفانيه نقمة، فأحست لمياء بميل شديد إلى الانتقام من سالم وقد تحققت خيانته؛ لأنه كان يظهر حبه حيلة للفتك بأعظم المحسنين إليها وإليه.
وأمر المعز أن تقوض الفساطيط والسرادقات ويؤجل العرس إلى وقت آخر فالتفتت لمياء عند ذلك وقد هاجت أشجانها وقالت: «نؤجله يا سيدي حتى ننتقم لنفسنا من الكائدين، فإذا وافقني أمير المؤمنين على ذلك ضاعف فضله علي.»
فقال: «سننظر في ذلك.» وأمر رجاله بالرجوع إلى المنصورية فاشتغلوا بتقويض الخيام، وركب المعز وقائده ولمياء والحسين وسائر الحاشية إلى المنصورية والغلمان يحملون المشاعل بين أيديهم.
وفى صباح اليوم التالي احتفلوا بدفن حمدون وبكته لمياء بكاء مرا لسبب لا يعرفه سواها، وهو اعتقادها أنه قتل بسذاجته وسلامة نيته ودهاء ذلك اللعين أبي حامد.
وكانت لمياء حال وصولها إلى القصر في ذلك المساء دعتها أم الأمراء إلى غرفتها وأخذت في تعزيتها بعبارات الحنو والحب كما تخاطب الوالدة ابنتها، فأحست لمياء براحة وزادت تعلقا بها. وأيقنت أنها كانت على هدى بإخلاصها لتلك الملكة وإنما شوشوا عليها أفكارها بمكائدهم.
الفصل الحادي والأربعون
لمياء وأم الأمراء
ولم تطل الملكة الحديث تلك الليلة والميت لم يدفن بعد. ففي الصباح التالي لما علمت بدفنه بعثت إلى لمياء وأمرتها أن لا تفارقها وبالغت في إكرامها وتعزيتها وذكرت الحسين في أثناء حديثها، فتذكرت لمياء أنها لم تشاهده في ذلك اليوم ولا رأته بعد عودته معهم في المساء. فاشتغل خاطرها بشأنه وشعرت بميل إلى رؤيته وودت أن تلتقي به في خلوة لتبث له أمورا تحب أن تساره بها بعدما أصابها من قتل والدها وتغير قلبها على سالم، فلما سمعت أم الأمراء تذكره أحبت أن تغتنم الفرصة وتسأل عنه فغلب الحياء عليها فسكتت. ولحظت أم الأمراء خجلها فقالت: «إن الحسين سيئ الحظ يا لمياء؛ انظري كيف اتفق له في يوم عرسه؟» فقالت - وهي تغص بريقها: «بل أنا التعسة يا سيدتي لأني فقدت سندي الوحيد وهو والدي فأصبحت يتيمة الأبوين.» ومنعها البكاء من إتمام الكلام.
فهمت بها أم الأمراء وضمتها إلى صدرها وقالت: «لست يتيمة يا لمياء و...»
نامعلوم صفحہ