ورأى أبو حامد أن الطبخة أوشكت أن تنضج فبادر إلى إتمام معداتها فتزحزح من مكانه كأنه يستعد لحديث طويل ونظر في أطراف الخيمة ولسان حاله يقول: «هل يسمعنا أحد؟» فقال حمدون: «أنت في مأمن يا أبا حامد؛ لأني أمرت الحرس بالوقوف بعيدا وأن يمنعوا أيا كان من الوصول إلينا.»
فمسح شاربيه ولحيته بأنامله ونظر إلى لمياء باهتمام، وقال لها: «قد وصلنا الآن إلى الحد يا لمياء، هذا هو سالم صاحب الشأن وقد سمعت قوله، أنا غريب عن آل مدرار وإن كنت صديقا لهم، ولكنني مستعد أن أبذل حياتي في سبيل نصرة الحق ومقاومة أولئك الخونة الذين نالوا هذه السيادة بالغدر والنفاق - كما تعلمين - فلا يغرك ما يبدونه من التقشف باللباس والأثاث؛ فإن الذهب عندهم بالقناطير وإنما يموهون على الناس ليطيعوهم ثم يفتكوا بهم كما فتكوا بأبي عبد الله الشيعي.»
وتنهد ثم عاد إلى الكلام فقال: «وهذا والدك صديقي الأمير حمدون أولى الناس بالإمارة ولا حاجة إلى دعوى كاذبة مثل دعواهم من الانتساب إلى فاطمة الزهراء وإنما يكفيكم الانتساب إلى آل مدرار وشرفهم معروف لا يختلف فيه اثنان. لا تظني هذا الفكر حديثا عندنا، ولعل والدك لم يقله لك ولكننا بحثنا فيه ونحن في سجلماسة ودبرنا المهمات اللازمة للتغلب على أفريقية كلها ففسد تدبيرنا لأسباب قهرية وأفلح ذلك الصقلي وتغلب علينا ولكن تغلبه لا ينبغي أن يضعف عزمنا عن طلب حقنا.
وقد تتوهمين أن رجالنا أضعف من أن يستطيعوا محاربة جند القيروان! إن ذلك صحيح بحسب الظاهر وقد ينخدع به غير العارف، أما أنا فأؤكد لك أن هؤلاء الأمراء والمشائخ من كتامة وصنهاجة الذين يظهرون الطاعة لهذا الرجل إنما يفعلون ذلك تملقا له، وهم يتوقعون فرصة للخروج عليه ولا بد من واحد يبدأ بهذا العمل فيتبعه سائر الأمراء وتكون السيادة له فأحب أن يكون ذلك الشرف لوالدك؛ فإنه أعرقهم حسبا ونسبا، فلا يكاد ينهض حتى ينهضوا معه، فكيف إذا دبرنا وسيلة لقتل المعز وقائده وهما روح تلك القوة الموهومة، فإن القوم كلهم يأتون معنا، حتى أهل الخليفة أنفسهم؛ لأنهم ناقمون متحاسدون ...» وتنحنح ومسح شاربيه بمنديله - تشاغل بذلك لحظة وهو ينتظر ما يبدو من لمياء.
أما هي فكانت قد غلبت عليها شهوة الشرف وحب الاستقلال، وتذكرت ما كان لها من السيادة والأبهة في زمن والدها، فغشى ذلك على احترامها للمعز وحبها لأم الأمراء. وكان أبو حامد صاحب نفوذ في حديثه وسلطان في برهانه، فأقنعها كلامه ورأت الحق في جانبه وتأثرت منه حتى شغلها عن وجود سالم هناك. لكنها ما زالت ترى صعوبة ذلك العمل فظلت ساكتة؛ لتسمع تمام الحديث وترى ما يراه سالم. وأدرك أبو حامد ما في خاطرها فقال: «إني أوجه الكلام لك يا لمياء لعلمي أنك عاقلة، وعليك المعول في هذا الأمر، فلا تغرك كثرة جند القيروان للأسباب التي قدمناها وعندنا مع ذلك جند يظهر عند الحاجة وعندنا أموال مدفونة لو أخرجناها لدهش العالم من كثرتها وهي مهيأة قبل ولادتك وولادة سالم لمقاومة هؤلاء الغادرين وإرجاع الملك إلى أصحابه وليس في أفريقية أولى به من والدك.»
فظهر لها من كلامه أمور كانت قد عرفت بعضها من أحاديثها مع سالم قبل الأسر - والمحب لا يؤتمن على سر لا يبوح إلى حبيبه فإذا شئت أن يبقى سرك مكتوما احذر أن تستودعه محبا - لكنها أظهرت أنها لم تكن عالمة بشيء من هذا القبيل إلا في تلك الساعة ونظرت إلى والدها فرأته ساكتا والتفتت إلى سالم فإذا هو ينظر إليها كأنه يتوقع أن يسمع رأيها فقالت: «إنكم تسعون في أمر هام تقطع دونه الرقاب وتزهق النفوس ولكن بذل الحياة في هذا السبيل لذيذ. إني يا عماه أبذل حياتي إذا كان في بذلها مصلحة لوالدي على أني أستميحكم عذرا في كلمة أقولها وإن كنت فتاة ضعيفة العقل ... أن ما تنهضون له من جمع كلمة القبائل تحت سلطان رجل واحد لم نسمع أنه تم لغير الخلفاء أصحاب النسب في قريش. إن الناس لا يخضعون لسواهم، حتى صاحب القيروان لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بهذا النسب سواء كان صحيحا أو غير صحيح. وبغير ذلك لا يتم شيء و ...»
فقطع أبو حامد كلامها وهو يضحك ضحك الإعجاب بتعقلها وسداد رأيها، وقال: «بورك فيك من حكيمة عاقلة؛ قد استدركت علينا أمرا لم يستدركه أحد سواك ولا ينتبه له غير العقلاء الدهاة ... صدقت، إن الأمراء لا تجتمع كلمتهم إلا باسم الدين، وهذا أمر قد دبرناه وخابرنا بشأنه خلافة أرسخ قدما وأصدق نسبا من هذه، كوني مطمئنة؛ لم يبق الآن إلا خطوة واحدة، وهي أن نتخلص من هذين الرجلين وثالثهما إذا أمكن، وهذا لا يتم إلا على يدك ... لا أطلب إليك أن تباشري ذلك بنفسك وإنما يطلب منك أن تظهري أنك رضيت بابن جوهر ونحن ندبر ما بقي ونقول ما ينبغي.»
فأطرقت هنيهة تفكر في ما رأته من الغرائب في تلك الليلة وكيف أتت وصدرها مملوء من الإعجاب بالمعز والإخلاص له ولامرأته وما لاقاها به الحسين بن جوهر في الطريق من دلائل التعفف وصدق المودة وهي الآن تكاد تؤامر على قتلهم! فأجفلت وظهر التردد في عينيها فتلقاها سالم بالحديث قائلا: «لم أكن أشك أنك لو طلب منك أن تقتلي ذلك الرجل بيدك في سبيل إرجاع سلطة والدك لفعلت، فكيف وهم إنما يطلبون سكوتك ورضاك؟ أطيعي؛ لئلا يقال إنك وقفت عثرة في طريقهم وأنا على يقين أنهم ظافرون، وسترين أن ما يبدو لك من مظاهر القوة في هؤلاء العبيديين إنما هو سحابة صيف.»
وكان لكلام سالم وقع خاص على أذني لمياء ولو خاطبها في أن ترمي نفسها في النار لفعلت. فلم تجد بدا من إظهار الرضا واعتقدت أنهم على صواب، ومع ذلك تركت الأمر للمستقبل؛ فإن الوقت يفعل ما تعجز عنه حيل الرجال، فقالت لسالم: «إنما كنت أتمنع رغبة فيك عن سواك فإذا كنت تريد ذلك فأنا فاعلة.»
فقطع كلامها بلحن الحب وقال: «لا أعني أن تقبلي إلى الآخر ... ولكن اقبلي فإذا لم أستطع قطع الحبل قبل أن يقبضوا عليه فما أنا أهل للحصول عليك، وتكونين قد حصلت على أعظم شاب عندهم .» قال ذلك وتنحنح وابتسم يظهر المداعبة وهو بالحقيقة يعني ما يقول - وهو الواقع.
نامعلوم صفحہ