أما لمياء فلما رأت والدها هناك سرت لتقربه من المعز؛ لأنها كانت تعلم ما في خاطره عليه وأنه لم يكن أثقل على قلبه من ذلك الأسر. فسرها أولا أنه رضي بإرسالها إلى بيت الخليفة وزاد سرورها أنه تقرب منه. وهي تود ذلك من جملة وجوه أهمها اعتقادها الكرامة بالمعز؛ لأنه من نسل فاطمة الزهراء وهي حسنة الاعتقاد بالشيعة. وإنما كان همها بعد ذلك أن يأتي سالم ويتقرب إلى المعز فيتم لها السرور. وان كانت من فطرتها عزيزة الجانب ميالة إلى الاستقلال وقد حاربت في سبيله ولم تسلم إلا قهرا. لكنها لم تكن راضية عن أعمال والدها فإن بين أخلاقها وأخلاقه بونا عظيما. وقد لقيت من المعز وامرأته كل رعاية وإكرام فوطنت النفس على التفاني في مصلحتهما وإنما ينقصها العثور على سالم وإقناعه بالتسليم معها. ومع علمها بصعوبة تسليمه كانت تعتقد أنها تقدر أن تتغلب عليه بالدالة والبرهان.
أما المعز فالتفت إلى جوهر لفتة صديق معجب بصديقه وقال: «يسرني كثيرا أن تجتمع كلمة شيعتنا على المطالبة بحقوقنا.»
فقال جوهر: «إن ذلك هين بتوفيق مولانا - أعزه الله - وأنا أعد تقريب أمير سجلماسة الباسل فألا مباركا؛ لأنه رجل حرب وله أعوان يتفانون في نصرته، فبمثله يعز الملك.»
فقال حمدون: «إني أفاخر سائر الأمراء بهذه الحظوة بين يدي أمير المؤمنين وقد أصبحت الآن سيفا من سيوفه أناضل عنه إلى آخر نسمة من حياتي، أقول ذلك عني وعن رجال قبيلتي.»
فابتسم المعز وقال: «إنك إذا فعلت ذلك إنما تنصر الحق كما أنصره أنا. وإن إمامتي على رجالي لا تميزني عنهم بشيء من مرافق الحياة. بل أنا أكثرهم تعبا وسهرا كما ترى مما بين يدي من الأعمال، إني أعمل بيدي ما لا يعمله صاحب بغداد ولا صاحب قرطبة. أنظر في كل شيء بنفسي، لا أقول ذلك افتخارا ولكنني أقول الحق فما أنا إمامكم إلا بما خصني به الله من النسب الطاهر وأما فيما خلا ذلك فأنا واحد منكم.»
فقال حمدون - وهو يظهر الإخلاص: «إني أحمد الله بما من علي به من نعم أمير المؤمنين وسيرى مني ما تقر به عينه وتنبسط نفسه.»
فأبرقت أسرة جوهر فرحا بنجاح مسعاه، ونظر إلى المعز نظرة فهم المعز مراده منها، فالتفت إلى حمدون لفتة تودد وقال: «وما أنا راض لأمير سجلماسة بما أردته لغيره من الأمراء المقربين. بل أنا أحب أختصه بإكرام لم ينله سواه. أنت تعلم منزلة قائدنا جوهر حامي حمى هذه الدولة. إنه صاحب المنزلة الأولى عندنا فنحب أن نزيد أسباب القربى بينك وبينه. وهي قربى لنا أيضا.»
فأدرك حمدون غرضه ولكنه تجاهل، وقال: «إن أمر مولانا مقبول على الرأس والعين ... فليأمر بما يراه.»
قال: «نحب أن نخطب ابنتك لمياء إلى الحسين بن قائدنا جوهر وهو من خيرة الشبان، فهل توافقني على ذلك؟»
فبادر حمدون إلى الجواب بلهفة وقال: «إن هذا شرف عظيم لنا يا سيدي ... إن لمياء لا تستحق هذه النعمة؛ لأن جوهرا حفظه الله قدوة القواد، وإن لمياء جارية أمير المؤمنين يضعها حيثما شاء ... لأمير المؤمنين الأمر ولنا الطاعة .»
نامعلوم صفحہ