ومشتا في دهليز إلى غرفة في أحد جدرانها مقعد على دكة يصعد إليه ببضع درجات، وراءه ستر يحجبه. وفى الستر ثقوب إذا شاء الجالس أن يشرف على من في القاعة الكبراء رآهم وسمع أقوالهم. فتناولتها أم الأمراء بيدها حتى أجلستها بجانبها على المقعد، وقالت لها: «انظري من هذا الثقب.» فنظرت فإذا هي تشرف على مجلس الخليفة من أعلى الحائط بحيث ترى الجلوس هناك ولا يرونها.
رأت قاعة واسعة قد فرشت أرضها باللبود البسيط وقد جلس المعز لدين الله في صدرها على منصة كالوسادة الصغيرة وهو في لباس بسيط بالنسبة إلى سواه من الملوك والخلفاء. على رأسه العمامة وعلى كتفيه برنس كالعباءة يغطي أثوابه. وقد التف به وأقعد الأربعاء قعود من أتعبه العمل فتربع وألقى كوعيه على فخديه. وإلى جانبه حسام مغمد وفي يمينه قلم. وفى يساره ورقة من الكاغد ينظر إليها وكاتبه واقف أمامه ينتظر أمره فبعد أن تأمل الورقة وضع القلم بجانب دواة بين يديه ودفع الورقة إلى الكاتب وأشار إليه أن يذهب. ثم تنفس الصعداء وقال: «إذا شاء الأمراء والمشائخ الدخول فليتفضلوا.»
فلما سمعت أم الأمراء قوله قالت للمياء: «إنه يدعو مشائخ كتامة وصنهاجة وهوارة، وهم رجال دولته من أمراء البربر؛ لعله يريد النظر في أمر هام!»
فسرت لمياء لهذه الفرصة؛ لترى كيف يعقد مجلس الملوك. على أنها ما لبثت أن رأت جماعة من المشائخ والأمراء دخلوا وألقوا التحية بصوت عال كالعادة. وأشار إليهم المعز فقعدوا على وسادات مثل وسادته محيطة بالقاعة. وجعلت لمياء تتفرس فيهم فرأت بينهم وجوها تعرفها من قبل ولما استقر بهم الجلوس جعل المعز يرحب بهم وهم يدعون له.
ثم قال: «قد تكبدتم المشقة في المجيء إلينا، وإنما دعوتكم لأريكم حالي من العمل. إذ قد يتصور بعض الذين لا يعلمون أن الإمامة من أسباب الراحة والتنعم والانقطاع عن العمل. نعم هي كذلك لمن شغلوا بالترف عن مصالح الدولة كما يفعل صاحب بغداد وصاحب قرطبة وأمراؤهم في الأطراف؛ لأن الدنيا شغلتهم عن الإمامة الحقة فانغمسوا بالملذات وتقلبوا في المثقل والديباج والحرير والسمور والمسك والخمر مثل سائر أرباب الدنيا.
وأما أنا فقد أحببت استقدامكم لأريكم كيف ينبغي أن يكون الإمام: انظروا إلى هذا الكساء والجبة وها أنا جالس على اللبود وهذه الأبواب مفتحة تفضي إلى خزائن الكتب، وأنا أشتغل بمكاتبة الأطراف بيدي لا ألتفت إلى أمور الدنيا إلا بما يصون أرواحكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خلواتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التكبر والتجبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلهما إلى غيركم.»
فتصدى شيخ منهم - أكبرهم سنا - وقال: «يا أمير المؤمنين قدوتنا ونعم المثال هو.»
فقال: «إذا فعلتم ذلك يقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب ... انهضوا - رحمكم الله ونصركم.»
فوقفوا وحيوه وخرجوا وقد امتلأت قلوبهم هيبة ولمياء تعجب لسرعة صرفهم وأدركت أم الأمراء فيها ذلك فقالت: «لا بد لسرعة صرفهم من سبب فقد تعودت أن أجلس هنا ساعات أسمع مباحثاتهم في أهم الأمور.»
ولم تتم كلامها حتى سمعت المعز يصفق وهو يقول: «خفيف!» فحضر غلامه فقال: «ذكرت لي منذ هنيهة أن قائدنا يحب أن يرانا على حدة فأسرعنا في صرف شيوخ كتامة لنتفرغ له. ادعه.»
نامعلوم صفحہ