قضت لمياء أياما وهي عالمة بقرب الحبيب وقدرتها على الوصول إليه لكنها لم ترض أن تلقاه؛ لأنها عاهدت نفسها على الصبر حتى تفرغ الحرب، وهي تخاف من الجهة الأخرى إذا عرف الحسين بوجودها هناك أن يحدث ما يعرقل مساعيها فتجلدت وهي تبحث طبعا عن راحته وكرامته. ومع شجاعتها ورغبتها أن يشترك الحسين في ذلك الفخر كانت نفسها تميل في باطن سرها إلى صيانته من خطر الحرب. وكانت على ثقة من قدرة جند المعز على الفتح بدون الحسين فلماذا تعرضه للسهام؟ وقد يجيئه سهم يصيب منه مقتلا وهي حريصة على بقائه. وفي ذلك من التعقل والحكمة والتسلط على العواطف ما هو جدير بعروس روايتنا.
لكن الفرصة لم تبطئ فأفاقت ذات يوم على أصوات المنادين في أسواق الفسطاط، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا لأمر هام يريدون نشره سريعا مما يعلن عنه في الصحف أو تنشر به المنشورات الرسمية في هذه الأيام. فكانت حكومة ذلك العصر تذيعه على أيدي المنادين. فسمعت لمياء صوت المنادي وله لحن خاص ينادي به وعبارات خاصة ينادي بها تدل على فحوى ما بعده كما يقرأ الكتاب من عنوانه.
سمعته يقول: «يا أهل الفسطاط قد جاءنا عدو من أفريقية يتعدى على بلادنا بلا ذنب اقترفناه سوى طمعه في الاستيلاء علينا. وبلغ مولانا الأمير أن بعض الخونة المارقين أغرى جماعة من الأعيان على التسليم، وكتبوا بذلك كتابا بعثوا به إلى الإسكندرية. فاعلموا أن هذه الخديعة إنما الغرض منها الإيقاع بالدولة. واعلموا أن الأمير - أعزه الله - وسائر رجال الدولة والقواد الإخشيدية والكافورية والأتراك وغيرهم لا يقبلون بصلح أو تسليم وإنما يتحاكمون إلى السيف، ولذلك اقتضى الإعلان حتى يكون الناس على بينة فلا يخدعون بقول ولا يصغون لوشاية. وهذه جنودنا المظفرة قد خرجوا بمضاربهم إلى بر الجيزة لملاقاة العدو إذ قد جاءت الأنباء أنهم يتقدمون إلى هناك. فيا أهل الفسطاط عليكم أن تأخذوا بأيدي الجند وتقدموا ما في طاقتكم من الإسعافات المالية. تقدمونها إلى من يأتيكم من قبل الوزير أو الأمير ولا تضنوا بالمال فإنه أقل ما يبذل في سبيل الدفاع عن الدولة والملة. والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء وهو على كل شيء قدير ...»
فأطلت لمياء من نافذة عالية تشرف على الشارع فرأت ذلك المنادي يسير ووراءه الجماهير من الرجال والأولاد وقد علت الضوضاء وساد الاضطراب، فقالت في نفسها: «لا بد أن يكون لذلك اللعين أبي حامد دخل في جمع قلوب الجند على الدفاع، ولكنه باطل والقلوب متنافرة والنيات فاسدة والضغائن متبادلة.»
وهي في ذلك أتتها القهرمانة تدعوها إلى بنت الإخشيد، فأسرعت، فرأتها جالسة على شرفة من ذلك القصر تطل على النيل وما وراءه إلى الجيزة فابتدرت لمياء قائلة: «يظهر أن ذلك السجلماسي قد أفلح في جمع قلوب الأجناد ... انظري كيف يعدون النيل في القوارب إلى الجيزة وهذا الجسر بين الفسطاط والروضة يكاد ينكسر من تزاحم الأقدام عليه ولا بد أن يكون الجسر الآخر بين الروضة والجيزة كذلك أيضا. وهذه الجسور مصنوعة من السفن متلازمة جنبا لجنب وفوقها سقايف من الخشب وطبقة من الرمال والحصى يتوهم غير العارف أنها ضعيفة وهي متينة ... هل ترين معسكر الأعداء؟ إني لا أراه.»
وكانت لمياء في أثناء ذلك تبحث ببصرها عن ذلك المعسكر ولم تفرغ السيدة من كلامها حتى ظفرت لمياء بمكانه فصاحت: «انظري يا سيدتي إلى ذلك الغبار المخيم إلى اليمين والأعلام تخفق في خلاله وقد نصبت الخيام والفساطيط . هل ترينها؟»
فقالت وقد امتقع لونها: «نعم قد رأيت، ويظهر أنهم جند كثيف ... ما العمل الآن؟ ماذا ترين هل تظنين جندنا يغلب؟»
قالت: «أما سمعت قول المنادي إن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء؟»
قالت: «ما العمل الآن؟»
قالت: «أما نحن هنا فلا خوف علينا - كما قلت لك قبلا.»
نامعلوم صفحہ