فتنهد وقال: «إنه لا يداجى ... ولا فائدة من مداجاته؛ لأن الحسد يعمي ويصم.» وأطرق وهو يعمل فكرته ثم قال: «لا أبالي به ... إن الأمر لا يطول في يده بل أنا لا أرى مصر يطول أمرها في قبضة هذه الدولة و...» وتوقف عن الكلام بغتة.
فلم يفت الطبيب ما جال في خاطره فقال: «لماذا تداجيني يا يعقوب! ونحن قد شبنا معا ومصلحتنا في هذا الأمر مشتركة ... لما دعوت المعز صاحبك غضبت ... لا ينبغي لنا أن نتداجى وهؤلاء القوم وإن قدمونا وأكرمونا؛ فإنهم يكرهوننا ولولا حاجة هذا الأمير الأسود إلى طبي لما هش لي ولا كلمني، وأنت مع طول عشرتك له منذ توليت عمارة داره وأنت شاب حتى صرت ملازما لبابه ثم أجلسك في ديوانه الخاص وصرت تخدمه وتتولى أعمال الحسابات وتدخل بين يديه في كل شيء؛ فإنه لا يحبك وإنما هو في حاجة إلى عقلك وتدبيرك. هل غرك أنك كيفما دخلت أو خرجت وقف لك الحجاب والأشراف! إنه إنما فعل ذلك؛ لأنك خدمت مصلحته بإخلاص وغيرة ولم تطلب منه مالا. وأنا أعلم الناس بالمال الذي رددته عليه ولم تأخذ منه إلا القوت، فأنت الآن موضع ثقته لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعك
1
ومع ذلك هل تظنه يحبك؟ إنه لا يقدر أن يحبك ولا أن يحبني لا أقول ذلك؛ لأنك لا تعلمه بل أنا على يقين أنك أعلم به مني ولكني قلته؛ لأسهل عليك التصريح لي بما تحاول كتمانه عني وأنا أتوسمه فيك.»
وكان يعقوب يسمع كلامه ويعتقد صحة كل كلمة منه ويعلم أن ميله إلى الفاطميين لم يخف على صديقه الطبيب. وهو لم يفعل ذلك ليغدر بمولاه كافور ولكنه توسم قرب سقوط هذه الدولة ويعلم أن ابن الفرات يكرهه حسدا منه لتقدمه وأنه حالما يموت كافور يصبح هو في خطر على ماله وحياته؛ لذلك أحب أن يصل حبله بحبل الفاطميين مع البقاء على ولاء كافور لكنه كان يشق عليه أن يصرح بذلك بين يدي أحد. فلما سمع تصريح الطبيب شالوم هان عليه الدخول في الموضوع فقال: «أراك يا صاحبي سيئ الظن في هذا الرجل كثيرا.» قال: «كلا، أنا لا أسيء الظن به خاصة، لكنني لا أرى شيئا يجمعني به غير المصلحة وأرى أسباب التفريق كثيرة؛ فنحن الآن لا ينبغي لنا أن نخون هذا الأمير أو نقصر في خدمته لكنني أخاف على حياتنا بعده ... أليس كذلك يا معلم؟ قل، لا تخف إني أسر إليك أشياء كثيرة ومع ذلك لا يهمني صرحت أم لم تصرح؛ فأنت صديق المعز لدين الله الفاطمي وهذا الغلام رسوله إليك في شأن يتعلق بالدولة. اصدقني؛ لعلي أستطيع خدمتك.»
فلم ير يعقوب بدا من الكلام وهو يثق بصديقه فقال: «انظر يا صاحبي شالوم. لا تظن توقفي عن التصريح لك من ضعف ثقتي بك؛ فأنت تعلم ما بيننا من الأسرار القديمة والحديثة. ولكني مضطرب الرأي في الأمر. إن هذا الغلام رسول من المعز. نعم. ولكن كن على يقين أني لم أصاحب المعز لأخون كافورا؛ فإني خادمه، مقيم على ولائه ما دام حيا. أما إذا مات فإني أخاف خلفاءه، كبيرهم وصغيرهم، بل أخافهم على مصر وأهلها؛ إنهم لا يصلحون للحكومة لما تعلمه من انقسامهم واضطراب أحوالهم، فلا بد من خروج هذه البلاد من أيديهم ... وإذا لم يكن بد من خروجها فمن تراه أولى بها؟ إن القوم في بغداد مشغولون بأنفسهم، إن بغداد مسقط رأسي وأحبها كثيرا لكنني أراها بعيدة عن مصلحة مصر، وهؤلاء الفاطميون دولة جديدة رشيدة، كثيرا ما سمعت عن تعقل خلفائها وعدلهم. فإذا تولوها كان ذلك من أسباب سعادتها ...»
ثم تدارك ما قاله بلهفة قائلا: «أما إذا اتفق الإخشيديون وولوا من يصلح للولاية ولم يؤذونا بأموالنا وأرواحنا فمن ضعف الرأي أن نستبدلهم بسواهم ... ألا توافقني على ذلك؟»
فأبرقت أسرة الطبيب شالوم من سماع ذلك الكلام؛ لأنه لسان حاله تماما، فابتسم وقال: «بارك الله فيك يا معلم لقد نطقت بلساني وعبرت عن جناني. نحن متفقان و...»
فقطع كلامه قائلا: «لم أشاهد الأمير كافورا منذ أمس؛ لأني شغلت عن الذهاب إليه بسبب سأقصه عليك ... كيف هو اليوم ... كيف حاله؟»
قال وهو يرفع حاجبيه «إنه ليس على ما يرام ... كانت الحمى عليه شديدة في هذا الصباح، وكنت أتوقع هبوطها فلم تهبط رغم ما اتخذته من الوسائل المرطبة. ولما أعيتني الحيلة رجعت إلى كتاب الرازي وأخذت أطالع فيه. وخطر لي ما نتوقعه من تبدل الأحوال فرأيت أن آتي إليك فحملت الكتاب معي ولم أكلف غلامي حمله في جملة ما يحمله من الأدوات والعقاقير.»
نامعلوم صفحہ