205

Fasl al-Khitab fi al-Zuhd wa al-Raqa'iq wa al-Adab

فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب

اصناف

والمؤمن يعلم الحكمة من خلقه في هذه الدنيا، حيث قال الله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:٥٦] فسبب خلق الإنسان ووجوده في هذه الدنيا، هو عبادة الله سبحانه، والعبادة هنا بالمعنى الأعم، فتكون الحياة كلها لله ﷾، فيكون في صلاته، وصيامه وزكاته وحجه وعمرته واعتكافه؛ مراقبًا لله ﷾؛ لأن هذه كلها أعمال عبادية يتعبد بها لله سبحانه. وكذلك يكون في معاملاته مع الخلق مراقبًا لله ﷾، فهو يراقبه تعالى في تجارته وبيعه وشرائه وإجارته ووكالته وكفالته وضمانه وأمانته ووديعته. فهو يراقب الله ﵎ دائمًا في كل عمل من الأعمال؛ لأنه يستشعر أنه يعبد الله بهذا العمل، فإذا باع واشترى استشعر قول النبي ﷺ: (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)، فإذا استشعر ذلك فإنه يتعامل مع الناس بناءً على هذا الشعور. فمن يرجو رحمة الله ﷾، فإنه إذا تعامل مع الناس تعامل بحسن الخلق، لا ليقال: خلقه حسن -وإن كان من الحسن أن يمدح الإنسان وهو لا يطلب ذلك- وإنما يطلب ما عند الله سبحانه، فإن صاحب الخلق الحسن يكون يوم القيامة في درجة عظيمة جدًا بجوار النبي صلوات الله وسلامه عليه بجوار باقي النبيين ﵈. فالعبادة التي نحن مخلوقون لها ليست هي الصلاة وحدها -وإن كانت الصلاة من أعظم العبادات- ولكن العبادة التي خُلقنا من أجلها هي العبادة بمعناها الأعم، فيدخل فيها العبادات والمعاملات وأحوال الإنسان مع أهله وغيرهم. فإذا علم العبد هذا فإنه سيفرغ نفسه لهذه العبادة، فإذا به يراقب ربه ليل نهار، فيكون نومه وقيامه عبادة لله سبحانه، فهو عندما ينام إنما ينام ليستريح ويتقوى ليؤدي عبادة الله ﷾ ويقيم الصلاة في أوقاتها، وهكذا لا يزال هذا العبد ينتظر عبادة وراء عبادة مدى حياته، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]، فالمؤمن يقول لنفسه: إني أمرت بذلك وأنا من المسلمين.

1 / 204