وقد تزوج الخطاب، فيمن تزوج، حنتمة بنت هاشم بن المغيرة من بني مخزوم، وهي لخالد بن الوليد ابنة عم لحا؛ فالمغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم جدهما معا، وكان المغيرة المخزومي سيدا من سادات قريش وبطلا من أبطالها، وكانت له إمارة الجند التي كانت لسيد بني مخزوم، وكان لذلك يلقب صاحب الأعنة، وكان لمكانته من قريش أول من نصح إلى عبد المطلب جد النبي ألا يذبح ابنه عبد الله وفاء لنذره؛ فقد قال له: «والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.» وكانت حنتمة لمكانتها هذه مرعية الجانب من زوجها، مفضلة عنده على غيرها من ضرائرها، فلما ولدت عمر فرح أبوه لمولده، وقرب للأصنام مبالغة في إظهار سروره، ونال فقراء بني عدي الكثيرون يومئذ من الطعام ما قل عهدهم به.
متى ولد عمر؟ ذلك أمر لا سبيل إلى القطع به، فالثابت أنه مات في أحد الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، لكن الخلاف قائم على سنه يوم مات: قيل: كان ابن خمس وخمسين، وقيل: كان ابن سبع وخمسين، وقيل: كان ابن ستين، وقيل: كان ابن ثلاث وستين، وقيل غير ذلك، وأكبر الظن أنه مات حول الستين، فإذا صح ذلك كان قد هاجر وهو دون الأربعين، وليست صحة هذا الظن مما نستطيع الجزم به.
ونشأ عمر في طفولته وصباه نشأة أمثاله من أبناء قريش، ثم امتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليلين جدا، فلم يكن في قريش كلها حين بعث النبي غير سبعة عشر رجلا يقرءون ويكتبون، ونحن نقول اليوم إنه امتاز على أقرانه بذلك، أما العرب لذلك العهد فلم يكونوا يعدون القراءة والكتابة مزية، بل كانوا يرغبون عن تعلمها وعن تعليمها أبناءهم.
ولما شب عمر جعل يرعى لأبيه إبله بضجنان وغير ضجنان من ضواحي مكة، وقد ذكرنا حديثه عن أبيه وقسوته عليه حين رعيه إبله، وروى صاحب العقد الفريد أن عمر قال يوما للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك، فأسمعه كلمة له، قال: «وإنك لقائلها؟» قال «نعم!» قال: «لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.» وكان رعي الإبل بعض ما يعهد به إلى أبناء قريش على اختلاف منازلهم من الشرف.
ولما تدرج عمر من الصبا إلى الشباب بدا في مظهر من القوة بذ به أقرانه، فاقهم طولا وجسامة، حتى لقد رأى عوف بن مالك الناس جمعوا في صعيد واحد، فإذا رجل قد علاهم جميعا على نحو يقف النظر، فسأل عنه، فقيل: هذا عمر بن الخطاب،
5
وكان أبيض اللون تعلوه حمرة، أعسر أيسر، في رجليه روح يسرع به في مشيته.
وقد حذق من أول شبابه ألوانا من رياضة البدن؛ حذق المصارعة وركوب الخيل والفروسية، لما أسلم لقي رجلا راعيا فقال له: أشعرت أن ذلك الأعسر الأيسر أسلم؟ فقال الراعي: الذي كان يصارع في سوق عكاظ؟ فلما أجاب الرجل أنه هو، صاح الراعي: أما والله ليوسعنهم خيرا أو ليوسعنهم شرا، وكان ركوب الخيل من أحب ألوان الرياضة إليه طول حياته، أقبل يوما في خلافته على فرس يركضه حتى كاد يوطئه الناس، وعجب الناس حين رأوه فقال: وما أنكرتم! وجدت نشاطا فأخذت فرسا فركضته، وكان له في الحرب مواقف ورثها عن أخواله بني مخزوم، وذلك قول أبي بكر في مرض وفاته: «وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.»
وكما حذق الفروسية والمصارعة وغيرهما من ضروب الرياضة وألوانها، تذوق الشعر ورواه، كان يسمع الشعراء في عكاظ وفي غير عكاظ، ويحفظ عنهم ويروي ما يروقه من شعرهم، وكان له من بعد أحاديث طويلة مع الحطيئة وحسان بن ثابت والزبرقان وغيرهم، ثم إنه برز في معرفة أنساب العرب إذ تعلمها عن أبيه، فصار من أنسب العرب للعرب، وكان جيد البيان حسن الكلام، لهذا كله كان يذهب في سفارات قريش إلى غيرها من القبائل، وكانت حكومته ترضى في المنافرة كحكومة أبيه من قبله.
وكان عمر، كغيره من شبان مكة ورجالها، محبا للشراب متوفرا عليه، بل لعله كان أشد من أمثاله ولعا به، كذلك كان له صدر شبابه غرام بالغانيات، جعل الذين يترجمون له يجمعون على أنه كان صاحب خمر وصاحب نساء، وإنما كان يجري في هذا على مألوف قومه؛ فقد كان لأهل مكة بالنبيذ غرام أي غرام، وكانوا يجدون في النشوة به نعيما أي نعيم، وكانوا يتخذون من جواريهم وما ملكت أيمانهم متاعا للهوهم وشهوتهم، ويجدون في غير الجواري سلوة وجدهم وغرامهم، وشعرهم في الجاهلية يتحدث عن ذلك ويفتن فيه، ومن بعد الإسلام كان شعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فتنة لغانيات مكة ممن ورثن عن أمهاتهن وخالاتهن نزوعا إلى الهوى أثمه الإسلام ولم يكن مأثما قبله.
نامعلوم صفحہ