أوردنا عند الكلام في «أرسطبس والكلبيين» (في الفصل الثالث) ما يلي: قصد «أفلاطون في كتابه «فليبوس
» أن يحاول وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، ويرجح أن أفلاطون لم يقصد بهذا البحث إلا الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.»
ثم أثبتا ما يأتي: «أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع إلى أن ابن قورينة كان قد بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائما وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، وهذه الصورة البدائية غير المهذبة في المذهب الهيدوني؛ هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».»
هذه هي الفقرات القليلة التي أشرنا بها إلى كتاب فليبوس في البحوث السابقة، ولا شك في أن متابعة البحث في كتاب «فليبوس» واستخلاص المواضع التي يمكن أن يكون أفلاطون قد أشار فيها تلميحا أو توضحيا إلى موقف القورينيين الفلسفي، يدعونا إلى النظر في الكتاب بحيث نتدرج عند النظر فيه، من موقف إلى موقف، ما دام ذلك يسلم بنا إلى الكلام في ما نقصد إليه من هذا البحث.
ولهذا لا نجد مندوحة عن أن نمضي في البحث على طريقة ألفناها من قبل، وجرينا عليها في الكلام على كتاب «بروطاغوراس» وكتاب «ثياطيطوس».
إن العنصر الحقيقي الذي يؤلف صلب الحوار ينحصر في «الخير» أو كما سمي «الخير الأسمى»، ويقوم الحوار بين طرفين: أحدهما يؤيد أن الخير في «اللذة»، والآخر يؤيد أن الخير في «المعرفة».
ولا شك في أن أفلاطون في مثل هذا الموقف يجنح دائما إلى القول بأن المعرفة وحدها يمكن أن تكون مصدرا للسعادة، حتى إذا أغضينا عن كل ما يحتمل أن تنتجه من ممكنات اللذة، وعلى هذا لا تكون «المعرفة» منافية للذة على وجه عام.
غير أنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن القول بأن قياس المعرفة بالخير، وجعلهما متساويين من هذه الناحية، قول قد سبق به أفلاطون؛ لأنه يرجع في الواقع إلى مقررات «إقليدس الميغاري» الفلسفية، ثم نقله عنه الكلبيون، ولكن أفلاطون يحاول أن ينزل من قيمة هذه «الموازنة الفلسفية» فيقول بأن لا «اللذة» وحدها، ولا «المعرفة» وحدها، يمكنهما منفصلتين أن تنتجا السعادة، ذلك بأن السعادة دائما وحيثما وجدت، لن تكون إلا مزيجا منها.
وفي هذا الموقف يرجع أفلاطون إلى أسلوب كثر ما عمد إليه في كتابه «الجمهورية»، وهو أسلوب أقرب ما يكون إلى الأسلوب العلمي التحليلي، وبالأحرى أسلوب التفريق بين المعقولات ثم وزنها ومناقشتها، فهو يجرد حياة اللذة من كل ما يحتمل أن يمازجها من «الذكاء»، ويجرد الذكاء من كل ما يحتمل أن يمازجه من اللذة، ثم يقارن بعد ذلك كلا من الحياتين، إذا اتفق أن شخصا حاول أن يحيا إحداهما، فيبرهن على أن حياة اللذة لا تكفي المرء، بقوله إن الذاكرة وحياة الترقب (الأمل والرجاء وما إليهما) ينضبان أكبر نبع يمكن أن يفيض علينا باللذائذ، وإن شخصا - إذا اتفق وكان على ما وصف أفلاطون أو بالأحرى على ما تخيل - يصبح لمجرد إسفافه الشعوري؛ لا يفترق عن الحيوانات الدنيا، كالأصداف والحيوانيات البحرية.
وأما الناحية الأخرى - ويعني بها الحياة العقلية الصرفة (الذكاء) - فإذا لم يمسها ريح من اللذة والألم، فإنها لا تكون أكثر من جمود، يفقد معه الإحساس والشعور، ولا يحاول أفلاطون في هذا الموطن أن يحلل هذه الحالة التي تخيلها، وإنما يرفضها على أنها غير خليقة بالإنسان.
نامعلوم صفحہ