وعلى هذا يصبح «فن الحياة» عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة على الصورة التي استنتجها أفلاطون في آخر كتابه بروطاغوراس، وهي صورة حقة تقوم على فلسفة سقراط، ولكن أفلاطون لم يؤمن بما استنتج من فلسفة أستاذه، إيمانا صريحا كاملا.
ولأفلاطون في كتابه «بروطاغوراس» اتجاهان، ففي أولهما يتجه إلى الكلام في الفضيلة، أما في الثاني فينصرف إلى وزن اللذة والألم، ولعله في هذا الموطن قد استنتج من فلسفة أستاذه سقراط كل ما استنتج خدنه وقرينه أرسطبس، على أنه لا يبعد أن يكون أفلاطون قد تأثر باستنتاج أرسطبس المباشر في فلسفة اللذة، فوعى بعض ما يترتب عليها من النتائج، فلما وصلت المناقشة في كتاب «بروطاغوراس» إلى موقف يؤدي منطقا إلى فكرة أرسطبس، لم يكن من مندوحة أن يبرز الوعي الذي وعاه أفلاطون من فلسفة خدنه، ويظهر في ميدان الصراع الفكري فتصبح الحياة عند أفلاطون «فنا» ويكون هذا الفن ضربا من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.
ولكن كيف تدرج البحث ليصل إلى هذه النتيجة؟ كان أول التدرج في البحث، أن سقراط حاول أن ينقض قولا «سوقيا» يتلخص في أن الإنسان يخطئ مختارا، وأنه يعرف «الخير»، ولكنه يتنكب الخير باختياره إذا استقوت عليه «اللذة» أو بعض الشهوات الأخرى كالغضب أو الخوف أو الحب أو الحزن، ويأخذ بعد ذلك سقراط في محاولة أخرى يريد أن يخلص من طريقها إلى البرهنة على أن «للعقل» السلطة العليا، والمنزلة الأولى في توجيه سلوك الإنسان، وعلى هذا يوافق بروطاغوراس.
غير أن موافقة بروطاغوراس على قول سقراط هذا، تسوق المناقشة إلى أفق آخر، يدلف فيه سقراط إلى بحث فكرة شائعة مجملها أن الإنسان غالبا ما يعرف «الشر» أنه «شر»، ولكنه يفعله، ويصف هذه الفكرة بأنها أضحوكة مزرية، ثم يحاول أن يبرهن على هذا، فيقول بأن كل إنسان إنما يعمل في سبيل الحصول على «أخير»
5
ما يتمنى لنفسه، وأن هذا يحمل الإنسان على أن يجعل اللذة موازنة للخير، والألم موازنا للشر، ومن هنا ينحصر عمله في الحصول على أكبر قسط من اللذة، وأقل قسط من الألم، ولذلك تراه يتفادى اللذائذ أحيانا، ما دامت تؤدي إلى آلام ترجحها، أما المعنى الذي نستنتجه من قول البعض بأن الإنسان إنما تستقوي على مشاعره اللذائذ، فإنه لا يدل في الحقيقة إلا على أن اللذائذ النزيرة ما دامت قريبة، وفي متناول اليد، تفضل دائما على اللذائذ العظيمة، ما دامت بعيدة التناول، والسبب في هذا أن قرب اللذائذ يضخمها، كما يضخم القرب الأحجام، وفي مثل هذه الحالات قد يخدع العقل وتفسد أحكامه، على أن الأخطاء التي قد تنتج عن خداع العقل، يمكن أن يتلافاها كل من في مستطاعه أن يزن، وأن يقيس وأن يقدر تقديرا صحيحا؛ حالات اللذة والألم، وعلى هذا يصبح السلوك الواجب اتباعه في الحياة، نوعا من الموازنات أو الأقيسة، وبالأحرى ضربا من الحكمة أو المعرفة. أما الحالة المضادة لهذه؛ وهي الحالة التي تستقوي فيها اللذة أو المشاعر على الإنسان وتستعبده، فما هي إلا الحمق والجهالة، ولا شك في أنها أدنى الجهالات جميعا.
ننتقل من ثم إلى الموضع الثاني لنتكلم في هيدونية أفلاطون، ولنبين عن اتجاهه التفكيري، ولنظهر الفارق بينه وبين أرسطبس من حيث النزعة والاتجاه.
يظهر أفلاطون في آخر كتابه «بروطاغوراس» شكه في أن اللذة والألم يشملان كل ما نعني «بالخير والشر» ويعقب على هذا بقوله: «إننا لا نقصد بالأغراض عادة إلا اللذائذ والآلام، وما يتعلق بهما من الميول والرغبات، وإن كل المخلوقات الحية إنما تعمل جاهدة في سبيل هذه الأغراض مدفوعة إليها بانفعالاتها.» ولهذا يمضي أفلاطون في تعداد اللذائذ والآلام، ويقارنها بعضها ببعض، من حيث عددها وامتدادها وقوتها، ثم يقول بأننا نختار الآلام الضئيلة، إذا ترتبت عليها لذائذ عظيمة، ولكنا لا نختار اللذائذ الضئيلة، إذا ترتبت عليها آلام عظيمة، وهنا يشير إلى الحالة السلبية في السلوك، وهي الحالة التي نختارها لتحل محل الألم، ولكنا نرفضها، إذا حاولت أن تحل محل اللذة.
ولقد حاول أفلاطون، بعد هذا، أن يثبت أن أمتع حالات الحياة حالة تنيلنا ذلك الثواب الذي نتطلع إليه جميعا، والذي ينحصر في أن ترجح مسراتنا أحزاننا، ولا شك مطلقا، في أن بين هيدونية أفلاطون وهيدونية أرسطبس، آصرة ونسبا قويا، ولكن الفارق ليس في العنصر الذي تقوم عليه هيدونية كل من هذين العلمين، بل في النزعة العقلية التي تدخل أفلاطون في حيز الآلهيين وأرسطبس في حيز الإنسانيين؛ فتجعل الأول ينظر في المثاليات، والثاني ينظر في الحقائق الواقعة.
أرسطبس وأفلاطون في كتابه «فليبوس»
نامعلوم صفحہ