محاولين أن نحدد ما هو «خير» عن طريق ما نعتقد من قبل أنه كذلك، ولسنا بحاجة إلى القول إن هذه ليست بالطريقة السليمة في التفكير؛ ولذا فإن الحجج التي توجه ضد مذهب اللذة وتكون مصوغة بهذه الطريقة لا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد. غير أن تهمة عدم الكفاية أخطر بكثير، وينبغي لنا أن نبحثها بحثا كاملا.
فلنذكر، في البداية، أن مذهب اللذة الأخلاقي يستطيع الوقوف على أرجله، مستقلا تماما عن صواب أو خطأ النوع النفسي من مذهب اللذة. فلسنا بحاجة إلى الاعتقاد بأن الدافع الوحيد لكل سلوك بشري هو مبدأ اللذة والألم، لكي ننتهي من ذلك إلى أن التقويمات الأخلاقية ينبغي أن تكون على أساس سعادة البشر وما فيه مصلحتهم. وهكذا فعندما يتهم مذهب اللذة بأنه غير كاف من حيث هو تفسير لسلوكنا، أو يقال إن علم النفس الحديث يؤدي إلى استبعاد هذا المذهب، فينبغي أن نتأكد هل الناقد يدرج النوع الأخلاقي من المذهب ضمن اتهامه هذا؟ ذلك لأنه إذا كان لأحد أن يتهم مذهب اللذة الأخلاقي بأنه نظرية غير كافية، فينبغي أن يكون هذا الاتهام ناتجا عن الضعف الكامن في المذهب ذاته، لا عن أي بطلان ممكن في الوجه النفسي لهذا المذهب. وربما ازدادت نقاط الضعف العقلية في مذهب اللذة ظهورا في أثناء دراستنا للمذاهب الأخرى البديلة عنه. ولما كان أقوى صراع في هذا الميدان هو الصراع بين المذهب الشكلي ومذهب اللذة، فسوف نبدأ أولا ببحث هذا المذهب الأشد عداء لمذهب اللذة. (3) المذهب الشكلي: أقوى ناقد لمذهب اللذة
للمذهب الشكلي في الأخلاق صلات وثيقة بالنظرة المطلقة التي تحدثنا عنها في الفصل السابق. وأهم ما يقول به هذا المذهب هو أن خيرية الفعل أو شريته صفة كامنة فيه، مستقلة عن كل شيء - عن الزمان والمكان والظروف وما إلى ذلك. وفضلا عن ذلك فإن هذه الصفة الكامنة أو المطلقة للفعل مستقلة عن أية نتائج مترتبة عليه. فليست لنتائج الفعل صلة بخيريته أو أخلاقيته، وعلى حين أن القائل بمذهب اللذة يرى أن كل معايير الصواب والخطأ ينبغي أن ترتكز آخر الأمر على نتائج كل فعل، فإن القائل بالمذهب الشكلي يعتقد أن للمعايير الأخلاقية سلطة واحدة فحسب: هي طبيعتها الباطنة الخاصة بها، التي لا تربطها صلة بنتائج أي فعل.
وينبغي، إنصافا منا للقائل بالمذهب الشكلي، أن نشير إلى أنه لا يدعي أن نتائج الفعل ليست لها أهمية عملية أو علاقة بالسعادة البشرية. فهو لا يقل عن القائل بمذهب اللذة شعورا بأن للجزء الأكبر من سلوكنا نتائج مستقلة من السعادة أو الشقاء بالنسبة إلى أنفسنا أو إلى الآخرين، ولكنه ينكر وجود أية علاقة بين هذه النتائج العملية وبين ما يتصف به الفعل من صواب أو خطأ. وإذن فالمذهب الشكلي ينظر إلى السلوك البشري على أنه يتم، من حيث النتائج العملية، في فراغ أخلاقي. وقد يكون مما له أهمية عظمى في نظري أن يسرق أحد سيارتي، غير أن هذا أمر لا صلة له بتحديد ما إذا كانت السرقة صوابا أم خطأ. وإنما يقول صاحب المذهب الشكلي أنها تصبح خطأ نظرا إلى صفة كامنة في أفعال السرقة لا يمكن لأي ظرف - حتى ما قد تعده المحكمة «ظرفا مخففا» - أن يغيرها. ويعتقد الفيلسوف الشكلي أن الأفعال الصالحة تنجم عنها، على وجه العموم، نتائج خيرة، والأفعال الخاطئة تنجم عنها نتائج شريرة. ولكن على الرغم من هذا التأكيد، فليس هناك ارتباط ضروري بين الاثنين، فالأفعال «الصالحة» تظل صالحة حتى لو كانت الفضيحة تؤدي دائما إلى تعاسة صاحبها وألم كل المحيطين به. وعلى العكس من ذلك، فحتى لو أدى الفعل «الخاطئ» إلى زيادة سعادة كل من يهمه الأمر، فسيظل مع ذلك خاطئا.
ويعد «إمانويل كانت» زعيم الشكليين الأخلاقيين. ومن سوء الحظ أن تفكيره لا يسهل فهمه، وأن استنتاجاته الصارمة الدقيقة لا تلقى استجابة لدى معظم الطلاب اليوم. ومع ذلك فإن الموقع الهام الذي يحتله في تاريخ الأخلاق يحتم علينا أن نفهم أفكاره الأساسية. ولما كان مذهب كانت الأخلاقي يبلغ قمته في نظرية هي أشهر نظريات «الواجب» (وهو نوع النظرية الذي تصل إليه المذاهب الشكلية في عمومها) فإن تقديم عرض موجز لتاريخ مفهوم «الواجب» يمكن أن يفيد القارئ بوصفه مدخلا إلى تفكير كانت. (4) تاريخ فكرة «الواجب»
على الرغم من أن اليونانيين القدماء كانوا «عصريين» إلى حد بعيد في كثير من أفكارهم، فإن إحساسهم بمعنى الواجب كما نفهمه اليوم كان ضعيفا. فالحياة الأخلاقية والحياة الخيرة كانت عند اليوناني شيئا واحدا؛ أي إن الحياة الخيرة كانت عندهم تلك الحياة التي كان من الضروري فيها توافر فضائل أو ميزات معينة لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتيح للإنسان الوصول إلى السعادة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك فضيلة «الاعتدال»، التي امتدحها اليونانيون أكثر مما امتدحوا أية فضيلة غيرها. ففي نظر اليوناني لم يكن الاعتدال واجبا عليه - إذ إن الاعتدال ليس إلزاما يفرض بقانون أو سلطة ما - وإنما كان مسألة علة ومعلول فحسب؛ ذلك لأن عدم الاعتدال يؤدي إلى الشقاء؛ ومن هنا كان ينبغي لنا أن نكون معتدلين. غير أن كلمة «ينبغي» لا تعبر هنا إلا عن إلزام مشروط: فإذا أردنا أن نكون سعداء فينبغي لنا (أي إن من الضروري لنا) أن نكون معتدلين في عاداتنا. ولكي نحيا حياة سعيدة يتعين علينا أن نكون معتدلين وشجعانا وعادلين وحكماء. غير أن هذه مسألة علة ومعلول مفهومة للذهن المعتاد، وليست إلزاما مطلقا أو مجردا كالإلزام المتضمن عادة في الأوامر الخلقية.
نظرية الواجب عند الرواقيين : أدخلت فكرة جديدة في التفكير الأخلاقي اليوناني قرب نهاية العصر اليوناني، عند ظهور المذهب الرواقي، وقد أدت هذه الفكرة إلى تحويل الأخلاق من مبحث يتركز حول الخير إلى مبحث يتركز حول الواجب. ومن هنا فقد مهدت الطريق للأخلاق المسيحية وللمذهب التطهري (البيوريتاني) فيما بعد. تلك هي الفكرة التي تعد فيها «الفضيلة» أو «الحياة الصالحة» إطاعة لقانون، لا مجرد مراعاة لقواعد العلة والمعلول. فالرواقي كان يرى أن الحياة الخيرة، التي ينبغي لكل حكيم أن يسعى إلى أن يحياها، هي تلك التي يتحدد بها واجب الإنسان على أساس قانون الطبيعة أو النظام العقلي للكون - أو العقل الكلي، حسب الاصطلاح الرواقي. هذا القانون الكوني للعقل الكلي يحدد لكل فرد مكانه في نظام الأشياء، ويقرر الواجب والالتزامات التي تتمشى مع هذا المركز المحدد. ولقد كان قوام الحكمة عند الرواقيين هو اعتراف المرء بهذه المكانة المحددة له، وبما يرتبط بها من الواجبات؛ وبالتالي العيش في انسجام واع مع الطبيعة - أي مع العقل الكلي. وفضلا عن ذلك فقد كان الرواقيون يرون أن كل ما يحدث في الكون يحدث وفقا لضرورة منطقية. ومن هنا فإن قبول ما تأتينا به الحياة هو أمر لا مفر لنا منه، وهو في الوقت ذاته مظهر من مظاهر الحكمة.
ومن السهل أن ندرك أن هذه النظرية الرواقية تمثل تحولا حقيقيا عن التفكير الأخلاقي اليوناني السابق، على الرغم من أنه كان لا يزال عليها أن تقطع شوطا بعيدا حتى تصل إلى المفهوم المسيحي «للواجب». فمن المؤكد أن الرواقيين، حين جعلوا من الأخلاق أو «الحياة القويمة» مسألة إطاعة لقانون، قد أكدوا بالضرورة فكرة الواجب على نحو أقوى مما أكدت به من قبل، وذلك في العالم الغربي على الأقل. ولكنهم أرادوا بتوحيدهم بين قانون الطبيعة وقانون العقل، ثم بتوحيدهم بين هذا العقل الكلي وبين العقل المتناهي الموجود لدى كل إنسان، أن يحولوا دون أن تتخذ الالتزامات التي يفرضها الواجب طابعا تعسفيا أو تسلطيا محضا. فعقلنا الفردي يتيح لنا أن ندرك عدالة العقل الكلي وحكمته وأوامره الضرورية. ومن هنا كان كل إنسان حكيم فاضل يقبل بحرية تلك الواجبات التي يفرضها علينا العقل الكلي لأنها تتفق مع ما يقضي به عقلنا الخاص ذاته. وهكذا يتفق الحكم الخاص مع الحكم الكوني، ولا يكون هناك شعور بالإكراه الخارجي، أو بالأمر التعسفي.
المسيحية والواجب : أدخلت المسيحية تغييرا آخر هاما في المفهوم الأساسي للأخلاق، كما أنها قد استحدثت الفكرة التي بنيت عليها الأخلاق الغربية الرسمية خلال القرون السبعة عشر الأخيرة. هذه الفكرة هي المذهب القائل إن قوام الحياة الأخلاقية هو طاعة القانون، وإن يكن ذلك قانونا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي اعترفت به الرواقية. هذا القانون الجديد ليس قانونا يكتشفه العقل البشري، وليس بالتالي قانونا يبدو لنا (معقولا)، وإنما هو قانون أتانا من الوحي الإلهي الذي لا يكون أمامنا إلا أن نطيعه، سواء أكان يبدو معقولا أم غير معقول، منطقيا أم تعسفيا، عادلا أم ظالما. فمن الواجب إطاعته لمجرد كونه تعبيرا عن الإرادة الإلهية، لا لأننا نرى يه وسيلة لتحقيق سعادتنا المباشرة. وبطبيعة الحال فنحن نفترض أنه لما كانت القوة التي تسهر على تنفيذ هذا القانون الإلهي هي ألوهية خيرة، فسوف يكون ذلك قانونا خيرا يعبر عن حكمة عليا. ولكن لما كان خلاصنا يتوقف مباشرة على إطاعتنا لهذا القانون، فمن الواضح أن المطلوب منا هو أداء أية واجبات يحددها، بغض النظر عن رأينا البشري في هذه الأوامر. كما ينبغي أن يلاحظ أن هذا الارتباط (بين طاعة الإنسان للقانون الإلهي وبين خلاصه) هو في المسيحية ارتباط تحدده المشيئة الإلهية، لا العقل البشري، وهذا يؤدي إلى زيادة ضعف العلاقة التي كان يقول بها الرواقيون بين العقل الكلي وبين عقلنا الفردي المتناهي. ولقد ظل أداء المسيحي لواجبه يعد، حتى يومنا هذا، مسألة طاعة لا مسألة تبصر. وقد أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة إذ قال إن سبب كون هذه الطاعة خيرا، أو حتى سبب كونها لازمة، هو أمر لا شأن لنا به. وكل ما يهمنا بحق هو أنها لازمة.
9
نامعلوم صفحہ