فقلت مدفوعا بحب استطلاع طارئ: كأنك تعرف عنها أشياء؟
هز رأسه في غموض دبلوماسي وقال: امرأة عقيم، تزوجت وطلقت مرات وهي في عنفوان جمالها، وفي كهولتها وقعت في غرام طالب، نهبها بدوره ثم ذهب!
لم يفصح عن مصادر معلوماته، ولكني حدست منطق الحوادث المتتابعة، وداخلني ارتياح منعني الحياء من إعلانه. وفي يوم الجلسة عاودني الشوق الغامض لرؤيتها. عرفتها وهي منتظرة أمام غرفة المحامين. عرفتها بالحدس قبل الحواس؛ فالجمال الذي نهب ثروتنا وأتعسنا تلاشى تماما. تبدت مفرطة في البدانة لدرجة غير مقبولة، وغاض من صفحة وجهها ماء السحر، والبقية الباقية من جمالها تراءت بلا روح، وحجبتها عن الناظرين مسحة من الكآبة الدائمة. ودون روية مضيت نحوها، ثم أحنيت رأسي تحية، وقلت: تذكرتك فلعلك تذكرينني!
رمقتني بدهشة لأول وهلة، ثم بارتباك، وردت التحية برأسها المحجوب، وقالت كمن يعتذر: آسفة لإزعاجك، ولكني مضطرة!
ونسيت ما أردت قوله، بل ارتج علي الكلام، وحل سلام، فقلت: لا بأس عليك، وليفعل الله ما يشاء.
وابتعدت عنها في هدوء وأنا أقول لنفسي: لم لا؟ .. حتى المهزلة يجب أن تتم فصولا.
ذقن الباشا
متى فتح هذا المقهى؟ علم ذلك عند الله. لم يخطر لي أن أطرح هذا السؤال في الزمن القديم. في صباي كنت أعبر الطريق أمامه كثيرا في الذهاب والجيئة كأكثر أبناء العباسية. وكانت تشع منه إلى صدورنا هيبة وإجلال، فنمضي إذا مضينا ناحيته بسرعة وأدب متحاشين النظر إليه حيث يجلس الآباء ونخبة من مدرسي مدرستنا، بكل ما يحملون بين جوانحهم من وقار ورهبة. وهو صغير إذا قيس إلى مقاهي وسط البلد أو حتى مقاهي السكاكيني. مستطيل الشكل، أنيق المنظر، تقوم في عمقه المنصة الرخامية والموقد، ويعلوها رف أول تصطف فوقه برطمانات البن والشاي والسكر والقرفة والزنجبيل والكراوية والأنيسون، ورف ثان تتجاور فوقه النراجيل البيضاء الشفافة والكحلي الزاهية. أرضه مدكوكة بالبلاط المعصراني، وجدرانه وسقفه زرقاء صافية، وفي منتصف الجدارين المتقابلين تلتصق بالغراء والمسامير المذهبة مرآتان مستديرتان مصقولتان مؤطرتان بالأبنوس. وثمة طابوران من الموائد الرخامية المتواجهة على الجانبين ولوازمها من الكراسي الخيرزان. أما الطوار أمام المقهى فمزروع ببلاط صغير ملون، ويمتد فوقه صفان متوازيان من الموائد في مركز الوسط منها تنطلق شجرة لبخ فارغة تتهدل فوقها أغصانها حانية، وبها شهر المقهى باسم «ذقن الباشا»، على حين أن لافتته تحمل اسم صاحبه «سيد كنج»، ولا أحد يعرف أصل لقبه، ولكن الجميع يسلمون بسطوته على الأحياء الشعبية المجاورة. وبالرغم من عبيره البلدي، ومن أن الندل العاملين به يسعون في الجلابيب حفاة الأقدام إلا أنه امتاز بالنظافة المطلقة في أرضه وجدرانه وأدواته كما عرف بجودة مشروباته. إنه مجمع أهل الوقار من الآباء والمدرسين، وفي مواسم الانتخابات يهرع إليه المرشحون من الباشوات يخطبون ود صاحبه المهيمن على الناخبين في الحواري والأزقة. ودائما يسبح في هدوء فالحديث يتجاذب في تؤدة، والضحكة تند بحساب، والحوار السياسي يمضي في وفاق وانسجام، وصورة سعد زغلول تطل على الجميع من موضعها فوق النراجيل، وهو منتصب القامة في بدلة التشريفة المحلاة بالقصب. •••
وتغير سكان المقهى، بصورة غير ملموسة أول الأمر، ثم وضحت المعالم قبيل الحرب العالمية الثانية، وفيما تلا ذلك من أيام. رحل الآباء والمدرسون أو لم يبق منهم إلا نفر من المعمرين. واكتسبنا مع تقدم العمر والتوظف الحق في اقتحام أجمل مقهى في حينا. جلسنا مكان الآباء وشربنا القهوة والشاي ودخنا النارجيلة، وخضنا في أحاديث السياسة والحب والجنس بأصوات مرتفعة تترامى أحيانا إلى الطريق. ولم نعد نجفل من المعمرين من أساتذتنا، فأقبلنا عليهم نتصافح ونتوادد ونتبادل الذكريات، وربما مازج حوارنا المزاح، بل منهم من شاركنا لعب النرد، ولكن حظي كل واحد منهم بحقه الكامل في الاحترام. وهلت علينا مشكلات جديدة؛ فتنوعت أحاديثنا بين الدستور والغلاء واليمين واليسار والملك والوفد والإنجليز والجلاء وفلسطين واليهود. ولم يوقف ذلك مسيرة الحياة الطبيعية؛ فعشق منا من عشق، وتزوج من تزوج، وأنجب من أنجب، واستفحل التشكي وانفجر النقد.
ولم يسلم من ألسنتنا رجل أو امرأة أو حزب وحتى الندل الحفاة شاركوا في الكلام بعد أن خفت رقابة سيد كنج؛ لطعنه في السن وتوغله في الضعف وزهده في الانشغال بالحياة اليومية. وجاء وقت فبدا أن كلا منا قد أصبح حزبا قائما بذاته له أهدافه ووسائله. وتسلل الشيب إلى الرءوس، ورحل آخر المدرسين المعمرين، وتوترت أعصابنا يوم توفي سيد كنج واحتل مكانه في الإدارة ابنه الأكبر الشافعي. من جيلنا كان، فأسدينا إليه النصيحة أن يحافظ على سمعة المقهى، وأن يعنى عناية خاصة بالنظافة وجودة الأصناف، وألا يتهاون في سمعته طمعا في مضاعفة أرباحه كما يفعل قصار النظر. ووعد الرجل، وأنجز ما وعد بصفة عامة فلم يطرأ على المقهى إلا تغير طفيف يمكن التسامح معه، كما اعتدنا أن نتسامح مع كل مكروه يجد. •••
نامعلوم صفحہ