الفجر الكاذب
نصف يوم
يرغب في النوم
الهمس
في غمضة عين
مرض السعادة
من تحت لفوق
رجل
خطة بعيدة المدى
النشوة في نوفمبر
يوم الوداع
أحلام متضاربة
تحت الشجرة
ذكرى امرأة
مولانا
حوار
خيال العاشق
غدا تغرب الشمس
على ضوء النجوم
الجرس يرن
وصية سواق تاكسي
الميدان والمقهى
المرة القادمة
القضية
ذقن الباشا
عندما يقول البلبل: لا
العجوز والأرض
فوق السحاب
الغابة المسكونة
في المدينة
الفجر الكاذب
نصف يوم
يرغب في النوم
الهمس
في غمضة عين
مرض السعادة
من تحت لفوق
رجل
خطة بعيدة المدى
النشوة في نوفمبر
يوم الوداع
أحلام متضاربة
تحت الشجرة
ذكرى امرأة
مولانا
حوار
خيال العاشق
غدا تغرب الشمس
على ضوء النجوم
الجرس يرن
وصية سواق تاكسي
الميدان والمقهى
المرة القادمة
القضية
ذقن الباشا
عندما يقول البلبل: لا
العجوز والأرض
فوق السحاب
الغابة المسكونة
في المدينة
الفجر الكاذب
الفجر الكاذب
تأليف
نجيب محفوظ
الفجر الكاذب
كأنما هو سباق بيني وبين قرص الشمس المائل نحو الغروب. بلغت شارع ابن ياسر المكلل بأشجار الأكاسيا على جانبيه. تستبق فوق أديمه السيارات في تيارات متدفقة، وتقوم في موقع من وسطه العمارة بمدخلها الواسع الممتد، وضوئها المشع من داخل الجدران الشفافة. رفعني المصعد إلى الدور الثامن. ضغطت على الجرس ففتحت الشراعة عن وجه الخادم. تقدمني إلى الثوي المكون من ثلاث حجرات متصلة، فجلست على مقعدي في الأعماق. أزاح الرجل ستارة وفتح نافذة، فتدفق هواء الخريف. وهلت سيدتي في فستان أزرق آية في البساطة والرقة، وشبشب أزرق مذهب السير، ترنو إلي بعينيها النجلاوين الثاقبتين، وأنا أتعجب من صفاء بشرتها. سألتني عما أحب أن أشرب، فطلبت القهوة فقالت إنها سلت بعض فراغها بصنع شيكولاتة بالبسكويت، قلت إذن أتناول واحدة. وأمرت لي بما طلبت. ونظرت في وجهي مليا، وقالت: واضح أنك لم تتقدم خطوة مفيدة.
فقلت في تسليم: هذه هي الحقيقة.
تساءلت ضاحكة: ترى أهو ذنب المشكلة أم ذنبك؟ - لا أدافع عن نفسي، ولكن لا يمكن أن أتهم بالإهمال. - كأننا لم نبدأ بعد. - وهذا ما يؤرقني.
وجاء الخادم دافعا أمامه خوانا، يحمل القهوة والشيكولاتة. وتركتني أحتسي القهوة في هدوء، ودون أن يزايلني التوتر. وقلت برجاء: لا تسيئي بي الظن. - تهمني النتائج لا النوايا أو الأقوال. - نحن في زمن عجيب، شهدنا إنسانا يهبط فوق سطح القمر، ونرى السوق ملأى بكتب عن القوى الخفية. - لا يعني هذا أن يقف الإنسان مكتوف اليدين، وهو يعلم أنه عرضة للهلاك في أي لحظة. - لم أقف مكتوف اليدين، وطالما أتعبت سعادتك معي. - أمرك يهمني كما تعلم.
فبسطت راحتي على صدري، وأحنيت رأسي شاكرا، ثم قلت: طبعا سمعت عن الذي قتل والديه؟ - والتي قتلت ابنها، وقديما سمعنا عن ريا وسكينة. ماذا تريد أن تقول؟ - يشعرني ذلك باقتراب القدر.
فقامت لتغادر المكان، وهي تقول: سأحرر لك رسالة للبك.
وغابت حوالي ربع ساعة ثم رجعت، فسلمتني رسالة مطوية في مظروف مغلق، وتساءلت: هل تبقى للعشاء؟
فقمت بدوري شاكرا، وغادرت الشقة. ليل الخريف هبط بسرعته المألوفة، وأضواء السيارات المبهرة اقتحمت الأعين. وذكريات متلاطمة تفعل بإحساسي ما تفعله أضواء السيارات المبهرة، ولكنها تختفي وتضيع قبل أن أقبض عليها. فالدنيا تبدو مراوغة مثيرة للحيرة والقلق. ومضيت من توي إلى شارع البورصة، إلى مشرب الزهرة الصغير الأنيق الذي لا يتلاشى الجالس فيه. طلبت من النادل سندوتش لحم بقري وقدح شاي، وقال لي الرجل قبل أن يذهب: سألت عنك .. وستجيء لمقابلتك بعد قليل. سررت بذلك وتناولت عشائي وانتظرت.
ولم يطل بي الانتظار، فجاءت تخطر في بنطلونها بجسمها الرشيق الثري، ووجهها الأسمر الصافي المنمق، وقد ارتدت جاكتة من الجلد البني. وطلبت الشاي كالعادة وهي تنظر إلي في عتاب: لم أرك منذ أيام. - آسف، أنا غريق في مشكلتي، وأمضي من وسيط إلى وسيط. - لم يمنعك ذلك من ملاحقتي كظلي في وقت مضى. - لا يمنعني عنك إلا عذر قاهر. - ولكنك تدور في حلقة مفرغة، لا ترى لها نهاية. - لولا أنه يوجد في الدنيا أمل كالذي تعدينني به؛ لانتهيت من زمن بعيد.
استشعرت شيئا من الحياء وهي تتساءل: لماذا تصر على تأجيل زواجنا حتى تحل جميع مشكلاتك؟ - هذا هو التصور الطبيعي. - ولكن الزواج يهيئ لك نصف الأمان على الأقل؛ فأخي من كبار رجال الشرطة!
فقلت وأنا أنظر في عينيها بإشفاق: خصمي شخص مجهول. - هو أيضا لم يهتد إليك بعد، وقد يساعدك أخي على معرفته. - أتمنى أن أتزوج وأنا رائق البال. - لا عقبة في طريقنا إلا ما ينبثق من ذاتك.
عاودتني عواطف صافية من زمن مضى، فرمقتها بحنان وحب وقلت: فلنجلس لنحلم في عذوبة وهدوء، وقريبا سوف تنقشع الهموم.
وتبادلنا حبا عميقا بلا كلمة ولا حركة. وفي لحظات عابرة بدت الدنيا مراوغة، وتلاشت حبيبتي من مجلسها القريب. وعادت مرة أخرى مشرقة الوجه، فواصلنا الحب المتبادل الصامت. ولما تركتني تذكرت بزهو عنادي في مطاردتها، حتى انتزعت من صميم قلبها الاعتراف بالحب، وأمدني اللقاء بحماس جديد، فقمت لأقابل البك وأسلمه الرسالة. ذهبت إلى النادي بشارع الشط الأخضر، وجدته جالسا مع نخبة من الأصدقاء في الشرفة المطلة على الحديقة الواسعة. ولما رآني مقتربا قام مستأذنا من صحبه، وصافحني إكراما طبعا للهانم، ومضى بي إلى الثوي الأخضر. أجلسني قريبا منه، ونظر إلي بعينيه الثقيلتين وبوجه لا يعبر عن شيء، وسألني: هل من جديد؟
فقلت بأسى: أقابل أناسا وأتلقى وعودا.
وتناول مني الرسالة وأبقاها في يده المنبسطة، وتساءل: ألا يقنعك هذا؟ - أريد أن يتحقق وعد. - لكل عمل يشغله، هذه أيام الصرف الصحي، والعدوان على تونس، وخطف السفينة الإيطالية، ثم خطف الطيارة المصرية ... والدولار. - مشكلتي غاية في البساطة. - أنت تتصور ذلك، لا، انظر إلى الموضوع بعين محايدة. - لكن حياتي مهددة! - هل تعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الإسرائيليون؟ .. والفلسطينيين الذين قتلهم العرب؟ .. وضحايا العنصرية في جنوب أفريقيا .. والطائفية في لبنان، وضحايا الزلازل والبراكين، والسموم البيضاء، والمظاهرات؟
فقلت وأنا أنظر بين قدمي: ما علي إذن إلا أن أستسلم للموت. - بل أعني أن تصبر وتعتمد على النفس. - أليس من الحكمة أن أستثمر علاقاتي بالرجال الكبار؟ - لن ينقذك إلا اعتمادك على نفسك، افعل ما فعله رمسيس الثاني عندما حاصره الحيثيون، وأوقعوه في الشرك ...
فقلت وأنا أداري ابتسامة: سيدي، أنا لست رمسيس الثاني. - لتكن رمسيس المائة أو الألف.
وتنبه للرسالة بين يديه، فقص المظروف وقرأها بعناية. ونادى النادل فطلب رسالة ومظروفا. وفي تلك الأثناء هفت إلى أنفي رائحة مسك فلم أستطع أن أخفي اضطرابي، فسألني عما ألم بي، فكاشفته بما تردده الشائعات عن خصمي المجهول، قلت: إنه يتطيب عادة بالمسك.
فقال الرجل بضجر: وغيره كثيرون، لا أظنه عضوا في نادينا.
وغرقت في مستنقع الهواجس على حين راح هو يكتب التوصية الجديدة، ثم سلمها إلي في مظروف مغلق. وغادرت النادي، ولما قرأت اسم الوسيط الجديد، رأيت أن أذهب إليه ضحى الغد. وذهبت إلى مسكني بشارع الجندي المجهول، غيرت ملابسي وجلست أمام التليفزيون أشاهد فيلما بطله سيارة تندفع ذاتيا، وتقتل من يصادفها من البشر. شقتي صغيرة بالية ولكن الزمن رفعها ألف درجة، وجعل منها درة لا يفوز بها إلا ذو حظ سعيد. وقد أقمت بها مع قريب على عهد التلمذة، ثم استقللت بها بعد انتهاء دراستي الجامعية وتعييني في الوزارة. ورن جرس الشقة فعاودني الشك الذي اجتاحني حين شممت رائحة المسك، ومضيت إلى العين السحرية فطالعني وجه جارتي المقيمة في الشقة المواجهة لشقتي. ماذا جاء بها دون طلب أو اتفاق؟ دخلت ملتفة في روب وردي مشرقة الوجه بالزواق، ولما رأت فتور وجهي، قالت: لا تحب أن تراني إلا وقت الحاجة؟!
وجلست على مقعد قريب من مقعدي وهي تقول: لا يوجد زبائن، فقلت: أسلي وحدتي بجلسة بريئة!
ثم بعد صمت: ماذا جرى للزبائن؟
فقلت دون أدنى اكتراث: لعلها الحالة الاقتصادية. - أنا لا أتعامل بالدولار.
وتفحصتني قليلا ثم قالت: ما زلت غارقا في همومك؟ - طبعا. - يوجد في قريتي من يصمم على قتلي، لو عثر علي ولكني لا أفكر في الغد.
فقلت بحياد: كل شيخ وله طريقة. - لكل أجله وهو يعمل مستقلا عن الأسباب.
فقلت وأنا أداري غيظي: فلسفة عظيمة، أنت امرأة سعيدة. - لا .. وزني ثقيل، وهو آخذ في الازدياد، وتسبب في حرماني من تعلم الرقص. - ولكن الشهرة ليست في صالحك، وقد تدل عليك من يريد قتلك.
وانقطع حبل الحديث. ولم تجد من ناحيتي أي رغبة في وصله، فسلمت بفشل مهمتها، وانصرفت وهي تلوح لي مودعة. وأنا أهم بالنوم عاودني الإحساس بأن الدنيا تراوغني، فخيل إلي أن جارتي لم تأت لزيارتي، وخيل إلي حينا آخر أنها ترقد إلى جانبي، وفي الصباح ذهبت إلى الوزارة. هي المكان الوحيد الذي ألقى فيه الاحترام وأسمع الثناء تلو الثناء. ولي زميل غاية في الدماثة والمودة. وهو يحثني دائما على أن أعيش حياتي، وأن أستهين بالظنون والأقاويل التي لا يقوم عليها دليل مادي .. يقول لي: من منا لا يتربص به الموت؟
ودعاني ذلك الصباح إلى الاشتراك في رحلة إلى جنوب سيناء، فوعدته بالتفكير في الأمر. وعند الساعة العاشرة استأذنت في الانصراف لعذر مهم، وغادرت المؤسسة إلى شارع الوادي الجديد، حيث توجد عيادة الوسيط الجديد الذي أحمل إليه الرسالة. ورجوت التمرجي أن يوصل الرسالة إلى الطبيب فذهب بها ثم عاد بعد دقائق؛ ليأذن لي في الدخول فورا. وجدت الطبيب جالسا وراء مكتبه يطالعني بشخصية قوية وعينين نافذتين، غير أنه توكد لدي ما يحظى به صاحب الرسالة من منزلة فريدة عنده. قلت: أعتقد أني قادم إلى سعادتك بصفتك الشخصية لا المهنية.
فسألني بجدية: ما الذي حملك على هذا الاعتقاد؟ - مشكلتي، بل كل مشكلاتي، لا علاقة لها بالطب.
لكن الطب له علاقة بكل مشكلة، على أي حال ظنك في محله، وما نريد إلا أن تمكث في مصحة لي بحلوان فترة من الزمن؛ حيث يتهيأ الأمان والأمن. - ولكني بعد خروجي، سأرجع إلى ما كنت فيه. - أو يكون الوسطاء قد تمكنوا من تصفية مشكلاتك في أثناء ذلك. - ولكن المصحة ستسيء إلى سمعتي! - مصحتنا تعيش في سرية كاملة.
وترددت متفكرا فتساءل: ألا يوجد في حياتك ما تخجل منه أو تندم عليه؟ - هذه مسألة أخرى. - بل لعل كثيرا من المشكلات يرجع إليها.
فقلت بيأس: إذن فأنا ذاهب للعلاج. - لن أفرض عليك شيئا لا تريده.
وقلت بمرارة وكأنما أخاطب نفسي: كيف أعيش بين مجانين؟!
فتساءل متهكما: وهل تعتبر نفسك عائشا بين عقلاء؟!
وانفجر قلقي فقلت: معذرة يا سيدي، لن أذهب إلى المصحة.
فقال بهدوء كريه: في هذه الحالة سأوصي إليك بأن يتركوك لشأنك، دون رعاية أو عناية.
فقلبت النغمة قائلا: أعطني مهلة قصيرة.
فقال موافقا: لك ذلك.
أنفقت بقية النهار متسكعا، وتجاذبتني طوال الوقت الحقائق والأحلام، ولم تبق إلا خطوة يسيرة؛ لأتساءل عمن أكون، وفي أي مكان أقيم، والزمان الذي أعاصره. ورجعت مساء إلى عمارتي، ولكني قصدت شقة الجارة لا شقتي. وخيل إلى أنها استقبلتني دون مبالاة، وربما بشيء من الجفاء، وكأنما تعاقبني على إعراضي عنها ليلة أمس. ولكن مسكنها يضفي علي شعورا بالألفة، ولا يخلو من فتور وضجر وإحساس شبه خفي بالخيبة. وهو بعيد كل البعد عما يجده الزائر المتسلل من التوتر والمغامرة. ولكيلا تتساءل عن سر غيابي الوشيك زعمت لها أني راحل إلى قريتي لمهمة طارئة. وفي الصباح أعددت حقيبتي وذهبت إلى المصحة بحلوان. وهي مبنى رائع يقع في أقصى المدينة، ويقوم على هضبة تطل على الصحراء. واخترقت حديقة واسعة لأصل إلى البناء في العمق، وقادوني إلى جناح يتكون من صف طويل من الحجرات، تفتح أبوابها على ممشى طويل يتصل بالحديقة بسلم رخامي يشغل الوسط. وتبدت حجرتي بيضاء الجدران والسقف، بها ما يلزم من فراش وصوان وخوان ومقعدين، ولبثت وحيدا، حتى جاءتني ممرضة ناضجة الشخصية والأنوثة بالغداء. سألتها عن الطبيب فأجابت بأدب: سيجيء في وقته!
وأعطتني قارورة صغيرة تشف عن أقراص بيضاء خالية من أي ملصقات، وقالت: حبة بعد كل وجبة.
فقلت محتجا: ولكنني لست مريضا.
فقالت بهدوء وهي تغادرني: ليست مصحتنا للمرضى، ولكنها للراحة والأمان.
وأخذت أشعر بالندم على المجيء، وأنتظر في ملل متصاعد. وفي تمام الخامسة مساء، انفتح الباب ودخل الطبيب. جلس على المقعد الآخر أمامي وقال: بداية حسنة، فانعم بالأمن والأمان.
فقلت بقلق: ولكني أتعاطى دواء. - ما هو إلا مهدئ وفاتح للشهية. - ومتى يستحسن أن أذهب؟ - وقتما تشاء من ناحية المبدأ، أما إذا راعينا مصلحتك، فالأوفق أن تذهب بعد أن تؤدي الامتحان. - أي امتحان يا سيدي؟ - ما عليك إلا أن تسجل على الورق أكبر مشكلة مصرية، وأكبر مشكلة عالمية، ثم تفكر في الحل المناسب لكل منهما.
فندت عني ضحكة عالية، وقلت: لا شك أنك تمزح يا سيدي.
فقال بجدية وبرود: ليست مصحتي مسرحا فكاهيا.
فقلت متراجعا: معنى هذا أني سأبقى هنا إلى الأبد. - إنها محاولة لمعرفة تصورك ليس إلا، وعقب ذلك تذهب بسلام. - ولكن ما علاقة ذلك بمشكلتي أنا؟ - إذا استطعت أن تقدم تصورا لحل مشكلتي مصر والعالم، فلا شك أنك تستطيع ذلك بالنسبة لمشكلتك الخاصة. - لكن مشكلتي من نوع خاص. - ولو، لن تكون أعقد من مشكلات العالم. - أنت تعلم، ولا شك أنني مهدد بالقتل في أي لحظة. - كلنا مهددون بالقتل في أي لحظة!
وسكت مغلوبا على أمري، حتى هم بالذهاب فسألته: هل يشترط أن تكون الإجابة صحيحة؟ - لا أحد يزعم أنه يعرف الإجابة الصحيحة ليقيس عليها، حسبك أن تقدم تصورا معقولا.
وعلى أثر ذهابه جاءتني الممرضة بورقة مسطرة وقلم رصاص، ووضعتهما على الخوان. جذبتني بقوة إلى أنوثتها ونضجها دون أن تتكلف كلمة أو حركة. وانبعثت في آمال عجيبة ملأتني جرأة، وفي الوقت نفسه محت صورتها من قلبي العالق من خطيبتي وجارتي. قلت لها: إني مدين لك بحسن الرعاية.
فقالت بجدية وحياء: إني أؤدي واجبي.
ونظرت إلى خاتم الزواج في يسراها، وتساءلت: سعيدة في زواجك؟
فقالت بدهشة: سؤال غريب! - لا مؤاخذة ولكن لي هدفا. - أي هدف؟ - إذا خطر لك أن تجربي حظك من جديد؛ فإنني على أتم الاستعداد للزواج منك.
فغادرت الحجرة دون أن تنبس بكلمة. وسرت في قشعريرة إحباط وبرودة، وضقت بالحجرة، فخرجت إلى الممشى. بعض النزلاء يجلسون أمام الحجرات أو يتمشون. جاري رجل في الأربعين، حدجني باهتمام فتبادلنا التحية. واقترب مني وسألني عما جاء بي، فلخصت له الموقف في شيء من التحفظ، ثم سألته بدوري عما جاء به، فقال: لعلي الوحيد بينكم الذي جاء بلا مشكلة! - ولكن كيف؟ - أنا رجل ميسور الحال، صاحب مزاج، أحب السرور والرحلات، ولا أحمل للدنيا هما. - عظيم .. عظيم. - لي صديق مشترك بيني وبين الطبيب، هاله أن يجدني بلا مشكلة، وأصر على أن أعيش في المصحة مدة. - جئت؛ لأنك بلا مشكلة! - هذا هو الواقع. - وكيف قبلت؟ - قلت: لتكن تسلية جديدة. - وهل أديت الامتحان؟ - هذه هي مشكلتي الجديدة، فلا علم لي عن أي مشكلة في مصر أو العالم، ولا أقرأ من الصحيفة إلا الإعلانات والوفيات، وأين تذهب هذا المساء. - ما عليك إلا أن تقرأ الصحف، وستمدك بمشكلات لا حصر لها.
فتساءل ضاحكا: وكيف أقدم حلولا لمشكلات لا تهمني ألبتة؟
والحق أنه امتص مني توتري بغرابة مشكلته، وفتح نفسي للرجوع إلى حجرتي لأداء الامتحان المطلوب مني. وعند منتصف الليل آويت إلى فراشي ونمت نوما عميقا. وفي الصباح الباكر جاءتني الممرضة بالإفطار. وجاءت معها برائحة ما إن شممتها حتى ارتعدت أطرافي. ولما لاحظت تغيري سألتني عما ألم بي، فقلت بقلق لم أستطع أن أداريه: هذه الرائحة!
فقالت بثقة: رائحة المسك أطيب الروائح. - من أين لك بها؟ - أهدانيها أحد زوار النزلاء. - هل يتردد على المصحة من زمن؟ - منذ أكثر من شهر، ألا تعجبك؟
فقلت متحفظا: هي مرتبطة في حياتي بذكريات غير سارة!
فقالت بمرح: فك الارتباط، وتناول إفطارك.
ونضب إعجابي بالممرضة وتبخر. ولعلها شعرت بذلك على نحو ما فتساءلت بجدية: هل فرغت من تسجيل المشكلات لآخذها إلى الدكتور؟
وفي الحال أعطيتها الورقة؛ لأتخلص منها في أقصر مدة. وجاءني الطبيب قبيل الظهر. دعاني إلى الجلوس أمامه واضعا الخوان بيننا، وألقى على ورقتي نظرة جديدة، وقال: أنت ترى أن مشكلة مصر الأولى تتركز في عدد السكان؟ - هي أم المشكلات كلها. - عظيم، أي حل تقترح لها؟ - يجب أن يهبط العدد إلى ما يتناسب مع الإمكانات المتاحة، فتحل جميع المشكلات دفعة واحدة. - وكيف نتخلص من الزائد؟ - بالهجرة الدائمة، وقتل الباقي بوسيلة رحيمة خالية من الألم! - يا لك من رجل رحيم! - كل عاقل يجب أن يعتبرني كذلك. - ومن حسن الحظ أنني عاقل .. والآن ننتقل إلى العالم، فأنت ترى أن الحرب النووية هي مشكلته الأولى؟ - نعم. - فكيف ترى العلاج؟ - أن تقوم الحرب وتقضي على العالم، وتخلصه من مخاوفه. - ولكن الإبادة ستلتهم المخاوف والخائفين معا. - أو يبقى نفر كالذين نجوا من الطوفان. - الحق أن تفكيرك لا يخلو من رحمة وكمال دائما!
وتبادلنا نظرة طويلة، ثم سألته بقلق: هل أستطيع أن أذهب الآن؟
فقال وهو يقوم تأهبا للذهاب: بيدك وحدك أن تذهب وقتما تشاء.
وفي الحال أعددت حقيبتي وذهبت. ذهبت أسوأ مما جئت، ولكن روح استهانة استحوذت علي، وأملت علي أن أمضي في حياتي دون اعتبار لأي شيء إلا الحياة نفسها. ونازعتني نفسي إلى لقاء الهانم التي لولا عطفها؛ لهلكت من زمن بعيد. وعند العصر أقبلت علي في ثوبها متلفعة بروب خفيف بنفسجي زادها جمالا وصفاء. جلسنا حول إبريق الشاي وهي تقول: لم يفتني شيء من أخبارك، وإني مسرورة بما سمعت.
فنظرت إليها بارتياب وقلت: تجربة المصحة تجربة غريبة، وفي جملتها غير سارة، وحتى هنا طاردتني رائحة المسك.
فابتسمت عن لآلئها، وقالت: الطبيب مرتاح ومتفائل، ويجب أن تطمئن إلى حكمه فهو ثقة علامة.
وترددت قليلا ثم قلت: عن لي أن أزور قارئة الفنجان المشهورة.
فابتسمت قائلة: كما تشاء، الحقيقة اتسعت في أيامنا هذه، حتى شملت كل شيء.
وقبلت يدها، وغادرت مقامها إلى مصر القديمة، إلى مسكن المرأة التي شغل ذكرها صحفنا الكبرى. وجدت حجرة الانتظار مزدحمة، فطال انتظاري حتى أوشك صبري أن ينفد. ثم جلست أمامها على مقعد صغير مريح الوسادة، وحسوت فنجان القهوة، فلم تبق إلا الرواسب. وتناولت الفنجان وراحت تتأمله بعناية، وطال تأملها حتى قطبت كالحائرة.
ثم قالت: لا أدري كيف أقرأ مستقبلك.
فتساءلت منزعجا: أهو غامض لهذه الدرجة؟ - المسألة أن نجاتك أو هلاكك بيدك أنت. فليس عندي ما أقوله. - لي خصم عنيد مجهول. - نعم، أنت مجهول أمامه أيضا، وهو يخشاك كما تخشاه. - لم يعرفني بعد؟ - نعم، رغم أن الحياة جمعت بينكما أكثر من مرة! - جمعت بيننا؟ - هذا واضح. - أليس لديك معلومة إضافية تبل الريق؟
قلت ما عندي، والله معك.
تركتها مشتت الخاطر ينهمر فوق رأسي القلق من سماء ملبدة بالغيوم. تقول: إن الحياة جمعت بيننا أكثر من مرة، اللعنة! فهو إذن أحد سكان العمارة أو زميل في الوزارة، وربما يكون البك أو طبيب المصحة! وذهبت إلى الزهرة؛ لأتناول لقمة وأتمالك أنفاسي. سرح بي الخيال إلى عهد الطمأنينة والسلام قبل أن أطلب يد خطيبتي. وكيف نما إلى علمي أن نفرا من أهلها اقترحوا رفضي لهوان أصلي. ومع أن خطيبتي ذللت العقبات بقوة إرادتها إلا أن اقتراح الرفض آلمني جدا، ودفعني إلى النبش في الماضي؛ لعلي أعثر على أصل كريم غابر أخنى عليه دهر لا يرحم. وأهلتني دراستي الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، وما زلت أنتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير في عصره. كيف تدهور ذلك الجد العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث، واستقبلت ذريته تاريخا طويلا من الفقر والذل، وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذي اتخذ من الثأر المتوارث وسيلة متجددة، ومقدسة فتك بها بأرواح لا تحصى من أبناء الأسرة جيلا بعد جيل، لا يعفى منها غني أو فقير. وقدرت بالحساب الدقيق أنني المرشح اليوم للقتل، لا يؤخر الأجل عني إلا أن الخصم لم يهتد إلي بعد. هكذا استوعبتني مشكلات الأصل والموت فلم تبق من حيويتي إلا القليل لمشكلات الحياة اليومية الملحة. وطبيب المصحة يرى أن تصوري لحل مشكلات مصر والعالم قادر ضمنا على حل مشكلتي المؤرقة، ولكن من يضمن لي الحياة حتى تحل مشكلات مصر والعالم؟! وتاقت نفسي للخروج من قصر التيه بأي ثمن، ولأن أحيا حياتي مهما كلفني الأمر. ودعوت خطيبتي إلى لقاء بالزهرة في أصيل اليوم التالي. ولبت كالعادة بكل حيويتها واستجابتها العذبة. وقصصت عليها حكايتي مع قارئة الفنجان منتظرا تعليقها. قالت باسمة: هذا يعني أنه يحتمل أن أكون أنا خصمك المجهول!
ثم بجدية: احذر أن تسيء الظن بالجميع، فتصبح وحيدا منبوذا.
فقلت بنبرة واضحة وقوية: لا أود أن أموت قبل أن أموت. - يسعدني أن أسمع ذلك. - وأود أن نتزوج في الحال.
فوهبتني الموافقة بنظرة عينيها ودون كلام. وإني على أتم استعداد والحمد الله. واتفقت مع مقاول من المترددين على الوزارة؛ لتجديد شقتي الصغيرة العتيقة، يغير أرضيتها ويصلح النوافذ ويدهن الجدران والأسقف، ويعيد بناء الحمام ودورة المياه والمطبخ. ولما انتهى العمل في الشقة مضوا يفرشونها بجهاز العروس تحت إشراف خطيبتي وأمها وأخيها ضابط الشرطة. ولما كلل التعب بحسن الختام إذا بحماتي تقول بنبرة ذات مغزى: لا بد من فرحة!
لكن مدخراتي أوشكت على النفاد، وهمست بذلك، فقالت الست: لا نريد حفلا في فندق، حسبنا عشاء لائق في مطعم خلوي، وبلا رقص أو غناء!
ولبيت رغبتها على رغمي، واقتصرت الدعوة على الأهل. غير أني دعوت الهانم فشرفتنا مع هدية سعيدة متبرعة للاجتماع بفرقة «كان كان» الموسيقية. وجلسنا متواجهين حول مائدة طويلة، ورأيت بين المدعوين البك وطبيب المصحة، دون أن أدري كيف تم ذلك. وعاودني إحساسي الغريب بمراوغة الذكريات الغامضة، ولكن سعادتي بالعروس غلبت على كل شيء. وخطر لي في أثناء الطعام أن خصمي المجهول موجود حتما بين المدعوين، ولكني طردت الفكرة بإصرار وواصلت الأكل والشرب. ولما فرغنا من الطعام وقف رجل كان يجلس في الصف الآخر إلى يسار حماتي ليلقي كلمة فيما بدا. خيل إلي لأول وهلة أنني أراه لأول مرة في حياتي، ثم خيل إلي مرة أخرى أنني سبق أن لمحت هذا الجبين البارز والحاجبين الغزيرين والفكين القويين، ولكن أين؟ ومتى؟
وملت نحو الهانم الجالسة إلى جانبي وسألتها عنه، فقالت: رجل طيب يقدم نفسه في الأفراح طلبا للرزق!
وركزت عليه بصري باهتمام لا يخلو من قلق، أما هو فراح يقول بصوت جهير:
سيداتي .. آنساتي .. سادتي
للفرح يوم واحد، لا يتكرر مهما تكرر، وهو من صنع الرحمن لا البشر، من أجل أسمى غاية وهي عمران الوجود، فالزواج طاعة، والحب عبادة، إذا حاد أحدهما عن طريقه ضل إلى الأبد. وفي مثل هذا اليوم تسجل الحياة أحد انتصاراتها الرائعة، فلنهنئ العروسين، ولنحي ذكرى ربي أسرتهما النبيلة آدم وحواء، اللذين دفعا إلى دنيانا بسبب العصيان، ورفعا منها بحكم الغفران، ولندع الله أن ينصرنا على إبليس، عدو الأسرة القديم الذي لا يكف عن طلب الثأر، والعقبى لكم في المسرات.
وأحنى الرجل رأسه؛ شكرا للتصفيق الذي أعقب كلمته ثم جلس. وكاد ذكر الثأر يفسد علي ليلتي، لولا لباقة عروستي التي جذبتني لنجواها. وانفض الحفل الصغير على خير حال. ومضيت بعروسي إلى شقتي، ولكن استعصى علي أن أدخل المفتاح في عروة الباب. ماذا حدث؟! وفتحت شراعة الباب عن وجه لم أتبين معالمه. سألني قبل أن أفيق من ذهولي: من أنت؟
فصرخت فيه: من أدخلك شقتي؟
فصاح الرجل بغضب: سكران! .. مجنون! .. اذهب قبل أن أكسر دماغك.
ادعى كل منا أن الشقة شقته، وأن الآخر معتد أو معتد ومجنون، ولم أجد بدا من الاستغاثة بالشرطة. ولكن أين عروسي؟ هل بادرت إلى أخيها؟ ولم أحب أن أضيع الوقت في البحث عنها، فذهبت إلى قسم الشرطة، واصطحبني ضابط إلى الشقة، واطلع على العقد، ثم صارحني بأنه لا يستطيع أن يتعرض للرجل بسوء، وأن الأمر يجب أن يعرض على النيابة. وتكشف التحقيق عن غرائب وعجائب. أثبت الرجل أن الشقة شقته بعقد قديم، وشهد معه صاحب العمارة والبواب وكثرة من السكان. واستشهدت بعروسي وآلها الذين فرشوا الشقة بأيديهم، وأدلوا بشهادتهم القاطعة بأنهم لا يعرفونني، وأنني لم أتزوج من ابنتهم. وماذا يقول الذين لبوا دعوة العشاء وشهدوا الزفاف؟ .. ماذا تقول الهانم، والطبيب، والبك؟ .. أجمعوا على أن أقوالي ادعاءات باطلة لا أصل لها وأنهم لا يعرفونني، ولم توجد بينهم وبيني أي صلة. ولعل الوحيد الذي لم ينكرني، والذي جاء دون دعوة مني، هو صاحب الخطبة. سمعته يقول للمحقق إنه أخي الأكبر، ويرجو أن يذهب بي لأعالج من تلك الحالة الطارئة!
ودخلت في شبه غيبوبة لا أدري كم غشيتني ولا متى انقشعت. ولكني أنتبه أحيانا إلى وجود أخي إلى جانبي، وأحيانا أخرى أعي إقامتي في مصلحة الطبيب بحلوان. وبعودتي إلى ذاتي أدركت أنني مريض وأنني أعالج، وأن الطبيب يعالجني بالعقاقير والكهرباء. ولما خاطبت أخي في شئوننا الخاصة هتف الرجل بسرور: الحمد لله، ها أنت تعود إلى الواقع.
ولكن علاجي امتد طويلا وجالسني الطبيب كثيرا، حتى أنست إليه وأسرني بذكائه وإنسانيته. وفي آخر مرة قال لي: أعتقد أنك على أتم ما يكون من الشفاء الآن.
فوافقته بتسليم وصبر. فسألني: ما حقيقة علاقتك بأخيك الأكبر؟
فأجبت بهدوء ويقظة ودون أي إرهاق: إني أقيم معه في شقته بالعمارة، وهو زوج وأب، وذو ميول دينية واضحة، ولا يكف عن حضي على الزواج رغم الظروف المعاكسة، ولم ير بأسا من أن أتزوج بجارتنا الأرملة، على رغم أنها تكبرني بأعوام، ولكنها تملك الشقة وبعض المال، ولم أذعن لمشيئته؛ لنفور قلبي من المرأة ولارتيابي في استقامة سلوكها، لا أنكر عطفه علي ونصاعة خلقه، ولكنه طالما وقف من سلوكي موقف الناقد طويلا بل والرافض.
ولما سألني عن عروسي ضحكت طويلا، وقلت: كانت زميلتي في الكلية، أحببتها وكأنها كانت تزن مستقبلها بميزان العقل، فأثبتت لي بمنطق واضح حاد أنني غير صالح للزواج، أي غير قادر عليه. وفضلا عن ذلك فقد صارحتني بأن أهلها يصرون على اختيار زوج لها من طبقتها.
وسألني عن الهانم فقلت: عرفتها من خلال عملي بوزارة الشئون الاجتماعية كرئيسة لإحدى الجمعيات الخيرية، بهرني جلالها وقوة شخصيتها ورقة إنسانيتها، وأقررت لها بأنها تملك من المزايا ما يؤهلها لحكم أمة حكما عادلا سعيدا، ولم أجد بها من عيب إلا زواجها من «البك»، الذي كان أدنى منها كثيرا في العلم والخلق.
وقال الطبيب: أما أنا فلا شك أنك عرفتني عن طريق التليفزيون. - بالضبط، وأعجبت بأسلوبك في معاملة مرضاك باعتبارهم ضيوفا. - تبقى مسألة القتل والثأر، فهل لك أعداء؟
فقلت ضاحكا: بدأت المسألة بالمجاز، يقول أخي لي في شتى المناسبات إنني عدو نفسي وإنه يجب أن أحذر العدو الكامن بين جوانحي، وأقول له إنه يوجد أكثر من عدو يتربصون بنا الدوائر .. وإلا فكيف تفسر هذا الانهيار الشامل؟!
وهز الطبيب رأسه وهو يبتسم، ثم قال: وفي حوارنا المتصل الطويل لمست انفعالك الشديد حول قيم كثيرة كالعلم والعمل والسعادة، أيرجع ذلك للأسباب التي ذكرتها؟
فقلت بحدة: ليس ذلك فحسب، لكني أذكر دائما دراستي الجامعية الضحلة العقيمة، وبطالتي التي أمارسها في الوزارة، والسعادة التي أحلم بها دون جدوى. - ورحت تكمل ما ينقصك بأحلام اليقظة، حتى أشرفت على الضياع الذي أنقذت منه بمعجزة.
فقلت خاشعا: بفضلك يا سيدي.
وخرج أخي عن صمته فقال: وبفضل الله قبل كل شيء.
فقال الطبيب: حدثني الآن عن الدرس الذي أفدته من إقامتك القصيرة في مصحتي؟
فقلت بحماس: إن أحلام اليقظة غير مجدية!
نصف يوم
سرت إلى جانب أبي متعلقا بيمناه، جريت لألحق بخطاه الواسعة. ملابسي كلها جديدة، الحذاء الأسود والمريلة الخضراء والطربوش الأحمر. غير أني لم أسعد بالملابس الجديدة سعادة صافية، فيومي لم يكن يوم عيد، ولكنه أول يوم يلقى بي في المدرسة. وقفت أمي وراء النافذة تراقب موكبنا الصغير، فالتفت نحوها كالمستغيث بين حين وآخر. تقدمنا في شارع بين الجناين تحف به من الجانبين حقول مترامية مزروعة بالخضر والتين الشوكي وأشجار الحناء وبعض النخلات. قلت لأبي بحرارة: لماذا المدرسة؟ .. لن أفعل ما يضايقك أبدا!
فقال ضاحكا: أنا لا أعاقبك، المدرسة ليست عقابا، ولكنها المصنع الذي يخلق من الأولاد رجالا نافعين، ألا تريد أن تصير مثل أبيك وإخوتك؟!
لم أقتنع. لم أصدق أنه يوجد خير حقا في انتزاعي من بيتي الحميم، ورميي في هذا المبنى القائم في نهاية الطريق، مثل حصن هائل شديد الجدية والصرامة عالي الأسوار. ولما بلغنا البوابة المفتوحة تراءى لنا الفناء واسعا ومكتظا بالأولاد والبنات. وقال أبي: ادخل بنفسك وانضم إليهم، ابسط وجهك وابتسم، وكن مثالا طيبا.
ترددت وشددت أصابعي على راحته، ولكنه دفعني برفق وهو يقول: كن رجلا، اليوم تبدأ الحياة حقا، ستجدني في انتظارك وقت الانصراف.
مشيت خطوات ثم وقفت أنظر، أنظر ولا أرى. ثم أنظر، فتلوح لي وجوه الأولاد والبنات. لا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني. شعرت بأنني غريب ضائع. ولكن ثمة نظرات اتجهت نحوي بدافع من حب الاستطلاع، واقترب مني ولد وسألني: من الذي جاء بك؟
فهمست : أبي.
فقال ببساطة: أبي ميت.
لم أدر ماذا أقول له. وأغلقت البوابة مرسلة صريرا مؤثرا. أجهش البعض بالبكاء، دق الجرس، جاءت سيدة يتبعها نفر من الرجال، أخذ الرجال يرتبوننا صفوفا، انتظمنا شكلا دقيقا في فناء واسع محاط بين ثلاث جهات بأبنية مرتفعة مكونة من طوابق، وبكل طابق شرفة طويلة مسقوفة بالخشب تطل علينا. وقالت المرأة: هذا بيتكم الجديد، هنا أيضا آباء وأمهات، هنا كل شيء يسر أو يفيد من اللعب إلى العلم إلى الدين، جففوا الدموع واستقبلوا الحياة بالأفراح.
استسلمنا للواقع، وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس إلى أنفس. ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبي من الأولاد من صادق، وعشق من البنات من عشق، حتى خيل إلي أن هواجسي لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء كله. ولعبنا شتى الألعاب من أرجوحة وحصان وكرة. وفي غرفة الموسيقى ترنمنا بأول الأناشيد. وتم أول تعارف بيننا وبين اللغة. وشاهدنا الكرة الأرضية وهي تدور عارضة القارات والبلدان. وطرقنا باب العلم بادئين بالأرقام. وتليت علينا قصة خالق الأكوان بدنياه وآخرته، ومثال من كلامه. وتناولنا طعاما لذيذا، وغفونا قليلا، وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعلم. وأسفر الطريق عن وجهه كله، فلم نجده صافيا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا. ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقتضي أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلي بالصبر. المسألة ليست لهوا ولعبا. ثمة منافسة قد تورث ألما وكراهية، أو تحدث ملاحاة وعراكا. والسيدة كما تبتسم أحيانا تقطب كثيرا وتزجر. ويعترضنا أكثر من تهديد بالأذى والتأديب. بالإضافة إلى ذلك فإن زمان التراجع قد مضى وانقضى، ولا عودة إلى جنة المأوى أبدا. وليس أمامنا إلا الاجتهاد والكفاح والصبر، وليقتنص من يقتنص ما يتاح له وسط الغيوم من فرص الفوز والسرور. ودق الجرس معلنا انقضاء النهار وانتهاء العمل. وتدفقت الجموع نحو البوابة التي فتحت من جديد. ودعت الأصدقاء والأحبة وعبرت عتبة البوابة. نظرت نظرة باحثة شاملة، فلم أجد أثرا لأبي كما وعد. انتحيت جانبا أنتظر. طال الانتظار بلا جدوى فقررت العودة إلى بيتي بمفردي .. وبعد خطوات مر بي كهل أدركت من أول نظرة أنني أعرفه. هو أيضا أقبل نحوي باسما، فصافحني قائلا: زمن طويل مضى منذ تقابلنا آخر مرة، كيف حالك؟
فوافقته بانحناءة من رأسي وسألته بدوري: وكيف حالك أنت؟ - كما ترى، الحال من بعضه، سبحان مالك الملك!
وصافحني مرة أخرى وذهب. تقدمت خطوات ثم توقفت ذاهلا. رباه .. أين شارع بين الجناين؟ أين اختفى؟ .. ماذا حصل له؟ متى هجمت عليه جميع هذه المركبات؟ ومتى تلاطمت فوق أديمه هذه الجموع من البشر؟ وكيف غطت جوانبه هذه التلال من القمامة؟ وأين الحقول على الجانبين؟ قامت مكانها مدن من العمائر العالية، واكتظت طرقاتها بالأطفال والصبيان، وارتج جوها بالأصوات المزعجة. وفي أماكن متفرقة وقف الحواة يعرضون ألعابهم، ويبرزون من سلالهم الحيات والثعابين. وهذه فرقة موسيقية تمضي معلنة عن افتتاح سيرك يتقدمها المهرجون وحاملو الأثقال. وطابور من سيارات جنود الأمن المركزي يمر في جلال وعلى مهل، وعربة مطافئ تصرخ بسرينتها لا تدري كيف تشق طريقها لإطفاء حريق مندلع، ومعركة تدور بين سائق تاكسي وزبون، على حين راحت زوجة الزبون تستغيث ولا مغيث. رباه، ذهلت، دار رأسي، كدت أجن، كيف أمكن أن يحدث هذا كله في نصف يوم، ما بين الصباح الباكر والمغيب؟ سأجد الجواب في بيتي عند والدي. ولكن أين بيتي؟ لا أرى إلا عمائر وجموعا. وحثثت خطاي حتى تقاطع شارعي بين الجناين وأبو خودة. كان علي أن أعبر أبو خودة؛ لأصل إلى موقع بيتي، غير أن تيار السيارات لا يريد أن ينقطع. وظلت سارينا المطافئ تصرخ بأقصى قوتها، وهي تتحرك كالسلحفاة فقلت: لتهنأ النار بما تلتهم. وتساءلت بضيق شديد: متى يمكنني العبور؟ وطال وقوفي حتى اقترب مني صبي كواء، يقوم دكانه على الناصية، فمد إلي ذراعه قائلا بشهامة: يا حاج .. دعني أوصلك.
يرغب في النوم
غادر التاكسي عند مدخل شارع حسن عيد. الضحى ارتفع والشمس تريق أشعة حامية من سماء باهتة، ودفقات متابعة من الخماسين، تزيد من الحرارة وتثير الغبار، وتنفث الضيق والكدر. تغير كل شيء بقوة تفوق الخيال. الطريق من محطة مصر حتى هنا يكشف قاهرة أخرى. أين ذهبت القاهرة التي عاش فيها منذ نيف وخمسين عاما؟ جنت بالزحام والسيارات والصراخ والدمامة. ليس وجهه وحده الذي عبث به الزمن. وهو متوسط القامة نحيلها، معروق الوجه، أصلع، شائب العذار والشارب. مطوق العينين والفم بالغضون، يتوكأ على عصا، ويتمتع بنشاط يحسد عليه بالقياس إلى سنه. ها هو قد رجع بعد عمر طويل فما الأمل؟ لم يرجعه عقل أو منطق، ولكن نداء خفي ملح متعب مبدد للراحة، قال له: اذهب وانظر وافعل شيئا ما، لعله يجعل نومك أعمق. وشارع حسن عيد يتراءى في تكوين جديد. حتى اسمه امحى من الوجود وحل محله اسم جديد هو الشهيد مصطفى إبراهيم، وعلى الجانبين قامت العمائر العالية، وتراصت في أسفلها الدكاكين، وماج الطريق بالزبائن. إنه سوق ولا أثر للبيوت القديمة والهدوء الشامل والذكريات المتلاشية كحلم. نداء عقيم، ساقه بلا وعي. وسيتمخض عن لا شيء. واتجه نحو العمارة الأخيرة في الجانب الأيمن، هنا قام يوما البيت القديم. كأن الشارع لم يكنس منذ جيل، والخماسين تشتد وتحمى منذرة بالمزيد من الإرهاق. وحن إلى متجره في الريف، والأولاد والبيت الذي اضطر إلى الابتعاد عنه بعد إقامة نصف قرن. بواب العمارة مشغول ببيع الفاكهة في مدخل العمارة معروضة على رف طويل تحت صناديق البريد ما بين برتقال وموز وليمون. وقعت عيناه على عينيه، فانتبه الرجل متوقعا زبونا جديدا فحياه بسرعة وقال: هل تعرف عم محمد الشماع أو أي أحد من أسرته؟
فتر إقبال الرجل، وقال: لا أعرف أحدا بهذا الاسم. - كان يقيم في البيت القديم الذي شيدت هذه العمارة محله؟ - هذه العمارة قائمة منذ أربعين عاما! - لعل أحدا بهذا الاسم في عمارة أخرى؟ - لا أظن، وعليك أن تتأكد بنفسك بسؤال البوابين.
دورة من العناء والضجر واليأس ولا أحد يعرف الشماع أو أسرته. كانوا أسرة كاملة مكونة من أب وأم وأخ وأخت. من رحل يا ترى ومن بقي؟! ونصف قرن - بل أكثر - ليس بالزمن القليل، عمر طويل دالت فيه دول وقامت دول. وهل تنسى أيام التعاسة الأولى، أيام القحط والأزمة؟ وإن يكن جيل مضى ألم يخلف جيلا جديدا؟ ألا توجد همزة وصل تصل ما بينه وبين ذلك الزمن الغابر؟ هل يرجع كما جاء؛ ليجد الذكريات فوق فراشه ترصده بنظراتها الباردة القاسية؟ ورجع إلى الشارع العمومي، فشعر بالعرق ينساب على جسده خطوطا لاذعة تحت جلبابه المخطط، واشتدت الخماسين واكفهرت وأثارت مزيدا من التراب فحجب الأفق عن الرؤية. لا مفر من الانتظار حتى المساء؛ ليعود مع قطار الصعيد. وقت طويل والتسكع لا يحلو في مثل هذا اليوم. ترى أين أصحاب الشباب ومن بقي منهم على قيد الحياة؟ لعل عند أحدهم نبأ عما يبحث عنه، ولكن أين هم؟ وهل ما زالوا يتذكرونه؟ لا. لا .. بحث عقيم عن أناس اقتلعوا تماما من وجدانه، وكأنهم ماتوا وشبعوا موتا. حتى أغاني ذلك الزمان لم تعد تطرب أحدا وتثير السخرية. وخطر له خاطر لا يدري من أين جاء، أن يزور المدفن القديم، ومن توه مضى إلى باب النصر. وجد القرافة عامرة بالسكان كما قرأ في الصحف، أصبحت في موسم دائم. ولكن حوشهم نجا لصغره؛ إذ كان يحوي قبرا واحدا، وخاليا من المرافق والمياه، ولا يكاد يتسع لواقفين أو ثلاثة. وسأل عن التربي الذي نسي اسمه تماما فجاء عجوز يسعى، في سن أبيه لو كان على قيد الحياة، ولعله ظن أنه استدعي لرزق جديد. اطمأن إلى شيخوخة الرجل، وحدس أن يعرف من خلالها أشياء. وبعد تحيته سأله: حوش الشماع؟ - نعم. - إني أسأل عنه، أو عن أي فرد من أسرته.
انطفأ وميض الأمل في عيني الرجل وسأله: من حضرتك؟ - صديق قديم، ويهمني جدا أن أهتدي إلى أي فرد من الأسرة. - كنت على معرفة وطيدة بعم محمد الشماع الله يرحمه. - مات؟! - ورقد في هذا القبر منذ أكثر من خمسين عاما! - والست الكبيرة؟ - لحقت به بعد عام أو عامين. - وماذا عن الآخرين؟ - لم يفتح القبر منذ وفاة الست ... ولا علم لي عن الآخرين. - كان للمرحوم ابن وبنت. - كان له ابنان وبنت!
خفق قلبه وهو يتساءل: ابنان؟! - الابن الأصغر، ربنا يجحمه حيث يكون. - لماذا؟ - ولد فاسد شرير، كان يعمل في الدكان مع أبيه وأخيه، وفي عز الأزمة سرق الخزانة وهرب، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك. - أعوذ بالله، لا شك أنه تركهم لأيام عسيرة. - محنة وفقر وتسول، سرعان ما مات الرجل كمدا، ولحقت به امرأته. أنجب شيطانا، ولا شك في أن الله قد انتقم منه شر انتقام.
نظر إلى القبر مليا، ثم رفع بصره إلى السماء المغبرة، وهمس: شكرا.
فقال الرجل: ربنا يدلك على ابن الحلال ليرشدك إلى ما تريد.
وحياه وانصرف. سار كالأعمى لا يرى ما بين يديه.
الهمس
يخطر لي أحيانا أن الراحة الحقيقية لا توجد إلا بزوالهما معا، هو وهي. ولكنه مجرد خاطر يعبر القلب إذا اشتد العنت أو ادلهم الخطب. خاطر لا وزن له في الواقع، حلم يقظة أخرق. وهل تصبح الحياة حياة إلا من خلال التعامل معهما معا؟ وهل يمكن تخيل الوجود بدونهما؟ أما حيرة التردد بينهما؛ فهي قدره الذي لا مفر منه. في البدء تردد همسه بالمحاذير والدعوة إلى الاعتدال حيال بسماتها المغرية، فتحدت هي محاذيره، وهونت من ترشيداته. ويكفهر وجهه ويفجر إنذاراته. فتغضب هي وتغريني بتجاهله أو تشكك في جديته، وأنا لا غنى لي عنها ولا قدرة لي على تجاهله. في أيام البراءة لعبنا معا - أنا وهي - في نور الشمس تحت السمع والبصر، ولكن همسه يقتحمني قائلا: حافظ على نظافة ملابسك وسلامتها.
ولكن اللعب يحب الحرية، أليس كذلك؟
فيهمس: اللعب الرشيد لا يتنافر مع النظام!
وأمتعض وأتضايق. اللعب هو اللعب! لماذا يقيد لعبي بنواهيه؟ لماذا يفسد علي مذاق الأيام الحلوة؟! فلتتسخ الملابس فثمة من يغسلها، ولتتمزق فالسوق مليئة بالجديد. وهو كبير ولديه ما يشغله نهاره وليله، فلم يهدر وقته في تكدير صفوي، رغم حبنا المتين المتبادل؟ وترنو هي إلي بعينيها الصافيتين وتتساءل: أرأيت تعسفه؟
ثم تواصل بحدة: لم لا يتركنا وشأننا؟ ولم تعمل كل هذا الحساب لكلمة تصدر عنه؟
ولكنه قوي، والمالك الأوحد للبيت وأدوات اللعب وكل شيء. وعلمتني التجربة أن الاستهانة به غير محمودة العواقب. ها هو يهمس أيضا: البنت ماكرة بقدر ما هي لطيفة، أنا أعرفها كما أعرفك، اسمع كلامي أنا، ولست أمانع في لعبك معها، العب معها ما شئت، ولكن عليك بالاعتدال والنظافة، وتذكر أنها تلعب مع آخرين أيضا فعاملها بالمثل، ولا تجعل منها كل شيء؛ لأنك لست لها كل شيء، إني أعرف أكثر منك فاسمع كلامي.
تمنيت أن ألعب دون قيد أو شرط ولكنني تعثرت في الخوف، ولم أنس ما سمعت عن غضبه إذا غضب أو عقوبته إذا عاقب. وتضاعف عنائي عندما حملت إلى المدرسة. والتعليم مشقة تتحدى اللهو والمرح وتلتهم الساعات بلا رحمة، فهل قضي علي أن أنفق العمر في الصراع مع الجهل؟ أما هي فلم تكن تكترث إلا بالساعة التي هي فيها. ترمق انشغالي بازدراء واستنكار، وتقول: اختر لنفسك ما يحلو.
لو خيرت لاخترت، ولكن همسه لا ينقطع عني فما حيلتي؟ ولأعترف بأنني كنت أنحرف عن الخط أحيانا، أشرد عن الدرس لأفكر فيها، أو أخلو إليها في غفلة ونأخذ في اللعب. ويسألني دائما عن مواظبتي فأتورط في الكذب. ويكفهر وجهه ويكتشف كذبي. وقلت لها: إنه لا تخفى عليه خافية. فقالت: أنت ضعيف، فيتجلى الكذب في عينيك!
ويقول هو لي مؤنبا: الكذب أرذل من الجهل.
يا له من رجل. أي ضرر يصيب العالم، إذا جهلت أن القاهرة هي عاصمة مصر؟ .. أو إذا لم أحفظ جدول الضرب؟ ويقرصني في أذني قائلا: الرجل الحقيقي يجب أن يعرف السماوات والأرض. ليست الحياة لعبا، انظر إلى النملة! هل يرضيك أن تكون أدنى مرتبة منها؟!
ويغلبني الارتباك فأقول له معاتبا: أنت الذي جئتني بها لألعب معها، فأبعدها عني.
فيقول باسما: إنك أصغر من أن تشير علي بما يجب، ولن أرتكب خطأ في حق الجيرة والقربى، وهي بمنزلة ابنتي، وليس بها من بأس كزميلة لك، فلا منع ولا إبعاد، ولكن عليك أن تعطي الدرس ما يستحقه، ولك أن تلاعبها في أوقات الفراغ.
تلك أيام مزقها العذاب وإن بدت اليوم آية في الجمال بسحر الزمن. وكان أن تغير صوتي فقالوا: ناهز البلوغ. وهمس في أذني بحزم أن الآن حرم اللعب. يا للخبر! ما شعرت برغبة في اللعب معها كما أشعر الآن.
وهي ترمقني من بعيد، ولكن جرأتها تلاشت. يتكلم لسانها بكلام، وعيناها بكلام آخر. أقول لها خلسة: لا يمكن أن نهدم في لحظة ما بنيناه في عمر مديد.
فتقول في دلال: ولكنك لم تعد تقنع بلعب زمان! - اللعب يتغير بتغير العمر. - وله حدود لا يتعداها.
من ناحية أخرى راح هو يحذرني من الأخطاء، ويخاطب في الرجل الناشئ. تمنيت ولو فراقا مؤقتا، ولكنه احتقر رغبتي وقال لي: الحياة اقتحام وحذر، ولا مجال فيها للهروب.
الأمور تتعقد وتزداد عسرا، بل أضحت عذابا ومحنة. ولعله لم يبد لي منفرا كما يبدو الآن. ارتفع صوته درجات. قلت: إنه هراء في هراء، وإنه يتدخل فيما لا يعنيه، كأنه لم يمر بالشباب يوما، وكلما ظفرت معها بخلوة امحى وجوده تماما. أنا وهي كل شيء وهو لا شيء كأنه خرافة. غير أنها اعتصمت بحد لا تتعداه، حتى خيل إلي أن همسه قد انسرب إليها. وانفجر غضبي عليه فسخرت منه في كل مكان. واعتبرت نفسي ندا له أو أقوى. ولما تيقنت من موقفي الجديد خافتني وهربت مني، لعل ذلك بوحيه وتأثيره. وهالتني وحدتي وتخبطت في الفراغ، وشحنت برغبة دكناء في الانتقام، فاندفعت في اقتراف أخطاء كثيرة بتشف واستهتار. أتحداهما معا وأعبث بذكراهما معا، ولكني لم أنج من غشاء الوحشة الذي وقعت في شركه. وتوهمت أن الانفصال قد فرق بيني وبينه إلى الأبد، ولكن بدا أنه رغم صمته الظاهر لم يكف عن الاهتمام بأمري. هكذا تبدل الحال فظفرت بوظيفة في المجتمع، وعقد قراني بها في ليلة بيضاء. وحق علي أن أشكر فضله إلى الأبد، وأن أقر بأنه لولا هباته العديدة وإرثه القيم ما وسعني أن أسعد بما نلت. واستقللت بمسكن جديد، ومارست السيادة في مملكتي الصغيرة، انغمست في الحب والإنجاب والعمل. وكدت أنساه تماما لا تمردا عليه هذه المرة، ولكن انشغالا بالأعباء الجديدة. وبمرور الأيام تغيرت هي أيضا، صارت زوجة لا حبيبة، وأما وشريكة. لا تمسك عن المحاسبة والمطالبة والشكوى. وأتساءل أين الدلال والبسمات والكلمات العذبة؟ وهالني العبء المتصاعد فانزلقت قدمي من جديد في طريق الخطأ. وربما تمادى الخطأ، فساقني إلى ما لا تحمد عقباه. وفجأة وبعد انقطاع طويل تلفن لي في مكتبي، وذكرني بوصاياه القديمة قائلا: إن فوائدها لم تنعدم بعد.
يا للعجب! كدت أنسى أنه ما زال على قيد الحياة. ها هو يعيد الأسطوانة القديمة متناسيا أنني لم أعد طفلا، وأنني اليوم مثله تماما في الحرية واتخاذ القرار. ومضيت في سبيلي، ولكن شيئا من الحذر خالط سلوكي وأهدافي، وأطرح كل ثمرات الجهد تحت أقدام الأسرة؛ فتتلقفها دون كلمة شكر أو تقدير. وأقول لها: الشكر لا يهم ولكنني أرجو شيئا من الرحمة!
فتقول: إني أتعب مثلك وأكثر، ولكنك أناني.
وتبدى لي الزواج صيغة غريبة للتوفيق بين الحب والكراهية، بين حب الحياة وحب الموت، بين التضحية والرغبة في القتل. ولكن السفينة صارعت الأمواج حتى صرعتها ونجت من الغرق، ونال الآخرون استقلالهم كما نلنا يوما استقلالنا. لم يعد أحد منهم في حاجة إلي، ورجعت إلي الوحدة جارة معها أثقال العمر، ولكنني لم أستسلم للأسى. وطنت نفسي على تقبل قوانين الأشياء، وناجيت في وحدتي الرضا والسلام. ولم أقلل من قيمة المسرات الزائلة، ولا من سحر التحف والأغاني، ولا حتى من جمال الأطعمة الشعبية. وإذا بي أتذكره فجأة بعد طول نسيان. وكيف لا أتذكره ما دام على قيد الحياة؟! وهو من جيل معمر يغبط على طول عمره وسلامة صحته، ولو كان أصابه تلف لترامت إلينا أخباره في حينها، فلا شك أنه يمارس حياة طبيعية، وسيسعد برجوعي إليه مثل سعادتي وربما أكثر، وهيهات أن أنسى نواياه الطيبة ورحمته. أما عن رأيه في فلا أحسبه في صالحي، ولكن كان دائما أكبر من تقصيري وأعلى. اليوم يبدو لي على حقيقته أكثر من أي عهد مضى. ثم إنه أقام في القرية منذ عهد بعيد، وشد ما تهفو نفسي إلى الخضرة والهواء النقي. إنها أثمن في النهاية من أثاث بيتي وتحفه، وما جمعت من مال وبنين. سأمضي إليه، وليس في نيتي أن أعتذر أو أن أصوغ من سحر البيان جملة واحدة. سأمثل بين يديه باسما، وأقول هامسا ها أنا قد رجعت، مدفوعا بالشوق وحده، فاقض بما أنت قاض.
في غمضة عين
ما ظن يوما أن زوال محنته يعني انزلاقه إلى محنة جديدة. من أجل ذلك لم يستمتع طويلا بعطر الخريف وأماراته المشربة بالبياض الناعس التي تغازله في مجلسه بشرفة كافيتريا الجلوب. إلى جانبه وفي متناول مس منكبه جلست رافعة بروفيل وجهها الأسمر الصافي الذي تفانى في حبه على مدى سنوات طويلة. هيأ نفسه منذ اللحظات الأولى للقاء - كالعادة - للتشاكي، ولنفث نسمات الحب في مناخ الإحباط المحدق، وللحومان حول هموم المسكن والخلو والجهاز والمهر، ثم كيفية مواجهة تحديات المعيشة. استقلا معا قارب الحب منذ المرحلة الثانوية، وتلاعبت به أمواج الحياة المعاندة غير المواتية، ولكنهما ظلا مصممين على البقاء جنبا لجنب قابضين بشدة كل على مجدافه، رافضين الانهزام أمام العقدة التي تطوقهما. هذا الصباح تطالعه عيناها بمرآة جلية الصفاء، لا ينضح بياضهما النقي بفتور. لم يخل قط جمال نظرتها من كآبة خفية تتجلى حينا وحينا تستشف. وتاق قلبه لسماع أي خبر حسن، واحتسيا قدحي الجوافة على مهل في صمت حتى خرقه قائلا: الحلم يتضخم في رأسي، وغير بعيد أن يصبح واقعا.
فقالت بثقة جديدة كل الجدة: غير بعيد على الإطلاق.
حقا؟! اقترح ذات يوم أن يتزوجا بالفعل، وليكن ما يكون. أجل سيظل في بيت والده بالقبيسي، كما ستظل في بيت أبيها بالوايلي، ثم يبحثان عن حل وهما حاملان معا أمانة الزوجية. أبوه رغم كونه موظفا صغيرا ممن عجنهم الانفتاح؛ إلا أنه لم يرتح أبدا لاختياره ابنة حلاق. لتكن جامعية وموظفة، فأي قيمة لذلك اليوم؟ ولكن الفتى نشأ رجلا لا يتحول عن المطالبة بحقوقه الكاملة. تفرس في وجهها مأخوذا بتعليقها القوي، وقال: ماذا وراءك؟ .. لديك شيء جديد!
فقالت بثقة باسمة: أجل. - حقا؟ - تبخرت المشكلة وانحلت العقدة، هبط حل بارع من السماء! - ماذا عندك؟
فقالت بانفعال لم تستطع كبحه: اسمع، رجل أعمال عرض على أبي التنازل له عن دكانه نظير مبلغ خمسين ألفا من الجنيهات.
انعقد لسانه من طغيان الفرح. الخبر في ذاته خبر من الأخبار المتداولة في تلك الأيام، ولكنه لم يتصور أن يطرق بابه واقعا حيا. - أرأيت يا عزيزي كيف تحل العقد بالسحر؟! - حكاية لا تصدق. - هي الحقيقة، وبعض زبائن أبي قدموا له نصائح ثمينة. - مثال ذلك؟ - أن يهجر حرفته ويعمل بالاستيراد، ودلوه على الطريق لفتح مكتب ... - استثمار وثراء مضاعف.
فنقرت على ظهر يده بأظافرها الأرجوانية، وقالت: أبي يجهل اللغات الأجنبية، سيسافر كثيرا، أقترح أن نستقيل من بطالتنا المقنعة وأن نعمل في مكتبه بمرتب حسن، ونسبة في الأرباح.
ضحك، ولبثت أساريره ضاحكة، ونسي هموم العمر كله، وقال: دخل خيالي. - وتلاشت المشكلات دفعة واحدة.
ونظرت إليه باسمة، وكأنما تدعوه لإعلان موافقته وشكره، فقال: توفيق ما بعده توفيق.
وتاه في الحلم تحت مراقبة عينيها، مورد الخدين من الفرح غائصا في لجة من الخواطر، ومسح بيده على شعر رأسه الغزير، وتنفس بعمق ثم قال، وكأنما يحاور نفسه: سنصبح منهم!
من تعني؟ - أنت تعرفين ما أعني تماما.
الماضي لا يمكن أن ينسى. إنه ماض حاضر، تجسد في حوار متواصل. انهال بألسنته المحمومة على الانحرافات والطفيليين من منطلق مثالية ناصعة، بل انتماء لا يخلو من تطرف. لكنها قالت: الصفقة مشروعة ولا غبار عليها. - أسلم بهذا، ولكنا لم نعفها من نقدنا المر.
فقالت محتجة: لا بد أن نفرق بين ما هو شرعي وما هو منحرف. - معك الحق. ولكن أصحابنا سيسخرون منا. - فليسخروا ما شاءوا، المهم أن عملنا لا غبار عليه. - العمل لا غبار عليه. - من منهم يعرض عن فرصة مماثلة إذا منحت له؟ - لا أحد فيما أتصور. - فلا يوجد سبب واحد يدعو للتردد. - هذا حق، المسألة ...
وتوقف متفكرا فتساءلت بحدة: المسألة ؟! - ماذا أقول؟ كنا نتكلم بين الأصحاب بحماس جاوز الحد. - حول المنحرفين، ودائما المنحرفين. - ألم نعتبر بعض أنواع الاستيراد انحرافا؟
فقالت متجهمة: سنكون موظفين لا أكثر! - صاحب المكتب هو أبوك وحموي! - لن يكون مهربا أو خطافا. - طبعا .. طبعا، ولن يمنعنا العمل الجديد من المحافظة على أفكارنا. - طبعا .. طبعا .. هل تتصور أن تضحيتنا بالفرصة هي التي ستصلح المجتمع؟ - طبعا لا. - لا تبال إذن بأي قول متعسف. - هذا هو الرأي الصواب. - هل أعتبر الأمر منتهيا؟! - أي نعم!
هكذا تلاشت المشكلات وابتسمت الحياة. آمن بذلك تماما ولكنه شعر في الوقت نفسه بأن محنة جديدة تتربص به بين الأصحاب أو في أعماق ذاته. ومن الآن فصاعدا ستكون السعادة هي المشكلة. ستكون المشكلة هي الدفاع عنها والمحافظة عليها للنهاية إن أمكن.
مرض السعادة
ثمة عدو خفي يتربص به؛ ليكدر صفوه ويقوض بنيانه. زحف عليه زحف سحابة ثقيلة متدنية غامقة السمرة، حجبت نور الشمس، وأطفأت ضياء النهار، وتسربت إلى أركان النفس بغشاوة من الكآبة؛ فمزقت الخيوط التي ربطته طويلا بينابيع الحياة. وتهرب من إعلان حاله لعلها تكون عابرة، ولكنها لم تتزحزح، ولم تخف عن عيني شريكة حياته. - مالك؟ .. لا يمكن أن تكون الصحة، فأنت طبيب! - صحة أحسد عليها، الزملاء فحصوني فحصا شاملا وتلقيت التهاني. - إذن طرأ طارئ! - إني أفتش عنه، فلا أعثر له على أثر. - لعله الفراغ بعد المعاش؟ - أين هذا الفراغ المزعوم؟ .. لدي النادي .. الصداقات .. الرياضة .. الموسيقى .. المطالعة .. بالإضافة إلى أن كل شيء تمام يا أفندم!
عندما يلقي نظرة على ماضيه ترتد إليه بتقرير موجز وصريح أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. ولد في بيت عز وجاه لأب من تجار القطن، وكان وطنه بدأ يتعرض للعواصف والتقلبات، ولكنه وجد المنجى والمعتصم في نصيحة أبيه حين قال له: كن في نفسك تسلم، ولا شأن لك بالآخرين! ولإعجابه بأبيه وحبه له أخذ بنصيحته. تطوع لأن يكون امتدادا له بمحض اختياره وحبه. ماج الوسط الطلابي بالزلازل، وهو قابع في ركن هادئ يراقب ويبتسم. لم يهمه إطلاقا حتى أن يعرف فيم يختلفون أو لم يثورون. وقال له أبوه أيضا: الإنسان الكامل كامل دائما وأبدا، والكمال هو الكمال سواء في بلد مستعمر أو في بلد مستقل. وعكف على ذاته ينميها ويصقلها بالعلم والرياضة والثقافة والفن، بل كان ضاربا على البيانو بامتياز. ودرس الطب بكل جدارة، وكان بميراثه في غنى عن الكسب والعيادة فتخصص في فرع نظري، وحصل فيه على الدكتوراه من إنجلترا، ثم شغل وظيفة في وزارة الصحة. كره من بادئ الأمر فكرة الاتصال بالجمهور أو العمل في المستشفيات وتطلع إلى المراكز المرموقة. ولعل زواجه كان الإنجاز الوحيد الذي أقدم عليه بدوافع ذاتية، ولكن اختياره حظي بموافقة أبيه وبركاته، وكأنما هو الذي اختاره له. تزوج من كريمة الباشا وكيل الصحة، وكانت مستوفاة لشروط الجمال واللياقة والتعليم المناسب فضلا عن الأخلاق الطيبة. وواصل حياة هادئة سعيدة ما بين البيت والعمل والنادي، وكأنما قد حقن بطعم واق من هيجان العصر وتقلباته وعواصفه، وأنجب ولدين ممتازين وناجحين. أجل تعذر عليه أن يصبهما في قالبه كما فعل أبوه معه، ولكنهما أرضياه تماما في أحلامه الكبرى، فتخرجا طبيبين، وتزوجا من فتاتين لا يقلان في المستوى والأهلية عن أمهما. ما عدا ذلك فللزمن أيضا مقتضياته. وبلغ هو في ترقيه وكالة الوزارة. وقامت ثورة يوليو فلم تمسه بسوء؛ لبعده الطبيعي عن أي شبهة، وأحيل إلى المعاش في ميعاده القانوني؛ ليستقبل حياة جديدة مليئة بالعواطف والمسرات. إنه الرجل السعيد حقا، إنه فلتة من فلتات الحظ والطبيعة. طبعا لم تخل تلك الحياة من أكدار روتينية عابرة كمرض عابر أو سوء تفاهم زوجي أو تمرد بنوي أو منافسة في العمل، ولكنها تتلاشى مثل تجعدات أمواج عارضة في محيط واسع من الاستقرار والسعادة. ماذا حدث بعد ذلك؟ لماذا يفقد كل جميل مذاقه الحلو؟ لماذا تتراكم أنات الشكوى ولا موضوع واحد للشكوى؟ الأدهى من ذلك أنه مضى يرفض العمد التي قامت عليها سعادته، النادي .. الصداقات .. الزوجة .. الطعام .. الرياضة. وقبل أن يسلم بالهزيمة ويستسلم لليأس ذهب شبه مرغم للطبيب النفسي. كان صديقا حميما وزميلا قديما، وأدركه أول ما أدركه بالعقاقير. وأحدثت العقاقير أثرا طيبا، فرجع إلى الشفاء وأفاق من إغماءته الطويلة. غير أنه لم يقنع بذلك وراح يتساءل: ولماذا يصيبني الاكتئاب في بحبوحة السعادة الشاملة؟
فضحك صديقه قائلا: ربما بسبب من السعادة نفسها!
فتبادلا نظرة كالإشارة الغنية بنفسها، فقال الرجل: إنك تسخر من نوعية السعادة التي قسمت لي.
فابتسم الطبيب وقال متهربا: ابناك مختلفان عنك فيما أرى؟
فقال بعفوية: من سوء الحظ!
ولكنه استدرك ضاحكا: أعني من حسن الحظ!
من تحت لفوق
أي أمل يمكن أن تجود به هذه الحياة؟ إنها من صميم الأسرة، ولكنها غريبة عنها تماما في الوقت نفسه، تمضي حياتها على الهامش، على حافة الهامش، رغم أنها المحور الذي يدور حوله كل شيء. أول من يستيقظ لتعد الإفطار، ولتمارس بعد ذلك خدمات متصلة، ختامها غسيل الأواني بعد العشاء، لا تشعر بانتمائها إلى الأسرة إلا حينما تجلس إلى مائدة الطعام معهم، أو عندما تتخذ مجلسها أمام التلفزيون بعد الفراغ من السخرة اليومية. وما إن تجاوز الساعة العاشرة حتى تقول لها تفيدة هانم - زوجة أبيها - بنبرة تجمع بين الحزم الصادق والعطف الكاذب: آن لك أن تنامي يا نعيمة؛ لتأخذي قسطك من الراحة.
المرأة لا تهمها راحتها في شيء، ولكنها تحرص على استيقاظها المبكر. يشهد على ذلك ما يتبادلانه من كراهية عميقة الجذور، تتستر أحيانا بالصمت وتتعرى أحيانا بقوارص الكلم. هذه المرأة التي قضت عليها، وسدت طريق الأمل بجدار غليظ. وحوالي السابعة يغادر أبوها بكري أفندي مسكنه إلى عمله بالحكومة، ويتبعه أخواتها الثلاث إلى وظائفهن التي ألحقن بها حديثا عقب إتمام دراساتهن الجامعية. وتأخذ نعيمة في عملها اليومي تحت إشراف تفيدة هانم. لم يعد من المستطاع اكتراء خادمة في هذا الزمن، وها هي تسد هذا الفراغ بلا أجر وبلا شكر، وكأنه واجب تؤديه نظير لقمتها وإقامتها في البيت المفترض أنه بيت أبيها. أذعنت لوضعها التعيس، كما يذعن أبوها لمشيئة زوجته، كلاهما يجد في الإذعان منجى من الكدر. ألفت الخدمة، وكراهية تفيدة هانم، وألفت ملابسها الخشنة الرخيصة الشعبية وحظها التافه من التعليم، مذ أصرت المرأة على إبقائها في البيت للمعاونة مضحية بمستقبلها ومستسلمة لحقدها الدائم، ولم تلق عند أبيها الضعيف أي دفاع، لم تجد نصيرا مذ فقدت أمها وهي بنت ثمانية أعوام، وها هي تعبر الثامنة والعشرين بلا أمل، ولا يكاد أحد يكتشف جمالها وراء غشاء الإهمال والقذارة، الإهمال والقذارة والجهل والسن والفقر. المستقبل لا يبتسم ابتسامته الشاحبة إلا في الحلم، والحلم لا يريد أن يتحقق، فهل تتجرع تعاستها حتى الثمالة؟! أبوها يهرب إليها العطف أحيانا من زاوية عينه في غفلة من المرأة، ثم تطحنه الحياة بأعبائها فيشغل عنها بهمومه، وتقول وهي تتنهد: نسيني كما نسي أمي من قبل.
وكلما تحدت زوجة أبيها تحديا عابرا؛ ينقلب الجميع عليها، أخواتها وأبوها، فتنحصر في ركن وحيدة مغلوبة على أمرها. إنه بيت ظالم يستغلها بلا رحمة، وإنها تمقته من صميم قلبها الجريح. وحلمت كثيرا في شبابها الأول بمعجزات الحظ السعيد، بمقدم رجل الأحلام الذي يضمها إلى قلبه رغم الفقر والجهل ويطير بها في سماوات السعادة، ولكنه لم يقدم ولم ينتظر الزمن، وصادفت أعينا تتطلع بإعجاب، وهي تنشر الغسيل في الشرفة، أو تتسوق في الطريق، محض نظرات بلا فعل ولا أمل. وتنفذ امرأة أبيها إلى أعماقها أحيانا، فتخاطب بناتها على مسمع منها: ادخرن واعتمدن على أنفسكن، أبوكن لا يملك إمكانية تجهيز بنت!
الماكرة تخاطبها هي، وتخاطبها أيضا وهي تقول لأبيها: الشاب اليوم في حاجة إلى زوجة تشاركه حمل الأعباء، والموظفة بمرتبها تماثل صاحبة الإيراد على أيامنا.
ولم تستطع السكوت فقالت: لو لم أجبر على ترك المدرسة؛ لكنت اليوم موظفة!
فقالت المرأة بصرامة: بل كنت ضعيفة في دراستك، فجعلت منك ست بيت، وشيء خير من لا شيء.
فهتفت على رغمها: ربنا بيني وبينك!
فصرخت المرأة: تدعين علي؟!
وتدخل الأب والأخوات، وخسرت كالعادة القضية. وما جدوى الكلام؟ وما جدوى الخصام والشباب يتلاشى مع الأمل؟! بل ها هي تشهد مأساة من نوع جديد، فقد تقدم شاب لطلب يد درية كبرى الأخوات وفشلت الخطوبة؛ لعدم إمكان الحصول على شقة! وليلتها دار نقاش طويل أسيف في الأسرة عن تكاليف الزواج، أدركت نعيمة بعده أن أخواتها لسن أسعد حظا منها إلا قليلا. حقا لقد تغيرت الدنيا، وها هي تمارس عقوباتها على من يستحقها ومن لا يستحقها! ورجعت ذات صباح من أيام الشتاء الأخيرة من السوق في جلبابها الكستور متلفعة بشال رمادي، ويدها قابضة على سلة الخضار، فوقفت كالعادة تتبادل كلمتين مع زوجة البواب. وإذا بالمرأة تقول: عيني عليك، خادمة بلا أجر!
فقطبت دون ارتياح وفي شيء من الكبرياء فقالت المرأة: أصبحت أكره أسرتك من أجل عيونك!
فتمتمت نعيمة: ربنا موجود.
فتساءلت المرأة بإغراء: ألديك فكرة عن مرتب الخادمة اليوم؟
ما زالت تعتبر نفسها - على الأقل أمام الآخرين - فتاة كريمة من أسرة! - وهل المرتب هو كل شيء؟ - طبعا، لا تكوني عدوة لنفسك.
لم تنم ليلتها من الفكر، ولم يكن المرتب هو الإغراء الوحيد، ولكن التحرير أيضا من سطوة تفيدة وضعف أبيها وأنانية أخواتها. ولم ينقطع الحوار بينها وبين زوجة البواب. رفضت فكرة العمل في شقة مفروشة قائلة بإباء: إني بنت محترمة.
فقالت المرأة: وعندي أسر محترمة أيضا!
وغادرت نعيمة البيت فلم تعد. اشتغلت في أسرة بمدينة المهندسين بمائة جنيه، وتحسنت أحوالها في الملبس والصحة. وفي مجرى عامين تزوجت من كهربائي مناسب جدا. ووجدت من نفسها رغبة في زيارة أسرتها؛ ليعلم زوجها أنها بنت ناس من ناحية، وليعلم أهلها أي مصير حسن انتهت إليه بعد التحرر من ربقتهم.
وكان يوما من أسعد أيامها يوم رجعت إلى مسكنها القديم بوجهها الجديد وزيها الجميل بصحبة الزوج السعيد.
رجل
يستقبل يومه بزيارة الشارع الطويل، شارع الحرية، وهو صالح تماما لرياضته الصباحية بطواره السليم وأشجاره العتيقة الباسقة. يتمشى بقدر ما يستطيع ثم يرجع إلى شقته؛ فيجد خادمته العجوز قد أعدت له مجلسه في حجرة المعيشة؛ ليخلو إلى الصحف والإذاعة والتأمل الطويل. وقرأ ذات يوم العمود اليومي للأستاذ م. أ. فشد انتباهه بقوة غير عادية. قرأ: «لي جار من رجال الجيل الماضي المعروفين، يمشي كل صباح رغم شيخوخته في جولة رياضية يغبط عليها، ولكنه يقضي شيخوخته في وحدة مطلقة، فقد شريكة العمر منذ أعوام، وهاجر أبناؤه الثلاثة إلى الولايات المتحدة، لم يجن من عمره الطويل إلا الذكريات بعد سطوع نجمه في الهندسة والسياسة، ترى فيم يفكر في وحدته؟ وكيف يعالج كآبته؟ كيف نصنع من طول العمر نعمة لا نقمة؟!» وأكمل الأستاذ عموده عن العناية بالمسنين، وما يعد لأمثالهم في البلاد المتحضرة. وقال الرجل وهو يبتسم: «إنه يعنيني أنا دون سواي». فهو جاره على نحو ما، وكثيرا ما يراه وهو راجع من جولته الصباحية، لكنه تخيل فأخطأ، وما أكثر أوهام هؤلاء الكتاب. وعزم في نفسه على أمر غير أنه أجل تنفيذه إلى صباح اليوم التالي، وكما قدر تماما رأي - لدى عودته من جولة الصباح - الأستاذ وهو يتجه نحو سيارته الصغيرة؛ فتألقت عيناهما في ابتسام لأول مرة.
وقال العجوز: قرأت عمودك أمس، إنه عني فيما أعتقد؟
فقال الأستاذ: أرجو أن تكون راضيا! - شكرا، ولكن ليس الواقع كما تتخيل! - حقا؟! - شرفني وقتما تشاء إذا كان يهمك أن تعرف الحقيقة.
فقال الأستاذ متحمسا: أعدك بذلك.
وقد كان. وجالسه في شرفة مغلقة بالزجاج؛ اتقاء لجو الخريف حول مائدة شاي. عن قرب تجلت شيخوخة الرجل في انتفاخ جفنيه وتجعدات فمه وذبول نظرته، رغم صحته الجيدة ونشاطه الموفور. وراح يقول وهو يشجعه على تناول الشاي والبسكوت: أشكر لك رقتك، وجميل رثائك لي، ولكنني لا أستحق الرثاء؛ لأنني فوق الرثاء، وصدقني فأنا راض عن نفسي كل الرضا! - ما أجمل أن تقول ذلك! - إني قوي دائما ومنتصر دائما.
فرمقه الأستاذ بإعجاب، وبنظرة تطالب بالمزيد، ربما التماسا لليقين في الوقت نفسه.
شعر العجوز برغبة ملحة في الإفصاح عن مكنون ذاته. - من أين جاءتني القوة؟ إنه أبي رحمه الله، كان مربيا عظيما يعشق القوة ويجلها، شحذني بالرعاية والعناية والشدة الحميدة العاقلة، علمني كيف أهتم باللعب كما أهتم بالعمل؛ لأتطلع إلى الكمال في جميع الأحوال، ولن أحدثك عن تفوقي الدراسي، ولكني أحرزت في لعبة الكرة نفس الدرجة من التفوق، كنت قلب الهجوم بالمدرسة الخديوية، ولعل كنت اللاعب الوحيد الذي يحافظ على حماسه كله حتى اللحظة الأخيرة من المباراة، وبصرف النظر عن النتائج، وكان مدربنا يقول لفريقنا: إن اللعب أهم من النتيجة، وإن عليهم أن يحافظوا على روحهم العالية حتى الختام، وقال محددا: ليكن لكم أسوة في زميلكم صفوت راجي.
فقال الأستاذ منشرحا: ولكنك طويل القامة بصورة ملحوظة، فهل أعتبر ذلك ميزة؟ - إنه ميزة لمن يحسن استغلاله، وقد برعت في اللعب حتى واتتني الفرصة للالتحاق بأحد النوادي المعروفة. - وهل صرت نجما شعبيا؟ - كلا، هجم علي خصم هجمة غير قانونية، فأحدث بي عاهة في مفصل ساقي اليمني؛ فاضطررت إلى الانقطاع عن رياضتي المحبوبة. - يا للخسارة! وإذن لم تخل حياتك من منغصات! - الحياة لا تخلو أبدا من منغصات، من حيث تتوقع أو لا تتوقع، المهم كيف تواجهها؟ كيف تستوعبها؟ كيف تطويها تحت جناحك ثم تمضي في سبيلك؟ أجل خيمت علي الكآبة فترة طويلة حتى رمقني أبي بازدراء، وعاتبني بدلا من أن يعزيني، وسرعان ما كرست طاقتي كلها للدراسة حتى تخرجت في الهندسة على رأس الناجحين.
فقال الأستاذ بصدق: إنك مهندس غني عن التعريف. - وكنت من الرعيل الأول الذي زهد في الوظيفة الحكومية؛ فقدمت في امتحان عام لوظيفة خالية في شركة الكهرباء ونجحت .. وأثبت وجودي بين الخواجات. - برافو! - وثمة سوء حظ من نوع آخر أشد ضراوة مما أدركني في الكرة، كان ميدانه القلب، أحببت جارة لي حبا امتد من المراهقة إلى الشباب. في ذلك الزمان كانت وسائل الاتصال عسيرة جدا ومحدودة، لم تزد عن تفاهم بالأعين وتبادل للابتسام، وكان ذلك يعني حبا متبادلا. وعرفت أن مدرستها الثانوية ستقوم برحلة إلى القناطر فسبقتها إليها. واختلسنا لقاء سريعا عابرا بعيدا عن أعين الرقباء، دقائق سريعة تحت خميلة، ماذا قلت لها؟ لعلي استعرت جملة عذبة من جمل المنفلوطي، ولكنها خرجت محملة بالصدق، وأفهمتها أن أبي لا يسمح بالكلام في العواطف قبل أن أستكمل دراستي، وسألتها أن تعتمد على شرفي ورجولتي ، وأنني سأتقدم لطلب يدها في الوقت المناسب؛ فوافقت بابتسامة صامتة، وثملت بحلم السعادة فترة غير قصيرة، وإذا بها تختفي من النافذة متجنبة مجال الرؤية فكدت أفقد صوابي. وتلقيت منها رسالة تخبرني فيها بأن ابن عمها خطبها، وأنها لم تستطع أن تقنع أحدا بالرفض، وأعربت عن أسفها سائلة إياي المعذرة. هل خبرت مثل ذلك الموقف؟ .. أو بالحري تلك المحنة؟! والظاهر أن الحب الحقيقي كان تجربة نادرة في تلك الأيام، وما كان يظن أنه الحب لم يكن إلا استعدادا عاما للزواج، وكان سحر الزواج أقوى من سحر الحب وبخاصة إن بشر بتوفيق وسعادة. لم أصدق أنها أحبتني حقا كما أحببتها، ولكنني كنت المرشح المفضل طالما لم يتقدم من هو أجدر بها مني.
تمتم الأستاذ: كانت محنة كما قلت! - انغرز سن الألم المسموم في أعماقي حتى نهايته، وخيل إلي أني انتهيت تماما وأن الحديقة جفت وتساقطت ورودها، وتلاشت رغبتي في العمل. - ألم تقدم على أي محاولة جادة لاستردادها؟ - كلا، تعذر علي ذلك، لم أستطع رؤيتها قط، وأقنعني سلوكها بأنها فتحت صفحة جديدة، لم يبق لي إلا ألم مجنون، وأوهام غريبة بأنني فقدت المرأة الوحيدة في دنياي، إنه ألم جهنمي لا يبدو غير معقول؛ إلا إذا فصل الزمان بيننا وبينه بالمدة الكافية للشفاء. - ولكنه قد يقتل قبل ذلك. - بلا شك. - وفشلت في الامتحان لأول مرة في حياتك؟
فابتسم العجوز قائلا: كلا، تلقيت لكمة قاضية ولكنني نهضت مترنحا قبل أن يبلغ الحكم في عده رقم عشرة، وبإرادة من صلب استخلصت الرغبة في النجاح والتفوق من حومة المأساة. كان نضالا هائلا. بين الألم والعمل، وعلى ضوئه تكشف لي جوهر عزيمتي لا يهزم ولا يستسلم. - مرة أخرى، برافو!
ولم أكد أستقر في وظيفتي حتى صممت على الزواج، مؤثرا هذه المرة السبيل التقليدي المعروف، أو الذي كان معروفا على أيامنا، وتم كل شيء بحمد الله وفضله. - ونسيت الحب وأيامه؟! - ليس تماما، ربما بقيت منه رواسب معاندة كرائحة الوردة الذابلة، ولكني عايشت تجربة الزواج بكل أبعادها، وبنجاح أيضا. أأنت متزوج؟ عظيم! حقا يوجد فارق كبير في السن ولكن الزواج هو الزواج، بمودته ونقاره، وأنغامه المنسجمة والنشاز، والرضا والغضب، والذرية ومسراتها ومتاعبها، وعند الحساب الختامي تجد أنه لا غنى لطرف عن الآخر، ماذا تريد أكثر من ذلك تعريفا للزواج الموفق؟! بل من يضمن لي أنني كنت سأوفق مع الأولى كما وفقت مع الأخرى؟!
فضحك الأستاذ قائلا: خفيف الروح بقدر ما أنت حكيم!
وصمت العجوز قليلا ثم واصل: لعلي لم أبرأ تماما حتى اليوم من فقد ابنين، ولكني أثبت صمودي أمام الموت نفسه! أنجبت خمسة أولاد مات منهم اثنان، الأول في وباء الكوليرا والثاني في حمام السباحة. تهدم بنيان زوجتي، وحنقت على صمودي. الصابر المتصبر متهم في هذا البلد. قيل عنى إني غليظ القلب وإني منهمك في عملي للدرجة التي تنسيني ما عداه. هذا خطأ. إني أعرف الحزن والألم، ولكني لا أعاند المقادر. وأرى أن أكبر عار في هذه الدنيا هو عار الهزيمة. - هذا ما نتمناه ونعجز عنه.
وتهلل وجهه الضامر دالا على أنه ما زال محبا للثناء وقال: وكما طعنت أبوتي طعن طموحي. إني رجل مخضرم، لم أكن مهندسا ناجحا فحسب، ولكنني كنت أيضا ذا انتماء سياسي معروف، وآمال وطنية مترامية. وظفرت في انتخابات 1950 بعضوية مجلس النواب، وتنبأ لي كثيرون بالوزارة. وإذا بثورة يوليو تقوم على غير توقع مني، وطويت الأرض التي كنت أقف فوقها مثل المسلة، وقذفت بأحب الرجال إلى قلبي إلى مجاهل النسيان وأعماق السجون. أصابني من الأذى شيء قليل ولكني وجدت نفسي لأول مرة متهما معزولا. وقبعت في كهف الضياع زمنا ولكني لم أستسلم، كما أني لم أنطح الصخر. وتذكرت انتصاراتي السابقة؛ لأستمد منها الشجاعة، وقررت أن أكرس حياتي للعلم والعمل، ففتحت مكتبي الهندسي، وكان من أمري ما تعلم مما أشرت إليه في عمودك اليومي. - بعض رجال الثورة أنفسهم لم يكتموا إعجابهم بك. - ولم تخل حياتي الجديدة من هزائم وانتصارات كالعادة. زوجتي اضمحلت وماتت، وعقب هزيمة 5 يونيو، اجتاح الزلزال أبنائي الثلاثة، ففقدوا انتماءهم وثقتهم في كل شيء ، وهاجروا واحدا في إثر واحد إلى الولايات المتحدة، ووجدت نفسي غريبا كما كنت في البداية! - الهجرة تيار جامح لا ذنب عليك فيه. - ولكن توجد حقيقة مرة لا يجوز أن نغفلها، وهي أننا لم نكن على المستوى المنشود حيال الهزيمة كما كنا حيال النصر، وحاولت أن أغريهم بالرجوع بعد أن تغير المناخ العام كثيرا ولكنهم أبوا ذلك بشدة. - من المحزن أن أفضلنا هم من يهاجرون. - واعتزلت العمل بحكم الشيخوخة؛ لأعاشر وحدتي حتى النهاية.
فقال الأستاذ باسما: إذن فكلمتي لم تخل من حقيقة.
فقال باسما بدوره: ولكنني لم أستسلم للوحدة.
فرفع الأستاذ حاجبيه فوق حافتي نظارته لائذا بالصمت، فواصل الآخر: عقدت العزم على الانتصار حتى النهاية، أن أنتصر على الكآبة كما انتصرت على الموت والثورة، ما زلت قادرا على تذوق الأشياء الجميلة! - مثل ماذا؟ - المشي، الموسيقى، الكرواسان بالحليب، التأمل تأهبا للمغامرة الأخيرة!
فقال الأستاذ مقهقها: إنك صلب عنيد. - أتراني الآن مستحقا للرثاء كما كتبت؟!
فقال الأستاذ بهدوء: اقرأ عمود الغد؛ لتعرف رأيي النهائي فيك.
خطة بعيدة المدى
بالأمس تحديات الجوع والصعلكة، واليوم تحديات الثراء الفاحش. بيت عتيق بنصف مليون، خلق عصام البقلي من جديد، خلق من جديد وهو في السبعين من عمره. تملى صورته في المرآة القديمة. صورة بالية، تكالب عليها الزمن والجوع والحسرات. الوجه قالب من العظام البارزة والجلد المدبوغ الكريه، جبهة ضيقة غائرة وعينان ذابلتان ورموش قليلة باقية. أسنان سود بلا ضروس ولغد من التجاعيد. ماذا يبقى من الحياة بعد السبعين؟ ولكن بالرغم من كل شيء؛ فللثروة الهابطة سكرة لا تتبخر. أمور لا حصر لها يجب أن تنجز. المليونير عصام البقلي .. بعد الصعلوك المتسول عصام البقلي. كل من بقي على قيد الحياة من الأصدقاء القدامى هتف: «أما سمعتم بما حصل للبقلي؟» «ماذا حصل للصعلوك؟» .. «البيت القديم اشترته شركة من شركات الانفتاح بنصف مليون!» «نصف مليون!» «وكتاب الله». وينتشر الذهول ما بين السكاكيني والقبيسي والعباسية كإعصار. البيت كان يمتد بفنائه الواسع بشارع قشتمر، ورثه عن أمه، رحلت منذ عشر سنوات بعد أن حولها العمر إلى حطام، تعلقت بالحياة بإصرار حتى تهتكت الخيوط فهوت، لم يحزن عليها. عودته الحياة على ألا يحزن على شيء. لم يكن للأسرة إلا معاش أمه الصغير والمأوى، لم يحرز أي نجاح في المدرسة، لم يتعلم حرفة، لم يؤد عملا أبدا. صعلوك ضائع، قد يربح قروشا في النرد مع الغش بفضل تسامح الأصدقاء، أصدقاء كثيرون جادت بهم المدرسة والجوار على أيام الطفولة والصبا والشباب. في روحه خفة كفرت عن سيئات كثيرة وغفرت أخطاء، دائما يحظى بالعطف؛ لشدة بؤسه وانغلاق مستقبله. الأب كان موظفا بالبريد وأمه ورثت بيت قشتمر بطابقه الواحد الصغير وفنائه الواسع المهمل، فحق له أن يقول إنه ابن ناس طيبين، ولكنه سيئ الحظ. الحقيقة أنه كان بليدا تنبلا، وقليل الأدب فسرعان ما طرد من المدرسة. عاش حياته تقريبا في مقهى إيزيس مدينا أو مسددا دينه بالغش وكرم الأصدقاء. فكر صديقه المحامي عثمان القلة أن يلحقه بمكتبه الكائن بميدان الجيش فأبى؛ لأنه كان يكره العمل كره العمى. وفي وحدته عندما يغيب الأصدقاء في أعمالهم يمضي وقته في الكسل وأحلام اليقظة. يبتل ريقه بشيء من اليسر في مواسم الانتخابات والأفراح والمآتم. عاش دهره بفضل خفة روحه وكرم أصدقائه، واحترف التهريج، يغني ويرقص؛ ليفوز بأكلة فول أو قطعة بسبوسة أو نفسين حشيش، وظلت غرائزه مكبوتة جائعة مجنونة. بيت قشتمر لا يعرف من ألوان الطعام إلا الفول والطعمية والباذنجان والعدس والبصارة والنابت. أما أحلامه فتهيم دائما في وديان من الولائم الغامضة والجنس المكبوت، وكانت له أساطيره عن غراميات مع أرامل ومطلقات ومتزوجات أيضا، فلم يصدقه أحد ولم يكذبه أحد. طبع بصورة المتسول منذ شبابه الأول ببدلته المشتراة من سوق الكانتو وصلعته المبكرة وشحوبه الدائم. لم يصدق أساطيره أحد سوى مغامرة مع خادمة أرملة تكبره بعشر سنوات، سرعان ما انقلبت إلى شقاق ونزاع عندما تبين له أنها تروم الزواج منه. بل اشترطت أيضا أن يجد لنفسه عملا؛ لأن اليد البطالة نجسة، ووقع الانفصال من خلال معركة تبودلت فيها الضربات على الوجه والقفا. تلك كانت المغامرة الوحيدة الحقيقية، والتي شهدها جاره الأستاذ عثمان القلة فحدث في المقهى قائلا: فاتكم مشهد ولا السيرك، امرأة مثل زكيبة الفحم، فرشت الملاية لعزيزنا البقلي في فناء بيته الكريم، على مسمع ومرأى من أمه الكريمة المذهولة، ولم تفض المعركة إلا بطلوع الروح وتدخل أولاد الحلال، وسرعان ما نشبت معركة جديدة مع أمه.
عدا تلك التجربة الفاشلة جحظت عيناه من طول التطلع النهم إلى السائرات في الطريق، واحترق قلبه كما احترقت معدته من الجوع. ولم يجد إلا أمه ليصب عليها جام غضبه وإحباطه رغم حبها الشديد له، حب عجوز لابنها الوحيد، وكلما حثته على العمل أو الاستقامة سألها متحديا: متى ترحلين عن هذه الدنيا؟
فتقول باسمة: الله يسامحك، وماذا تفعل إذا انقطع عنك معاشي؟ - أبيع البيت. - لن تجد من يشتريه بأكثر من خمسمائة جنيه تبددها في شهرين، ثم تحترف الشحاذة.
لم يسمعها كلمة طيبة قط، ونصحه أصدقاؤه بتغيير سياسته معها؛ حتى لا يقتلها هما وكمدا ويعرض نفسه حقا للشحاذة، وذكروه بما قال الله وما قال الرسول، ولكن ضياعه اقتلع جذور الإيمان من قلبه المفعم بالجوع والحسرات، والتزم بموقفه الساخر الساخط من الأحداث التي تمر به كالمعارك الحزبية والحرب العالمية، بل دعا على الدنيا بالمزيد من الهلاك والفناء، وتمادى في السخرية والاستهتار. ويئست أمه منه تماما وسلمت أمرها لله، ويغلبها الأسى أحيانا فتسأله: لماذا تقابل حبي بالعقوق؟
فيقول ساخرا: من أسباب النحس في هذه الدنيا أن يمتد العمر بالبعض أكثر من الضروري!
ومضت تكاليف الحياة في صعود. هل ثمة مزيد من الحرمان؟ واقترح على أمه أن يسكن فردا أو أسرة في حجرة نومه، على أن ينام هو على الكنبة في حجرتها. فقالت المرأة في حيرة: نفتح بيتنا للأغراب؟!
فصاح بها: خير من الموت جوعا. - وألقى نظرة على فناء البيت وتمتم: كأنه ملعب كرة، ولكن لا خير فيه!
وجاءه سمسار بطالب ريفي فاستأجر حجرته بجنيه. وتندر الأصدقاء بالواقعة فقالوا: إن بيت قشتمر أصبح بنسيونا. وأطلقوا على أمه «مدام البقلي!» ولكن لم يكن يعتق نفسه من السخرية أمامهم، ويغني: وأيام تيجي على ابن الأصول ينذل.
واستهان بالغارات الجوية بخلاف الكثيرين، لم يستجب لزمارة الإنذار أبدا، ولم يغادر مجلسه بالمقهى ولا عرف طريق المخبأ. لا يهمه هذا، ما يهمه أن العمر يجري، وأنه يشارف الأربعين دون أن يهنأ بلقمة لذيذة أو امرأة جميلة. حتى الثورة لم يهتز لقيامها، وقال ساخرا: يبدو أن هذه الثورة ضدنا نحن أصحاب الأملاك!
وهو لم يقرأ في حياته جريدة، ويتلقى معلوماته دون اكتراث في مجالس الأصحاب. ويتقدم به العمر حتى يتجاوز الخمسين، وطعنت أمه في السن، وركبها الضعف وأخذت تفقد الاهتمام بالأشياء، ومرت بها أزمة فتطوع صديق طبيب بفحصها، وشخص علتها بالقلب ونصح بالراحة والدواء. كانت الراحة مستحيلة والدواء متعذرا، ومضى يتساءل: كيف يتعامل مع الحياة إذا حرم من معاشها؟ وراحت تقترب من الموت ساعة بعد أخرى، حتى استيقظ ذات صباح فوجدها ميتة! نظر إليها طويلا قبل أن يغطي وجهها. خيل إليه أنه يتذكر قبسات من ماض بعيد، وأنه يتوقف مرغما عن السخرية، وأن تلك اللحظة من الصباح كئيبة حزينة. وقصد من توه أغنى أصدقائه السيد نوح تاجر العمارات؛ فتكفل الرجل بتجهيز المرأة ودفنها. وحذره من بيع البيت أن يجد نفسه بعد حين مشردا في الشارع. ترى، هل يكفي الغش في النرد وإيجار الحجرة؟! .. أوليس لكرم الأصدقاء حد؟! وغامر بتجربة الشحاذة في بعض أطراف المدينة، ولم تكن تجربة عقيمة، وتتابعت الأيام؛ فمات زعيم وتولى زعيم وجاء الانفتاح وهو يستقبل عامه السبعين، عامه السبعين من الضياع واليأس. تمادى الغلاء حقا وعربد، وزلزلت الموازين. لم يعد التسول بنافع وكرم الأصدقاء انحسر وتهاوى في بئر التلاشي، رحل منهم نفر وا أسفاه! وآوى الباقون إلى شيخوخة هادئة تقنع بالسمر. يا له من عجوز بائس يائس! وتنقشع ظلمات الوجود ذات يوم عن وجه السمسار، وهو يهبط بأجنحة ملائكية من كبد السماء! وفي حضرة صديقيه المحامي وتاجر العمارات تمت الصفقة، وأودع المبلغ الخرافي في البنك. وجلس الثلاثة في مقهى بلدي بشارع الأزهر يتوافق تواضعه مع منظر المليونير التعيس. تنهد عصام البقلي في ارتياح عميق يغني عن أي كلام. إنه سعيد سعادة كاملة لأول مرة في حياته، ولكنه قال في حيرة: لا تتركاني وحدي.
فقال عثمان القلة المحامي ضاحكا: لا حاجة بك لإنسان بعد اليوم.
ولكن السيد نوح قال: إنه مجنون وفي حاجة إلى مرشد في كل خطوة.
فقال البقلي بامتنان: وأنتما خير من عرفت في حياتي.
فقال السيد نوح: هنالك أولويات قبل الشروع في أي عمل، غير قابلة للتأجيل، في مقدمتها أن تذهب إلى الحمام الهندي؛ لتزيل القذارة المتراكمة، وتكشف عن شخصك الأصلي. - أخاف ألا يعرفوني في البنك. - وتحلق رأسك وذقنك، وتشتري لك اليوم بدلة جاهزة وملابس؛ فيمكنك الإقامة في فندق محترم دون إثارة للريب. - هل أقيم في الفندق بصفة مستديمة؟
قال المحامي: إذا شئت، ستجد خدمة كاملة، وكل شيء.
فقال السيد نوح: الشقة لها مزايا أيضا.
فهتف البقلي: والشقة لا تكتمل إلا بعروس! - عروس؟! - لم لا؟ .. لست أول ولا آخر عريس في السبعين! - إنها مشكلة! - تذكر أن العريس مليونير.
فقال المحامي ضاحكا: إغراء شديد، ولكن لأولاد الحرام.
فقال البقلي باستهانة: حرام أو حلال، كله واحد في النهاية!
فقال نوح: لا ... قد ترتد إلى التسول بأسرع مما تتصور.
وقال عثمان المحامي: فلنؤجل ذلك إلى حين.
فقال عصام البقلي: مسألة المرأة غير قابلة للتأجيل، هي أهم من البدلة الجاهزة. - الفرص كثيرة والملاهي أكثر من الهم على القلب. - حاجتي إليكما في هذا الطريق أشد. - ولكنا ودعنا زمن العربدة منذ أجيال. - وكيف أسير وحدي؟ - من ترافقه النقود لا يعرف الوحدة.
وقال السيد نوح: لنا جلسة أخرى فيما بعد للتفكير في استثمار الثروة، فمن الحكمة أن تنفق من الريع لا من رأس المال.
فقال البقلي محتجا: تذكر أنني في السبعين وبلا وريث! - ولو!
فقال المحامي: المهم أن نبدأ.
وعندما اجتمعوا مساء تبدى عصام البقلي في بشرة جديدة وبدلة جديدة، تلاشت القذارة ولكن بقيت تعاسة الكبر والبؤس القديم. وقال المحامي ضاحكا: فالنتينو ورب الكعبة!
ولما كان الأستاذ عثمان القلة على مودة وتعامل مع مدير فندق النيل؛ فقد استأجر له حجرة ممتازة بالفندق، وسرعان ما دعاهما البقلي للعشاء على مائدته، ودارت كئوس قليلة لفتح الشهية، وجلسوا معا بعد العشاء يخططون للقاء الغد، وأوصلهما حتى سيارة السيد نوح، ولكنه لم يرجع إلى الفندق. استقل تاكسي إلى شارع محمد علي، ومضى من توه إلى محل الكوارع المعروف. لم يعترف بذلك العشاء المرهف فاعتبره فاتحا للشهية، وطلب فتة ولحمة راس وأكل حتى استوفى المزاج، وغادر المحل ليرمرم ما بين البسيمة والكنافة والبسبوسة، وكأنما أصابه جنون الطعام، وعاد إلى الفندق قبيل منتصف الليل، وقد سكر بالطعام حتى كاد يفقد الوعي، وأغلق حجرته وثقل غير متوقع يزحف على روحه وأعضائه. خلع الجاكتة بمنتهى العناء ثم عجز عن الإتيان بأي حركة؛ استلقى فوق الفراش بالبنطلون والحذاء وحتى النور لم يطفئه. ماذا يجثم فوق بطنه وصدره وقلبه وروحه؟ ماذا يكتم أنفاسه؟ من يقبض على عنقه؟ يفكر أن يستغيث، أن ينادي أحدا، أن يبحث عن موضع الجرس، أن يستعمل التليفون، ولكنه عاجز تماما عن أي حركة. كبلت يداه وقدماه واختفى صوته. يوجد علاج، يوجد إسعاف، ولكن كيف السبيل إليهما؟ ما هذه الحال الغريبة التي تستل من الإنسان كل إرادة وكل قدرة وتتركه عدما في عدم؟ آه، إنه الموت، الموت يتقدم بلا مدافع ولا مقاوم، ونادى بخواطره المحمومة المدير .. نوح .. عثمان .. الثروة .. العروس .. المرأة .. الحلم .. لا شيء يريد أن يستجيب. لم كانت المعجزة إذن؟ .. غير معقول .. غير معقول يا رب!
النشوة في نوفمبر
لدى خروجه من مملكة النوم الغامضة تلقى وحدته، أمس والآن وربما غدا. بلورة الوعي المتثائب. وطاف حنينه بأجواء غريبة حبيبة، الولد في بلجيكا والبنت في سنغافورة، ورفيقة العمر تحت الثرى. لكنه يستقبل الصباح الباكر بارتياح وبشر. نوفمبر ذو برودة حانية، يغادر الفراش، يتناول الروب من فوق المشجب ويلتف به، ثم يذهب إلى حجرة السفرة؛ ليجد الشاي والجبن والشهد والتوست المحمص في انتظاره على أحسن صورة.
عبده عجوز نشيط رغم طعونه في السن. وهو سعيد حقا بالجبن والعسل. الجبن الدمياطي الأبيض والعسل البائح بشذا البرتقال. يحب منظر إبريق الشاي الفضي وأوعية اللبن والسكر والأطباق الصغيرة المزخرفة. ويركب طاقم أسنانه ويقبل على الإفطار بشهية. لم يعد يضيق بالوحدة كما تعود على الحياة بعد السبعين. صحة لا بأس بها، بوسعها أن تهنأ بالهدية إذا جادت بها السماء على غير انتظار. هدية جميلة حقا قلبت موازين الزمن، وشحنت الدقائق والساعات بالوعود المسكرة، وعندما ارتدى ملابسه بدا في بدلته الصوفية نحيلا طويلا، أبيض الرأس والشارب، خفيف التجاعيد .. ووجد الشارع أمام العمارة مغسولا متألقا، ترى هل أمطرت بعذوبة في الليل؟ وانبسطت السماء بين هامات العمائر تسبح فيها السحب البيضاء في زرقة عميقة صافية. انشرح صدره وتحفز للهو رغم موعد الطبيب المضروب. وطبيبه أيضا على المعاش ويستقبل مرضاه خلال ساعتين أو ثلاث في نصف النهار الأول. وبسبب من بعض الأمراض المزمنة - القلب مثلا - تنشأ صداقة بين المريض والطبيب على مدى الزمن. تصافحا، جلس أمام مكتبه الحافل بالمراجع وقوارير العينات حتى تساءل الطبيب: خير؟ - وجبت الزيارة بعد غياب أشهر.
وخلع جاكتته ومضى إلى الفراش وراء البرافان، ففك حزام البنطلون، واستلقى على ظهره، وفحصه الرجل بعناية مستعينا بأصابعه المدربة ومقياس القلب والضغط، وفي أثناء ذلك جعل يعلق على الأحداث السياسية المثيرة، فضحك الرجل الراقد وتساءل: حتى متى يحل لأمثالنا الكلام في السياسة؟
فأجابه الطبيب، وهو لا يكف عن الفحص: حتى تختل الذاكرة فتعفينا من قرفها، كيف حال ذاكرتك؟ - نحمده، ولكنها فقدت مزايا لا يستهان بها. - على فكرة، الدواء الذي تواظب عليه ينفع أيضا للذاكرة.
وارتدى ملابسه وعاد إلى مجلسه الأول أمام المكتب، وأخرج من جيب الجاكتة الصغير مشطا فسوى به شعره الأبيض الذي تشعث.
وقال الطبيب: بصفة عامة الحالة طيبة لا تغيير في الدواء ولا إضافة، وعليك بتجنب الانفعال. - نصيحة ثمينة ومستحيلة. - لا أعني الانفعال وحده! - أفندم؟
ابتسم الطبيب ابتسامة ذات مغزى وقال: أنت تزعم أنك ما زلت قادرا على الحب؟ - ولكني عجوز أرمل! - عظيم، واظب على ذلك.
فهز رأسه موافقا أو متظاهرا بذلك ، فقال الطبيب ضاحكا: صحتك أحسن من صحتي.
غادر العيادة مطمئنا، وقال لنفسه: إن نشوة رقيقة خير من حياة عامين بلا نشوة. وابتسم داخله. أحمق أم حكيم؟ رب أحمق حكيم ورب حكيم أحمق. من يرفض هدية سقطت من السماء سهوا؟ وحام خياله وهو في السيارة حول التجربة الجديدة، تلك الجارة المحترمة في الأربعين أو جاوزتها بقليل، غاية في النضج والجاذبية. كيف ولماذا أثار اهتمامها؟ لن يجد عند المنطق جوابا ولكنه اهتمام مذهل فلم يستطع أن يقاومه. يقاومه؟ هوى من حصنه دون أدنى مقاومة. وهبته نشوة فاقت جميع انتصارات الحياة. ذاق انتصارات المناصب والثراء والزواج الأرستقراطي الموفق والبنوة الفريدة، هذا الانتصار يفوق سابقيه جميعا، ولعله لم يفقد حسن إدراكه فهو يشعر بأنه لا يحب، إنه لا يحب كما أحب في الماضي البعيد. ما هو إلا تعلق بأهداب الحياة. آخر نظرة للشمس قبل الغروب، وهل نسي أنه نبذ فرصة متاحة، وهو في الخمسين رافضا أن يخون رفيقة عمره؟ ولكن الاستهانة بالفرصة الأخيرة جنون، جنون لا يغتفر. وانزلق في رعونة إلى الحلم بتبادل الإشارات خلسة .. وينتظر في قلق .. ويسعد باللقاء .. ويتغنى بالعواطف كالأيام الخالية. بل افترض أيضا أنها امرأة ذات خطة وغرض، ومكر ودهاء، فلم يثنه ذلك عن الاندفاع، ورأى العدل كل العدل في أن يؤدي ثمن ما ينال، غير أن الأيام تمر ولا تبدي هي إلا الود، وتهب الحرارة والصدق، دون أي مقابل. فليصدق إذن، أو فليصدق وليوطن نفسه على أي نكسة، ولو أنه كاشف طبيبه نفسه بما يفعل لاقتنع، بل ولربما حسده على جميل حظه؛ لذلك لم يكبح تحذير الطبيب إصراره واندفاعه. وانطلق مساء اليوم نفسه إلى عشه، ونسي في رحابها هموم الحياة وهواجسها، وامتلأ فؤاده بالرضا والراحة والسرور. طيبة ورقيقة ومستجيبة ولله في خلقه شئون. يقول لها: توجد أماكن صباحية غاية في الأناقة والعزلة، فتقول: الستر أوجب.
فيقول متمنيا: ليتني أرجع إلى الوراء ثلاثين عاما.
فتقول باسمة: ولكني أحبك كما أنت!
أحيانا يصدق ولا يصدق أحيانا. في فترة الجفاف تنبثق له وردة مشتعلة الأوراق. ويتوقع مفاجأة لا تريد أن تقع، ويتمادى في لهفة وراء النشوات. حتى شعر ذات صباح أنه في أشد الحاجة إلى لقاء طبيبه، لم يستطع أن يغادر فراشه وكان ذا خبرة سابقة، وجاء الطبيب وراح يفحصه بعناية وهو يقول: انقطعت عني مدة غير قصيرة.
لاذ بالصمت أو أجبر عليه، وفرغ الطبيب من فحصه فقال: أزمة بسيطة ولكن الأفضل أن تنتقل إلى المستشفى، ما رأيك؟
أجاب بصوت ضعيف: كما تشاء. - هناك ستجد كل ما يلزم وسوف أرتب كل شيء، وإن شاء الله تسترد صحتك في أقرب وقت. - أشك في هذا. - ليس الأمر بالخطورة التي تظن. - بل هو خطير حقا. - سوف أذكرك.
وتردد الطبيب قليلا ثم قال باسما: يبدو أنك لم تعمل بنصيحتي!
فقال وهو يسدل جفنيه: ولست نادما على ذلك.
يوم الوداع
الحياة ماضية بكل جلبتها كأن شيئا لم يكن، كل مخلوق ينطوي على سره وينفرد به. لا يمكن أن أكون الوحيد، لو تجسدت خواطر الباطن لنشرت جرائم وبطولات، بالنسبة لي انتهت التجربة من جراء حركة عمياء، لم تبق إلا جولة وداع عند مفترق الطرق تحتدم العواطف وتنبعث الذكريات. ما أشد اضطرابي! تلزمني قدرة خارقة للسيطرة على نفسي، وإلا تلاشت لحظات الوداع، انظر وتمل كل شيء، وانتقل من مكان إلى مكان، ففي كل ركن سعادة منسية يجب أن تذكر، يا لها من ضربة مفعمة بالحنق والغيظ والكراهية! اندفعت بقوة طائشة ونسيان تام للعواقب، تطايرت حياة لا بأس بها. انظر وتذكر واسعد ثم احزن. لأسباب لا وقت لإحصائها انقلب الملاك شيطانا، شد ما يلحق الفساد بكل شيء طيب، واقتلع الحب من قلبي فتحجر. لنتناس ذلك في الوقت القصير الباقي، يا لها من ضربة قاضية! ما الأهمية؟ هذا شارع بورسعيد يتحرك تحت مظلة من سحب الخريف البيضاء. الأبخرة المتصاعدة من صدري تغبش جمال الأشياء، وغمزات الحنين من الماضي البعيد تطرق أبواب قلبي، قدماي تجرانني إلى زيارة أختي. وجهها الهادي الشاحب يطالعني من وراء شراعة الباب، يشيع فيه السرور وتقول: خطوة عزيزة على غير توقع، في هذا الوقت الباكر.
ذهبت لتعد القهوة وجلست في حجرة المعيشة أنتظر، نظر إلي الوالدان والإخوة الراحلون من صورهم القائمة فوق المناضد. لم يبق لي إلا هذه الأخت الأرمل المحرومة من الذرية التي وهبت موفور حبها لي ولسميرة وجمال. هل جئت لأوصيها بابنتي وابني؟ رجعت بالقهوة ومن داخل روبها الأبيض تساءلت: لم لم تذهب إلى الشركة؟ - إجازة لوعكة. - واضح ذلك من وجهك، نزلة برد؟ - نعم. - لا تهمل نفسك.
بدأ وجهي يفضحني. ترى ماذا يجري في شقتي التعيسة الآن؟ - زارني أمس سميرة وجمال. - إنهما يحبانك كما تحبينهما. - وكيف حال سهام؟
يا له من سؤال بريء! - بخير. - ألم يتحسن الجو بينكما؟ - لا أظن. - دائما أنصحها وأشعر بأنها تضيق بي.
غلبني القهر؛ فسكت، فقالت: زماننا يحتاج للصبر والحكمة.
أود أن أوصيها بسميرة وجمال، ولكن كيف؟ سوف تدرك مغزى زيارتي فيما بعد. هل تغفر سميرة وجمال لي ما فعلت؟ ما أشد اضطرابي. - ما رأيك في أن أصحبك الآن إلى طبيب؟ - لا ضرورة لذلك يا صديقة، سأذهب الآن؛ لإنجاز بعض الأعمال. - وكيف أطمئن عليك؟ - سأزورك غدا!
غدا؟! ها هو الطريق من جديد. انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، شاطئ اسبورتنج وحيد أيضا، خال من البشر وأمواجه تصطفق منادية بلا مجيب. القلب يخفق تحت غلاف الهموم المحكم. ساعة خرجت من الماء بجسمها الرشيق، مخضبة الإهاب بلعاب الشمس. تلفعت بالبرنس وهرعت إلى الكابينة؛ لتجلس عند قدمي والديها، كنت أتمشى في بنطلون قصير فالتقت عينانا. غمرني ارتياح ابتهج له قلبي، وناداني صوت فلبيت فوجدتني في مجلسها، وكان المنادى خالها وزميلي في الشركة. وتعارفنا وجرى حديث عابر ولكن ما كان أمتعه! لحظات من السعادة الصافية لا تشوبها شائبة. لا تتكرر، تأبى أن تتكرر، تطوف بقلبي الآن على هيئة حنين طائر. له وجوده الدافع رغم تمزق الخيوط التي ربطته يوما بالواقع. وقولها ذات يوم: قلبك طيب والقلب الطيب لا يقدر بثمن، حقا؟ من إذن القائلة لا يوجد من هو أخس أو أحقر منك، ومن القائلة ربنا خلقك لتعذيبي وتعاستي، كان على الحب أن يصمد أمام خلافات الأمزجة، ولكن الخلافات قضت على الحب. كلانا عنيد شعاره كل شيء أو لا شيء. أنت مجنونة بالمظاهر الفارغة. فتصرخ في وجهي: بل أنت متخلف. سميرة وجمال يلوذان بحجرتيهما مذعورين. شد ما أسأنا إليهما! عانى الحب بيننا ساعة بعد أخرى ويوما بعد يوم حتى لفظ أنفاسه. اختنق في لجة الجدل والخصام المستمرين، والشتائم المتبادلة. ولكن في هذا الكازينو، في هذا الركن بالذات، كاشفت خالها بإعجابي بها. - إنها متعلمة، لم تدخل الجامعة. أبوها له سياسة خاصة، بعد التعليم الثانوي يعد الفتاة للبيت اكتفاء بدخل لا بأس به.
قلت: هذا مناسب جدا، دعانا - أنا وهي - إلى عشاء في سانتالوشيا. التقينا في حديقة البجعة بعد ذلك، أيام الخطوبة والأحلام والسلوك المثالي أسمع نغمة جميلة تهيم رغم تقصف جميع الأوتار التي عزفتها. يا لها من ضربة قاضية! ماذا يحدث في الشقة الآن؟ لم لا تكون الحياة أيام خطوبة دائمة؟ آه يا أقنعة الأكاذيب التي نتوارى خلفها! لا غنى عن وسيلة ناجعة لمعرفة النفس. - أستاذ مصطفى إبراهيم؟
نظرت إلى المنادي، فإذا به مفتش بالشركة ماضيا ولا شك إلى عمل. - أهلا عمرو بك. - إجازة؟ - متوعك. - واضح جدا .. تحب أوصلك إلى أي مكان؟ - شكرا.
لعله أول شاهد، كلا. رآني جاري الدكتور وأنا أغادر الشقة، هل لاحظ شيئا غير عادي؟ رآني البواب أيضا. لا أهمية لذلك، لم أفكر في الهرب قط، في الانتظار حتى النهاية. لولا هيامي الأخير بالوداع لذهبت بنفسي، لم أسع إلى نبذ الحياة باختياري. انتزعت من بين يدي عنوة، ما قصدت هذه النهاية أبدا، بيني وبين الخمسين خمس. ورغم المعاناة فالحياة حلوة، لم تستطع سهام أن تبغضها إلي، هل أزور سميرة وجمال بكلية العلوم؟ ذهبا دون أن أراهما ولم أكن أتوقع ما حدث، ولن أجد الشجاعة للنظر في عينيهما، ويعز علي أن أتركهما لمصيرهما. أتصورهما يطرقان الباب دون أن تهرع ماما لفتحه. سيخلف هذا اليوم أثره حتى نهاية العمر، وإذا لعناني فلهما الحق. متى أتناسى كربتي وأخلص للوداع؟ انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان. السوق .. يوم سرنا في السوق لنبتاع الدبلتين، ويشعر من يمتلك العروس أنه يتحفز لامتلاك الدنيا. ويشعر بأن السعادة قد تكون أي شيء إلا أن تكون كالكحول، وأقول لها بوجد: إلى سان جيوفاني.
فتقول مشرقة: أتلفن لماما.
الرقة والعذوبة والملائكية في أيامنا الأولى. متى وكيف ظهرت المرأة الجديدة؟ بعد الأمومة ولكن دون تحديد حاسم، كيف هيمن علي شعور بخيبة الأمل؟ قالت لي سميرة مرة: ما أشد غضبك يا بابا وما أسرعه! واعترفت لسهام مرة قائلا: قد أنسى نفسي وقت الغضب، ولكنني لا أغضب إلا لسبب! - وبلا سبب .. إنه سوء الفهم. - تهدرين حياتنا في السفاسف. - السفاسف؟! إنك لا تفهم الحياة. - أنت مستبدة، لا وزن للعقل عندك، وما في رأسك يجب أن يتم دون اعتبار لأي شيء. - لو احترمت آراءك لحقت علينا اللعنة!
أنظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، أبو قير مصيف الفطرة. ليكن الغداء سمكا، املأ بطنك، وحركه بشيء من النبيذ الأبيض، هذا المكان جلسنا فيه سويا، وعلمنا فيه سميرة وجمال السباحة وهما صغيران، اهدأ يا اضطرابي فاليأس إحدى الراحتين. ألم يكن الأفضل أن أطلقها؟ - طلقني وخلصني. - عز المنى لولا إشفاقي على سميرة وجمال. - بل تشفق على نفسك بعد أن وضح لك أنك شخص لا يطاق.
الحق أني تمنيت كثيرا موتك، بيد الأقدار لا بيدي، أي متاعب تهون إلى جانب جحيم الكراهية، نتبادل الكراهية دون خفاء. بعد تبادل أقسى الألفاظ وأفظعها، كيف تناولت طعامي بشهية؟ حقا لليأس سعادة لا يستهان بها، وترامت من راديو أغنية «أنا والعذاب وهواك» فارتجف قلبي، أغنية أحببتها كثيرا في ذلك الشهر المراوغ شهر العسل. كيف تتلاشى السعادة بعد أن تكون أقوى من الوجود نفسه؟ تتطاير من القلوب لتعلق بأجواء الأماكن بعد اندثار مصدرها، ثم تقع كالأطيار على الأرض الجافة، فتزخرفها بوشي أجنحتها ثواني من الزمن، أنا والعذاب وهواك وهذه الضربة القاضية، لعله اليوم الذي انقضضت فيه على سميرة بجنونك؛ ففزعت أدفعك عنها فسقطت على رأسك. يومها اشتعلت في عينيك نظرة غير إنسانية تمج سما: إني أكرهك. - في داهية. - أكرهك حتى الموت. - إلى الجحيم. - إذا تعكر قلبي، فهيهات أن يصفو.
هي الحقيقة للأسف، يا ذات القلب الأسود، لم يجد اعتذار أو مجاملة أو توادد، ولم يجر بيننا حديث بعد ذلك إلا عن الواجبات والميزانية، واختلط الانتقام بتكاليف المعيشة. ونضب معين الرحمة، حامت أحلامي حول الهروب كالسجين أو الأسير. جفت رغبات قلبي وأطبقت عليه الوحشة، وراحت تتصرف تصرف المرأة الحرة، فتذهب وتجيء بلا إذن أو إخطار، يلفها الصمت فلا تند عنها كلمة إلا للضرورة، وانطوت على سرها كبرياء، فلم تشكني إلا لأختي صديقة. ولما لم تقم بما توقعته منها، وقصدت التوفيق كرهتها بدورها. وقالت: إنه ليس بجنون رجل ولكنه جنون متوارث عن أسرة. وانتهزت فرصة انفرادي بسميرة وجمال، سألت عن رأيهما فيما يشهدان من أحوالنا. قال جمال: حالكما لا يسر يا بابا، كحال بلدنا أو أسوأ؛ لذلك فإني سأهاجر في أول فرصة.
أعرف الكثير عن تمرده، أما سميرة فبنت عاقلة، متدينة وعصرية في آن، ولكنها قالت: معذرة يا بابا، لا تسامح من ناحيتك أو ناحيتها. - كنت أدافع عنك يا سميرة. - ليتك ما فعلت، كانت ستصالحني بعد ساعة، لكنك سريع الغضب يا بابا. - لكنها غير معقولة. - بيتنا كله غير معقول! - اخترتك قاضية. - كلا .. لا يحق لي هذا أبدا. - لم أجد عندكما أي عزاء.
فقال جمال: لا عزاء عندنا ولا عزاء لنا.
إذا لم يحبني هذان الاثنان كما أحبهما؛ فأي خير أرجو في هذا الوجود؟! آه! .. انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، بحق الحياة الضائعة، عش الساعة التي أنت فيها وانس الماضي تماما، املأ عينيك؛ فما تغادره لن تراه مرة أخرى، كل لحظة هي اللحظة الأخيرة، من دنيا لم أشبع منها ولم أزهد فيها، وانتزعت من بين يدي في هوجة غضب. أي شارع من هذه الشوارع لم يشهدنا معا؟ أو يشهد أسرتنا الكاملة وسميرة وجمال يتقدماننا. ألم تكن توجد وسيلة لإصلاح ذات البين؟ أقسى عقوبة أن تودع الإسكندرية في مجلى خريفها الأبيض، وفي عنفوان الرجولة والرشاد. وهذا هو البحر الصامت في الناحية الأخرى من أبو قير، ونغني معا: «يا للنعيم اللي انت فيه يا قلبي»، في حوار غنائي بين قلبين يقظين، وسميرة وجمال مبهوران بعد قوارب الصيد الراسية فوق شعاع القمر. هل يكفي يوم واحد للطواف بمعالم ربع قرن؟ لم لا نسجل الاعترافات العذبة في إبانها لعلها تنفعنا وقت الجفاف؟ الذكريات كثيرة مثل أوراق الشجر والمدة الباقية قصيرة مثل السعادة، السعادة تغيب الوعي حين حضورها وتراوغنا بعد زوالها، ومن لي بمن يجمعني بدولت؟ لا سبيل إلى ذلك اليوم. ولو تيسر لزادني ارتباكا وفضح أمري قبل الأوان. وما جدوى ادعاء حب لا وجود له؟ اليأس وراء انزلاقي فيه. ولم تكف أبدا عن التلويح لي بالزواج دون اكتراث لمصير سميرة وجمال، ليس هو بحب ولكنه نزوة انتقام. ليتني وقفت عنده ولم أعبره للضربة القاضية. المساء يهبط والبحث عنى يشتد ولا شك، فلأنتظر في إستريا أحب أماكن المساء إلي، مجمع الأسر والعشاق والأحلام الوردية. الجعة والعشاء الخفيف والمرطبات، ربما أكون المنفرد بنفسه الوحيد. معذرة يا سميرة معذرة يا جمال، استقبلت الصباح بنية صافية، ولكنه الغضب يطوح بنا فوق المحاذير، ضرعت إلى الساعة أن تتأخر دقيقة واحدة. ولما تلاشت التوترات العنيفة لم يبق إلا اليأس بوجهه الثلجي الأبكم، وجلت جولة الوداع يتبعني الموت حينا ويتقدمني حينا آخر. أختزل العمر في ساعات، فعرفت الحياة أكثر من أي وقت مضى. ما أسعد الناس من حولي ولو وقفوا على سري لسعدوا أكثر، ويسألني النادل مجاملا: أين الهانم؟
فأجيبه باكتئاب خفي: مسافرة.
لم يعد في الوقت بقية. عما قريب سيقترب مني رجلان أو أكثر: حضرتك مصطفى إبراهيم؟ - نعم يا أفندم. - تسمح تتفضل معنا!
أقول بهدوء كامل: كنت في انتظاركم.
أحلام متضاربة
كنا زميلين في العمل بسكرتارية وزير المعارف، كما كنا زميلين من قبل بكلية الحقوق. عمل هو - محمد العبلاوي - سكرتيرا خاصا للوزير بحكم قرابته له، ولمرانه على لقاء كبار الزوار؛ اكتسابا من نشأته في الطبقة العليا، وعملت أنا كاتبا مختصا بشئون الصحافة. وسمعته يوما يعلن قراره عن خوض معركة الانتخابات القادمة بعد وعد من عمه - نائب الدائرة - بتنحيه عنها له، وليس ذلك غالبا إلا تمهيدا لتوليه الوزارة في أول فرصة تسنح. وكانت علاقتنا طيبة جدا كما كانت علاقته بإخوانه على أتم ما يكون من المودة والمروءة، وقلت له يوما: ستكون نائبا، ثم وزيرا، فعدني بألا تنساني.
فابتسم مبتهجا بوجهه الجامع بين الجمال والوقار رغم شبابه اليافع، وقال: لك مني وعد شرف بألا أنسى العهد أبدا.
ولكن لم يقدر له أن يخوض المعركة الانتخابية، ولا أن يتولى الوزارة فقد انسد طريقه بغتة بقيام ثورة يوليو، وتبدى واجما من اليوم الأول، وسألني في حيرة: هل سمعت شيئا؟
فقلت ببراءة: إنها كما تعلم الخلافات المعروفة بين الملك والجيش، وسوف تسوى لحساب الجيش.
فقال شاردا: لا .. إنها أكبر مما تظن.
واستقال صاحبي من وظيفته باختياره، واختفى من مجالي تماما. وسارت الثورة في طريقها المعروف، وتغير النظام الطبقي في مصر تغيرا ملموسا، وتفتحت دنيا الآمال أمام أمثالنا. لم تقع عيني على صديقي القديم زمنا طويلا، وكان يخطر ببالي في مناسبات كثيرة مثل الإصلاح الزراعي، التأميم، الحراسة، المصادرة. أحداث اتسمت بالحزم، واستجابت لها أنفس لا حصر لها بالارتياح وأحيانا بالشماتة، ولم يكن من السهل لدى كثيرين نسيان القرون التي استعبد فيها الشعب لصالح قلة من المواطنين. فأي ظلم في أن يرتفع المظلومون ويهبط الطغاة؟! وكدت أنساه تماما حتى صادفته مقبلا نحوي في شارع طلعت حرب في الستينات. من أول نظرة تم التعارف والتذكر، وكأنما لم نفترق إلا أمس، ولكنه شخص آخر تماما. وتساءلت: ترى هل أدركني نفس التغير وأنا لا أدري؟ كلا، ليس السن وحدها. تلاشت تماما الأناقة والرونق، وبرزت معالم شيخوخة قبل أوانها، فابيض شعره كله وتجلت عظام وجنتيه، وأفظع من ذلك كله نظرة العينين الخابية المنهزمة الضائعة، وصوته المنخفض، كأنه الخائف الأبدي أو المراقب أو المطارد. - كيف حالك؟ - الحمد لله. - أين أنت الآن؟
فأجبت متلعثما: مدير الإدارة القانونية. - مبارك. - وأنت؟ - كما ترى !
ثم بصراحة غريبة: لولا حلي زوجتي لهلكنا جوعا!
فارتبكت كأنني المسئول عما حل به، وقلت مجاملا: غير معقول. - أصادف أحيانا وزراء سابقين في سوق بيع الحلي. - يؤسفني أن أسمع هذا يا عزيزي.
وهم بالانطلاق في الحديث، ولكنه عدل فجأة، وتحول به عن مجراه فسألني: هل أستطيع أن أعتمد على معاونتك في نشر بعض القطع المترجمة بأي ثمن؟ .. لا شك أنك تعرف صديقا هنا أو هناك يمكن أن تقبل شفاعته في ذلك.
فقلت بصدق: أعدك ببذل أقصى ما لدي من جهد.
وتصافحنا ومضى. ولم أقصر، فطرحت الموضوع على صحافي صديق، رحب من ناحية المبدأ، ولكنه عندما سمع اسم المترجم «العبلاوي»، هتف: يا خبر أسود، أسعى في الخير اليوم؛ لأجد نفسي غدا في المعتقل!
ولكنه لم يتصل بي مرة أخرى. وغاص من جديد في ظلمات الاختفاء، فأعفاني من الحرج.
وتتابعت الأيام بأحداثها. رحل زعيم وتولى زعيم، وجاء عصر الانفتاح ساحبا وراءه التضخم، ورجعنا نحن - الموظفين - إلى المعاناة والضيق والخوف من المستقبل، بل تهددنا الجوع نحن وأبناءنا. وذهلت يوما وأنا أقرأ اسم صديقي القديم في مجلة ضمن أصحاب الملايين الجدد. وقرأت له في صحيفتي اليومية سلسلة من المقالات يهاجم فيها الزعيم الراحل وعصره، ويشيد بالزعيم الحالي ومآثره. وألتقي بصديق من كبار العهد الناصري، فيجول معي في أبعاد المواقع ثم يقول بحنق: أردناها ثورة بيضاء، وها نحن ندفع الثمن!
غير أن انشغالي بلقمة العيش لم تترك لي فراغا للكلام في السياسة. وفي حيرتي وعذابي تذكرت عهد الشرف الذي أعطانيه العبلاوي قبل الثورة إذا ولي الوزارة. أجل إنه لم يل الوزارة، ولكنه على وجه اليقين أغنى من الوزراء مجتمعين. ولن يعجزه أن يجد لي عملا في محيط نشاطه الحافل بالأعمال، وتحريت عن مكتبه حتى عرفت موقعه، ومضيت إليه كأمل أخير في حياتي العسيرة، والحق أنه استقبلني بحرارة نفت عني ارتباكي وحيرتي. وكان علي أن أستغل الوقت أحسن استغلال بين رنين التليفونات والداخل والخارج، قلت: هل تذكر وعدك القديم؟
فضحك عاليا ولم يتكلم، فقلت بإيجاز: لعلك تسمع عن معاناة ذوي المرتبات الثابتة.
فقال ساخرا: كما سمعت أنت عن ضحايا عبد الناصر.
فقلت بسرعة: لم أقصر في حقك، ولكنك اختفيت عني تماما.
فقال باسما: أدركت أنني أورطك فيما لا قبل لك به.
ثم بلهجة جادة: أتريد عملا في المكتب بعد الاستقالة من الحكومة؟ - كلا .. المعاش مهم أيضا .. أريد عملا إضافيا. - لا مجال عندي لبطالة مقنعة كما تعلم، ولكن توجد وظيفة إضافية لسواق سيارة!
لطمة هوت على كرامتي فلم أدر ماذا أقول. - لن يقل المرتب عن مائة جنيه!
تذكرت القبيلة الصغيرة التي تعاني في البيت، فقلت بتسليم: طبعا في غير أوقات العمل الرسمية؟!
فقال بهدوء وربما بشيء من البرود: مفهوم!
تحت الشجرة
كأنما غادرها أمس. بمدخلها الضيق المتوج باسمها الرنان «فينكس، كافيتريا، بار»، وحجرتها المربعة المرصعة بموائدها الرخامية، وكراسيها الخرزانية ومقصفها المتصدر. وكالعادة مصابيحها مضاءة منذ الصباح لانزوائها في عمق بعيدا عن نور الشمس. وجوه غريبة لزبائن جدد فيهم نفر من الأجانب. اختار كرسيا وجلس بجسمه الطويل النحيل المتهافت، وبنطلونه الرمادي وقميصه الأبيض نصف كم، ورأسه الكبير الموخوط بالشيب، ووجهه الغامق الموسوم بالعناء. نظر فيما حوله، وقلقت في عينيه الواسعتين نظرة حائرة. أقبل النادل، ولما رآه من قريب اتسعت عيناه دهشة وسرورا، وهتف: مبارك يا أستاذ .. حمدا لله على سلامتك.
وتصافحا. وطلب فنجان قهوة زيادة، ولكن الرجل سأله قبل أن يذهب: كيف الصحة؟ - كما ترى. - ستعود كما كنت وأحسن.
حقا! سبع سنوات عجاف، ولكنه قال: ربنا يسمع منك.
وذهب الرجل ورجع بالقهوة؛ ثم صبها في الفنجان قائلا: هذا الفنجان على حسابي! - تشكر. - أسفنا جدا، ما باليد حيلة، على أي حال فأنت بطل!
رشف رشفة وسأله: لماذا؟ - السجن في سبيل المبدأ. - عظيم، هل أنت مستعد لذلك؟
فضحك النادل الكهل قائلا: لست بطلا مثلك.
وذهب يلبي طلبا. أتى على الشراب فلم يبق إلا الرواسب في القعر والتصاوير في الجدران. وتذكر قول قارئة الفنجان في الزمان الأول: قدامك سكة سفر وسعادة. يستوي قول الأول والآخر في الكذب. خمس سنوات ضاعت، وأبوه قال له: «حذار من الجنون يا مجنون، البلد مختنقة مهزولة، ولا هم للفقير إلا اللقمة ولا للقوي إلا الثروة». الواضح أن الإيقاع يتضاعف والجنون يتفشى. وتفرس في الوجوه من حوله بدهشة وإنكار. ولما رجع النادل الكهل إليه قال له: لا أرى أحدا من زبائن زمان! - لعلهم في البيوت، هؤلاء سماسرة ورجال أعمال وسياح، الانفتاح يا أستاذ. - والأصدقاء ألا يجيئون كالعادة؟ - أبدا .. منذ سنوات طويلة.
فعبس متسائلا: كلهم؟ - ولا واحد يوحد الله. - عندك فكرة عنهم؟ - طبعا، القاسم والأرملاوي ورضوان مدرسون في السعودية. - السعودية مرة واحدة؟ - خير وبركة. - والقائمة السوداء؟ - لا سوداء ولا بيضاء. وأدوا فريضة الحج أيضا!
ضحك على رغمه، فقال النادل: سيملكون الشقق والسيارات، لم لا؟ - والسيوفي؟ - السيوفي وبدران ورزق الله في فرنسا، صحافة عربية، ثراء أيضا، وقيل إن رزق الله اعتنق الإسلام!
ضحك مرة ثانية وتساءل: وأكرم؟ - تاب، ويعمل في الصحافة القومية. - وجلال؟ - يعمل في الأهالي.
فضحك للمرة الثالثة وقال: لعله جن! - كلا، الذي جن هو الأستاذ البرديسي! - تعني أنه في المستشفى؟ - كلا، يرى أحيانا في الشوارع يحاور الهواء. - أفادك الله. - حتى زملائي في القهوة هاجروا إلى العراق، ولولا سني للحقت بهم. - ربنا يعوض عليك.
فحدجه بنظرة باسمة ثم سأله: وأنت متى تهاجر؟
فلم يجب، وارتسمت على زاوية فمه ابتسامة ساخرة، فقال النادل بنبرة ودودة: زمن المبادئ مضى، وهذا زمن الهجرة. - كلامك كله حكمة.
وتجهم وجهه، فبدا أكبر من سنه بعشر سنوات. أي ماض وأي حاضر وأي مستقبل. أين ومتى يقابل جلال؟ وكيف يصارع العبث؟ وقال للنادل: فنجان قهوة آخر، بن زيادة وسكر زيادة.
ذكرى امرأة
أسير تحت العمارة الشاهقة بشارع شريف كل صباح وكل ظهر في ذهابي إلى العمل، ولدى عودتي منه إلى محطة الترام. كلما أسير تحتها يرتفع بصري بحركة تلقائية إلى الدور الخامس، حيث تطل على لافتة الجراح المعروف (...) لا لأنه من أبناء الحي القديم وأقران الصبا فحسب، ولكن - وهو الأهم - لأنه تزوج من الفتاة التي استحوذت على إعجابي وحبي عهدا طويلا. لا يبقى اليوم من ذلك الحب إلا الذكرى، حكاية قديمة لم يكد يفطن إليها أحد. أما العاطفة المتأججة فقد بردت وماتت، وأمست نشواتها وآلامها كأن لم تكن، أو كأنما عاناها شخص آخر تلاشى في تيار الزمن العجيب. ويوما أرى الطبيب واقفا في الشرفة وراء اللافتة وهو يخطب .. يخطب؟ إي والله وبصوت كالرعد ملوحا بذراعيه يمنة ويسرة، كأنما ليهيمن على جمهوره المحتشد. ولكن أين الجمهور؟ العمائر في الصف المواجه له إما مغلقة النوافذ، أو تنظر إليه من خلال أفراد تجمعوا في الشرفات والنوافذ من موظفي الشركات. وعابرو الطريق وقفوا قليلا؛ لينظروا ويسمعوا ويتبادلوا النظرات والابتسامات، ثم يمضي كل إلى سبيله إلا المتسكعين، فلم يبارحوا الطوار وتابعوه باهتمام. لا أتصور أن أحدا ميز كلمة مما يقول؛ لارتفاع موقعه، ولتضارب أصوات الخلق والمركبات. وتدل النظرات والهمسات على اقتناعهم بأن الطبيب خرج عن وعيه أو حصل له لطف. رغم غرابة المنظر وشذوذه وإغرائه بالضحك إلا أن جانبه المأساوي غلب، وسلط الوجوم على الخلق كغبار منتشر. والحق أني تألمت وملكني الرثاء للزميل القديم الذي فرق العمر والعمل بيننا. وطارت خواطري محتدمة نحو شريكته في الحياة، لؤلؤة حينا التي لا تنسى، فأسفت من أعماق القلب. ولم أحتمل البقاء طويلا، خاصة بعد أن سمعت أن البعض اتصل بالإسعاف وشرطة النجدة، فغادرت المكان مغتما، تتقدمني صورة الفتاة التي فتنتني في الزمان الأول، وأتساءل: ترى كيف آل إليه حالها اليوم؟ هل ما زالت متمتعة بجمالها الرائق؟ وكم أنجبت من الذرية؟ أما زالت تشتغل بالتدريس أم استغنت عنه بعد أن أغناها الله؟ وكيف تتعامل مع هذا البلاء الذي ستمتحن به؟ وتظل الواقعة حديثي مع نفسي، ثم مع الأصدقاء في المقهى، حتى عرفت ختامها صباح اليوم التالي في جريدة الصباح، بالبنط العريض وفي أسفل الصفحة الأولى قرأت «انتحار الجراح المعروف (...) يلقي بنفسه من شرفة عيادته بالدور الخامس»، شد ما تأثرت لتلك النهاية، وكل صديق تأثر لها حينا، رغم أن علاقتنا به انقطعت منذ التحاقه بكلية الطب. واختلطت التفسيرات؛ لعله مرض لا شفاء منه، أو نكسة مالية مفاجئة، أو خطأ في نطاق المهنة، حتى قال أحدنا: أو جن وكفى، ألا يجن الإنسان بلا سبب إلا الجنون نفسه؟!
ومضينا ننسى المأساة كما ننسى كل شيء، ولكن صديقا آخر فجرها قبل أن تموت. هو أيضا طبيب من أقران الصبا، ويقيم في نفس الحي - الزمالك - الذي كان يقيم فيه المنتحر، ولم تنقطع صلته به قط، كما لم تنقطع بنفر منا. ولدى أول زيارة له في أعقاب الحادث توفر أكثر من سبب لإثارة الموضوع.
قال لي: أنت تذكره لا شك، كان غاية في الاتزان والاجتهاد.
فقلت مصدقا: كل ما أذكره عنه حسن. - هو أيضا قمة في مهنته، وأثرى ثراء واسعا. - هذا مسلم به ولذلك تبدت مأساته لغزا محيرا!
فهز صديقي رأسه وقال: الله لا يسامحها، زوجته!
فهتفت بذهول: سميحة؟!
فابتسم قائلا: طبعا تتذكرها. - حينا كله يتذكرها، الجمال والكمال والأدب، المثل الأعلى للاستقامة والرزانة والحشمة في ذهابها إلى المدرسة وحين العودة منها، هي حصن منيع أمام أي عابث حتى شهد لها الجميع بالامتياز الخارق، وحق للمرحوم أن يغبط ويهنأ يوم وفق في طلب يدها.
فأكمل الدكتور قائلا: وأنجب منها ولدا وبنتا، الولد في كلية الطب والبنت في الثانوية العامة، ولكنها مع الأيام والمعاشرة تكشفت عن امرأة أخرى تماما.
تابعته بانتباه فائق وذهول، فواصل: امرأة أخرى تماما، ولولا اختلاطي بهم ما صدقت ما أسمع وما أرى. - يا للعجب! - هي الحقيقة، وكم حاولت الإصلاح ولكن دون جدوى. - اعتبرناها ملاكا من السماء.
فارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه، وقال: جبارة متسلطة ذات رأس صلب، تفرض رأيها بإصرار وبعنف، لا تقبل المناقشة، عصبية لحد الجنون، يذهلها الغضب عن كل شيء فتحطم التحف والأواني، وتسب بلا تحفظ، ثم إنها مسرفة لدرجة جاوزت كل الحدود، ولم تكن تترك له إلا مصروف الجيب.
وصمت لحظة ممتعضا ثم قال: حتى العفة لم تسلم.
فصمت على رغمي. - العفة؟! - إني واثق مما أقول. - يا للداهية! أكانت مجرد ممثلة ماهرة؟! - عسير علي أن أتصور ذلك. - ولم لم يطلقها؟
فقال متمهلا: كان أضعف من أن يتخذ قرارا حاسما.
فقلت وأنا من الانفعال في نهايته: من كان يتصور ذلك؟ - هو أيضا سحره المظهر، ثم إن شكواه لم تقتصر عليها، ولكن امتدت إلى أمها وحتى إلى أبيها.
هكذا انتهت قصة الطبيب، وقصتي أنا أيضا. تقدمني في السباق لوفرة إمكاناته، ولولا ذلك لربما كنت أنا الضحية. ولكن كيف يمكن أن أنسى صورتك الملائكية يا سميحة؟! ولم أصدق ما يقال دون تحفظ؟ أليس من الجائز لو جمعتني بك الأيام يوما أن ينقلب الحكم أو يتغير؟!
مولانا
ابن الأرض، من أسرة الأعشاب البرية، نشأ ونما وترعرع في البستان الذي توسط يوما ميدان العتبة الخضراء القديم. من المجهول انبثق، لتربيه الأيدي القذرة، تطعمه لقمة وتلبسه جلبابا وتسلبه إنسانيته. وذات يوم - وكان عوده قد اشتد وطال - أشار إليه عابر سبيل، وقال لصاحبه بصوت مرتفع ضاحك: انظر، كأنما هو الملك!
الملك! يعرف أنه يوجد ملك، ورأى من بعيد موكبه. ماذا يعني الرجل؟ وتكررت الإشارة والنظرة المندهشة. أيشبه الملك حقا؟ أيمكن أن يحدث ذلك في هذا الوجود؟! وسعى إلى مرآة مصقولة معروضة عند مدخل محل لبيع الأثاث في أول شارع الأزهر ليرى صورته، ليرى الملك .. إذن فهذا هو الملك. لم تطمس شكله رثاثة الجلباب ولا قذارة الوجه، وراح يغسل وجهه ويمشط شعره، ويقطع الميدان بالطول والعرض فيحرز النجاح بعد النجاح، ويتلقى الإشارات والتعليقات، ويمضي باسما مزهوا بصورته النفيسة. وعرف في المنطقة مع الأيام بمولانا، مولانا صاحب الجلالة. وفسرت الظنون الساخرة الشبه العجيب بما عرف عن الملك الراحل الأب من رمرمة جنسية، فمن يدري؛ فلعله ... وأليس من الجائز أن ...؟! وما وجه الاستحالة في أن يكون ...؟ هكذا ألحقته السخريات بالدم الأزرق المصون لأسرة محمد علي. وهو لا يعرف لنفسه أما ولا أبا؛ فكل شيء محتمل. وجد على الأرض، عاريا أو في لفة، ونشأ في أحضان الطبيعة مثل أجداده الأول في العصور الغابرة. وحام مع الظنون حول أصله الرائع المجهول، وانتظر من وراء ذلك الشبه خيرا وأي خير. والواقع أن فخامة منظره خففت عنه من بلاء التشرد وجنبته كثيرا هراوات الشرطة، فكان أكرم المتشردين وآمن النشالين. وقال له أقرانه: إذا رفعك الحظ يوما فلا تنسنا!
فوعدهم بالخير والحماية، وتعلق أكثر بأحلامه الخرافية. وطرقت شهرته أخيرا قسم الشرطة وذهب المخبرون ورجعوا قائلين: الطول والشكل واللون، إنه معجزة.
وقرر المأمور أن يراه بنفسه، ولما مثل بين يديه تفحصه بذهول، ولما صرفه وجد نفسه يفكر فيه كمشكلة حقيقية. أيمكن أن يتغاضى عنه كدعابة لا وزن لها؟ هل يأمر بمراقبته حتى يقبض عليه متلبسا؟ لم يقنع بهذا الحل أو ذاك، ورأى أن يبلغ الخبر إلى أحد الرؤساء في الداخلية الذي تربطه به علاقة حميمة. وجرت التحريات من جديد، وارتبكت مراكز الأمن العليا، واعتبرت الموضوع بالغ الأهمية والخطورة. - قد يتكشف الأمر عن مضاعفات مجهولة، ونسأل عند ذاك أين كنتم أيها السادة؟ - والعمل؟
واستقر الرأي على اعتقاله ووضعه في الطور باعتباره من الخطيرين على الأمن الواجب استبعادهم، وتم التخلص من فاروق «الثاني»، واطمأنت القلوب وكاد ينسى تماما.
وقامت ثورة يوليو، وانهالت المطارق على العهد البائد. وكتب أحد الصحافيين عن واقعة شبيه الملك المخلوع المنسي في المعتقل، فكانت كلمته إيذانا بالإفراج عنه.
رجع إلى تشرده، ولكن بلا حلم هذه المرة ولكنه حمد الله على نعمة الحرية .. ونشرت بعض المجلات صورته، فاكتسب شهرة لم تخطر له في بال. وقررت إحدى الشركات السينمائية أن تنتج فيلما يصور الفساد في عصر ما قبل الثورة، وكان الملك يظهر فيه في منظر هامشي فيما وراء الأحداث، واستدعت الشاب لتجربه في الدور، فأداه أداء مقبولا لسهولته، وحاز سمعة لا بأس بها، ولكنها لم تفتح له طريق النجاح، ولم تكتشف فيه موهبة ذات شأن. ورأى المسئولون أن الحديث يتكرر عن الشاب، وأن صوره تنشر أكثر مما ينبغي ... وإذا بمشكلة جديدة تنشأ من حيث لا يحتسب إنسان. وقال شخص بعيد النظر: شعبنا طيب، ولا يبعد أن يوجد فيه من يعطف على الملك رغم فساده، وسيكون وجود هذا الشاب محركا لهذا العطف. - إذن يمنع نشر صوره. - بل الأوفق أن يختفي تماما!
وظن الشاب أنه ولد من جديد؛ ليستقبل عهدا جديدا. وأشعل الدور الصغير الذي قام به في الفيلم طموحه إلى أقصى حد، وتوقع الخير مع طلعة كل شمس. وكلما شعر بمرارة الانتظار قال: إن الله لم يخلقني في هذه الصورة إلا لحكمة بالغة.
ولكنه اختفى بلا سبب ظاهر. لم يعد أحد يراه في أي من مظانه. اختفى تماما، بل يبدو أنه اختفى إلى الأبد.
حوار
في جلبابه الأبيض الفضفاض، جلس على أريكة تتوسط حجرة المعيشة، وتحت طاقيته البيضاء بدا وجهه متجهما. أما هي فلم تكن تستقر على حال، يتحرك جسمها الرشيق في فستان البيت الوردي بين مقعد وآخر، أو تنظر حينا من النافذة المطلة على الطريق الصاخب. قالت بجدية: انتهيت إلى قرار أن أقيم مع خالتي.
فلوح بيده محتجا وهتف: تهجرين أخاك لتعيشي مع خالتنا! هذا لن يكون، لن تتركي هذا البيت إلا إلى بيت الزوجية. - ولكن الحياة أصبحت نقارا مستمرا. - كل شيء له سببه. - الخلاف بيننا لا يهدأ وهو يستفحل يوما بعد يوم. - إن ما أقترحه هو عين العقل. - هذا رأيك، أما رأيي فشيء آخر. - أنا أخوك وأخبر منك بالدنيا. - لماذا؟ كلانا متعلم وله عمله، وأنا أكبرك بعامين. - ولكني رجل، وهذه ميزة لا حيلة لنا فيها. - لا تردد ذلك من فضلك. لعل انتقالي إلى بيت خالتي.
قاطعها بحدة: لا، من فضلك، افترقنا ونحن على هذا الخلاف يهدد كلينا بكارثة. - ما العمل ما دمنا لا نتفق في شيء؟ - رأي واضح مثل 1 + 1 = 2.
فدارت ابتسامة طارئة، وهي تقول: الواضح عندي أن 1 + 1 = 1. - ما أعذبك لو ألنت صلابة رأيك. - عندي كل شيء طيب. - ما أطالبك به يقره الناس والمنطق وطبائع الأشياء. - أستطيع أن أقول نفس الوصف لما أطالب به، ولكنك تقسو على نفسك، حتى الموسيقى الحلوة تعرض عنها. - يا لك من ظالمة، أليس لي أوقات فراغي أيضا؟ - ولكنك طيلة الوقت مشغول بالهموم اليومية. - هي الحياة، لولا ذلك ما بقي لأسرتنا ما تعتز به. - فضلك مشكور. ولكن الحياة أوسع من ذلك كله. - لو طاوعتك لرمينا بالجنون. - دعني أصارحك بأن من الجنون ما يعجبني. - هكذا أنت، لا تفكرين أبدا في العواقب.
فحدجته بنظرة متحدية من عينيها السوداوين الشهلاوين، وقالت: غاية الحكمة ألا نفكر في العواقب. - الله .. الله .. خطوة واحدة تبقى، ثم يدركني اليأس من ناحيتك. - ما صبرت عليك إلا لإيماني بحسن نواياك. - تذكري عمتك، والعاقل من اتعظ بغيره. - عمتي! .. ما أروعها!
فكبح غيظه، ولكن وجهه ازداد تجهما، وهتف: مناقشة لا تعد بنتيجة طيبة. - هكذا خلقت فدعني وشأني. - لا .. لا .. علينا أن نتدبر أمرنا طويلا. - ما الفائدة؟ - المزيد من التفكير لا يضر. - إلا إذا جر وراءه مزيدا من التردد والخوف. - لعلك تهربين من المسئولية. - ليس في حياتي هروب، إنها سلسلة من المغامرات، وكل مغامرة تحمل في طياتها مسئولية هامة. - والخسائر ألا يدور لها في تقديرك حساب؟ - ما تظنه خسارة أعتبره ربحا. - أتمنى ألا تترامى خواطرك إلى الناس! - الناس .. الناس .. الناس. - إنهم خطر مدمر. - إنهم خطر على من يهتم بأمرهم.
فقال بنبرة مرتفعة: معي المنطق ووصية أبينا رحمه الله.
فانحرفت بعينيها عن عينيه، وقالت بهدوء: لي أيضا منطقي، وهو لا يتفق مع وصية أبينا رحمه الله! - عجبا، عرفتك دائما بارة بالوالدين. - هذا حق، ولكن لكل شيء حدوده. - أليس من الجحود الاستهانة بوصيته؟ - أبدا، طالما أنني أفعل ذلك في سبيل الحياة التي أحبها، والتي علمني كيف أحبها وأحترمها. - هو أيضا كان يحب الحياة. - الحياة التي أحبها غير الحياة التي أقبل عليها.
وتبادلا نظرة مليئة بالانفعالات، وفصل بينهما صمت كئيب، حتى تساءل: والعمل؟
فقالت بأسى: آسفة على الإزعاج. - لا يمكن أن أفرط فيك. - ولكننا لا يمكن أن نتفق. - الانفصال يعني كارثة لكلينا. - ليس الأمر كما تتصور. - يجب أن نستمر معا، مهما كلفنا ذلك من عناء. - وهل نتحمل النقار ووجع الرأس إلى الأبد؟ - بل إلى أن نجد ملتقى للاتفاق. - أخاف أن يكون ذلك وهما يا أخي. - أبدا، المهم ألا تنفذي قرارك الأرعن بهجر بيتنا. - معذرة، لولا أزمة المساكن ما كان يجب أن نبقى فيه يوما واحدا. - هو اليوم نعمة كبرى إذا قيس بسكنى المقابر. - أعترف أنه أحسن قليلا. - لا تسخري يا جاحدة، أتنكرين أنه شهد أسعد أوقاتنا؟ - بلى، ولكن ماذا يشهد اليوم؟ - وبيت خالتك ليس بالجنة على أي حال، إنها تنظر إلينا من فوق! - ولكني أستطيع أن أتفاهم معها بسهولة. - إنها تحتقرنا، أشك أحيانا أنها شقيقة أمنا، وهي في نظري مسئولة مسئولية كاملة عما حصل لعمتك. - عمتي! أين نحن من عمتي؟! - اسمعي، لا أبرئك من الانتهازية!
فضحكت قائلة: الله يسامحك. - المهم ألا نفترق وألا نيأس من الاتفاق.
فقالت بنبرة واضحة: لا تتوقع تنازلا من ناحيتي. - ولا تتوقعي تنازلا من ناحيتي. - إذن فلن نجني إلا تعب القلب ووجع الرأس.
فقال بجدية ورجاء: وأيضا الوفاق.
خيال العاشق
تزوج علي الصناديقي من زينب رأفت بعد انقضاء عام كامل على مقتل زوجها السابق وابن عمها سليمان عيسى. أرعشتني قشعريرة وقلت لنفسي بحسرة: «سبقني». ولعل أكثر من شخص في شارعنا ردد ما قلت فيما بينه وبين نفسه. زينب وردة حينا اليانعة، استبقنا جميعا إلى طلب يدها ولكن أمها الشركسية المتعجرفة زوجتها ابن عمها سليمان. ساقط ابتدائية متخلف العقل، ومن ذوي الأملاك والدنيا حظوظ. يمين الله ما عرفنا الحزن الجماعي كما عرفناه في تلك الأيام. ومضى كل يضمد جراحه بالطريقة التي تناسبه. واكتشفت جثة الزوج ذات صباح بعطفة الحفناوي، واكتشفها أول ساع للرزق، بياع اللبن. قتل وهو راجع إلى مسكنه آخر الليل. كانت الشوارع والحواري الفرعية تسبح في الظلام لم تدخلها الإنارة بعد، وكان الرجل من هواة السهر، ويعود كالعادة سكران أو مسطولا. وجاءت التفاصيل - كما وردت في كوكب الشرق - مؤيدة مصرعه بضربة عصا غليظة أو آلة حادة على أم رأسه. ووضح أن الباعث على القتل هو السرقة فقد جرد من ساعته الذهبية وخاتمه الماسي ومحفظته. وزلزلت الجريمة الحي كله، وصارت حديث النساء والرجال في العباسية شرقيها وغربيها. وتنبأ أهل الخبرة بأن شيطان القتل لن يدعنا في سلام. وتبادلنا النظر في مقهى قشتمر في وجوم، معلنين الأسف، كاتمين أي بادرة ارتياح. وأرجعني نواح زينب إلى الماضي فاستثار المنسي من الذكريات. ولاحظ الفران أن عامله «بيضة» ينفق عن سعة، وأنه يبتاع الكونياك من خمارة الميدان بدلا من الكحول الأحمر الذي كان يشتريه كل مساء من البقال، فسأله عن الخبر؛ فاعترف الرجل المدمن بأنه عثر على محفظة في عطفة الحفناوي، فاعتبرها رزقا من الله. وبلغ الفران قسم الوايلي فقبض على بيضة، وحقق معه ثم حول إلى المحاكمة بتهمة القتل والسرقة وقضي عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. هكذا انتهت قضية قتل سليمان عيسى. لا شك أن الحلم القديم استيقظ في قلوب كثيرة. واستيقظ في قلبي على وجه اليقين، ولكني انتظرت الوقت المناسب. كل عاشق قديم رسم خطة وانتظر الوقت المناسب طاويا صدره على سره، وعلي الصناديقي فعل مثلنا ولكنه كان أقدر منا جميعا على تدبير المناورة وانتهاز الفرصة كما كان - باعتراف الجميع - أجرأنا على الاقتحام، وفاز باللذة الجسور. كنا جميعا من صغار الموظفين، أما هو فقد ورث عن أبيه محل مني فاتورة بالغورية، فحاله المادية معدن بالإضافة إلى خبرة مبكرة بالحياة وتمتعه بإرادة صلبة وفحولة نادرة. في الوقت ذاته هدهدت أم زينب من عجرفتها؛ بسبب ترمل ابنتها الجميلة، واقتران اسمها بحكاية مصرع زوجها؛ فوافقت على الزوج الجديد مزدردة امتعاضها التقليدي. وكان من عادتي أن أعالج أحزاني بالمشي المنفرد في ميدان المستشفى الفرنسي وأرض المولد النبوي. ولما مررت بالبيت رقم 10 المكون من دورين على ناصية الميدان دهمتني ذكرى قديمة بعض الشيء، فدق قلبي دقة عنيفة انطلقت كإنذار مرعب. لا لأن علي الصناديقي وعروسه يقيمان في الدور الأول، ولكن لمنظر تكرر مرتين قديما دون أن يثير ظنوني فمر بسلام. تذكرت أنني رأيت زينب في حياة زوجها السابق تدخل هذا البيت مرتين. يومها اعتقدت أنها تقوم بزيارة وانتهى الأمر. الساعة يلوح لي وجه آخر للمسألة. في ذلك الوقت كان الصناديقي يقيم في الدور الأول بمفرده بعد وفاة أبيه! قد يقال: إنها كانت تزور أسرة الشيخ محرم - أستاذنا القديم - المقيمة في الدور الأعلى، ولكن الشك يساورني في ذلك. لم؟ إلام تريد هواجسي أن تقودني؟! أكان ثمة علاقة بين الصناديقي وزينب؟! الصناديقي من ناحيته مثال للاستهتار والمجون، لا يرعوي عن فعل، ولا يعقله أدب أو خلق، وزينب من ناحيتها اعتبرت في زمانها عصرية ولم يكن للدين ولا التقاليد أثر ملموس في بيتها، وحتى لو كان السبب المعلن للتردد على البيت هو زيارة آل محرم فهل يمنع ذلك من التسلل إلى مسكن الصناديقي عند الذهاب أو الإياب؟! ليس شكا ما أتخيل ولكنه اليقين، وهي لم توافق على الزواج منه رغم كثرة المريدين إلا استجابة لتلك العلاقة الآثمة القديمة. لم لا؟ يقينا إنها لم تحب زوجها السابق ولم تحترمه، ولولا سطوة أبيها ما قبلت أن تتزوج منه. وقد انصرف عنها جميع عشاقها احتراما لقدسية التقاليد المرعية، ولكن الصناديقي لم ينصرف ولم يسل، ولم يجد من قيمة ما يصده عن المغامرة. وأصر وألح حتى استجابت المرأة لعواطفه، ولبت نداءه. حاولت أن أنفض عن رأسي تلك الأفكار المحمومة ولكنني لم أستطع، وطاردتني كأنها حقيقة واقعة. وليتها وقفت عند ذلك الحد، ولكن ثمة فكرة سوداء انطلقت كما ينطلق عفريت من قمقم، وسوست لي بأن الصناديقي يكمن في قاع الجريمة التي أودت بحياة سليمان عيسى! لم لا؟ إنه الوحيد بين أقراننا القادر على القتل. طالما عرف بيننا بالانفعال الأهوج والعدوان، ومعاركه الشخصية لا تحصى. ولا أنسى دهشتنا يوم وجه الاتهام إلى «بيضة» عامل الفرن، فإن أكثر من فرد قال: بيضة! .. من يتصور أن بيضة يمكن أن يقتل؟
ولكن البعض تفلسف قائلا: إن أبعد الناس عن شبهة القتل قد يقتل في لحظة جنون! كلا! بيضة لم يقتل ولكن سوء حظه ساقه للعثور على المحفظة التي تركها القاتل؛ لإيهام الشرطة بأن السرقة كانت الباعث على الجريمة لا الحب. دبر الشيطان فأحسن التدبير، ولكن هل شاركته زينب في مؤامرته؟ عند ذاك الفرض خذلني خيالي المحموم، أما جريمة الصناديقي فقد تمثلت إلي حقيقة واقعة. عبثا .. عبثا .. حاولت التملص من قبضتها. في الوقت نفسه لم أفاتح أحدا بما يمور في أعماقي. أكره أن يسخر مني ساخر أو يتهمني بالجنون . وأسترق النظر إلى الصناديقي، ونحن بمجلسنا بمقهى قشتمر فأراه هادئا أو ضاحكا ينبض وجهه المتورد بحلاوة شهر العسل. أيمكن أن تمضي الجريمة بلا أثر تخلفه في القاتل؟! وأراه أحيانا يسير في الشارع، وزينب تتأبط ذراعه كأكمل ما يكون الزوجان سعادة؛ فأذكر بأسى بيضة الملقى في ظلمات التأبيدة بلا ذنب. وأتساءل أين العدل؟ وأين الرحمة؟ وأحاول مناقشة أخيلتي وتفتيتها فلا أستطيع، ولا أجد من أشركه في سري لعله يخفف عني بعض ثقله. وقلت لنفسي منذرا إني مريض، ولا بد من الشفاء قبل أن أتردى بلا أمل.
وخطرت لي فكرة لم أتردد في تنفيذها. حررت إليه خطابا غفلا من الإمضاء، وسجلته على الآلة الكاتبة في الوزارة. في جمل برقية أكدت له أني على علم تام بجريمته، وبعلاقته الآثمة السابقة بزينب، وبكل خطوة خطاها في ارتكاب جريمته، وتهددته بالانتقام القريب. وعنونت المظروف بعنوان مقهى قشتمر وأودعته صندوق البريد بيدي. كنا نجتمع كل مساء بالمقهى، ومرة جاء النادل بالخطاب للصناديقي، وهو يقول: تسلمته من عامل البريد صباحا.
تناوله الشاب بدهشة قائلا: أول خطاب يجيئني في المقهى.
وعلى سبيل الاحتياط تنحى جانبا ليقرأه؛ أثار الخطاب اهتمام الجماعة لحظة ثم انخرطت في السمر. وجعلت أنا أراقبه من وراء وراء ملهوفا على رؤية رد الفعل. هل يضحك ساخرا؟ هل ينفعل ويغضب؟ لا هذا ولا ذاك؛ وجم وسكن وانخطف لونه. غاض من وجهه التألق والعنفوان، جمد وخمد وكأنه نام، والتفت أحدنا نحوه متسائلا: خير؟
فأجاب وهو يدس الخطاب في جيبه، ويرجع إلى مجلسه: ليست خيرا على أي حال! - لم والعياذ بالله؟ - مشكلة من مشكلات العمل، ولكن لا خطورة في الموضوع.
ونظر في ساعته، ثم قام وهو يقول: يستحسن أن أقوم بزيارة عاجلة.
وحيا وانصرف، لم يعد ثمة مجال للشك؛ انكشف المجرم ولم أخطئ في الحساب. ولكن ماذا بعد؟! لم يحضر في اليوم التالي ولا ما تلا ذلك من أيام، وسأل البعض عنه في بيته، فقيل لهم: إنه مشغول. وعلمنا بعد ذلك بأنه سافر في مهمة عاجلة إلى سوريا ، ولكنه لم يعد من مهمته حتى اليوم! واضطرت زينب إلى الإقامة مع أمها في شارعنا. وعرفنا - كجيران - أنها مرضت بمرض عصبي، وأنها تعالج بالطب، وعولجت أيضا بالزار ولكن دون جدوى. هكذا انتهت أسطورة زينب الجميلة وبدأت رحلة زينب المريضة إلى الأبد. لم أشعر بالنصر أو الارتياح إلا لحظات عابرة. اعتراني قلق وتطايرت برأسي الهواجس وخيم على قلبي هم ثقيل .. ماذا فعلت؟ .. ما جدوى ما فعلت؟ .. ما دور زينب الحقيقي في المأساة؟ وماذا أفاد ضحية الليمان من هذا كله؟ حقا تخيلت وحكمت على الآخرين، ولكن كيف يكون الحكم علي أنا؟!
غدا تغرب الشمس
فقد الطعام سحره وجاذبيته ليست بالحال العارضة التي يصبر عليها يوما أو يومين. وعليه فيجب أن يستشير طبيبه. طالما عد نفسه من السعداء لاقتناصه ستين عاما من الزمن، وهو على أتم ما يكون من الصحة والعافية. ورغم نشاطه المتواصل كرجل من رجال الأعمال، فلم يهمل جانب الأناقة والرياضة في حياته الثرية، يتبدى دائما في أجمل صورة، ويحسن السباحة والتنس ولا تفوته الرعاية الدقيقة لصحته. زار طبيبه بميدان الأزهار، وفحصه الرجل بعناية وعلى مهل. ثم قال: الكبد.
ندت عن يده حركة كالاحتجاج، وخاطبه كصديق قائلا: أنت تعلم أنني معتدل جدا في الشراب. - لا بد من أشعة.
هذه الإجراءات هي ما تضايقه في الطب الحديث، ولكن لا سبيل إلى التراجع. وصعد إلى الدور السابع بنفس العمارة مسبوقا بتوصية تليفونية؛ فالتقطت له صورة. ذهب بها إلى طبيبه في مساء اليوم التالي، وقرأها الطبيب ثم قال بإيجاز: لا بد من تحليل الدم.
وساوره قلق جدي لأول مرة باعتباره ذا تجارب مأساوية سابقة في أسرته. فقال: في الأمر اشتباه. - سيسفر عن نتائج حميدة بإذن الله.
ومضى إلى معمل التحليل مهموما مغتما. وانغرزت الإبرة في كبده مصحوبة بآلام لم يتوقعها.
وفي مساء اليوم التالي ذهب بالنتيجة إلى الطبيب، وقال للطبيب وهو يتفحصها: صارحني بالحقيقة الكاملة إني مستعد لذلك.
فقال الرجل بجدية: هيهات أن يسهل خداعك.
فقال متظاهرا بالبساطة: إذن فهو ما كنا نخشاه؟
أجاب بإيماءة من رأسه فقال المريض: وإذن فلا شفاء ولا دواء، ولكن مجرد مسكنات! - بل يرجى إيقاف الورم، وليس هذا بالإنجاز القليل. - أتنصحني بالسفر إلى الخارج؟ - ما كنت لأتأخر عن اقتراحه عليك لو أفاد.
وتفكر قليلا ثم سأله: هل يمكن أن تحدد لي المدة الباقية من حياتي.
فقال بعجلة: كلا! الأعمار بيد الله وحده. - ولو على وجه التقريب؟ - كلا! كلنا أمام الموت سواء. وقد يسبقك إليه جميع الأصحاء من أصحابك؟
فقال برجاء: جنبني الألم ما استطعت. - هذا متيسر.
بين يوم وليلة، بل في غمضة عين، مذهل حقا مذهل، خاطب نفسه بقوة: «حذار من الانهيار». وقال لها أيضا: «سلمي بهذا الواقع كأي واقع آخر». ومن أول لحظة قال له عقله كلاما مليحا، ولكنه لم يستطع أن يخلصه من قبضة الهزيمة والخوف والأسى. وقال له صديق: ليتك تستطيع أن تتناسى الموضوع.
فقال: هذا ما أحاوله؛ وإلا فلن أنجز شيئا.
أجل، أمامه واجبات معقدة كثيرة، أو كما قال لنفسه: «لولا الأسرة لقمت بسباحة حول الأرض غير مبال بشيء». وفكر أول ما فكر في عمله، فتراءى له لأول وهلة أن يتخلى عنه لنائب عنه، ولكنه سرعان ما استبعد الفكرة، ما دام أن العمل سيشغل وقته، وينقذه زمنا لا يستهان به من الوحدة والأفكار المضادة. وانهمك في توزيع ثروته ومشاورة محاميه بما يحقق الاستقرار لأهله، وتوفير الضرائب التي يمكن توفيرها. ولم يبح بسر مرضه إلا لزوجته، أما الأبناء فقد رسم خطة لإعدادهم للنهاية دون إزعاج لا ضرورة له قبل الأوان .. وواصل ترشيده لهم في الأمور التي تهمه كالجنس والمخدرات وشئون المال والعمل. والحق أن انهماكه في ذلك كله خفف من قسوة محنته، وبخاصة في إبان حدتها وشدتها. واستعاد شهيته للطعام ولم يشعر بأي ألم مما هجست به نفسه، ومارس رياضاته المحبوبة باعتدال. ووجد امتنانا كبيرا للعلم وما أبدعه من مسكنات، ولم ينقطع عن ناديه وأصحابه ولا عن شجون الحديث في الاقتصاد والسياسة. وكلما ألمت خاطرة سوداء ردد في باطنه قول طبيبه وصديقه: «كلنا أمام الموت سواء »، بل إنه مع مرور الزمن أخذ يؤمن بأن مرضه أتاح له فرصا لم تكن مهيأة من قبل.
ألم يستعد لأمور كثيرة كان يمكن أن تترك معلقة وأن يشقى بها أهله؟
واعترف أيضا بأنه خفف من عبء الدنيا الذي حمله على كاهله طويلا وفي معاناة مستمرة. حقا ما زال يواصل عمله، ولكن هان توتره العصبي الذي لم يرحمه جل حياته. إنه يعمل من أجل الدنيا ولكنه لم يعد أسيرا في قبضتها. وانجابت عن وجدانه مخاوف كثيرة طالما ناوشته مع كل طلوع شمس. موت أول ابن له في عز الشباب، ماذا يعني الآن؟! حسده لأقران له لعبوا دورا أكبر من دوره في تاريخ وطنه. تدبير الدولارات اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج. الركود الاقتصادي والخوف من العجز عن تسديد بعض الأقساط للبنوك. مستقبل البلد السياسي وما ينذر أمثاله من تقلبات مجهولة.
أجل يصح له اليوم أن يتساءل عما ينتظره بعد الموت. إنه لم يدخل في حياته جامعا إلا في مناسبة دعي فيها ضمن من دعوا ليكونوا في شرف استقبال رئيس الجمهورية. لم يؤد فريضة دينية قط ولا يعرف عن دينه شيئا يذكر، ولكنه يعتبر نفسه من المؤمنين بالله ورسوله. ويؤمن بأن الله أرحم الراحمين بمخلوقاته. فضلا عن أنه لم يرتكب في حياته إثما كبيرا كما كان كريما مع الفقراء من أقاربه وأصدقائه. ولم يفكر في أن يعرف من شئون دينه ما فاته أن يعرفه؛ خشية أن تفتح له المعرفة أبوابا تفسد عليه صفوه وطمأنينته إلى رحمة الله. أقنع نفسه بأن إيمانه البسيط سينقذه بلا حاجة إلى مزيد، ومرت له لحظات خيل إليه أنه اليوم أسعد مما كان أمس. وعجب لذلك عجبا شديدا. أكان يضمر كراهية لحياته الماضية رغم الصحة والنجاح؟ أكان يجاهد وهو لا يدري ليتحرر من قبضتها العاتية؟ هل ضاق بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وود أن يتعامل معها كأنه يموت غدا؟
وقال لصديقه يوما وهما يتناجيان: المرض لقنني درسا، وهو: أن الموت صديق في ثياب عدو.
على ضوء النجوم
في الصباح الموعود تجمع الفريق، وهو على أتم الاستعداد. الشتاء يطوي ذيوله والجو ينفث في الأرواح الحيوية والنشاط. ارتدى كل فرد بنطلونا صوفيا «وبلوفر» رماديا، وغطاء رأس من القطن الأبيض، وانتعل حذاء من المطاط، وجيء بشاحنة متوسطة، فحملت بالأطعمة الجافة وقوارير المياه، وهل علينا رجل فارع الطول واضح الملامح مهيب الطلعة، مثلنا في زيه كأنه واحد منا، غير أنه يطوق عنقه بقلادة تدلى منها صفارة فضية فوق صدره العريض. قال بصوت جهير: أنا مرشدكم، والله يوفقكم، هل اطلعتم على التعليمات؟
فأجبنا بالإيجاب، فعد ثلاثا ثم قال: سيروا ورائي على بركة الله.
فمضت القافلة تخترق الصحراء والسيارة تتهادى وراءها. رحلة كل عام ولعبته التي تجرى تحت رعاية اتحاد الأندية الرياضية. يسير الفريق وراء المرشد، وعلى كل أن يخمن الواحة التي يقصدها، معتمدا على ما حصل من معلومات عن الصحراء، ومن يصدق تخمينه يحصل على الجائزة السنية. والجائزة لا تقسم، وينالها كل فائز وإن تعدد الفائزون. سرنا مع طلوع الشمس، يخيم علينا الصمت، نستذكر التعليمات حتى لا نخرج من السباق لهفوة عارضة، ونمارس ما أوتينا من قوة ملاحظة وفطنة ومعرفة يحدونا الأمل في الفوز. المنظر يتمادى، وتختفي من أبعاده المعالم، ويمضي على وتيرة واحدة تبعث على الملل. وقاومت الرمال أقدامنا، واقتضتنا جهدا إضافيا. وثقل الوقت، وتساءلنا ألا يوجد محطات للراحة؟ شعرنا بالحاجة إلى الكلام لولا أنه ممنوع، أما مخاطبة المرشد فتعتبر خطيئة. إنها رحلة ممتعة وواعدة، ولكنها شاقة أيضا، بل شاقة فوق ما تصورنا، ولا يخبرها بحق إلا من يكابدها. وحدث أن تبادل زميلان كلمة بسبب لا ندريه وإذا بالمرشد يتوقف عن السير، ويلتفت نحوهما كأنما رآهما بعين ثالثة، وقال بحزم: إلى السيارة.
قال أحدهما: سألته عود ثقاب لأدخن.
فقال المرشد بصرامة: التدخين ممنوع أيضا، اذهبا.
ولاح القهر في وجهي الرفيقين، ولكنهما أذعنا لأمره مرغمين، فرجعا إلى السيارة يجران ذيول الخيبة.
وقال بوضوح: واجبي لا يتضمن أي تساهل مع المتسيبين أو الكسالى أو المنحرفين.
وعند الضحى أوشك أن ينهكنا التعب، وفترت قوانا في الملاحظة والمتابعة، ووضح لنا أنها رحلة شاقة بكل معنى الكلمة وامتحان قاس للكرامة، وإن جرت في إطار الرياضة. وتراءت لكثيرين لهوا ولعبا. واشتد الوقت وغلظ، وتاقت أنفسنا إلى لمسة من الراحة، وإذا بالمرشد ينفخ في الصفارة ليشد الانتباه إليه، ثم يصيح بنا: عليكم أن تفعلوا مثلي.
واندفع يجرى جريا هادئا مع رفع الساقين وتحريك الذراعين. حلمنا بدعوة إلى الراحة لا إلى مضاعفة الجهد. واضطررنا إلى محاكاته بقلوب حانقة ووجوه مكفهرة. وارتفعت الشمس نحو كبد السماء مرسلة أشعة ساخنة رغم عذوبة الهواء. وتعثر شاب فندت عنه آهة، وتوقف مغلوبا على أمره، فصاح المرشد: إلى السيارة!
هكذا خرج سيئ الحظ من السباق، وأمدنا خروجه بشيء من الصلابة والصبر، ولاحت عن بعد صخرة عاتية كأنها صغيرة، تشبه إلى حد ما رأس أبي الهول من الخلف، فاتجه الرجل نحوها، ولما بلغها نفخ في الصفارة مرة أخرى ووقف، فوقفنا ونحن نلهث ونكاد نسقط إعياء، والتفت نحونا وقال: جلسة للراحة وتناول الغداء.
افترشنا الرمال، ووزع علينا رجال السيارة لفافات وقارورة صغيرة من المياه. وفي صمت جعلنا نحل أربطة اللفافات، فوجدنا رغيفا وبطاطس وقطعة من الطماطم وشريحة من اللحم البارد وبرتقالة. التهمنا الطعام بشهية عظيمة، وارتوينا ثم استلقينا على ظهورنا طلبا للاسترخاء أو النوم، وسأل أحدنا المرشد ببراءة: هل يمكن أن أدخن سيجارة هنا؟
فقال الرجل بهدوء: اذهب إلى السيارة!
وجم الشاب، وندت عن جار له ضحكة ساخرة فقال المرشد للضاحك: وأنت معه فورا!
ونظر الرجل نحوهما بتحد فلم يجدا بدا من الإذعان لمشيئته. وقام قبل أن ننال كفايتنا من الراحة فنفخ في الصفارة، وعد ثلاثا، ثم واصل السير. تبعناه ساخطين وصامتين. أيكون هذا الرجل مثاليا أم ساديا؟! وقلت لنفسي: صدق من قال إن السلطة تكشف في صاحبها عن أحسن ما فيه وأسوأ ما فيه معا. وتذكرت من نصحوني بعدم الاشتراك في هذا السباق، ولكني لم أنس كيف يتباهى الفائز فيه بما أحرز على مدى العمر. وأعملت في الملاحظة والاستذكار جماع ما أملك من قوة ومعرفة. حقا إنه سباق يتطلب قوة في الملاحظة، وصلابة في الإرادة وصفاء في الذاكرة، وتألقا في الذكاء، بالإضافة إلى ما يحتاجه من شدة الصبر والاحتمال والشجاعة وضبط النفس، وحسن السياسة مع مرشدنا الجبار. وسارع إلينا التعب، وساورتنا الهواجس، وتوقعنا من ناحية المرشد مفاجأة جديدة تفوق سابقتها في عنفها، ومع ميل الشمس نحو الأفق انخفضت درجة الحرارة ونضح الهواء ببرودة غير مؤذية، وزادت سرعته فأنذر بهبوب عاصفة، ووهنت عزيمة شابين فتخلفا عن السباق باختيارهما ولاذا بالسيارة في كآبة واضحة. وتساءلت فيما بيني وبين نفسي ألا يجوز على هذا الرجل ما يجوز علينا من التعب؟ لماذا يبدو وكأنما قد من عجينة غير عجينة بقية البشر؟! وحدث ما توقعناه فغير الرجل إيقاع السير، واندفع يجري بسرعة جديدة مضاعفة. بدأنا الجري والليل يهبط، وخضنا الظلام على ضوء النجوم الخافت، معرضين طوال الوقت لشيء نرتطم به أو شيء يرتطم بنا، أو حفرة نقع فيها أو منحدر ننزلق عليه، وتعذر علينا الاستمرار في الملاحظة والتفكير، حتى خيل إلي أن الحظ وحده كان وراء من فاز في هذا السباق في الأعوام السابقة. وأخيرا وبعد الإشفاء على اليأس انطلقت الصفارة وارتفع صوت المرشد آمرا بالوقوف. وقفنا ونحن من الإرهاق في حال. ولعلنا لم نعد نطمح إلى الجائزة مؤثرين السلامة. وقال الرجل: العشاء، ثم النوم، نستأنف السير عند منتصف الليل، وبعد مرور ساعتين من التحرك تجمع البطاقات مسجلة عليها الأجوبة، نبلغ هدفنا بمشيئة الله عند طلوع الشمس.
وجيء بكلوب مضاء فعلق في طرف عمود وغرز في الرمال؛ وجدنا أنفسنا على مبعدة يسيرة من تل كبير، ووزع علينا العشاء وهو تكرار للغداء. كما وزعت علينا الأغطية والحشيات السفري، واقترب المرشد من أحدنا، ونحن نتناول طعامنا، وقال له بخشونة: معك قارورة خمر جرعت منها مرتين، اذهب إلى السيارة.
وصرخ الشباب غاضبا: بيننا جاسوس دنيء.
فصاح به: هات القارورة واذهب إلى السيارة.
فقال بتحد: ليس معي قارورة. - لا تعرض نفسك للتفتيش. - لن أسمح لأحد بتفتيشي. - لن تسمح؟!
ومد نحوه يده؛ فدفعها الشباب بجرأة غريبة، عند ذاك لطمه على وجهه لطمه عنيفة طرحته على الأرض. وفجأة اشتعل غضبنا جميعا، ولم نعد نبالي بالسباق ولا بالتعاليم، وتطايرت أصواتنا الهادرة: أي إهانة؟! .. لا نقبل الإهانة. لكل شيء حدود!
تصفح الرجل وجوهنا بهدوء منذر، ثم قال: هذا تمرد عام، وإني أعلن إلغاء الرحلة، سوف تحاكمون أمام مجلس إدارة الاتحاد، وسأنسحب فورا ودون تردد.
وذهب الرجل إلى السيارة يتبعه رجاله حاملين الكلوب، ولم تمض دقيقة حتى تصاعد هدير السيارة، وتحركت بمن عليها حتى غابت في الظلام تاركة فريقنا بلا مرشد. وقفنا جميعا في دائرة واحدة، ذاهلين من المفاجأة، حائرين أمام وحدتنا الضائعة، ثم تفجر الحوار بيننا: كيف يجرؤ على تركنا في الصحراء بلا مرشد؟ - سنرفع خصومتنا معه إلى اللجنة العليا. - ولكن علينا الآن أن نفكر في موقفنا. - نبقى في مكاننا حتى يطلع الصباح. - بل لا بد من التحرك، فكل دقيقة لها ثمنها. - في أي اتجاه يكون التحرك؟ - توجد ولا شك تخمينات شتى، نقترع عليها ونأخذ بالأغلبية.
وتضاربت الآراء ولم يكد يتفق اثنان على رأي، وبعد مناقشات عنيفة تمخض النقاش عن خمس فرق. ورجعنا إلى الحوار تحت وطأة المسئولية الثقيلة: قد نتوه، فنموت عطشا أو جوعا. - أو نتعرض لوحش أو ثعبان أو قاطع طريق. - لا مفر من المغامرة. - ألا يحسن بنا أن نبقى في مكاننا حتى يعثروا علينا؟ - لا تعلل نفسك بأمان قد تصدق أو لا تصدق. لم يبق لنا إلا الاعتماد على النفس.
ومضت كل فرقة إلى وجهتها، واضعة ثقتها في رأيها، يحدوها الأمل في السلامة، ينبسط أمامها مصير مليء بكافة الاحتمالات في ذلك الليل البهيم، وكأنهم على موعد مع طلوع الشمس.
الجرس يرن
نظر في مذكرته ليراجع رءوس المسائل المطلوب إنجازها؛ هالته كثرتها، كلما ألقى عليها نظرة غبط من يستخدمون السكرتيرين؛ لإنجاز الأعمال. ولكن موارده لا تسمح بهذا الترف. ارتدى بدلته ليزور ابنته بعد انقطاع طال في غمرة شواغله، ولما اقترب من باب الخروج رن الجرس، فعجب للطارق على غير موعد في هذه الساعة من الغروب. خاف أن يشغله عن زيارة ابنته التي تنتظره للعشاء، فمضى بخفة نحو العين السحرية ونظر فرأى وجهه واضحا تحت ضوء السلم. انقبض صدره انقباضا ثقيلا، فتراجع إلى الصالة بنفس الخفة التي جاءه بها، عاقد العزم على إهماله، حتى يعتقد أن الشقة خالية فيذهب إلى حال سبيله. آخر من يود أن يلقاه وهو يعلم أن لقياه يعني اختلال المواعيد وانقلاب الموازين. الجرس يرن، ينقطع وقتا ثم يعود إلى الرنين، متى يسلم بأن الشقة خالية؟ سيسأل البواب، سيقول البواب إنه في الداخل، أو إنه خرج دون أن ينتبه إليه. الجرس مستمر معلنا تصميم صاحبه وعناده. ولكنه سيصمت عاجلا أو آجلا. وانتقل إلى حجرة المكتب المطلة على مدخل العمارة، وقف في الظلام وراء خصاص نافذة؛ ليراه عند ذهابه يائسا. لاذ بالصبر حتى سكت الرنين تماما. لم يشهد خروجه ولكن يحتمل أنه غاب في زحمة الطريق. ذهب على أطراف أصابعه إلى العين السحرية ونظر، وخنقه الغيظ أن يراه واقفا في هدوء. ماذا ينتظر؟! ولم كف عن دق الجرس؟ هل شك فيه فتلفع بالصمت ليوقعه؟ ورجع إلى حجرة المكتب وهو من الحنق في نهاية. وطلب ابنته بالتليفون. - آلو. - أنا والدك. - ما زلت في البيت؟! - صاحبنا واقف أمام الباب. - أعوذ بالله! - سأتركه حتى ييأس، ربما تأخرت قليلا. - أنا منتظراك ومعي الأولاد. - إلى اللقاء يا حبيبتي.
وقف وراء الخصاص يراقب الطريق. ولم يطل انتظاره هذه المرة. رآه يغادر العمارة ويتوارى في الشارع الجانبي. تلقى دفقة منعشة من الارتياح والسرور، وتريث دقائق ليطمئن إلى ابتعاده تماما عن مجال تحركه، ومضى إلى الباب ففتحه، وإذا به يجده واقفا ينتظر في صبر وتصميم. ذهل! أدرك من فوره أنه خدعه وغلبه، وتمالك نفسه متظاهرا بالدهشة. وتمتم: أهلا.
تساءل الآخر وهو يدخل قبل أن يؤذن له: ألم تسمع الجرس؟ - أبدا، قمت من النوم متأخرا فهرعت إلى الحمام، ثم ارتديت ملابسي بسرعة لموعد مهم. آسف!
قال القادم: أزف الوقت، حسن أن أصادفك مستعدا. ولكن عليك أن تغير رباط الرقبة.
فقال باهتمام: ابنتي تنتظرني الآن. - مهمتنا لا تقبل التأجيل.
ارتبك، في الوقت نفسه تنبه إلى وقوفهما في المدخل، فقال: لا مؤاخذة .. تفضل بالجلوس في الداخل. - لا وقت لذلك يا عزيزي. - لكنها مفاجأة غير مسبوقة بميعاد. - من المتفق عليه أن أحضر في الوقت المناسب دون ميعاد. - يوجد أكثر من وسيلة لتنبيهي. - أنت أول من يعلم بشواغلي التي لا تترك لي فراغا.
فتساءل برجاء: ألا يمكن أن نؤجل المشوار للصباح؟ - حقا إني أبدو فظا، ولكن الأمر ليس بيدي كما تعلم. - البنت كبيرة الرجاء في أن ينهي محضري الحل المناسب لمشكلة طارئة. - يا سيدي، الفرص لا تنقطع وما أكثر المشكلات التي تحل بلا حلال.
فقال برجاء أخير: لا شك أنك تعلم بمدى احترامي لك. - علم الله أنها عاطفة متبادلة ولكن العمل لا يرحم، فضلا عن أنه ينجز لصالح الجميع. - طيب، جاري أنت تعرفه طبعا، مشكلتنا واحدة، يمكن أن يحل محلي اليوم. - لا .. لا .. لا .. دوره أبعد مما تتصور. - هل يتغير نظام الكون إن لم نذهب هذا المساء؟ - بل في هذه الساعة أيضا! - إنك تحب النظام لحد الإدمان، ولكن الحياة تتطلب المرونة أحيانا. - إني أعرف واجبي تماما. - ألا ترى أنها مفاجأة لم أستعد لها؟ - مفاجأة! حسبتك تتوقعها في أي لحظة.
هموم الحياة تنسي: مثلك في الضغوط، ولكنني بفضل الله لا أنسى. - كل شيء يتغير إلاك. - أحمد الله على ذلك.
رد قائلا: يا لها من مأساة! - إنها أطيب فرصة تسنح. - أتسخر مني؟ - السخرية لا تتفق مع عملي! وفضلا عن ذلك، فأنا أعرف أنك مقتنع بما نفعل.
مقتنع أو مسلم به، ولكن لا حيلة لي فيه. - إنه قانون عام احترمته جميع الحكومات على اختلاف منازعها. - ما شككت في ذلك قط، ولكن ما أكثر الكوارث التي يجيء بها. - لو لم يكن لتعرضنا لكوارث أشد، لا تضيع الوقت.
فقال بتسليم: دعني أتلفن لابنتي معتذرا. - لا .. آسف .. ضاع وقت كثير. - دقيقة واحدة.
فهز منكبيه ضجرا، وقال: ما عليك إلا أن تغير رباط الرقبة.
لما آنس منه ترددا مد يده فحل عقدة رباط رقبته، وأخرج من جيبه رباطا آخر مناسبا، وفرد ياقة القميص وطوقه به، ثم راح يعقده برشاقة ومهارة، وثنى الياقة. ألقى عليه نظرة فاحصة وقال بارتياح: غاية في الأناقة.
تأبط ذراعه، ومضى به، ثم أغلق الباب.
وصية سواق تاكسي
لوحت للتاكسي بيدي فأقبل نحو موقفي فوق الطوار. جلست إلى جانب السواق وأنا أقول: «جريدة الفجر من فضلك». التفت الرجل إلي باهتمام حرت في تفسيره. أيكون من الموظفين الذين يواجهون أعباء الحياة الجديدة بعمل إضافي؟ كلا، شكله يقطع بأنه ليس موظفا. رجل ضخم كأنه من رافعي الأثقال، ريان الوجه، غليظ القسمات، تطل من عينيه الحادتين نظرة قوية متحدية، ويده القابضة على المقود تذكر بالسلحفاة حجما وصورة. هيئته مستفزة معدة للمعارك، وسألني بصوت خشن متهكم: جريدة الفجر؟
فقلت متجاهلا تهكمه: نعم!
فقال باستهانة وقحة: طظ!
وقدر ردة الفعل السيئة في نفسي فاستدرك. - طظ في الجريدة لا مؤاخذة، أنت لا شأن لك بالموضوع. - أي موضوع؟ - عندكم كاتب اسمه الولد علي علام!
فقلت مصححا: الأستاذ علي علام من أنجح كتاب العمود اليومي.
فدوى صوته وهو يقول: طظ وطظ وطظ! - لماذا؟ - ليتك تبلغه رأيي، خذ رقم التاكس، اسمي عتريس الغندور، وليته يغضب ويجيء لتأديبي، فأسوي به الأرض ببصقة واحدة، وعد علي ونذر ألا أمد له يدا أو رجلا، بصقة تكفيه وزيادة.
أسفت على عجزي عن الغضب الواجب للفارق غير المحدود بين ضعفي وقوته، وقلت: لا أفهم شيئا، ولكني مقتنع تماما بأنه لا ضرورة لهذا الغضب.
فقال وهو يزداد انفعالا: حضرته كتب عمودا عن السواقين الذين لا يشغلون العداد، ثم حرض علينا وزير الداخلية.
فقلت بهدوء: هذا رأي، ولعله تلقى شكاوى كثيرة من الأهالي. - أهالي؟! وهل يهمه أمر الأهالي؟! لمحته مرة في سيارة قد المترو، منتفشا كالديك الرومي، ماذا يعرف عن همومنا ليشرع ويحرض، ابن القديمة؟! - لا .. لا .. من فضلك!
ثم بنبرة واضحة: لو عرفته عن قرب؛ لغيرت رأيك في الحال.
فصاح: لو قابلته لشوهت وجهه حتى لتجهله زوجته. - المسألة بسيطة، لماذا لا تكتب له بوجهة نظرك؟
فقال بصوت الرعد: وما قيمته في الدنيا إذا لم يعرف الحقائق بنفسه؟ هو صحفي أم سائح غريب؟ ألم يسمع عن الغلاء؟ وكيف تحدث رقيعا عن الفول والطعمية وهو لا يهمه إلا الويسكي والسيجار؟ اللعنة على كتاب درب الأغوات! - الحق، والحق يقال، إنه من أصدق دعاة العدالة الاجتماعية.
فأصدر صوتا إسكندريا وضحك طويلا ثم قال: يا حلاوة .. يا حلاوة .. عدالة تجار العملة والمخدرات! - عن كل شيء كتب. - هل كتب عن أبناء «فلان»، من أين لهم القصور والملايين؟ - لا تصدق كل إشاعة. - إشاعة؟! .. وعلان الذي نشرت الصحف أنه سرق منه خمسون ألفا من الدولارات؟ - ما أكثر حملاته عن الانحراف والمنحرفين!
ومضى يعد أسماء رجال ونساء، ثم قال: يا خبر أسود يا هوه .. ينسى كل هؤلاء ويتشطر على عداد التاكسي؟
وضاق صدري فقلت: اسكت! لعله يسكت، ولكنه لم يسكت وواصل: إذا خاف الكاتب؛ فلا يصح أن يزعم أنه كاتب.
عدت إلى الكلام مضطرا فقلت: توجد حدود .. أنواع من الرقابة الداخلية. - والرجولة؟ .. عليه أن يرفض!
فكرت فيما يجب قوله، ولكنه سبقني قائلا: ستقول الحياة .. المعيشة .. الأولاد؟! - أظن أنها هموم حقيقية. - عظيم .. سلمنا .. وإذن فلا يحق له أن يهاجم عداد التاكسي .. ويجب عليه أن يرتدي فستانا وحجابا وحذاء بكعب عال، ويقول: أنا مرة!
الميدان والمقهى
1
الصباح مشرق، السماء صافية، الربيع يزفر فيفعم الجو حلاوة. الميدان يستيقظ بدوره الحديثة وآثاره العتيقة، الدكاكين تفتح أبوابها، الألبان والفطائر تزهو في معارضها، المقاهي تستقبل العاملين والخاملين. جلست مع الشاي الأخضر أراوح بين النظر والتذكر، مستمتعا بالصحة والأمل وأحلام الشباب. لم يخل المناخ مما يكدر الصفو، فهذا رجل ذابل العينين من البكاء والسهر، يسأل عن مكتب الصحة، وهذه امرأة طاعنة في السن تتحرى عن أقصر السبل إلى سجن مصر، ولكنها تذوب في حوادث كل يوم. في الوقت نفسه يتهادى صوت أم كلثوم من الراديو ليسعد صباح السامعين. أحتسي الشاي وأطرب وأنعم بالسمر مطمئنا إلى أن الأكدار عابرة، وأن الجمال أبدي لا يذعن لمشيئة الزمن.
2
انتصف النهار، وجاء الكباب. وراح النادل يرفع الإبريق والأكواب، ويعد المائدة للغداء.
وقال صاحبي: الزحام اليوم عجيب.
فقلت دون مبالاة: الميدان دائما عامر بالخلق. - ولكنه اليوم خرق المألوف.
وتدخل النادل في الحديث متشجعا بالمودة القديمة، قال: الناس يتغيرون، ليسوا كما كانوا.
قال صاحبي: سبحان من له الدوام.
فواصل النادل: وتسأل أحدهم عما غيره فينكر ويتهم الآخرين، صدقني الدنيا انقلب حالها. - أخذنا نتناول طعامنا، وأنا أفكر فيما سمعت. وقلت بنبرة مهدئة: هكذا الناس في كل زمان ومكان.
3
ما بين الظهيرة والعصر كففنا عن السمر، وحملقنا بأعين ذاهلة فيما يقع. تساءل صاحبي: أهذا زحام كل يوم؟
فقلت معترفا: كلا، ولا في المواسم!
الزحام يتكاثف بصورة مذهلة. الأرض تختفي تماما تحت أقدام الرجال والنساء والأطفال. الدكاكين مكتظة بالزبائن. الضوضاء ترتفع في سباق مزعج مع الراديو. أي إقبال على الشراء كأنما يخزنون أو يهاجرون. تيار لا ينقطع من أمواج صاخبة مصطفقة، ويتم كل شيء بسرعة ولهوجة تثيران الريب. ضاعت توسلات الشحاذين في الهواء، انفجر مولد البيع والشراء والأنات الضائعة بلا نهاية. وتمتم صاحبي: يا خفي الألطاف نجنا ما نخاف.
وضحكنا، وكان الضحك منا سفاهة.
4
ما بين المغيب والعتمة سارع الناس إلى التفرق والاختفاء. وفي الهرج والمرج توترت الأعصاب، فنشبت معارك لسانية ويدوية. ومضت الأمواج تنحسر ويعقب المد الشديد جزر أشد، فتلاشت الأصوات. خلا الميدان تماما وهو الذي لا يخلو إلا في الهزيع الأخير من الليل. فكرت في أن أقوم لأسال جندي المرور، ولكني رأيته مشدود الأعصاب مكفهر الوجه؛ فآثرت السلامة. وإذا بالدكاكين تغلق أبوابها والبيوت نوافذها، فيغلب الظلام ويسود الصمت، ويتبادل رواد المقهى نظرات حائرة: ماذا حصل للدنيا؟ - ها هي الجرائد ليس بها شيء. - ولكن في الجو شيء ولا شك. - يجب أن نذهب، ماذا يبقينا بعد الآن؟ - ننتظر نشرة الأخبار. - تجمعنا خير من عدمه. - البيوت؟ .. ومن في البيوت؟!
وقام رجل وهو يقول: قلبي يحدثني ...
ولم يتم كلامه، وأشار بيده إشارة غامضة ثم ذهب، وشجع ذهابه المترددين فتسللوا واحدا في إثر واحد، وسرت مع صاحبي ونحن من القلق في نهاية. وقال صاحبي: رأسي يدور فبالله حدثني عما حدث؟
فقلت بنفاد صبر: ما حدث قد حدث، ولكن ماذا عما لم يحدث بعد؟!
المرة القادمة
توثبنا للعمل من قبل أن تطلع الشمس. وتألقت الأعين بالنشاط والحماس والأمل. وقلت بحزم ومحبة معا: إنه يوم الامتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
وبهمة عالية تناول كل فرد من أسرتنا مكنسته، وراح يكنس حجرته بعناية وأمانة. ومماشي الحديقة الصغيرة كنسناها وغسلناها أيضا، وشذبنا الأشجار فنزعنا منها كل ورقة جافة. وأخذنا المنافض وجعلنا نجلو المقاعد والستائر والأخونة والنوافذ والمصابيح والتحف، حتى لمع كل شيء وابتسم. ورششنا الجو بالنفاثات العطرية فانتشرت روائح الورد والبنفسج والقرنفل في الحجرات. ونظمنا الورد في الأصص، وأعددنا الصواني والآنية؛ فتجلى البيت كأنه متحف قبل أن ينتصف النهار. وهرعنا إلى المطبخ ليقدم كل ما يملك من معونة. اختصت ربة البيت بالطهي، ولكن بقي لنا مجال في غسل الخضر وتقشير البطاطس والبصل ونقع اللحوم وصنع السلطات وغسل الفاكهة. فعلنا كل شيء ونحن من السرور في نهاية، وتناولنا غداء خفيفا في المطبخ. واسترحنا ساعة بين النوم والاسترخاء. وأقبلنا على الحمام تباعا وفي مقدمتنا الإناث. تطهرنا ولبسنا ثيابنا الجديدة، ومشطنا شعورنا وتطيبنا، وصرنا في أحسن تكوين. وكان جو الربيع نقيا لطيفا، فتجمعنا في الحديقة وفتحنا الباب على مصراعيه وانتظرنا. وربما ساور ربة البيت هاجس قلق فتمضي إلى الداخل لتلقي نظرة ناقدة على الأشياء، ولتطمئن إلى كمالها. وأكثر من صوت قال: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعلى سبيل الترشيد قلت: عندما تصل السيارة أهرع أنا وأمكم إلى الباب لنكون في شرف الاستقبال، أما أنتم فتصطفون في نظام الجنود وأدب السفراء، ثم نقدمكم واحدة فواحدة وواحدا فواحدا، ولينطق كل بما حفظ عن ظهر قلب في أدب وخشوع وامتثال.
وقالت الأم: سنسير بين يدي سيادته حتى مجلسه في صدر الثوي، نظل واقفين حتى يشير إلينا بالجلوس فيتخذ كل مجلسه، سيلقي أبوكم كلمة موجزة للترحيب، وإذا وجه إلى أحدكم سؤال فليجب بالحياء الواجب وبالقدر الملائم، وإن جاد علينا بملحة؛ فالابتسامة أولى بنا من الضحكة .
وقلت: لن أذكركم بآداب المائدة، ولا تنسوا ما زودنا به أنفسنا من معلومات إن خطر لسيادته أن يختبرنا!
وقالت الأم: وحذار أن تتجاوزوا حدود الأدب إذا شاء أن يتبسط معنا في السمر، أو رأى أن يخص أحدنا بتأنيب أو زجر .. وعلينا أن نصدع بما يأمر دون تردد أو حذر.
وقلت مشجعا ومذكرا: إنها فرصة العمر، فلنسأل الله السلامة والتوفيق.
وجلسنا ننتظر بأعين تتطلع إلى الباب من خلال أشجار الورد. نحلم بما سنفعل أو نقول، ونحلم بالنعمة التي سيجود بها القدر. وانتظرنا .. وانتظرنا .. وانتظرنا. واشتد الشوق والوجد وتناهى الصبر. وقلنا: يا نسائم الربيع احملي إلينا السيد المنتظر. ولكن خطوات الوقت مضت تثقل، والزمن يتمطى ويطول والأعصاب يعتريها الألم. وكلما سمعنا أزيز سيارة أو نفخة بوق قمنا نسوي من هندامنا، وغبنا حتى الذوبان في المجهول المتمادي أمامنا، ومن حومة الجزع ارتفع صوت أحد الأبناء متسائلا: ألم يحدد ساعة حضوره؟
فقالت الأم: حسبه أنه تفضل بتحديد اليوم.
فغمغم الشاب فيما يشبه الضجر: ما أطول اليوم!
وأخذ النور يخف ويتوارى، والمغيب يرسل ألوانه الهادئة الرزينة المليئة بالشجن. وتطلع نحونا الأبناء في صمت وتساؤل، فقلت بثقة: إنه لا يخلف الميعاد. - مع التأخير ستقل فرص السمر.
فقلت وكأنني أوجه الخطاب لنفسي أيضا: ما أشقى من لا ينعم بنعمة الصبر!
وانتظرنا. وزحف الليل بجحافله، وهبط الظلام مشبعا ببرودة. وعند ذاك ارتفع أول احتجاج يجيء من أصغر الأبناء: ضاع الوقت وخسرنا مسرات اليوم دون جدوى.
وهتفت به مؤنبا ومداريا ضيقي: ما أفظع ما تقول!
فقال بعناد: في انتظار نعمة كبرى ضيعنا النعمة المتاحة.
فنهرته أمه: هذا هو الهذيان.
ولكن بتوغل الليل وتماديه فتر الحماس وتراجع الأمل، وغلب الظن بأننا لم نحسن فهم المكالمة التليفونية. ولم ندر ماذا نفعل ولا ماذا نقول. وانسحبت الفتيات بهدوء إلى الداخل، وشغلن التليفزيون. وما لبث الأبناء أن غادرونا، فذهب أولهم إلى النادي، والثاني إلى المسرح، والثالث إلى ملهى في الهرم. وتبادلت مع الأم نظرة مثقلة بالخجل وخيبة الرجاء.
وآوينا إلى حجرتنا، وأنا أقول : يلزمنا حبة من الحبوب المنومة!
وجمعتنا سفرة الإفطار في ضحى اليوم التالي، تجنبنا الإشارة إلى مأساة الأمس، ورن جرس التليفون فقامت الأم إليه، ثم رجعت في غاية من الانفعال والاضطراب وهي تصيح: وا خجلتاه!
وحدجناها بنظرة متسائلة، فقالت بنبرة باكية: سكرتير السيد، قال: إن سيادته جاء في ميعاده، فوجد البيت نائما فرجع، أردت أن أشرح له ما حدث، ولكنه كان قد أغلق السكة.
هتفت بصوت كالأنين: يا للعار!
فقال ابني: لا ملامة علينا، أكان يجب أن ننتظر حتى الصباح؟!
فرجعت أقول بأسى: يا للعار! - ولكنا فعلنا الواجب وزيادة.
فقلت وقلبي يتقطع من الحزن: بل لم نصبر بما فيه الكفاية.
وأخذت الأم تنشج باكية، فقلت معزيا: لا جدوى من البكاء، ثم إنني ألمس في اتصاله الجديد بنا توبيخا لا يخلو من العناية.
فتساءلت ابنتي: هل يمكن أن يقرر الزيارة من جديد؟
فقلت على سبيل العزاء لهم ولي معا: كل شيء ممكن، وليسدد الله خطانا في المرة القادمة.
القضية
دهمتني قضية من حيث لا أدري. زوجة أبي تطالبني بنفقة شرعية. استيقظت من غيابات الزمن وغزاني الماضي بذكرياته. وهتفت بعد أن قرأت عريضة الدعوى: متى أفلست؟ .. هل سرقت بدورها؟! وقلت لمحامي: هذه المرأة سرقتنا وحرمتنا من حقنا المشروع.
أفلتت مني رغبة قوية في رؤيتها. لا بإغراء الشماتة، ولكن لأرى ماذا فعل الزمان بها. هي اليوم مثلي في الأربعين، فهل صمد جمالها للأيام؟ وهل يثبت أمام الفقر؟ لولا صدق دعواها لما مدت يد السؤال إلى عدو من وكر الأعداء. ولو كانت كاذبة فلم لم تمدها من قبل؟ شد ما كانت جميلة فتانة. قلت للمحامي: تزوجها أبي وهو في منتصف الحلقة السادسة، وهي بنت عشرين.
مقاول بناء شبه أمي، دقة قديمة، لا يتعامل مع البنوك، يكنز أرباحه في خزانة كبيرة بحجرة نومه، نسعد بذلك طالما أننا أسرة واحدة، وينفجر نبأ الزواج الجديد بيننا مثل قنبلة. أمي وأخي الأكبر وأنا وأخواتي في بيوتهن. وينفرد الدور الأعلى بأبي والعروس والخزانة. صعقنا لحداثة سنها وجمالها. وقالت أمي بصوت متهدج باك: يا للخراب، سنخرج من المولد بلا حمص.
أخي الأكبر أمي، متخلف العقل، بلا عمل وإن اعتبر نفسه من الأعيان، اشتعل غضبا وقال: سأدافع عن نفسي حتى الموت!
نصحنا بعض الأقارب باستشارة محام، ولكن أبي هدد أمي بالطلاق عند أي مبادرة، وقال لنا: لست غرا ولا أبله ولن يضيع حق.
أنا أقلهم تأثرا بالكارثة؛ لحداثة سني ولأني الوحيد في الأسرة الذي رغب في التعليم حتى التحقت بالهندسة، ولكن لم تخف عني معاني الحوادث مثل سن أبي وعروسه الحسناء والثروة المهددة. وعلى سبيل التلطيف أقول: إني مطمئن إلى أبي.
فيقول أخي: إذا سكتنا فسنجد الخزانة خاوية.
أشاركه مخاوفه، وأتظاهر بغير ما أبطن، وأشعر طيلة الوقت بأن الواحة التي كانت مطمئنة تعصف بها ريح عاتية، وتتجمع في أفقها سحب سوداء. لاذت أمي بجحر الصمت والخوف، وأنذرها الغد بسوء المصير. أما أخي الأكبر فيقتحم عرين الأسد، ويتوسل إلى أبيه قائلا: أنا البكري، جاهل كما ترى ولا مورد لي، أعطني نصيبي.
فيقول أبي: تريد أن ترثني وأنا حي؟ عيب أن تشك في، ولن يضيع حق.
لكن اضطراب أخي لم يسكن، يلح على أبي كلما لاقاه، ويقذف بتهديداته من وراء ظهره.
وتقول أمي إنها تخاف على أخي أكثر مما تخاف على الثروة. وأتساءل: هل ينهزم أبي أمام بنت حلوة؟ ذلك المعلم القادر المحاسب المدقق رغم أميته؟! ولكنه يتغير بلا شك وينزلق كل يوم درجة. يختلف إلى الحمام الهندي مرتين في الشهر، يهذب لحيته ويحف شاربه كل أسبوع، يرفل في ثياب جديدة، وأخيرا يصبغ شعره. هداياه الثمينة تشي بحسنها حول عنق العروس وفوق صدرها وحول ساعديها. وها هي الشيفروليه والسواق تنتظر أمام بيتنا. ويجن أخي الأكبر ويزداد جنونا. يقول لي: من أين جاء بها؟ هل يعز عليها أن تهتدي إلى مفتاح الخزانة وطريقة فتحها؟ ألا تأخذ منه ما يؤمن حياتها؟ ألا تستطيع أن تسعده إذا شاءت أو أن تقلب حياته غما ونكدا؟! ويتطور الجدل بين أخي وأبي، فيخرق تقاليد الأدب. يغضب أبي فيبصق على وجهه . في ثورة متفجرة يتناول أباجورة ويقذف بها أباه فيهرق دمه. ويرى الدم فيفزع ولكنه يتمادى محاولا القضاء عليه. يحول بينهما الطاهي والسواق. يصر أبي على إبلاغ الشرطة، فيحمل أخي إلى المحكمة، ثم إلى السجن حيث يموت بعد انقضاء عام واحد، وأقول للمحامي: كيف وجدت الشجاعة على رفع دعواها؟
فيقول الرجل: للضرورة أحكام.
وفي حومة قلقنا وحدادنا نسمع صواتا مفزعا ينقض علينا من الدور الأعلى. نهرع أنا وأمي دون استئذان لنقف مبهوتين أمام جثة أبي. ونتساءل ونتساءل كالمألوف، ولكن أي تساؤل يجدي مع الموت؟! وتتسرب إلينا الأنباء بأنه سقط مشلولا قبل الوفاة بيوم كامل دون أن ندري. وننتظر حتى يوارى في مدفنه وتنتهي طقوس العزاء. وتجتمع الأسرة فينضم إلينا أخواتي وأزواجهن وينضم إليها أبواها، ويحضر أيضا المحامي. نسأل عن مفتاح الخزانة فتجيب ببساطة: إنها لا تدري عن ذلك شيئا. أحيانا وقاحة الكذب تفوق كل خيال، ولكن ما الحيلة؟ ونعثر على المفتاح، وتبوح الخزانة بسرها الأخير مبدية لنا في سخرية بالغة عن رزمة لا تتجاوز خمسة آلاف جنيه عدا! وتهتف الحناجر: إذن فأين ثروة الرجل؟
وتحدق بالجميلة الأعين فتثبت لوقعها بتحد، ونلجأ إلى الشرطة. ويكون تحقيق وتفتيش، وكما قالت أمي: نخرج من المولد بلا حمص. وتذهب الزوجة الجميلة إلى بيت والديها ويسدل الستار عليها وعلى التركة. وتموت أمي، وأعمل وأتزوج وأحقق نجاحا مرموقا، وأتناسى الماضي حتى ترجعني إليه القضية. وأقول للمحامي: قمة السخرية حقا أن تفرض علي نفقة لتلك المرأة.
فجاءني صوته من بين الأضابير فوق مكتبه قائلا: القصة القديمة تصلح في الظاهر منطلقا للعرض، ولكن ما جدوى نبشها ونحن لا نملك دليلا عليها؟
فقلت بحماس: القضية القديمة غير معروضة للبحث، ولكنها مدخل طيب له تأثيره الذي لا يستهان به. - بالعكس، سنهيئ لمحامي المرأة فرصة للهجوم واستدرار العطف. - العطف؟! - حلمك، فكر معي بشيء من الحياد، عجوز يكنز ثروته في خزانة بحجرة نومه، يشتري صبية جميلة في العشرين وهو ابن خمسة وخمسين، يحدث لأسرته كيت وكيت، ويحدث لزوجه الجميلة كيت وكيت، عظيم، من يكون الجاني؟!
صمت مقطبا مغتما فواصل: لنمض في سبيل آخر، فأنت رجل منتج وذو أسرة، وتكاليف الحياة أبهظ من أن يحتملها إنسان .. إلخ .. إلخ، وحسبنا أن تقرر نفقة معقولة.
ورحت أتمتم: يا للخسارة! .. سرقتنا وموت أخي وحسرة أمي! - آسف .. إنها ضحية مثلكم، حتى الثروة التي نهبتها دفعت بها إلى كارثة، وها هي تتسول.
فقلت مدفوعا بحب استطلاع طارئ: كأنك تعرف عنها أشياء؟
هز رأسه في غموض دبلوماسي وقال: امرأة عقيم، تزوجت وطلقت مرات وهي في عنفوان جمالها، وفي كهولتها وقعت في غرام طالب، نهبها بدوره ثم ذهب!
لم يفصح عن مصادر معلوماته، ولكني حدست منطق الحوادث المتتابعة، وداخلني ارتياح منعني الحياء من إعلانه. وفي يوم الجلسة عاودني الشوق الغامض لرؤيتها. عرفتها وهي منتظرة أمام غرفة المحامين. عرفتها بالحدس قبل الحواس؛ فالجمال الذي نهب ثروتنا وأتعسنا تلاشى تماما. تبدت مفرطة في البدانة لدرجة غير مقبولة، وغاض من صفحة وجهها ماء السحر، والبقية الباقية من جمالها تراءت بلا روح، وحجبتها عن الناظرين مسحة من الكآبة الدائمة. ودون روية مضيت نحوها، ثم أحنيت رأسي تحية، وقلت: تذكرتك فلعلك تذكرينني!
رمقتني بدهشة لأول وهلة، ثم بارتباك، وردت التحية برأسها المحجوب، وقالت كمن يعتذر: آسفة لإزعاجك، ولكني مضطرة!
ونسيت ما أردت قوله، بل ارتج علي الكلام، وحل سلام، فقلت: لا بأس عليك، وليفعل الله ما يشاء.
وابتعدت عنها في هدوء وأنا أقول لنفسي: لم لا؟ .. حتى المهزلة يجب أن تتم فصولا.
ذقن الباشا
متى فتح هذا المقهى؟ علم ذلك عند الله. لم يخطر لي أن أطرح هذا السؤال في الزمن القديم. في صباي كنت أعبر الطريق أمامه كثيرا في الذهاب والجيئة كأكثر أبناء العباسية. وكانت تشع منه إلى صدورنا هيبة وإجلال، فنمضي إذا مضينا ناحيته بسرعة وأدب متحاشين النظر إليه حيث يجلس الآباء ونخبة من مدرسي مدرستنا، بكل ما يحملون بين جوانحهم من وقار ورهبة. وهو صغير إذا قيس إلى مقاهي وسط البلد أو حتى مقاهي السكاكيني. مستطيل الشكل، أنيق المنظر، تقوم في عمقه المنصة الرخامية والموقد، ويعلوها رف أول تصطف فوقه برطمانات البن والشاي والسكر والقرفة والزنجبيل والكراوية والأنيسون، ورف ثان تتجاور فوقه النراجيل البيضاء الشفافة والكحلي الزاهية. أرضه مدكوكة بالبلاط المعصراني، وجدرانه وسقفه زرقاء صافية، وفي منتصف الجدارين المتقابلين تلتصق بالغراء والمسامير المذهبة مرآتان مستديرتان مصقولتان مؤطرتان بالأبنوس. وثمة طابوران من الموائد الرخامية المتواجهة على الجانبين ولوازمها من الكراسي الخيرزان. أما الطوار أمام المقهى فمزروع ببلاط صغير ملون، ويمتد فوقه صفان متوازيان من الموائد في مركز الوسط منها تنطلق شجرة لبخ فارغة تتهدل فوقها أغصانها حانية، وبها شهر المقهى باسم «ذقن الباشا»، على حين أن لافتته تحمل اسم صاحبه «سيد كنج»، ولا أحد يعرف أصل لقبه، ولكن الجميع يسلمون بسطوته على الأحياء الشعبية المجاورة. وبالرغم من عبيره البلدي، ومن أن الندل العاملين به يسعون في الجلابيب حفاة الأقدام إلا أنه امتاز بالنظافة المطلقة في أرضه وجدرانه وأدواته كما عرف بجودة مشروباته. إنه مجمع أهل الوقار من الآباء والمدرسين، وفي مواسم الانتخابات يهرع إليه المرشحون من الباشوات يخطبون ود صاحبه المهيمن على الناخبين في الحواري والأزقة. ودائما يسبح في هدوء فالحديث يتجاذب في تؤدة، والضحكة تند بحساب، والحوار السياسي يمضي في وفاق وانسجام، وصورة سعد زغلول تطل على الجميع من موضعها فوق النراجيل، وهو منتصب القامة في بدلة التشريفة المحلاة بالقصب. •••
وتغير سكان المقهى، بصورة غير ملموسة أول الأمر، ثم وضحت المعالم قبيل الحرب العالمية الثانية، وفيما تلا ذلك من أيام. رحل الآباء والمدرسون أو لم يبق منهم إلا نفر من المعمرين. واكتسبنا مع تقدم العمر والتوظف الحق في اقتحام أجمل مقهى في حينا. جلسنا مكان الآباء وشربنا القهوة والشاي ودخنا النارجيلة، وخضنا في أحاديث السياسة والحب والجنس بأصوات مرتفعة تترامى أحيانا إلى الطريق. ولم نعد نجفل من المعمرين من أساتذتنا، فأقبلنا عليهم نتصافح ونتوادد ونتبادل الذكريات، وربما مازج حوارنا المزاح، بل منهم من شاركنا لعب النرد، ولكن حظي كل واحد منهم بحقه الكامل في الاحترام. وهلت علينا مشكلات جديدة؛ فتنوعت أحاديثنا بين الدستور والغلاء واليمين واليسار والملك والوفد والإنجليز والجلاء وفلسطين واليهود. ولم يوقف ذلك مسيرة الحياة الطبيعية؛ فعشق منا من عشق، وتزوج من تزوج، وأنجب من أنجب، واستفحل التشكي وانفجر النقد.
ولم يسلم من ألسنتنا رجل أو امرأة أو حزب وحتى الندل الحفاة شاركوا في الكلام بعد أن خفت رقابة سيد كنج؛ لطعنه في السن وتوغله في الضعف وزهده في الانشغال بالحياة اليومية. وجاء وقت فبدا أن كلا منا قد أصبح حزبا قائما بذاته له أهدافه ووسائله. وتسلل الشيب إلى الرءوس، ورحل آخر المدرسين المعمرين، وتوترت أعصابنا يوم توفي سيد كنج واحتل مكانه في الإدارة ابنه الأكبر الشافعي. من جيلنا كان، فأسدينا إليه النصيحة أن يحافظ على سمعة المقهى، وأن يعنى عناية خاصة بالنظافة وجودة الأصناف، وألا يتهاون في سمعته طمعا في مضاعفة أرباحه كما يفعل قصار النظر. ووعد الرجل، وأنجز ما وعد بصفة عامة فلم يطرأ على المقهى إلا تغير طفيف يمكن التسامح معه، كما اعتدنا أن نتسامح مع كل مكروه يجد. •••
وزحف الجيش بثورته، فانطوت صفحة وانبثقت صفحة جديدة. وتفجرت ينابيع الأمل وتضاربت الخواطر. وباتت جماعتنا ركن المقهى الركين وقاعدته الثابتة. وكالمنتظر تسلل إلى الأركان شباب صاعد، واشتبكت حباله بحبالنا بحكم الجوار والعشرة. ومع تتابع الأمجاد اعترضت أزمات كما عودنا التاريخ، وحملقت أعين الأمن تطارد الخوارج، ونادى أهل الحكمة بيننا: حذار من السياسة وحديثها يا محبي السلام والسلامة. وعقدنا العزم على ذلك، ولكن اجتاحنا الإغراء وألح علينا كحكة الجرب. وقبض على نفر منا لتهور التعبير ونزقه، فتعلمنا التفاهم بالهمس والإشارة والرمز ونحن نستعيذ بالله من المهالك. وكلما بدا وجه غريب رمقناه بحذر، وإذا طرح شاب سؤالا محرجا تساءلنا: ترى ماذا وراءه؟ وحدثونا عن أجهزة التسجيل التي تلتقط الخواطر من بعيد، حتى اقترح البعض أن نقبع في دورنا آمنين. وعجزنا عن تنفيذ ذلك، وقلنا: إنه لا غنى لنا عن سلوى اللقاء، وأن الأمان متاح لمن يصون لسانه. وكدر صفونا الشباب الصاعد بتعاليه علينا، وتجاهله لماضينا، وازدرائه لأمجادنا. نحن لا ننكر المعجزات التي تقع، ولا الانتصارات التي تتحقق، ولا انطلاق الأيدي القوية لتحرير الشرق والغرب. ولكن ما الداعي إلى إنكار أمجاد سلفت وانتصارات سبقت؟! وتجنبنا مع ذلك الخصام، وتراجعنا عن العناد، واستبشرنا خيرا بالغد وما بعده. وكنا إذا تحدانا سؤال مستفز مثل: «من يكون سعد زغلول؟» أجبنا بكل تواضع: «كان محاميا ناجحا»، أو «من يكون مصطفى النحاس»؟ قلنا بمنتهى اللطف: «كان تاجر مني فاتورة بالغورية». قلنا: لا داعي لتكدير الصفو بالجدل العقيم، ولنترك للتاريخ ما ينفرد بتصحيحه عندما يشاء، ولنشارك في الفرحة الشاملة بكل بناء يقوم أو عدالة ترسخ. •••
ودهمنا ونحن في غفلة يوم 5 يونيو الأسود. تطايرت آمالنا أشلاء وشظايا ثم سقطت في أعماق بئر من رماد عفن، تحول سكان المقهى إلى أشباح تهيم في وادي الظلام مهمهمة في هذيان متواصل. الحزن شامل، الحزن باك، الحزن ساخر. لم يخل حزننا من تمرد أما حزن الأصدقاء الجدد فتلقفته دوامة الضياع. قالوا لنا بنبرة جديدة: «حدثونا عن دنياكم كيف كانت؟» ليكن، فالحديث هو السلوى المتاحة، ولكن ما جدواه؟ وسألونا أيضا: «ما حكمة خلق الإنسان في هذا الوجود؟» وتراكمت الإجابات مثل تل من الهواء. واستمر الحديث واستمر الزمن. تراجعنا إلى ركن الشيوخ وانبسطوا في كل مكان، وحدثت أمور، وواصلت الحياة العطاء والموت الإفناء. وارتفع شعار الانفتاح، فريق هاجر بلا أسف، وفريق ارتفع تحوطه الريب، وفريق عوى عواء الذئاب. لم نكن نفرح بالنصر إلا يوما أو بعض يوم، ولا بالسلام إلا ساعة أو بعض ساعة. وانصبت الأحاديث على الخيار والطماطم والرغيف، وزاغ البصر بين الغيم الداكن والبرق الخاطف اللامع. •••
وذات مساء قال لنا الشافعي صاحب المقهى: آسف يا حضرات، تم الاتفاق على بيع المقهى!
لم نصدق أول الأمر، حتى تأكد لدينا أنه سيقوم مقامه سوبر ماركت. يا ألطاف الله! إنه خبر كطعنة خنجر. مقهى العمر والذكريات والآباء، المقهى الذي داعب صبانا وآوى شبابنا وكهولتنا، وشهد حبنا وزواجنا وإنجابنا وهزيمتنا ونصرنا. وتساءلنا: أين نتلاقى كل مساء؟ قال أحدنا: أقرب مقهى إلى حينا مقهى الانشراح في أول الظاهر .
قال آخر: لكنه مقهى الحرفيين، غاية في الفقر والقذارة.
فقال الأول: اصح، حقا ما زال مقهى الحرفيين، ولكنهم يذهبون إليه اليوم في سياراتهم الخصوصية الملاكي، وقد تجدد المقهى بتجددهم، فأصبح انشراحا بالمعنى الصحيح.
ثم وهو يضحك: سنمثل فيه الطبقة الكادحة الجديدة!
عندما يقول البلبل: لا
تطاير في جو المدرسة نبأ هام بأن الناظر الجديد حضر. تلقت النبأ في غرفة المدرسات وهي تلقي نظرة أخيرة على دروس اليوم. لا مفر من أن تهنئه مع المدرسات، وأن تصافحه أيضا. سرت في بدنها قشعريرة ولكن لا مفر. قالت زميلة: ينوهون بكفاءته، ويتحدثون أيضا عن صرامته.
كان دائما احتمالا متوقعا وها هو قد وقع. شحب وجهها الأنيق ولاحت في عينيها السوداوين النجلاوين نظرة شاردة. وأزفت الساعة فذهبن طابورا في أرديتهن المحتشمة إلى حجرته المفتوحة. وقف وراء المكتب يستقبل الوافدات والوافدين. متوسط القامة، مائل إلى البدانة، ذو وجه كروي وأنف أقنى وعينين جاحظتين، يتقدمه شارب غليظ منتفخ مقوس كموجة محملة بالزبد، تقدمت في خطى خفيفة مركزة عينيها على صدره متحاشية عينيه، ثم مدت يدها. ماذا تقول؟ مثلما قلن؟ لكنها خرست فلم تنبس بكلمة. ترى ماذا تجلى في عينيه؟ صافح يدها الرقيقة بيده الغليظة، وقال بصوته الخشن: شكرا.
استدارت ومضت بقامتها الرشيقة. نسيت همومها في أداء واجبها اليومي، ولكنها لم تبد في حال حسنة. أكثر من بنت قالت: «أبلة عصبية اليوم!» ولما رجعت إلى مسكنها بأول شارع الهرم، غيرت ملابسها وجلست إلى مائدة الطعام مع أمها. نظرت الأم إلى وجهها، وتساءلت: خير؟
قالت بإيجاز: بدران، بدران بدوي، تذكرينه؟ عين ناظرا على مدرستنا. - ياه!
ثم بعد قليل من الصمت: لا أهمية لذلك على الإطلاق، تاريخ قديم منسي.
بعد الطعام أوت إلى حجرة مكتبها لتستريح وقتا، ثم لتصحح مجموعة من الكراسات. نسيته تماما. كلا، لم تنسه. يطوف بها بين زمن وآخر. كيف يمكن أن ينسى تماما؟! عندما جاء لأول مرة ليعطيها درسا خصوصيا في الرياضة كانت في الرابعة عشرة، بل لم تكن أتمتها. كان يكبرها بخمسة وعشرين عاما ، وفي سن المرحوم أبيها. قالت لأمها: شكله فوضى ولكن شرحه جيد. فقالت أمها: لا شأن لنا بشكله، المهم شرحه. كان غاية في المهارة. يبعث النشاط برواية النوادر اللطيفة. أنست به واستفادت من خبرته. ولكن كيف حصل ما حصل؟ لم تفطن في ملكوت براءتها إلى أي تغير في سلوكه لتأخذ حذرها. انفرد بها ذات يوم عندما ذهب والداها لعيادة عمتها. لم يداخلها شك في رجل اعتبرته أبا ثانيا. كيف حصل ما حصل؟ بلا حب ولا رغبة من ناحيتها حصل ما حصل. تساءلت في رعب: ما هذا؟ قال لها: لا تخافي ولا تحزني، احتفظي بسرك، وسوف أخطبك يوم تبلغين السن المعقولة، ووفى بوعده. جاء وخطب. كانت بلغت درجة من النضج أتاحت لها إدراكا لأبعاد مأساتها. لم تجد نحوه أي حب أو احترام، وكان أبعد ما يكون عن أحلامها، وما تخلقت به من نقاء ومثالية. ولكن ما الحيلة؟! أبوها رحل عن دنياها قبل ذلك بعامين، وذهلت أمها لجرأة ذلك الرجل، ولكنها قالت لها: أنا عارفة تمسكك باستقلالك الشخصي؛ ولذلك أترك لك الرأي.
شعرت بحرج مركزها. فإما أن تقبل وإما أن يغلق الباب إلى الأبد. يا له من موقف يدفع الإنسان دفعا إلى ما يكره! هي الجميلة الغنية التي يضرب المثل بنبل أخلاقها في العباسية كلها تتخبط في مصيدة محكمة، وهو يطل عليها بعينيه الشرهتين. كرهت قوته كما كرهت ضعفها، أن يعبث ببراءتها شيء، أما أن يتسلط عليها وهي في كامل عقلها؛ فشيء آخر. قال لها: ها أنا أوفي بوعدي؛ لأني أحبك.
وقال لها أيضا: إني أعرف حبك للتعليم، وسوف تكملين دراستك بكلية العلوم.
غضبت غضبا لم تشعر بمثله من قبل، رفضت الإرغام كما رفضت القبح. هان عليها أن تضحي بالزواج. رحبت بالوحدة، وقالت: إن الوحدة في رفقة الكبرياء ليست وحدة. وحدست أيضا أنه يطمع في مالها، وقالت لأمها بكل بساطة: لا.
فقالت الأم: إني أعجب كيف لم تقرري ذلك من أول لحظة!
واعترض الرجل طريقها في الخارج، وقال لها: كيف ترفضين؟ ألا تدركين المصير؟
فقالت له بحدة لم يتوقعها: أي مصير أحب إلي من الزواج منك!
وأتمت دراستها. وأرادت أن تملأ الفراغ بالعمل، فاشتغلت مدرسة. وواتتها فرص الزواج تباعا فأعرضت عنها جميعا، حتى سألتها أمها: ألا يعجبك أحد؟
فقالت برقة: إني أعرف ما أفعل. - ولكن الزمن يجري؟ - فليجر الزمن كيف شاء، أنا راضية.
ويتقدم بها العمر يوما بعد يوم. تتجنب الحب وتخافه، تأمل بكل قواها أن تمضي الحياة في هدوء، مطمئنة أكثر منها سعيدة. تلح على إقناع نفسها بأن السعادة لا تنحصر في الحب والأمومة. ولم تندم قط على قرارها الصلب. ومن يدري ماذا يخبئ الغد؟ حقا إنها تأسف لظهوره في حياتها من جديد، وأنها ستتعامل معه يوما بعد يوم. وأنه سيجعل من الماضي حاضرا حيا أليما. وعندما خلا إليها في حجرته لأول مرة، سألها: كيف حالك؟
أجابت ببرود: على خير ما يكون.
فتردد قليلا ثم سأل: ألم ... أعني تزوجت؟
فقالت بنبرة من يقصد قطع هذا الحديث: قلت: إنني على خير ما يكون.
العجوز والأرض
لفت نظري منظر جديد في أثناء مسيرتي اليومية على شاطئ النيل بشارع الجبلاية. الساعة السابعة صباحا، أوائل الربيع، الطريق تكاد تخلو تماما من أي عابر، رأيت على سفح المنحدر نحو النهر رجلا وامرأة. الرجل عجوز يقارب الثمانين، طويل القامة مع احديداب خفيف، أبيض الشعر خفيفه، عتيق القسمات، يرتدي بدلة متهدلة من التيل السنجابي، والمرأة فوق الستين، امحت من صفحة وجهها أمارات الأنوثة وحل الجفاف والخشونة. على الأرض بينهما انطرحت خيمة مطوية، وتناثرت حلل نحاسية وآنية شاي وموقد غاز. خطر لي أنهما جاءا يمضيان يوما على شاطئ النيل تسلية عن الوحدة والكبر، فأشفقت على صفوهما من حصا المنحدر والقاذورات المتراكمة فوق أديمه. في اليوم التالي أدهشني أن أرى الاثنين بنفس موضع الأمس. وضاعف من دهشتي أن أراهما منهمكين في رفع الحصا وكنس القاذورات على مدى مسافة غير قصيرة من الشاطئ. ترى ما شأنهما؟ هل يبغيان إقامة طويلة؟ وتمهلت في السير ممعنا النظر. انتبها إلي فتطلعا نحوي بأعين متوجسة مرتابة ، فلم أر بدا من الإسراع في الخطو دفعا للحرج. هل داخلهما شك في نيتي؟ هل حسبا أنني أراقبهما من موقع مسئوليتي عن الشاطئ؟ شعرت نحوهما بالعطف والرثاء، وتمنيت على الله ألا يخيب لهما رجاء. في صباح اليوم الثالث رأيت الأرض قد خططت فأصبحت أحواضا متتابعة على هيئة مستطيلات، على حين ركب أسفل المنحدر شادوف لرفع المياه، وغير بعيد جلس الزوجان يحتسيان الشاي. ولما رأياني مقبلا رفعا رأسيهما نحوي في قلق فاق قلق الأمس. مررت مسرعا مشفقا متحاشيا التقاء الأعين. إنه الخوف عليه اللعنة. يطاردهما في مهجرهما الجديد ولا شك. وثمة سبب يمكن تخمينه رغم جهلي بتلك الأمور. إنهما يسيئان الظن بمسيرتي الصباحية، ويتوهمان أنها تدور من أجل مراقبتهما. كيف أعفيهما من جرعة النكد اليومية التي أصبحهما بها؟ لا غناء لي عن الطريق، ولكن بوسعي أن أتجاهلهما أو أشعرهما بذلك. ويوما بعد يوم أرى - بلحظ العين - المياه وهي تغمر الحقل، والخيمة وهي تنتصب في رشاقة. ويوما بعد يوم تغير وجه الأرض، فآذن بمولد حياة جديدة. ويوما بعد يوم ذرت القرون الخضراء كالأغاريد الخفيفة مبشرة بالبهجة المشرقة. تمنيت لو كان في قدرتهما أن ينشرا العمران في الشاطئ كله، ويريحا البصر من سوء مطلعه. ولم يكدر صفوي إلا إصرارهما على التوجس والحذر. حتى قررت يوما أن أحيي وأبتسم. وما كدت أفعل حتى لوح إلي العجوز بيده، وصعد نحوي حتى وقف أمامي، ثم سألني: حضرتك موظف؟
فأجبت بالإيجاب فعاد يسأل: في المحافظة؟
فقلت بوضوح: كلا، لا علاقة لي بالمحافظة ولا الداخلية ولا ما شاكل ذلك.
فصمت حائرا فقلت ضاحكا: لماذا تنظر إلي في ارتياب كأني عدو؟
فقال بنبرة اعترافية: أنا رجل عجوز على المعاش، كنت موظفا بالزراعة، أخلت الشرطة بيتنا الآيل للسقوط، فكرت في سكنى الشاطئ بدلا من المقابر! - فكرة جميلة. - المعاش قليل، قلت: أزرع لآكل لا لأتاجر. بعنا العفش القديم واشترينا ما يلزمنا كالخيمة والشادوف. - فعلت خيرا.
فتردد قليلا ثم قال: أعتقد أن هذا لا يسيء إلى أحد؟ - حسبك أنك جملت رقعة من الشاطئ القذر. - ولكني أخاف التعليمات والإجراءات.
فقلت بصدق: الحق أنه لا دراية لي بذلك.
وتمنيت له الخير ثم صافحته وذهبت. ولما هل الصيف قمت بإجازتي السنوية. وعدت من المصيف بعد شهر ونصف شهر لأواصل حياتي المألوفة. واستأنفت مسيرتي الصباحية، ولما اقتربت من شارع الجبلاية تذكرت - ربما لأول مرة - الرجل والمرأة. أقبلت نحو موضعهما تواقا للاستطلاع. ولكني لم أجد أثرا لهما ولا للحقل. رجع المنحدر إلى حاله القديمة من الخراب والقذارة. لا تفسير لذلك إلا أن مخاوف العجوز قد وقعت وتحققت. فاض قلبي بالأسى وأنا أتساءل عن مصير العجوزين. ورأيت جندي المرور على مبعدة يسيرة من المكان، فقصدته وتبادلنا التحية كعادتنا منذ سنوات. قلت له: كان هناك رجل وامرأة يزرعان الأرض.
فضحك الرجل قائلا: لم يدم الحال وسبحان من له الدوام، جاء شرطي ذات يوم للتحقيق، وقاد الرجل إلى القسم لعمل محضر مخالفة.
صمت مغتما متفكرا، فقال الجندي: أرض الحكومة ليست لكل من هب ودب، وجاء عمال، فاقتلعوا الزرع قبل أن ينضج، ولا علم لي بما حصل للرجل بعد ذلك.
انقبض صدري حزنا على آدم وحواء وحقلهما، وصحبتني ذكراهما زمنا حتى تلاشت في خضم الحياة اليومية.
مضى اليوم على ذاك التاريخ أكثر من عشرين عاما. أذكره أحيانا عند مروري بالموضع إياه.
أذكر الرجل والمرأة والحقل الأخضر الذي عصفت به التعليمات المقدسة.
فوق السحاب
أكابد الواقع، وهو يعاندني، يستوي في ذلك يومه وغده. لم أنل من عطايا الدهر إلا تكوين أسرة وإنجاب ذرية، وفي ذات الوقت عجزت عن إسعادها وبالتالي عن إسعاد نفسي. ولولا التطابق الفريد بين سوء حالي وسوء حال البلد ما فكرت في البلد، ولكنني وجدت أسرتي تعكس صورة البلد والبلد يعكس صورة أسرتي. كلتاهما يعاني من كثرة العدد وقلة الموارد واختلال التوازن بين الدخل والمنصرف وتكاثر الديون وتجهم المستقبل، غير أنني لم أخف عن ذوي حقيقة وضعنا، ولم أعد بشيء يفوق قدرتي. ولعجزي عن تحسين حالتي فضلا عن عجزي عن تحسين البلد غشيتني الكآبة وبادرني الشيب قبل الأوان. ولم أجد ما أروح به عن نفسي في خلوتي إلا الحلم، هو الذي شق لي طريقا جديدة، ويسر لي رزقا وافرا، وهيأ لي صحة وعافية وعلاقات إنسانية حميمة، ورفعني إلى عالم جديد، وحقيقة سامية، وعدل شامل، وتطلع باهر إلى عالم الغيب. وفي أتون المعركة بين الحقيقة والخيال طال ليل الشقاء وامتد، وانكمشت تحت الغطاء بكل جوارحي المرتعدة، فقلقت زوجي واقترحت أكثر من وصفة للعلاج، ولكني تمنيت النوم باعتباره المنقذ من الاضطراب والألم. ولم أنم ولم تهدأ الثائرة وأصابتني في الأعماق ضربة رادعة، مفاجأة وأي مفاجأة. وارتفعت في جو الغرفة كأني طير يطير في هدوء ووقار، ولبثت معلقا بسقفها، غير غائب عن خاطري ما خبرته من معلومات عن الهذيان والحمى. وأنظر فأرى جسدي مطروحا على الفراش، والجميع يتطلعون إليه من خلال دموع منهمرة. هي الحمى ولا شك، وكل ما تموج به الغرفة من حركات وأصوات تبدو لي خالية من أي معنى. دعوتهم إلى التزام الهدوء والصمت فلم يسمعوا. راقبتهم في سكينة كاملة، ومضى اهتمامي بما حل بهم يضعف ويتلاشى رويدا رويدا، ومنظرهم يغوص في العمق ويتضاءل حتى اختفى تماما. وامتد أمامي ممر طويل مجوف غائم الأرض والجدران يلوح في طرفه القصي نور رائق. أتقدم فيه بخطوات ثقيلة متعثرة، ومترنحا أحيانا، وبقلب يفتقد الأمان. وفي مستقر النور يلوح لي وجها أبي وأمي، يرمقانني بحنان، فأهرع نحوهما متخففا من مخاوفي. ثم أذكر حاجز الموت الذي يفصلهما عني، فأتوقف في حذر، وأهمس كالمعتذر: لعلي أحلم!
فيجيء صوتاهما معا كأنهما صوت واحد: بل تستيقظ.
ويقبلان نحوي في ثوبين من السحاب، ويتأبط كل منهما ذراعا، ويقولان: انتبه، أصبحت معنا بلا فاصل.
وقلت لنفسي: إن الحلم لا يكون بهذا الوضوح، وهمست: نعم، إني منتبه تماما. - هذا حسن. - ولكني أشعر في داخلي بكابوس ثقيل. - سينقشع عندما تبرأ من أخطائك.
قلت برجاء: سوف تساعدانني.
فقالا معا: بل تنتهي مهمتنا هنا، اعتمد على نفسك.
وتلاشيا في لحظة خاطفة، وسرعان ما وجدتني في عالمي الجديد. عالم جديد حقا لا أملك أسماء لمفرداته . مكان وليس بمكان، ضوء وليس بضوء، ألوان وليست بألوان، أشجار وليست بأشجار، بيوت وليست ببيوت. أرضه وسماؤه مغطاة بالسحب، مترام بلا حدود، بيوته من السحب أيضا ممتدة في صفوف متوازية تفصل بينها مسافات شاسعة، أشجاره هائلة، ألوانها جديدة تماما وذات تأثير عميق في الحواس. ويغمره ضوء ثابت هادئ جديد أيضا، فلا هو شفق ولا هو غسق. لأول وهلة خيل إلي أنني وحيد في وجود لا متناه. ولكن الوحشة لم تثقل علي طويلا ولم تدم. فهذا الوجود المحيط بي ينتفض بحياة غامضة. إنه حي وعاقل أيضا ويرنو إلي باهتمام، وكأنما يتساءل عما سأفعل. وفي البيوت أحياء منشغلة بشئونها، تترامى إلى أذني الباطنة تسبيحاتها. هل أطرق بابا لأسترشد بمن في الداخل؟ ولكن إذا كان والداي قد تخليا عني فكيف بالغرباء؟! لم يبق لي سوى أن أعتمد على نفسي، ولكن كيف أبدأ؟ وأين أتجه؟! ويقبل علي شخص جليل يرفل في ثوبه السحابي، ويطالعني بوجه آية في الإشراق والجاذبية. وبنظرة من عينيه أمرني أن أتبعه، حتى وقف أمام بيت وهو يقول: بيتك.
نظرت إلى بيتي بحب استطلاع فقال: انتظر، لن تدخل حتى تستحم.
فأشرت إلى قلبي قائلا: ثمة كابوس يجثم فوق صدري. - من أجل ذلك يجب أن تستحم أولا.
واندلعت فكرة في نفسي فقلت: أعتقد أن أمامي عملا متواصلا. - الطريق طويل، ومنازله كثيرة، وغايته ليس كمثلها شيء. - هل ترشدني ولو إلى الخطوة الأولى؟ - اعتمد على نفسك أولا وأخيرا.
وأخذ بيدي فقادني إلى بحيرة من نور في خميلة، وأمرني بإسلام نفسي إلى أمواج أنوارها. وصدعت بالأمر، فطفوت ثواني، ومضيت أغوص على مهل ودون توقف، حتى استقررت في أعماق أعماقها. وتسربت الأمواج إلى باطني فاجتاحته .. وانبسطت أمام ناظري سلسلة الهفوات والأخطاء التي كابدتها في حياتي الأولى. وكلما تطهرت من هفوة أو خطأ تلاشت مصحوبة بآلام متفاوتة، ويخف وزني بمقدار فأرتفع عن مستقري قليلا قليلا. وتواصل الاستحمام ساعات أو أياما أو أعواما، حتى طفوت فوق سطح البحيرة. وانتقلت إلى الأرض في خفة وانشراح، ودخلت بيتي، وارتديت ثوبي من السحاب الرائق. وقررت ألا أضيع وقتا بلا عمل، وفكرت وتأملت طويلا، ثم عزمت أخيرا على أن أبدأ بالهندسة لحاجة المسافر إلى إتقان الملاحة ورسم الخرائط. وانهمكت في العمل بعزيمة لا تعرف اللين أو التردد. وساعدني على ذلك جمال الجو وثباته، فهو معتدل دائما، لا يطرأ عليه ليل أو نهار، ولا تغيره الفصول. ولا تضعف المشكلات من قوة العزائم، ولا يعترينا الضجر أو اليأس. ومن صميم ذاتي ودون أي مساعدة من الخارج تراءى لي الطريق بطوله ومنازله؛ فاطمأن قلبي إلى اختياري الهندسة كمنطلق للعمل، وازداد شوقي إلى الغاية البعيدة التي راودت أحلامي الأرضية نفسها. غير أن طارقا طرق بابي فقطع علي العمل. دهشت حقا وأذنت له بالدخول، وإذا بها - هي هي - مقبلة نحوي بجمالها القديم، وسحرها النضير في ثوبها السحابي الجديد - ما تمالكت أن فتحت ذراعي فتلقيتها على صدري بحنان وشوق، وأنا أقول: ما كنت أتصور أننا سنجتمع مرة أخرى!
فقالت بصوتها العذب: وما أتصور أن نفترق بعد الآن.
فقلت بحماس: معا .. معا .. حتى منزل السجود.
ونظرت إلى عملي ثم تساءلت: بم تبدأ؟ - بالهندسة!
قالت بقلق: بدأت بالشعر.
وتبادلنا نظرة مترقبة. وهمست بأسى: لا نستطيع أن نمضي معا.
فتساءلت بحزن: هل نفترق باختيارنا بعد ما ذقنا من مرارة الفراق القديم؟ - لن نلتقي قبل الوصول إلى منزل الحب. - إنه بعيد في الطريق.
ولكننا سنبلغه على أي حال. - ألا تستطيع أن تفعل شيئا من أجلي؟ - لا يمكنني العمل إلا بالطريقة التي تناسبني، ولعلك أيضا كذلك؟ - نعم. - رغبتي مثل رغبتك أو أشد، ولكن لا حيلة لنا.
ولاذت بالصمت، فقلت بأسف: على أي حال؛ فاللقاء آت لا ريب فيه، ولا قيمة للزمن هنا.
ابتسمت ابتسامة لا تخلو من عتاب، وتراجعت على مهل حتى تلاشت. ولم أستسلم هذه المرة للحزن كما فعلت في عالمي الأول. وأشفقت من أن يصرفني الحزن عن العمل فضاعفت من اجتهادي وحماسي. ولم آبه لطول الطريق وكثرة مشكلاته. ولم أعد أخاف خيانة الزمن أو زحف الشيخوخة أو تهديد الموت. وإذا ببابي يدق مرة أخرى. توقعت بقلب خافق أن أرى وجهها، ولكن القادم كان رجلا جديدا غير المرشد الذي دلني على بيتي. قدم نفسه قائلا: أنا همزة الوصل بين هذا العالم والعالم القديم.
العالم القديم الذي نسيته تماما. وتطلعت إليه في تساؤل فقال: عطلت عملك، ولكنى أؤدي واجبي.
ثم بنبرة حيادية: ثمة من يناديك من أهل الأرض.
ماذا يريدون؟ وما شأني بهم؟ وكيف لا يدركون خطورة العمل الذي نكرس له حياتنا؟ وسألته: من الذي ينادي؟ - ابنك أحمد.
آه .. الذي غادر الدنيا وهو في بطن أمه. وخفق قلبي على رغمي، غير أني سألته: هل تنصحني بتلبية ندائه؟
فقال بحياد وأدب: لا شأن لي بذلك، اتخذ قرارك بنفسك.
نشب صراع في نفسي، ولكنني سرعان ما ملت إلى جانب مستسلما لهزيمة لم أتصورها من قبل. وهمست وأنا مثقل بشعور آثم: أرى أن ألبي النداء.
وفي الحال وجدتني أطلع على حجرة محكمة الإغلاق تسبح في شبه ظلام، تنبسط أمامي نصف دائرة من المقاعد يجلس فوقها نفر من الرجال بينهم ابني أحمد - عرفته ببصيرة داخلية - يتخذ مجلسه في الطرف الأيمن، على حين استلقى الوسيط على فراش يفصله عن الحاضرين ستارة شفافة. همست بنعومة: أحمد.
فانتفض قائلا: أبي؟! - نعم، أنا أبوك.
فسأل باهتمام ساخن: كيف حالك يا أبي؟ - الحمد لله. - كيف تجري الحياة عندكم؟ - لا لغة مشتركة تقرب واقعنا إليك، ولكن كل شيء حسن.
فقال وهو يتنهد: الحياة هنا تبدو قاسية لا تعد بخير. - عليكم أن تغيروها حتى تعد بكل خير. - ولكن كيف؟ - السؤال منك والجواب عندك، وكل يحيا قدر همته. - إنهم يتساءلون عما يخبئه لنا الغد؟ - الغد يعلمه الله، ويصنعه الإنسان. - ألا يمكن أن نأمل في معاونتك؟ - قد فعلت يا بني.
قال متشكيا: يتهمونني بأنني لا أحب إلا نفسي.
فقلت وأنا أهم بالذهاب: إنك لا تدري كيف تحب نفسك.
ورجعت إلى بيتي أسرع من البرق. وهناك غلبني شعور حاد بالأسف والندم. كيف هان علي أن أقطع عملي النبيل، وأن أنشغل بهموم الدنيا التافهة؟ وما أدري إلا والمرشد الوقور يطالعني بوجهه المشرق. تضاعف شعور بالذنب وقلت: أعترف بأنني أخطأت، ولكني سأكفر عن ذنبي بمضاعفة العمل!
لم يعر قولي أي اهتمام ولم تتغير نظرته الصافية. وكما جاء ذهب دون أن ينبس بكلمة، غير أنه خلف وراءه وردة لم أر مثلها من قبل، كبيرة الحجم، غزيرة الأوراق، فتانة اللون، ينتشر منها شذا طيب لم يصادفني شيء في مثل جماله وقوته. وخطر لي أنه لا يمكن أن تكون قد سقطت منه سهوا، بل إنه يقينا لم يحضر إلا ليهديها إلي، وغمرتني سعادة صافية، وقلت لنفسي: لا شك أن رحلتي - بخلاف ما توهمت - قد حازت الرضا.
الغابة المسكونة
مرارا وتكرارا يشيرون إلى الغابة ويقولون لي محذرين: لا تقترب منها فهي مسكونة بالعفاريت!
الغابة تقوم في الطرف الجنوبي من صحراء مولد النبي بالعباسية. تبدو من بعيد جبلا من الخضرة الداكنة متعدد الرءوس، طولها ثلاث محطات من محطات الترام، وعرضها قريب من ذلك، وقد يعبر سماءها دخان تحمله الرياح من المقلب الذي تحرق فيه الزبالة. ما نوع أشجارها الباسقة؟ وما معنى وجودها في ذلك المكان؟ من الذي زرعها؟ ولأي غرض زرعها؟ وصحراء مولد النبي هي ملعب الكرة لصبيان العباسية، تتسع للعديد من فرق الهواة يمارسون هوايتهم في وقت واحد. ولما نفرغ من مبارياتنا الودية نرتدي جلابيبنا فوق أردية اللعب المعروفة، ونرجع إلى الحي متجنبين الاقتراب من الغابة المسكونة. وجاوزت الصبا وولجت المراهقة وولعت بهوايات جديدة منها القراءة. وأشرقت على روحي استنارة تحفل بكل جديد وطريف. وتطايرت من رأسي ووجداني خرافات كثيرة، ولم أعد أومن بعفاريت الغابة، ولكني لم أستطع التحرر تماما من رواسب الخوف الكامنة في أعماقي. وكنت أخلو إلى نفسي كثيرا في الصحراء خاصة في العطلات الصيفية، أقرأ أو أتأمل أو أدخن السجائر بعيدا عن أعين الرقباء. وأرمي ببصري من بعيد إلى الغاية فأبتسم ساخرا من ذكرياتي، ولكني أمكث بعيدا وأمضي من بعيد. وأضيق بموقفي وأتحداه وأطرح على نفسي سؤالا: ألم يأن لك أن تكتشف الغابة؟
بعد حوار غير قصير، صممت على الإقدام والتنفيذ. ليكن في العصر والشمس طالعة، فالليل على أي حال غير مأمون. وكان مجلسي قريبا من محطة لضخ المياه يتحرك في فنائها مهندسون وعمال. حييت أحدهم مرة وسألته عن سر الغابة، فأخبرني بأنها تابعة للمحطة، وأنها زرعت قديما؛ استغلالا للمياه الفائضة، ولم تمتد أكثر من ذلك ليمكن إقامة الحفل السنوي بمولد الرسول. قلت لمحدثي: قالوا لنا: إنها مأوى للعفاريت.
فضحك الرجل قائلا: ما عفريت إلا ابن آدم.
ولأول مرة أمضي نحو الغابة. وقفت عند حافتها مستطلعا؛ فرأيت الأشجار الشامخة صفوفا منسقة كالطوابير، والعشب يغطي أرضها ويكسوها بخضرة غضة يانعة، وثمة قناة تشقها بالعرض تتفرع عنها جداول متلألئة، وتجاوب جوها بزقزقة العصافير، فبثت في الهواء عزفا وطربا. واستأنست بكل شيء فتقدمت غير هياب. لم أصادف إنسانا ولكني ثملت بالوحدة والسلام. قلت لنفسي: يا للخسارة! ضاع عمر هدرا، سامح الله الذين تصوروا أن تكون الجنة مأوى للعفاريت. وعند مركز الوسط تقريبا ترامت إلي ضحكة. الحق أن قلبي ارتجف، ولكن تلاشى خوفي في ثانية. لا ريب أنها ضحكة ابن آدم، تفحصت ما حولي بعناية. لمحت على مبعدة حلقة من الشبان، وسرعان ما تبين لي أنهم ليسوا بالغرباء، جيران أو زملاء بالمدرسة، اتجهت نحوهم وأنا أحمحم. تحولت الرءوس نحوي حتى سلمت ووقفت باسما. بعد صمت سألني أحدهم: أهلا، أي مصادفة سعيدة جاءت بك؟
فتساءلت ضاحكا: وماذا جاء بكم أنتم؟ - كما ترى، نتسامر أو نقرأ أو نتناقش! - منذ زمن طويل؟ - ليس قصيرا على أي حال.
قلت بعد تردد: يسرني أن أنضم إليكم لو سمحتم. - هل تحب القراءة والمناقشة؟ - أحبهما من كل قلبي. - تفضل إذا شئت.
منذ تلك اللحظة بدأت حياة جديدة، يمكن أن أطلق عليها حياة الغابة. طيلة العطلة الصيفية نمضي كل يوم ساعتين على الأقل في الحلقة. ومع زقزقة العصافير هبطت أفكار ورؤى. انتقلت الدنيا من حال إلى حال. ليس الأمر لهوا ولعبا ولا رياضة عقلية تمضي إلى حالها. إنها تشير إلى مسيرة ومغامرة وتجربة محفوفة بكافة الاحتمالات. وكان من عادتي أن أجالس أبوي بعد العشاء. نستمع إلى الفونوغراف، ونتبادل الحديث. وكنت قد احتفظت بسر الغابة فلم أطلع عليه أحدا. وكان أبواي آخر من أتصور أن أبوح لهما به. منذ زمن لا أذكر أوله استقرا في أعماق طمأنينة أبدية ونعما بسلام دائم. ولا يخرج أبي عن إطاره إلا إذا أغرته السياسة بأخبارها. يطيب له متابعة الأحداث والتعليق عليها. ويوما ختم حديثه بقوله: ما أكثر عجائب هذا البلد!
فاندفعت أقول له: العجائب لانهاية لها.
فحدجني بنظرة متسائلة فقلت: إليك بعض الآراء بما يدور في مجتمعنا.
وتكلمت بإيجاز وتركيز، فأنصت إلي ذاهلا ثم هتف: أعوذ بالله، ليس أصحاب هذه الآراء بآدميين، ولكنهم عفاريت!
عند ذاك أدركت أنني أصبحت من عفاريت الغابة المسكونة.
في المدينة
1
رزق بولد أول ما رزق. سعد بالمولود سعادة رجل يقدس الأسرة والإنجاب، ولا يعترف بالإنجاب إن لم يتوج بذكر. كان يقترب من أواسط العمر، ويستقر في دنيا النجاح كمحام نابه. والزواج كان تقليديا، بني على البحث والسؤال وحسن الاختيار، ثم جاءت العاطفة في حينها لتكمل البناء وتنمقه. غير أن إعصارا عصف بسعادته بلطمة واحدة. فيوما اصطحب زوجته إلى السينما، ولما رجعا إلى مسكنهما بالحدائق لم يجدا الوليد ولا الدادة. لم يكن من المألوف أن تخرج به ليلا، خاصة ليل الشتاء، فبدا الأمر مقلقا، وسأل الرجل الجيران والبواب فلم يظفر بما يطمئنه، وانتظر هو وزوجه على غير طائل، ثم ذهب أخيرا إلى القسم. أدلى بالأقوال المطلوبة عن الدادة والمخدم الذي جاء بها والطفل ذي العامين، ثم رجع إلى مسكنه مهيض الجناح مشتت العقل، ولم يغمض لهما جفن - هو وزوجه - حتى الصباح. وقامت الشرطة بتحريات واسعة، وتردد عليها أياما متواصلة، ولكن البحث لم يسفر عن نتيجة، ولم يعثر على أثر للطفل أو للدادة. أيقن أن ابنه قد سرق، لحساب الدادة من أجل أم عقيم، هل ما زال على قيد الحياة؟ وأي مرعى جديد يؤويه ويحتضنه؟ وتعكر صفو الزوجين، وكابدا آلاما مبرحة، لعلها أشد من آلام الموت نفسه الذي يؤلف في النهاية كقدر لا مفر منه. ولكن مرور الأيام دواء على أي حال، فسلم الرجل أمره لله وأذعن لمشيئته، وانهمك في عمله غارقا في هموم الحياة ومشكلاتها. وقد رزق بعد ذلك ببنات ثلاث، ولم يرزق بولد رغم اللهفة والحسرات، وظل عند مولد كل بنت يتذكر ابنه الضائع في خضم الحياة المصطخب. وتقدم في عمله من نجاح إلى نجاح حتى عد بين النخبة من رجال القانون والقلة من أثرياء أصحاب المهن. وشيد لأسرته فيلا في الهرم واقتنى سيارة مرسيدس، واستمتع بالجاه والصيت العريض، وتوج نجاحه بالمساهمة في الحياة السياسية، فتألق كنجم من نجوم المجتمع وقائد من قادة الفكر. ولم تمح ذكرى ابنه المفقود من ذاكرته. أجل لم يكن يذكره بصوت مسموع رحمة بأمه، ولكنه كان يستحضره في المناسبات، فيقول: لو بقي لي لكان اليوم يتأهب لامتحان الثانوية العامة، أو لكان اليوم يختم دراسته الجامعية، أو لربما كنا نحتفل بزواجه، ثم يتمنى على الله أن تهيئ بيئته الجديدة له الدفء والحب والفلاح. وفي أثناء ذلك تزوجت بناته، فانضم إلى الأسرة ثلاثة شبان في سن ابنه المفترضة أو قريبين منها، وصار له أحفاد من الذكور عوضوه عن فقده خيرا، ولكن عقدة الابن الذكر لم تفارقه، واقتضته إجراءات كثيرة؛ لحفظ إرثه في ذريته دون مشاركة أحد من إخوته الذين لم يكونوا في حاجة إلى ماله. وعاش في نظر الناس مثالا للنجاح والسعادة، وفي باطنه مثالا للسعادة الواقعية التي لا تخلو من حزن أو ألم.
2
أما الابن، فقد نشأ وترعرع في شقة صغيرة في بيت قديم بمصر القديمة. إنه يذكر تماما أمه الطيبة المحبة، كما يذكر أباه الكهل الذي كان يغادر البيت صباحا ويعود إليه مساء، كما يذكر شاربه الغليظ وعصاه وبدلته الأنيقة، حظي بحياة طيبة مريحة، وفي السادسة دخل المدرسة، ولم يجد في جو البيت الطيب ما يشجعه على الدراسة، وما لبث أن مات أبوه ولم يوفق في الدراسة، ثم ماتت أمه وهو في الثامنة. وجد نفسه وحيدا بلا أهل. ولم تتركه جارته لوحدته فدعته للبيات مع أولادها. واتفقت هي وزوجها مع صاحب البيت على إخلاء الشقة وبيع الأثاث، واقتضى العدل أن يحتفظا بالمال نظير إيواء الغلام والعناية به. ولكنه لم يحظ برقابة كافية فضاع مرة أخرى بين مسكنه الجديد والمدرسة حتى فصلته المدرسة. وتغيرت المعاملة مع الزمن؛ فما إن بلغ العاشرة حتى وجد نفسه يعمل خادما في البيت والسوق. ومن أول يوم كره عمله الجديد ورفضه ولكنه تحمله راغما. وأحيانا يتذكر حنان والديه فتدمع عيناه في وحدته. ويوما خرج للتسوق فوجد الشوارع تموج بالكبار والصغار، يصيحون في غضب، ويقذفون السيارات ومصابيح الشوارع بالطوب. روعه المنظر لأول وهلة ولكنه سرعان ما استجاب إليه بسرور خفي وشارك فيه. وفر في الوقت المناسب مصمما في الوقت نفسه على عدم العودة إلى مخدومته. هام على وجهه ولكنه التقى بكثير من الهائمين، وعند الضرورة تسول رزقه حتى عطف عليه منادي سيارات، فاستغله في التنظيف والحراسة نظير المأوى واللقمة. وكان الرجل رب أسرة وله أطفال دون سن العمل. وارتاح لعمله الجديد وسعد به، وعاش يومه كله في الهواء الطلق. ولما بلغ المراهقة وتدرب على عمله، قرر الرجل أن يختار له موقعا مستقلا نظير جعل يومي. قال له: إنها فرصة مليحة لا تتاح إلا لسعيد الحظ، ولا تتيسر إلا بالمال والفهلوة.
ولكي يضمن ولاءه زوجه من كبرى بناته، وهي عروس لا بأس بها شكلا وموضوعا، بالرغم من أنها عوراء، واتخذ مسكنه مع حميه مستقلا بحجرة منفردة، واستقبل حياة طيبة مثمرة.
3
طيلة ذلك العمر، جمعت مدينة واحدة بين الابن وأسرته الحقيقية، أبيه وأمه وأخواته. أما والداه الزائفان فقد نسيهما تماما، ولم يخطر له ببال أنه ابن شرعي لوالدين آخرين. ومرات كثيرة اخترقت سيارة الأب الشارع الذي يعمل فيه الابن، دون أن تقع عين أحدهما على الآخر. غير أنهما تقاربا مرتين فرأى الابن أباه، وثمة احتمال أن الأب أيضا رأى ابنه. الأولى وقعت عندما كان الابن ما يزال صبيا مساعدا لحميه؛ إذ ركن الأب سيارته المرسيدس في الموقف وتركها لموعد هام مع النائب العمومي. وقف الابن على مبعدة يسيرة ينتظر دوره في العمل، فرأى أباه وهو يغادر السيارة ويمضي لعبور الطريق. مرت عينا الرجل به فيما مرت بأشياء الطريق القائمة والمتحركة. أما الابن فقد راعه منظر الرجل بجلاله وأبهته فخلف في باطنه أثرا عميقا، وأقبل على تنظيف السيارة بحماس. ولمح وهو يجلي زجاج النافذة سيدة في الداخل فتنته فخامتها رغم كهولتها، ولكنها كانت مستغرقة في قراءة جريدة فلم تلتفت نحوه. الثانية تمت في سياق المعركة الانتخابية، فقد أقام الأستاذ سرادقا شعبيا ليوزع حلاوة المولد على الكادحين؛ لمناسبة حلول المولد النبوي قبيل الانتخابات. في ذلك الوقت، كان الابن قد استقل وتزوج. ووقف يتفرج دون أن يشترك مع الجالسين. جاء الأب متبوعا بنفر من أعوانه وراح يوزع علب الحلاوة بنفسه ويتقبل الدعاء. وتذكره الابن وانبهر به مرة أخرى، ولما فرغ الرجل من مهمته وغادر السرادق، اقترب الشاب منه مدفوعا بانجذابه وقال: هل أنبه السائق للحضور بالسيارة؟
ولكن أحد الأعوان كان قد بادر للقيام بالمهمة، فنظر الأب نحوه نظرة عابرة وقال: شكرا ولا داعي للإزعاج.
فصادف قوله من نفس الابن منتهى الرضا.
نامعلوم صفحہ