خطة بعيدة المدى
بالأمس تحديات الجوع والصعلكة، واليوم تحديات الثراء الفاحش. بيت عتيق بنصف مليون، خلق عصام البقلي من جديد، خلق من جديد وهو في السبعين من عمره. تملى صورته في المرآة القديمة. صورة بالية، تكالب عليها الزمن والجوع والحسرات. الوجه قالب من العظام البارزة والجلد المدبوغ الكريه، جبهة ضيقة غائرة وعينان ذابلتان ورموش قليلة باقية. أسنان سود بلا ضروس ولغد من التجاعيد. ماذا يبقى من الحياة بعد السبعين؟ ولكن بالرغم من كل شيء؛ فللثروة الهابطة سكرة لا تتبخر. أمور لا حصر لها يجب أن تنجز. المليونير عصام البقلي .. بعد الصعلوك المتسول عصام البقلي. كل من بقي على قيد الحياة من الأصدقاء القدامى هتف: «أما سمعتم بما حصل للبقلي؟» «ماذا حصل للصعلوك؟» .. «البيت القديم اشترته شركة من شركات الانفتاح بنصف مليون!» «نصف مليون!» «وكتاب الله». وينتشر الذهول ما بين السكاكيني والقبيسي والعباسية كإعصار. البيت كان يمتد بفنائه الواسع بشارع قشتمر، ورثه عن أمه، رحلت منذ عشر سنوات بعد أن حولها العمر إلى حطام، تعلقت بالحياة بإصرار حتى تهتكت الخيوط فهوت، لم يحزن عليها. عودته الحياة على ألا يحزن على شيء. لم يكن للأسرة إلا معاش أمه الصغير والمأوى، لم يحرز أي نجاح في المدرسة، لم يتعلم حرفة، لم يؤد عملا أبدا. صعلوك ضائع، قد يربح قروشا في النرد مع الغش بفضل تسامح الأصدقاء، أصدقاء كثيرون جادت بهم المدرسة والجوار على أيام الطفولة والصبا والشباب. في روحه خفة كفرت عن سيئات كثيرة وغفرت أخطاء، دائما يحظى بالعطف؛ لشدة بؤسه وانغلاق مستقبله. الأب كان موظفا بالبريد وأمه ورثت بيت قشتمر بطابقه الواحد الصغير وفنائه الواسع المهمل، فحق له أن يقول إنه ابن ناس طيبين، ولكنه سيئ الحظ. الحقيقة أنه كان بليدا تنبلا، وقليل الأدب فسرعان ما طرد من المدرسة. عاش حياته تقريبا في مقهى إيزيس مدينا أو مسددا دينه بالغش وكرم الأصدقاء. فكر صديقه المحامي عثمان القلة أن يلحقه بمكتبه الكائن بميدان الجيش فأبى؛ لأنه كان يكره العمل كره العمى. وفي وحدته عندما يغيب الأصدقاء في أعمالهم يمضي وقته في الكسل وأحلام اليقظة. يبتل ريقه بشيء من اليسر في مواسم الانتخابات والأفراح والمآتم. عاش دهره بفضل خفة روحه وكرم أصدقائه، واحترف التهريج، يغني ويرقص؛ ليفوز بأكلة فول أو قطعة بسبوسة أو نفسين حشيش، وظلت غرائزه مكبوتة جائعة مجنونة. بيت قشتمر لا يعرف من ألوان الطعام إلا الفول والطعمية والباذنجان والعدس والبصارة والنابت. أما أحلامه فتهيم دائما في وديان من الولائم الغامضة والجنس المكبوت، وكانت له أساطيره عن غراميات مع أرامل ومطلقات ومتزوجات أيضا، فلم يصدقه أحد ولم يكذبه أحد. طبع بصورة المتسول منذ شبابه الأول ببدلته المشتراة من سوق الكانتو وصلعته المبكرة وشحوبه الدائم. لم يصدق أساطيره أحد سوى مغامرة مع خادمة أرملة تكبره بعشر سنوات، سرعان ما انقلبت إلى شقاق ونزاع عندما تبين له أنها تروم الزواج منه. بل اشترطت أيضا أن يجد لنفسه عملا؛ لأن اليد البطالة نجسة، ووقع الانفصال من خلال معركة تبودلت فيها الضربات على الوجه والقفا. تلك كانت المغامرة الوحيدة الحقيقية، والتي شهدها جاره الأستاذ عثمان القلة فحدث في المقهى قائلا: فاتكم مشهد ولا السيرك، امرأة مثل زكيبة الفحم، فرشت الملاية لعزيزنا البقلي في فناء بيته الكريم، على مسمع ومرأى من أمه الكريمة المذهولة، ولم تفض المعركة إلا بطلوع الروح وتدخل أولاد الحلال، وسرعان ما نشبت معركة جديدة مع أمه.
عدا تلك التجربة الفاشلة جحظت عيناه من طول التطلع النهم إلى السائرات في الطريق، واحترق قلبه كما احترقت معدته من الجوع. ولم يجد إلا أمه ليصب عليها جام غضبه وإحباطه رغم حبها الشديد له، حب عجوز لابنها الوحيد، وكلما حثته على العمل أو الاستقامة سألها متحديا: متى ترحلين عن هذه الدنيا؟
فتقول باسمة: الله يسامحك، وماذا تفعل إذا انقطع عنك معاشي؟ - أبيع البيت. - لن تجد من يشتريه بأكثر من خمسمائة جنيه تبددها في شهرين، ثم تحترف الشحاذة.
لم يسمعها كلمة طيبة قط، ونصحه أصدقاؤه بتغيير سياسته معها؛ حتى لا يقتلها هما وكمدا ويعرض نفسه حقا للشحاذة، وذكروه بما قال الله وما قال الرسول، ولكن ضياعه اقتلع جذور الإيمان من قلبه المفعم بالجوع والحسرات، والتزم بموقفه الساخر الساخط من الأحداث التي تمر به كالمعارك الحزبية والحرب العالمية، بل دعا على الدنيا بالمزيد من الهلاك والفناء، وتمادى في السخرية والاستهتار. ويئست أمه منه تماما وسلمت أمرها لله، ويغلبها الأسى أحيانا فتسأله: لماذا تقابل حبي بالعقوق؟
فيقول ساخرا: من أسباب النحس في هذه الدنيا أن يمتد العمر بالبعض أكثر من الضروري!
ومضت تكاليف الحياة في صعود. هل ثمة مزيد من الحرمان؟ واقترح على أمه أن يسكن فردا أو أسرة في حجرة نومه، على أن ينام هو على الكنبة في حجرتها. فقالت المرأة في حيرة: نفتح بيتنا للأغراب؟!
فصاح بها: خير من الموت جوعا. - وألقى نظرة على فناء البيت وتمتم: كأنه ملعب كرة، ولكن لا خير فيه!
وجاءه سمسار بطالب ريفي فاستأجر حجرته بجنيه. وتندر الأصدقاء بالواقعة فقالوا: إن بيت قشتمر أصبح بنسيونا. وأطلقوا على أمه «مدام البقلي!» ولكن لم يكن يعتق نفسه من السخرية أمامهم، ويغني: وأيام تيجي على ابن الأصول ينذل.
واستهان بالغارات الجوية بخلاف الكثيرين، لم يستجب لزمارة الإنذار أبدا، ولم يغادر مجلسه بالمقهى ولا عرف طريق المخبأ. لا يهمه هذا، ما يهمه أن العمر يجري، وأنه يشارف الأربعين دون أن يهنأ بلقمة لذيذة أو امرأة جميلة. حتى الثورة لم يهتز لقيامها، وقال ساخرا: يبدو أن هذه الثورة ضدنا نحن أصحاب الأملاك!
نامعلوم صفحہ