فقالت بثقة: رائحة المسك أطيب الروائح. - من أين لك بها؟ - أهدانيها أحد زوار النزلاء. - هل يتردد على المصحة من زمن؟ - منذ أكثر من شهر، ألا تعجبك؟
فقلت متحفظا: هي مرتبطة في حياتي بذكريات غير سارة!
فقالت بمرح: فك الارتباط، وتناول إفطارك.
ونضب إعجابي بالممرضة وتبخر. ولعلها شعرت بذلك على نحو ما فتساءلت بجدية: هل فرغت من تسجيل المشكلات لآخذها إلى الدكتور؟
وفي الحال أعطيتها الورقة؛ لأتخلص منها في أقصر مدة. وجاءني الطبيب قبيل الظهر. دعاني إلى الجلوس أمامه واضعا الخوان بيننا، وألقى على ورقتي نظرة جديدة، وقال: أنت ترى أن مشكلة مصر الأولى تتركز في عدد السكان؟ - هي أم المشكلات كلها. - عظيم، أي حل تقترح لها؟ - يجب أن يهبط العدد إلى ما يتناسب مع الإمكانات المتاحة، فتحل جميع المشكلات دفعة واحدة. - وكيف نتخلص من الزائد؟ - بالهجرة الدائمة، وقتل الباقي بوسيلة رحيمة خالية من الألم! - يا لك من رجل رحيم! - كل عاقل يجب أن يعتبرني كذلك. - ومن حسن الحظ أنني عاقل .. والآن ننتقل إلى العالم، فأنت ترى أن الحرب النووية هي مشكلته الأولى؟ - نعم. - فكيف ترى العلاج؟ - أن تقوم الحرب وتقضي على العالم، وتخلصه من مخاوفه. - ولكن الإبادة ستلتهم المخاوف والخائفين معا. - أو يبقى نفر كالذين نجوا من الطوفان. - الحق أن تفكيرك لا يخلو من رحمة وكمال دائما!
وتبادلنا نظرة طويلة، ثم سألته بقلق: هل أستطيع أن أذهب الآن؟
فقال وهو يقوم تأهبا للذهاب: بيدك وحدك أن تذهب وقتما تشاء.
وفي الحال أعددت حقيبتي وذهبت. ذهبت أسوأ مما جئت، ولكن روح استهانة استحوذت علي، وأملت علي أن أمضي في حياتي دون اعتبار لأي شيء إلا الحياة نفسها. ونازعتني نفسي إلى لقاء الهانم التي لولا عطفها؛ لهلكت من زمن بعيد. وعند العصر أقبلت علي في ثوبها متلفعة بروب خفيف بنفسجي زادها جمالا وصفاء. جلسنا حول إبريق الشاي وهي تقول: لم يفتني شيء من أخبارك، وإني مسرورة بما سمعت.
فنظرت إليها بارتياب وقلت: تجربة المصحة تجربة غريبة، وفي جملتها غير سارة، وحتى هنا طاردتني رائحة المسك.
فابتسمت عن لآلئها، وقالت: الطبيب مرتاح ومتفائل، ويجب أن تطمئن إلى حكمه فهو ثقة علامة.
نامعلوم صفحہ