وكذلك نرى أنه بالرغم من اقتناع أولئك القوم بوجود الحياة الأخروية، بل بوجود حياة عظيمة قد ملئت بذكرها متون الأهرام، فإن هذه المتون نفسها تكشف لنا عن حالة الخوف من تلك الحياة، ذلك الخوف الذي كان يملأ قلوب سكان ذلك الشرق القديم، كلما تأملوا في أخطار عالم تلك الآخرة التي لم يكونوا يعرفونها ولم يسبق لهم أن جربوها، فإنه كان يعترض ذلك القادم الملكي مخاوف احتمال عدوان الآلهة عليه أينما ولى وجهه وهو ينظر في عرض البحر الشرقي، حيث كانت تزدحم بمخيلته آلاف الأخطار والمعارضات التي يكون من شأنها تكدير صفو تلك الصورة الجميلة التي كان يتخيلها في نعيم الحياة الأخروية، كما نجد في الشجاعة الجريئة التي يظهرها الملك مسحة قصصية، فإن الملك، وقد صار وحيدا في السماء، ينهض فجأة في شكل مارد هائل مدعيا السيادة على الآلهة أنفسهم، وبمواجهته المملكة السماوية يخاطب إله الشمس هكذا: «إني أعرف اسمك، إني لست جاهلا اسمك، فاسمك هو «غير المحدود»، واسم والدك هو «مالك العظمة»، واسم أمك «الرضى» وهي التي تحملك في كل صباح وستمنع ولادة «غير المحدود» في الأفق إذا منعت هذا الملك «بيبي» من المجيء إلى المكان الذي أمنت فيه.» فكان الملك باستعماله قوته السحرية بتلك الكيفية يجعل نفسه ملكا على العالم ويهدد بوقف شروق «ولادة» الشمس نفسها إذا حجز هو عند الباب العظيم لمملكة إله الشمس.
وهكذا يقترب الملك الراحل أخيرا من الشاطئ الشرقي «لبحيرة السوسن»، «وهذا الملك يجد المعظمين بسبب «تسلح أفواههم»
7
جالسين على شاطئ تلك البحيرة ... وهو مكان مورد الشرب لكل من صار معظما بسبب تسلح فمه.» ولكنهم عندئذ يعارضون القادم العتيد (أي الملك) فيجيبهم: «إني واحد من المبجلين بسبب فمه المسلح.» فيقولون للملك بيبي: «كيف حدث ذلك؟ وكيف وصلت إلى هذا المكان الأفخم ومن أي مكان؟» عندئذ يقول قارب الصباح: «إن «بيبي» قد أتى إلى هذا المكان الأفخم من مكان ما؛ لأن رمثي السماء هيئا لأجل «رع».» وعندما يقص الملك خبر عبوره الناجح كما قد عبر من قبله «رع» يصيح أهل السماوات مهللين بالفرح والسرور، وعندئذ ينزل فرعون معهم ويعيش عيشتهم ويجلس أمام القصر الذي يحكمون منه. وبعد ذلك يسمع الملك مرة أخرى صوتا منفردا يخرج من عالم الأموات معترضا الملك عندما ينزل ويمر بالأبواب العظيمة للسماء يقوده «جب»: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» فيجيبه صوت آخر: «إنه أتى من عند التاسوع المقدس الذي في السماء حتى يمكنه أن يشبعهم بالخبز.» ثم تعود المعارضة مرة ثانية: «هيا! من أين أنت آت يا ابن أبي؟» وعنذئذ يسمع الجواب: «إنه أتى من عند التاسوع المقدس الذي على الأرض ليمكنه أن يشبعهم بالخبز.» غير أن ذلك السائل لا يزال غير مقتنع بالجواب: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» «إنه أتى من قارب «زند زندر».» وبعد ذلك يسمع السائل لآخر مرة يسأل: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» «إنه آت من والدتيه هاتين الرخمتين ذواتي الشعر الطويل والثدي المتدلية، وهما اللتان يوجدان على جبل «سهسه»، لقد ضمتا ثدييهما حول فم الملك «بيبي» غير أنهما لم يفطماه ولن يفطماه إلى الأبد.» وبعد ذلك ينقطع الصوت المعارض ويدخل الفرعون مملكة السماء الأبدية.
الفصل السادس
المذهب الشمسي والآخرة السماوية
لقد تتبعنا ذلك الراحل الملكي أثناء مروره بالأبواب السماوية حيث كان ينتظر إعلان قدومه إلى إله الشمس الذي كان لا بد للملك أن يحاوره من الآن في مملكته، عند ذلك يرى حجاب الملك متسابقين لإعلان مقدمه: «إن رسلك يذهبون، ورسلك المسارعين يعدون، وحجابك يسرعون في سيرهم وهم يعلنون «رع» إنك قد أتيت يا هذا الملك بيبي.» ثم نسمع رسالتهم عندما يصيحون فيقول «سبهو»: «صه! تفرس أنه يأتي!» ثم يقول «سبهو»: «تفرس إن ابن رع يأتي! محبوب «رع» يأتي.» ثم تزدحم الآلهة عند الشاطئ. لقد وجد هذا الملك بيبي الآلهة واقفين مزملين في ملابسهم، وفي أقدامهم نعالهم البيضاء فيخلعون نعالهم البيضاء على الأرض ويلقون بملابسهم بعيدا ويقولون: «إن قلبنا لم يدخله الفرح حتى مجيئك.» ثم تستولي عليهم الرهبة عندما يسمعون نداء الحجاب ويشاهدون الملك يقترب منهم، فيقف «رع» أمام أبواب الأفق متكئا على صولجانه والآلهة من حوله، وعندئذ ينادي صوت الحاجب: «إن الآلهة صامتون أمامك، إن تاسوع الآلهة قد وضعوا أيديهم على أفواههم.»
إننا نحن أبناء الجيل القديم من أهل هذا العصر الحديث نشأنا نعتقد منذ صغرنا بوجود مملكة أخرى وراء السماوات تسكنها كائنات سماوية تعيش في نعيم مقيم، فمن ألذ الأمور لدينا أن نطلع على أقدم التأملات العقلية للإنسان، تلك التأملات التي صورت له حياة أخروية كالتي وصفناها، والواقع أننا نجد في متون الأهرام أقدم صور بقيت لنا عن هذه الآخرة السماوية؛ وهي آراء نشأت ونمت منذ خمسة آلاف سنة مضت، ولكنها تحملنا على أن نرى فيها الأساس الأصلي الذي نبع منه الاعتقاد بوجود مملكة فيها نعيم مقيم مقرها السماوات، ذلك الاعتقاد الذي لقنه لنا آباؤنا وأساتذتنا في طفولتنا.
والواقع أن السماء كان لها دائما التأثير العميق على عقول البشر، وأن ذلك الشعور بوجود سر خفي في السماء ذات القبة الزرقاء المكونة أرضها من السحب قد ترك أثره بشكل ما في الآداب القومية، من العصر الذي وجدت فيه تلك الصورة الرهيبة التي نشاهدها في متون الأهرام إلى زمن القصيدة الرائعة التي أبدعها خيال الشاعر الإنجليزي «شلي» وهو يتأمل جمال سحب الصيف.
ولقد وجد قدماء المصريين الذين نمت على أيديهم متون الأهرام أعظم السرور في تدوينهم تلك الصور، حيث نراهم يذكرون بتنميق وترديد ذلك النعيم المقيم الذي كان يلقاه ويتمتع به الملك وهو في حماية وصيانة وتكريم في مملكة إله الشمس السماوية، فكان خيالهم ينتقل بهم من منظر إلى منظر ومن صورة إلى صورة. ولما كان المجال الخيالي فسيحا أمام أفكارهم أمكن لخيالهم الانطلاق فيه دون أن يلقى ما يمانعه أو يعارضه، كنبات البردي لا يجد ما يعوقه عن الظهور بنفسه فوق الأرض، فكان خيالهم بسبب ذلك ينسج نسيجا معقدا ضم من الألوان ألف لون بحيث صار غير قابل للاندماج في وحدة منسجمة متماسكة متجانسة.
نامعلوم صفحہ