وكان أوضح طريق في نظر سكان ضفاف النيل لعبور «بحيرة السوسن» أن يركب الإنسان قارب العبور، وهذا ما يجده الملك المتوفى بين سيقان غاب شاطئ البحيرة، وملاحه واقف عند السكان يدفعه بسرعة، وكان على الملاح أن يلفت وجهه خلفه عند دفع القارب، ولذلك سمي «انظر إلى الخلف» أو «الناظر إلى الخلف»، وهو لا يتكلم إلا نادرا، وإنما يقف صامتا في انتظار راكبه. وما كان أكثر التوسلات والتضرعات اللينة التي يحاول بها الملك المنتظر تملق ذلك الملاح صاحب الوجه الملفوت، فنسمعه وهو يؤكد له تأكيدا قاطعا يدل على المكر والخداع فيقول له: «إن هذا الملك «بيبي»؛ هو راعي قطيعك والمشرف على حظيرة ماشيتك.» ولذلك كان من الضروري لمصلحة الملاح نفسه أن يعبر به في الحال. وقد يحضر الملك معه إناء سحريا لا يقوى الملاح على مقاومته، أو يقال للملاح بصفة قاطعة إن الملك طاهر من كل ذنب في السماء والأرض والجزيرة التي هم ذاهبون إليها، أو كان الملك يتقمص شكل القزم المهرج الذي كان يأخذ مكانه بين الراقصين أمام الملك في الدنيا ليسري بذلك عن قلبه أمام العرش العظيم. وكان حتما على الملاح إذن أن يعبر به سريعا إلى قصر «رع» وبلاطه ليسر بذلك إله الشمس. والواقع أن ذلك كله كان من المعلومات العامة الشائعة؛ إذ كان الملاح يخاطب بعد ذلك هكذا: «هذا ما سمعته في البيوت وما تعلمته في الطرقات في اليوم الذي طلب فيه هذا الملك بيبي للحياة.»
ونجد كذلك معارضة الملاح للقادم العتيد (المراد به الملك) فيقول له: «من أين أتيت؟» وعند ذلك كان حتما مقضيا على الملك أن يقيم الحجة على أنه من أصل ملكي، فإذا اتفق أن كان الملاح عنيدا رغم ما بذل معه من الجهد، وأبى أن يرسو بقاربه إلى الشاطئ؛ فإن الملك عندئذ يخاطب المجداف الذي في يده قائلا : «هيا أنت يا من في قبضة الملاح.» فإذا كانت كلماته قوية مستجابة فإن المجداف يأتي بالقارب إلى الملك.
وكان في مقدور ملاح عصر ما قبل التاريخ منذ أقدم العهود أن يعبر النيل على رمثين من الغاب مربوطين معا بإحكام جنبا لجنب كأنهما لفافتا دخان ضخمتين.
6
وقد صورت لنا أسطورة من أقدم الأساطير الخاصة بسياحة إله الشمس كيفية عبوره المياه السماوية على زوج من تلك الأرماث التي اتخذها إله الشمس لعبوره رغم سذاجتها وبساطتها، وصار استعمالها من الاعتقادات التي لا مناص منها، فلم يبق للاعتقاد باتباعها إلا نقل قوة استعمالها عن طريق التآلف من «رع» إلى فرعون المتوفى حتى يضمن الأخير لنفسه سياحة ناجحة كالتي قام بها إله الشمس. وهكذا نجد أن رمثي السماء قد هيئا للملك «وناس» ليعبر بهما إلى الأفق حتى يصل إلى «رع» كما هيئا «لرع» ليعبر بهما حتى يصل إلى الأفق.
ومن الجائز أن تخفق جميع تلك الحيل المتعددة التي تعمل لعبور البحر الشرقي، وحينئذ يكون محتما على الملك أن يسلم نفسه إلى الهواء حتى يصعد به إلى السماء، فيقول متكلم مختف للملك: «جناحاك منشوران مثل الصقر ذي الريش الكثيف، ومثل الباشق الذي يرى مساء يخترق القبة الزرقاء»، «إن الطائر يطير وهذا «الملك» بيبي يطير بعيدا عنكم أيها الأنام. إنه ليس من أهل الأرض، بل هو من أهل السماء ... هذا الملك «بيبي» يطير كسحابة في السماء مثل الطائر
Masthead . هذا الملك «بيبي» يصل إلى السماء على هيئة صقر، هذا الملك «بيبي» يصل إلى السماء مثل إله الأفق [حار أختي].» وكذلك يراه المتكلم مفلتا من أيدي الناس كما تفلت الإوزة البرية من يد الصائد الذي يقبض على ساقيها وتطير إلى السماء؛ «إن أطراف جناحيه هي أطراف جناحي إوزة عظيمة.» وبتلك الكيفية يطير كإوزة ويرفرف كما يرفرف الجعل، «ووجهه وجه صقر وجناحاه جناحا إوزة.» إن الملك «وناس» يرفرف بجناحيه كالطائر «زرت»
Zeret ، والهواء يحمله مرتفعا به إلى السماء. «إن الملك «وناس» يذهب إلى السماء! إن الملك وناس يذهب إلى السماء على الريح!» «إن سحب السماء قد حملته بعيدا، وهي تعظم الملك «وناس» عند «رع»»، «لقد صعد الملك على سحب المطر.» أو كان الكاهن يرى أشباحا غريبة في سحابة دخان البخور التي تتصاعد فوقه فيصيح قائلا: «إنه يصعد على دخان البخور العظيم.»
وكذلك رأى القوم في أشعة الشمس سلما إليها، هو تلك الأشعة المائلة المصوبة نحو الأرض من بعض فتحات في السحاب، وهذا السلم المشع أدلي من السماء لكي يصعد عليه الملك. «إن الملك «بيبي» قد وضع هذا الشعاع بمثابة سلم تحت قدميه، وصعد عليه الملك «بيبي» ليصل به إلى أمه وهي الصل الحي على رأس رع.» وكذلك تظهر أشعة الشمس الشاسعة التي تنحدر تجاه الأرض كأنها مصعد قد تخيله أولئك القوم القدامى، ولذلك يقولون: «إن الملك «وناس» يصعد على السلم الذي صنعه له والده «رع» [إله الشمس].» وكان منظر صعود الملك يدعو إلى إعجاب الآلهة، ولذلك يقولون: «ما أجملها من رؤية! وما ألذها من مشاهدة عندما يصعد هذا الإله (يقصدون الملك) إلى السماء؛ إذ يحمل هيبته على رأسه، وبجانبه الفزع منه، وتعاويذه السحرية موضوعة أمامه!» ثم تدعى الناس والآلهة معا بواسطة تعاويذ قوية التأثير ليرفعوا الملك: «أيها الرجال، وأيتها الآلهة، ضعوا أذرعتكم تحت الملك «بيبي»! ارفعوه، اصعدوا به إلى السماء كذراعي «شو» (الجو) اللتين وضعتا تحت السماء، وهو (أي «شو») يرفعها، إلى السماء! إلى السماء! إلى الكرسي العظيم بين الآلهة.»
غير أنه كان لا يزال محتملا أن أبواب المملكة السماوية قد لا تفتح للقادم العتيد، ومن أجل ذلك نجد تأكيدا مكررا بأن أبواب السماء المزدوجة مفتوحة أمام فرعون: «إن أبواب الأفق المزدوجة مفتوحة ومزاليجها مزاحة.» ونقابل هذا النداء دائما في متون الأهرام، ولا شك أن نفس الوسيلة التي فتحت الباب «لعلي بابا» والأربعين لصا - كما وردت في كتاب ألف ليلة وليلة - قد فتحت لغيره أبوابا كثيرة في الشرق القديم قبل أن تصير معروفة لنا نحن معشر العالم الغربي عن طريق قصة ألف ليلة وليلة بآلاف من السنين.
نامعلوم صفحہ