وهنا صمت الشيخ وأطرق برأسه، فدنوت منه وقلت له: ما بك يا سيدي؟ قال لي: إن هذه الذكرى تهيجني وتبعث شجوني وأحزاني، ولا أرى لك يا ولدي فائدة من ذكرها، فالحياة كما تعلم ذات لونين: أبيض وأسود، وأنتم معشر المتمدينين لا تحبون منها إلا لونها الأبيض، فلا أريد أن أنحرف بك إلى ما لا تحب من لونيها. قلت: قل يا سيدي فنحن أبناء الدموع والآلام، وسلائل البؤس والشقاء، وما لنا أن نبرأ من أصولنا وأعراقنا، أو نذهب في حياتنا مذهبا غير مذهب آبائنا وأجدادنا، وهل يطهر معدن النفس من أخلاطه وشوائبه وينقيه من أدرانه وأكداره غير تلك الألسن النارية التي تنبعث من صدور المتألمين وقلوب المحزونين؟ على أننا لا بد لنا أن نفهم الحياة كما خلقت خيرها وشرها، سعودها ونحوسها، ولا بد لنا حين ننظر إلى نصف الكرة الذي يقابل وجه الشمس أن نعلم أن نصفها الآخر مظلم قاتم، وأننا ونحن في ضوء النهار سيدور الفلك دورته فنصبح في ظلمة الليل البهيم.
فرفع رأسه واستمر في حديثه يقول: جاء الصباح فنهض بول من مضجعه القلق المضطرب ومشى في طريقه إلى كوخه، ومشيت وراءه أرقبه على البعد من حيث لا يشعر بمكاني، فلم يزل سائرا حتى لمح الخادمة «ماري» واقفة على رأس هضبة عالية تنظر جهة البحر، فذعر إذ رآها، وناداها: أين فرجيني يا ماري؟ فأطرقت برأسها وبكت، فجن جنونه، وعلم بما كان، وهرع إلى شاطئ البحر يعدو عدو الظليم؛ فلم ير أمامه على سطح الماء شيئا، وحدثه الناس هناك أن السفينة قد أقلعت قبيل الفجر، وأنها قد تجاوزت مدى البصر فلا سبيل إلى رؤيتها، فكر راجعا حتى وصل إلى ذلك الجبل العظيم الذي يسمونه جبل الاستكشاف، فارتقاه بأسرع من لمح البصر على وعورته وتشعب مسالكه حتى بلغ قمته العليا، وضرب الفضاء بنظره، لم ير في عرض البحر إلا نقطة سوداء صغيرة تتلاشى شيئا فشيئا ، فعلم أنها السفينة التي تحمل فرجيني، فاستمر نظره عالقا بها لا يفارقها حتى غابت عن عينيه، فظل واقفا حيث هو، ينظر حيث ينظر، كأنما يظن أنها لا تزال باقية في مكانها، وظل على ذلك ساعة حتى نشأت أمام عينيه سحابة سوداء حجبت عنه كل شيء، فلوى رأسه وانفجر باكيا، وأنشأ يعج عجيجا محزنا يرن في أجواف الغابات والأدغال، وتردد صداه أكناف الجبال، فصعدت درجات من الجبل حتى كنت منه بحيث يسمع صوتي، وظللت أناديه وأضرع إليه أن ينزل، فلم يفعل إلا بعد لأي، فتناولت يده وذهبت به إلى كوخه، فبكت أماه إذ رأتاه، وكانت صورته قد استحالت إلى أغرب صورة لبسها في حياته، وكأن بؤس الحياة جميعه قد تجمع واتخذ له مكانا بين حاجبيه، فظل ساعة صامتا لا يقول شيئا سوى أن يدور بطرفه ها هنا وها هنا كالذاهل المختبل، ثم أخذ يتكلم كأنما يحدث نفسه ويقول: لم لم ينبئوني بالساعة التي تسافر فيها لأقضي حق وداعها قبل أن تفارقني؟ إنهم لو فعلوا لما زدت شيئا على أن أدنو منها وأقبلها قبلة الوداع، ثم أقول لها: إن كنت تذكرين يا فرجيني أني أسأت إليك يوما من الأيام أو بدرت مني بادرة آلمتك وجرحت نفسك فاغفري لي ذنبي قبل أن تفارقيني، وإن كنت عزمت على أن تجعلي فراقك هذا الفراق الأخير الذي لا لقاء بعده، وأن تتخذي لك في المكان الذي تذهبين إليه أخا آخر غيري تمنحينه من عطفك وودك مثل ما كنت تمنحينني فأنت في حل من ذلك، وهنيئا لك ما تختارين وما تؤثرين، فلا تكن ذكراي سببا في تنغيص عيشك المقبل، وتكدير حياتك الجديدة، ثم أنصرف بعد ذلك لشأني، وقد هدأت نفسي وبرد غليلي، ولكنهم لم يشفقوا علي ولم يرحموني؛ لأنني ولد مسكين لا شأن لي في الحياة، بل لا مكان لي بين الأمكنة التي يجلس فيها ذوو الأصول والأنساب.
فدنت منه هيلين - وما بين القلوب قلب أكثر من قلبها لوعة وأسى - وتناولت يده وقالت له: كن رجلا يا بني كما كنت طول أيام حياتك، واعلم أننا ما كنا نعرف الساعة التي تسافر فيها فرجيني، فقد طرق بابنا بعد عودتنا إلى الكوخ وفي هدوء الليل وسكونه حاكم الجزيرة ووراءه أعوانه وجنوده وقال لنا: إن الريح قد اعتدلت، والسفينة على وشك السفر، فلتستعد الفتاة، فأبت فرجيني أن تسافر قبل أن تراك، وظلت تهتف باسمك وتناجيك وتبكي بكاء مرا، فلم يجد الحاكم بدا من أن يأمر رجاله بحملها، فاحتملوها إلى هودج كانوا قد أعدوه لها وساروا بها إلى شاطئ البحر وهي لا تنفك عن ذكرك والبكاء عليك، حتى أقلعت السفينة.
فرفع بول إليها نظره يردده بينها وبين أمه، ثم قال لهما: فتشا لكما الآن عن ولد غيري يدعوكما بأمه، ويحمل عنكما همومكما وآلامكما، فقدتماني إلى الأبد، ثم انفتل من مكانه مسرعا وخرج هائما على وجهه يمر بكل مكان كانت تجلس فيه فرجيني فيجلس فيه، وبكل شجرة كانت تستظل بظلها فيقف تحتها، وبكل جدول كانت تنام على ضفته فينام مكانها، وأخذ يخاطب الماشية التي يجدها في طريقه كأنها تعقل عنه ما يقول لها: مسكينة أنت أيتها السائمة الضعيفة، من ذا الذي يرحمك ويعطف عليك بعد صاحبتك، ويقول للطيور التي تغرد في أعشاشها: لا تنتظري بعد اليوم من يحمل إليك الطعام في حجره، والماء في يده، فقد سافرت فرجيني، ورأى الكلب «فيديل» سائرا في طريقه يسوف الترب ويشتمه، كأنما يفتش عن شيء ضاع منه، فقال له: فتش ما شئت فإنك لن تراها بعد اليوم، ورأى عنزا تتبعه حيث سار، فالتفت إليها وقال لها: أنا سائر وحدي، وليست فرجيني معي، فانصرفي لشأنك.
ولم يزل هذا شأنه حتى بلغ الصخرة التي جلس عليها معها ليلة الأمس، فارتقاها ورمى بنظره في الفضاء؛ حتى استقر في المكان الذي شاهد فيه تلك النقطة السوداء من البحر في الصباح، فلم يزل نظره عالقا به كأنما يظن أن السفينة لا تزال باقية فيه، وظل على ذلك ساعات طوالا.
وكنا نتبعه على البعد من حيث لا يشعر بمكاننا، ونترقب مذاهبه ومراميه ، ونرثي له مما به، وقد أصبحنا ولا شأن لنا غير رعايته وملاطفته، وتهوين خطبه عليه، وتسرية همومه وأحزانه، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، حتى استطعنا بعد لأي أن نعود به إلى الكوخ، واستطاع هو بعد مرور يومين كاملين لم يذق فيهما طعاما ولا شرابا أن يصيب شيئا من الطعام، فكان إذا جلس على المائدة خيل إليه أن فرجيني لا تزال بجانبه، فظل يحادثها ويلاطفها كما كان يفعل من قبل، ويضع بين يديها أصناف الطعام التي يعلم أنها تحبها، ثم لا يلبث أن ينتبه لنفسه فيطرق برأسه خجلا وحياء، وتظل عيناه تنهملان بالدموع ثم ينهض من مكانه وينصرف لشأنه.
وكان لا يعجبه من الأحاديث مثل الحديث عنها، ولا يطربه خطاب مثل خطاب هيلين حين تناديه: يا زوج ابنتي، أو يا صهري العزيز، فاستطاع الهدوء أن يجد شيئا فشيئا إلى نفسه سبيلا، فأخذ يجمع آثار فرجيني من جميع أماكنها ومظانها، فجمع طاقة من الزهر كان قد أهداها إليها قبل سفرها بيوم واحد، وعصابة حمراء كانت تعتصب بها في أيام الأعياد، وكأس الشاي التي كانت تشرب بها، وزجاجة العطر التي كانت تحفظها في صندوقها، ومشط الآبنوس الذي كانت تمشط به غدائرها، وأمثال ذلك من الأدوات والآنية؛ ووضعها في مكان واحد سماه «متحف فرجيني»، فكان يختلف إليها من حين إلى حين ليلثمها ويقبلها ويضمها إلى صدره كأنما هو يضم صاحبتها.
وما هي إلا أيام قلائل حتى عادت له تلك الروح العظيمة الشريفة التي كانت تملأ ما بين جنبيه، روح الرجولة والهمة والعزة والأنفة، فعز عليه أن يرى أميه وهما ضعيفتان منهوكتان تختلفان إلى المزرعة لمناظرتها والقيام عليها؛ فأخذ يحمل عنهما ذلك العبء شيئا فشيئا حتى استقل به، فعاد له جده ونشاطه، وأصبح العمل ملهاته الوحيدة التي يلجأ إليها من همومه وأحزانه، ويعتصم بها من وساوسه وبلابله.
وكان يأنس بي في ذلك الحين أنسا عظيما، ويقضي معي جميع أوقات فراغه؛ لأنني كنت أعزيه وأهون عليه همومه وآلامه، لا بالدموع والبكاء، كما كانت تفعل أماه، بل بالحديث والسمر، وسرد القصص، وضرب الأمثال، واستخراج العبر والعظات من مشاهد الكون ومناظره، فاقترح علي يوما من الأيام أن أعلمه الكتابة والقراءة، ولعله كان يضمر في نفسه أن يعرف السبيل إلى مراسلة فرجيني، فأعجبني مقترحه هذا، وأخذت أعلمه ما أراد، وأقسم لك يا ولدي أنني ما رأيت في حياتي ذهنا أحد ولا أمضى، ولا فطرة أقوم ولا أسلم من ذهن هذا الغلام وفطرته.
فقد استطاع بعد بضعة أشهر لا تزيد على تسعة أو عشرة أن يقرأ فصلا طويلا من كتاب أدبي بسيط، وأن يكتب مسودة رسالة لفرجيني.
نامعلوم صفحہ