نعم إنها ابنتك وأنت صاحبة الشأن فيها، ما ينازعك في ذلك منازع، ولكنني أنا أيضا أخوها وصديقها وعشيرها، فصلتي بها عظيمة جدا لا تفترق عن صلتك إلا قليلا، ولئن فرق بيني وبينها النسب فلقد جمعنا الحب والإخاء، والود والوفاء، والولادة في مهد واحد، والرضاع من ثدي واحد، وبكائي عليها إن مسها ألم، وبكاؤها علي إن نالني وصب، ومخاطرة كل منا بنفسه في سبيل صاحبه حتى يستنقذ حياته من يدي أجله أو يهلك دون ذلك، واشتركنا معا في الخير والشر، والنعيم والبؤس، والجوع والشبع، والري والظمأ، وخوض الأنهار، واجتياز القفار، وتسلق الجبال، ومقاساة الأهوال ، فكيف لي بالصبر على فراقها أو لها بالصبر على فراقي؟
أبعديها عني ما شئت، ولكنني سأتبعها وأترسم آثارها حيثما حلت من الأرض، فإن أبيتم إلا أن تقفوا في وجهي وتحولوا بيني وبين ركوب السفينة التي تحملها؛ خضت البحر وراءها خوضا، لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، فإن قدرت لي النجاة فذاك، أو لا، فحسبي منها أنها تلقي علي في الساعة الأخيرة من ساعات حياتي نظرة من نظراتها، وأن تذرف في سبيلي دمعة من مدامعها، فيكون شخصها آخر ما أرى من الأشياء، وصوتها آخر ما أسمع من الأصوات.
فاستعبرت هيلين وقالت: وماذا يكون حالنا من بعدك يا بول؟
قال: هل تظنون أنني أبقى من بعدها إنسانا تستطيعون أن تنتفعوا بي في شأن من شئونكم؟ أو أن يبقى لي من الفهم والإدراك ما يعينني على مأرب من مآرب هذه الحياة؟ إنها فكري وعقلي، وتصوري وإدراكي، وقوتي وعزيمتي، وحياتي من مبدئها إلى منتهاها، فإن أردتم أن تفقدوني إلى الأبد فأبعدوها عني، وودعوني الوداع الأخير قبل أن تودعوها.
ثم اختنق صوته بالبكاء وحاول أن يذرف دمعة واحدة يروح بها عن نفسه فلم يستطع، فارتعد جسمه، واستحال لونه، وشاعت نظراته، ولمعت عيناه، ولبس وجهه أغرب صورة لبسها في حياته، وظل يهذي ويقول: أيتها المرأة القاسية! لا متعك الله برؤية ابنتك بعد اليوم، ولا أعادها البحر إليك إلا جثة باردة طافية على أمواجه، ولا وقعت عيناك عليها إلا محمولة على الأيدي إلى مقرها الأخير، ولتكن ذكراها مبعث ألم دائم لك لا يفارقك حتى الموت.
ثم دار على نفسه دورة سريعة وسقط مغشيا عليه، فبكت هيلين ومرغريت، وبكيت أنا أيضا على جفاف دمعتي ونضوب مادة حياتي؛ لأنني أصبحت والدا لهذا الولد المسكين، وأي والد لا يستطيع أن يملك نفسه ومدامعه أمام دموع ولده المنهلة بين يديه، وظللت أقول في نفسي: ويل لك أيتها القارة المشؤمة، لا خلاص منك ولا نجاة من يدك أبد الدهر، فقد فرت منك تلك الأسرة المسكينة، ولجأت إلى أقصى مكان يمكن أن تناله يد في العالم، فما زلت بها ترسلين وراءها عقاربك واحدة بعد أخرى حتى أزعجتها من مستقرها، واستطعت بحفنة واحدة من الدنانير أن تفسدي عليها حياتها وتبددي ما اجتمع من أمرها، وأن تعيديها إلى حبائلك المنصوبة التي ظنت أنها قد أفلتت منها أبد الدهر، فوا شقاءك ووا شقاء العالم بك!
وهنا تقدمت نحوه فرجيني تمشي بخطوات خفيفة مختلسة حتى جلست إلى جانبه، وقد تلألأ وجهها بنور سماوي غريب، لا يشبه نور القمر، ولا نور الشمس، ولا نور أي كوكب من كواكب الأرض والسماء، بل هو مبعث ذاته، ومنبع نفسه وأكبت على أذنه تقول له: سواء بقيت هنا يا بول أو رحلت فإني أقسم لك بدموعي ودموعك، وآلامي وآلامك، وبما قدر لنا أن نلقاه في حياتنا من شقاء ولوعة أنني أكون لك ما حييت، ولا أكون لأحد غيرك، أقسم لك على ذلك بين يدي أمي وأمك، وبين يدي هذا الشيخ الصالح الجليل، فهم شهودي على ما أقول، والله من ورائهم محيط.
فكأنما صبت على جسمه سجلا من الزلال البارد، فانتفض ورأرأ بمقلتيه واستوى جالسا، وظل يدور بنظره حوله ثم أسلبت عيناه الدموع في هدوء وسكون، فاحتضنته أمه إلى صدرها، وبكت حتى امتزجت دموعه بدموعها، فهمست هيلين في أذني: إن الموقف مؤلم جدا، ولا صبر لي على مشاهدته، فتقدمت نحو بول وجذبت يده، وقلت له: هيا بنا يا ولدي إلى المنزل، وقد انتصف الليل، فمشى معي صامتا لا يقول شيئا ولا يلوي على شيء مما وراءه، حتى بلغنا مفترق الطريقين: طريقي إلى كوخي، وطريقه إلى كوخه، فقلت له: هل لك أن تترك أهلك الليلة يستريحون من آلامهم ومتاعبهم، وتذهب معي إلى كوخي لتبيت عندي ثم تعود في الصباح؟ وكن على ثقة أن فرجيني لا تسافر بعد اليوم، فقد عزمت غدا أن أكلم الحاكم في أمرها، والحاكم لا يرد لي رجاء، وما أحسب إلا أن الأمر سينتهي على ما تحب وترضى. فأسلم لي يده، فقدته كما تقاد السائمة البلهاء حتى وصلنا إلى المنزل . فقضى ليلته قلقا مروعا لا يذوق النوم إلا لماما حتى أصبح الصباح.
الفصل الثامن عشر
السفر
نامعلوم صفحہ