Explanation of Al-Mu'tamad in the Principles of Jurisprudence
شرح المعتمد في أصول الفقه
اصناف
/متن المنظومة/
-١- بسمِ الإلهِ مبدعِ الأَكْوانِ ... ثم لهُ الحمدُ على الإحسانِ
-٢- ثم الصلاةُ والسلامُ السرَّمدَي ... على النَّبيِّ المصُطفْى مُحَمَّدِ
-١- (بسم الإله) بدأ المصنف نظمه بالبسملة، وهي شعار الصالحين، وفي الحديث: «كل عمل لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» أي مقطوع الخير والبركة.
وتستحب التسمية قبل الشروع في كل مباح مطلقًا، وهي أكثر استحبابًا عند الشروع في الطاعات كذكر الله وطلب العلم ودخول المساجد.
(مبدع الأكوان) خالقها من العدم ومنشئها.
(ثم له الحمد على الإحسان) وثنى المصنف بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز واعترافًا بسابغ نعم الله وعظيم فضله وإحسانه.
وفي الحديث: «أمتي الحمادون لله على كل حال»
-٢- وثلَّث بذكر الصلاة على النبي ﷺ -لى الله عليه وسلم تبركًا (ثم الصلاة والسلام السرمدي) أي الدائم الذي لا ينقطع (على النبي المصطفى محمد)
وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قال:
«من صلى علي حين يصبح عشرًا، وحين يمسي عشرًا، أدركته شفاعتي يوم القيامة»
-٣- والآلِ والصحبِ الكرامِ البَررَةْ والتابعينَ الطاهرينَ الخيَرةْ
-٣- وأتبع المؤلف ذلك بالصلاة على آل النبي ﷺ -لى الله عليه وسلم (والآل) وآل النبي ﷺ على المرجح عند الشافعية هم بنو هاشم وبنو المطلب أولاد عبد مناف وهم الذين دخلوا مع رسول الله ص شعب أبي طالب، في فترة حصار قريش للنبي ص، وسائر بني هاشم وبني المطلب دخلوا في الإسلام راغبين، إلا ما كان من أمر أبي لهب وقد انقطع عقبه.
وفي تحديد آل النبي ﷺ: أقوال مشهورة نذكر منها:
-١- إن آل النبي ﷺ هم علي وفاطمة وحسن وحسين وأولادهم وهم الذين ورد ذكرهم في حديث (العبا) عن أم سلمة وتمامه: قالت نزلت هذه الآية ٣٣ الأحزاب في بيتي فدعا رسول الله ص عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: هؤلاء أهل بيتي وقرأ الآية وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خير. وقال القشيري: أدخلت رأسي في الكساء وقلت أنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم. أخرجه الترمذي وغيره وقال هذا حديث غريب
-٢ إن آل النبي ﷺ هم زوجاته الطاهرات، ويدل له ورود آية الصلاة على آل البيت ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا﴾ في سورة الأحزاب الآية -٣٣-، حيث وردت الآية في سياق الحديث عن زوجات النبي ﷺ.
-٣- إن آل النبي ﷺ هم الأتقياء من أمته ص، وقد أخرج الطيالسي عن أنس ﵁ أن رسول الله ص قال: «آل محمد كل تقي» .
-٤- إن آل النبي ﷺ هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهم الذين دخلوا مع النبي ﷺ في شعب أبي طالب وناصروه بأنفسهم وأموالهم، وهذا هو المختار عند الشافعية، وعليه فإن الصدقة لا تحل لبني هاشم ولا لبني المطلب.
وهذا القول من حيث المآل يشتمل على القول الأول والثاني، حيث لا يوجد للنبي ص اليوم نسل إلا من فاطمة ﵍.
/متن المنظومة/ -٤- وبعدُ فالعلمُ ذخيرةُ الفَتى ... وزادُهُ يومَ المعادِ إذْ أَتى -٥- ولن ينالَ منهُ غيَر بعضهِ ... ولو تقضَّى عمرُهُ بركضهِ -٤- (وبعد) كلمة تقال قبل الشروع في المقصود، وأول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، خطيب العرب في الجاهلية (فالعلم ذخيرة الفتى) أي زاد المرء ومعتمده في كل أمر يشرع فيه من أمور الدنيا وهو كذلك (وهو زاده يوم المعاد) يوم القيامة (إذ أتى) أي حين يحضر للحساب. -٥- (ولن ينال) أي طالب العلم (منه) أي من العلم (غير بعضه) أي لا يمكن تحصيل جميع العلوم (ولو تقضى عمره بركضه) أي مهما اجتهد في التحصيل وقد روي عن الإمام الشافعي قوله: كل شيء إذا أعطيته بعضك أعطاك كله إلا العلم فإنك لو أعطيته كلك لم يعطك إلا بعضه. والعلم في الإسلام أشرف الغايات وأغلاها ترحل في تحصيله الأنبياء كما علمنا الله سبحانه في قصة موسى والخضر، وكما أمر الله سبحانه النبي ﷺ: ﴿وقل ربي زدني علمًا﴾ والعلم في الإسلام غاية لا وسيلة وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: لو بلغني أن أجلي بعد ساعة لاخترت أن أمضيها في طلب العلم.
/متن المنظومة/ -٦- لذاكَ فابدأْ منْهُ بالأهَمِّ ... ولا تُبالي بالثَّنَا والذَّمِّ -٧- واعلم بأنَّ العلمَ نورٌ يقذفُ ... لكلِّ قلبٍ ذاكرٍ يُلُقَّفُ -٦- (لذاك) ولما كان العمر قصيرًا، والأجل غير معروف، نصح الناظم طالب العلم فقال (فابدأ منه بالأهم) ثم المهم (ولا تبالي بالثنا والذم) من الناس بل اجعل قصدك في تحصيل العلم رضا مولاك. وقد سُمِعَ الإمام الشافعي يقول: وددنا أن هذا العلم انتفعت به الناس ولم ينسب إلينا منه شيء. وقرأت على هامش كتاب رشحات عين الحياة، بخط شيخنا الشيخ أحمد كفتارو ما نصه: (أولًا نحسب حساب الله، وما سواه لا نرجوه ولا نخشاه) -٧- (واعلم) أيها السالك (بأن العلم نور يقذف) من الله ﷿ وقد سمى الله سبحانه القرآن الكريم علمًا فقال: ﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾ وسماه نورًا فقال: ﴿ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ فالعلم والنور صفتان للقرآن الكريم. (لكل قلب ذاكر يلقف) أي إنما يقذف الله هذا العلم لتلقفه القلوب الذاكرة المشرقة، وبهذا المعنى أثر عن الإمام الشافعي قوله:
/متن المنظومة/ شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نُور ... ونور الله لا يهدى لعاصي والغفلة عن الله حجاب يحول بين طالب العلم وبين تحصيل المعرفة، إذْ كلما كانت النفس أكثر صفاء وطمأنينة كلما تقبلت من العلم أبوابًا أكثر.
/متن المنظومة/ -٨- والناسُ كالأرضِ إذا أصابَها ... غيثٌ تفتَّحت لهُ أبوابُها -٩- فبعضُها تشربَّتْ قليلًا ... وبعضُها لَمْ تَستفِدْ فَتِيلًا -١٠- وبعضُها تفتَّحت سريعًا ... فتلكَ نالت خيَرهُ جمَيعًا -٨- (والناس) في انتفاعهم بالعلم مثلهم كمثل (الأرض إذا أصابها غيث) من السماء (تفتحت له أبوابها) فاستقبلت ماء السماء، فكانت على ثلاثة أصناف: -٩- الصنف الأول من الأراضي يصيبها الماء فتشرب منه قليلًا وتحفظ منه قليلًا فينتفع به الناس (وبعضها لم تستفد فتيلًا) قاحلة جدباء لا يفيدها ماء السماء إلا وحلًا وطينًا. -١٠- والصنف الثالث خصبة غزيرة، تفتحت لملاقاة الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا. فالماء واحد ينزل طاهرًا من السماء وإنما يتنوع حال الناس من الانتفاع به بحسب استعدادهم. والأبيات الثلاثة إشارة إلى ما أخرجه البخاري من رواية أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
/متن المنظومة/ -١١- والعلمُ في الإسلامِ نورُ اللهِ ... تنالهُ من بابِ حبِّ الله -١٢- فالأنبياءُ المخلصِوُن الُكمَّلُ ... من بابِ حبِّ الله قَدْ تكَمَّلوُا -١١- لا ينفعك العلم عن العمل في الإسلام، ولا يقبل علم عامل حتى يعمل بما يعلم، وفي الزُبَدْ: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذَّبٌ من قبل عُبَّادِ الوثن وكل من بغير علم يعملُ ... أعماله مردودة لا تقبلُ وكان السلف لا يطلقون اسم (عالم) إلا على من عظمت خشيته، وكثرت طاعاته، واشتهر صلاحه على قدر علم المرء يعظم خوفه ... فلا عالم إلا من الله خائف وعلوم الشرع علوم نظيفة طاهرة لا ينالها إلا من طهرت سريرته، وزكت نفسه، وعظمت محبته ولما حدثك عن سبيل تحصيل العلم الشريف، شرع يضرب لك الأمثال عن سلوك الأنبياء والأولياء في تلقي هذا العلم الشريف من باب الاستقامة والطاعة -١٢- والمخلِص (بالكسر) من أخلص قلبه لله، والمخلص (بالفتح) من استخلصه الله سبحانه واصطفاه فهو أرفع منزلة من الأول، غير أن الفريقين اشتركا في إخلاص التوجه إلى الله، وتصحيح المعاملة في ما بينهم وبين مولاهم سبحانه. وإنما تحصل لهم الكمال من باب الاشتغال بالله وحده الانقطاع عما سواه.
/متن المنظومة/ -١٣- فالطورُ والخليلُ والحجابُ ... والغارُ والمزمورُ والهضَابُ -١٤- مسالكُ الخلقِ لبابِ الحقَّ ... بها ينالُ القصدَ أهلُ الصِّدْقِ -١٣- لقد كان لكل نبي ولكل ولي معتكف يخلو به مع الله، وينقطع عن الأغيار، ومن استأنس بالله استوحش مما سواه، ففي جبل الطور كان موسى يخلو بربه سبحانه، وهو جبل موحش مقفر في قلب صحراء سيناء، غير أن موسى رآه عامرًا بالأنس لما كلمه ربه فيه، وقد بلغ شوق موسى إلى الله ﷿ وتعلقه به حدًا جعله ينسى شعب بني إسرائيل ويسرع إلى مناجاة الله في (الطور) حتى ذكره الله ﷿ بقومه ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾، ولم يسجل القرآن لموسى من مناجاة الطور إلا سؤالًا واحدًا: ﴿ربِّ أرني أنظر إليك﴾ الأعراف ٧ وذلك شأن كل مشتاق، وفي الحديث القدسي: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين» رواه الترمذي والدارمي. وأما (الخليل) فهي بلدة كان يعتكف فيها إبراهيم الخليل في فلسطين وقيل موضع في برزة بدمشق، وبها قبر ينسب إليه، وهو يعكس صورة ما بين الخليل وربه من تجليات وإشراق، حتى استحق أن يدعى خليل الله، وكان اشتغاله بالله ﷿ حبًا وشوقًا يشغله عن مسألته، وفي الخبر أن إبراهيم ﵇ لما قدم إلى النار، وكان قومه قد أوقدوا تحتها عشرة أيام، حتى عظم لهيبها، وكان الطير إذا طار فوقها سقط فيها مشويًا من شدة طول ألسنة اللهب فيها، فوضعوه في المنجنيق ودفعوه، فأتاه جبريل وهو في رمية المنجنيق فقال: يا إبراهيم. ألك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: سل ربك؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، ﴿قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ قال: المفسرون لو أن الله قال: يا نار كوني بردًا على إبراهيم لمات إبراهيم في جوفها من شدة البرد، ولكن قال: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. و(الحجاب) إشارة إلى قوله ﷿ في مريم ابنة عمران ﴿فاتخذت من دونهم حجابًا﴾ والمراد أن مريم ﵍ احتجبت عن قومها لتفرغ لعبادة الله، حتى طهرت نفسها وتزكت جوارحها، فأكرمها الله ﷿ بعيسى ابن مريم. و(الغار) إشارة إلى غار حراء، وهو الغار الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه قبل النبوة، وكانت قد حببت إليه الخلوة، فكان يخرج إلى الغار وهو كهف يتسع لرجل أو رجلين، في أعلى جبل أبي قبيس، يطل على مكة، يبلغه الفتى النشيط في نحو ساعة ونصف، ولا شك أن هذا الغار كان يمثل المدرسة التي تلقى فيها النبي ﷺ معارف النبوة، ونفحات العلم الإلهي. و(المزمور) إشارة إلى مزامير داود التي كان يتغنى بها في مناجاته لربه، وهي مجموعة من الأدعية والضراعات، كان يتغنى بها في جوف الليل، وهي تكشف لك عند تأملها، عن شفافية ما كان بين داود ومولاه من الشوق والحب. و(الهضاب) وهي إشارة إلى تلك الخلوات التي كان يلتزمها العابدون في انقطاعهم عن الأغيار. -١٤- (مسالك الخلق) أي هذه الخلوات التي كان يدخلها الأنبياء والأولياء، هي الدروب الصحيحة التي كانت تصلهم (لباب الحق) ﷾ (بها ينال القصد أهل الصدق) وشعار السالكين: (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي)
/متن المنظومة/ -١٥- بها قَضَوا أيّامَهُمْ فُرادى ... فاختصَّهم ربُّ الوَرى آحادًا -١٦- علَّمَهم منْ علْمِهِ اللَّدُنِّي ... فأصبحوا أربابَ كُلِّ فَنِّ -١٧- فكم عكفتَ في حراءٍ ذاكرًا ... وكم خلوتَ بالخليلِ صَابرًا -١٥- وفي تلك الخلوات كانت تمضي أيامهم بالقنوت والسجود، والعبادة والضراعة، تفيض عيونهم بالدمع شوقًا وحبًا، وتأنس أرواحهم بالله زلفًا وقربًا، فاصطفاهم الله سبحانه، وأفاض عليهم أنواره وبره. -١٦- والعلم اللدني إشارة إلى قوله ﷾ في الخضر ﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا﴾ والعلم اللدني ما يقذفه المولى سبحانه في قلب الذاكر من بركة ونور، يطمئن به قلبه، ويزداد به إيمانه، ويعظم به شوقه. وفي هذه الخلوات كان اتصال الأرض بالسماء، وكانت الأنبياء تتلقى الوحي في سكينة وجلال، فيعلمهم الله علم الأولين والآخرين. -١٧- وهذا التفات إلى طالب العلم ليصحح سلوكه على هدي الأنبياء، فيبدأ بتحصيل العلم من تصحيح المعاملة فيما بينه وبين الله، ويبحث عن (حراء) يغسل فيه قلبه ويزكي فيه نفسه، ويبحث عن (خليل) يطيل فيه استغراقه بالله، صابرًا على دوام الطاعة
/متن المنظومة/ -١٨- وكم عنِ الخلقِ احتجبتَ خاليًا ... وكم على الهضابِ سرتَ باكيًا -١٩- لكلِّ مُوسَى طورُ حبٍّ دائمُ ... وكلُّ عيسى في الحجابِ قائِمُ -١٨- وكم خلوت أيها السالك بربك، وكم بكيت بين يديه في الفلوات والقفار، وكم لهجت في ليلك ونهارك بذكره، فإن ذلك هو باب المعرفة ولله در الشاعر في قوله: أيها العاشق معنى حسننا ... مهرنا غال لمن يطلبنا جسد مضنى وروح في العنى ... وجفون لا تذوق الوسنا وفؤاد ليس فيه غيرنا ... وإذا ما شئت أدِّ الثمنا فعن الكونين كن منخلعًا ... وأزل ما بيننا مِن بيننا -١٩- المراد أن كل من يمشي على هدى موسى كليم الله ومنهجه، فإنه لا بد له من طور كطور موسى يخلو فيه بربه، وينقطع عن الخلق. وكل من يريد أن يحصل له من الوصال ما حصل لعيسى بن مريم، ولأمه العذراء البتول، فإنه لابد أن يدخل في الحجاب الذي دخلت فيه مريم منقطعة عن الخلق وهذا المنهج هو الذي ارتضاه السادة الصوفية وهم يرسمون للسالكين طريق الوصول إلى الله. وما أحسن ما قاله بهذا المعنى الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال: عطايانا سحائب مرسلات ... ولكن ما وجدنا السائلينا تجلي النور فوق الطور باق ... فهل بقي الكليم بطور سينا إن النبوة قد انقطعت بموت النبي ﷺ ولا ريب، وهذا من أركان الاعتقاد، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولكن ليس انقطاع النبوة والتشريع أذان بأن السماء أغلقت أبوابها في وجوه الأرض، وأن ثمرات العبادة التي يجدها العارفون في قلوبهم إشراقًا ونورًا قد حجبت عن العالمين، إذًا لقد حجَّرنا رحمة الله وفضله، والله أكرم من أن يمن بأنواره وبركاته على ولد يعقوب وأصحاب موسى وحواريي عيسى ثم يحجب هذه الأنوار عن أصحاب محمد وأمة محمد، والله أعدل من يمنح أنواره قومًا ويحجبها عن قوم آخرين، وهو القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ البقرة (١٨٦)
/متن المنظومة/ -٢٠- وذاكَ شأنُ طالبِ المعالي ... يواصِلُ النهارَ باللَّيالي -٢٠- وطالب العلم يسعى في تحصيل المعالي، وهذا لا يناله إلا من صدق في طلبه، وظهرت علامات صدقه على جوارحه ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ وفي الحديث أن النبي ﷺ لقي حارثة بن شراحيل فقال: كيف أصبحت يا حارثة قال مؤمنًا حقًا يا رسول الله. قال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وبأهل النار يتعاوون، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي. قال: عرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان. بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
/متن المنظومة/ -٢١- فهذِهِ الأصولُ والوقودُ ... وغيرُها القشورُ والقُيودُ -٢٢- فثمرٌ من غير قشرٍ يُتْلَفُ ... والقشرُ دونَ اللُّبِّ بيتٌ أَجْوَفُ -٢٣- وقيلَ إنَّ كلَّ مَنْ تَحققا ... مِنْ غيرِ شَرْعٍ إنَّما تَزَنْدَقا -٢٤- وكلُّ مَنْ بالشَّرعِ قَدْ تعمَّقَا ... بلا تحققٍ فذا تَفَسَّقا -٢١- ثم أشار إلى أن هذه الحقائق التي تتم بها تصفية القلب والجوارح، من الذكر والخلوة والمناجاة، إنما هي الأصل الذي يرتكز إليه سلوك طالب العلم، وتبنى عليه معرفته وشخصيته، وهي الوقود الذي يغذيه في العلم والدعوة، وما سوى هذا العلم الرباني السلوكي فهو قشور حافظة وقيود ضابطة. -٢٢- فالمعرفة بالله هي الثمرة التي يقصد العلم من أجلها، ولذلك درج العلماء على تسمية علم السلوك بـ (الحقيقة) وعلم اللسان بـ (الشريعة) وهذه التسمية متفقة مع منهج القرآن الكريم: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون﴾ التوبة (٩) فجعل الحذر والخوف من الله ثمرة وغاية للفقه والعلم. وقوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فجعل خشية الله ثمرة رئيسة من ثمرات العلم. غير أن هذه الثمرة لابد لها من قشور حافظة حتى لا يصيبها التلف، كما أن علم اللسان من غير سلوك إنما هو كالبيت الأجوف الخاوي، لا خير فيه ولا نفع منه. -٢٣، ٢٤- يشير إلى القول المشهور: (من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق) ومعنى ذلك أن من كثر علمه بالشرع ولم يتحقق بالعمل والالتزام بمضمون الشرع في سلوكه فقد فسق إذ لم يعمل بما علم. ومن اشتغل برعاية باطنه، وعظمت عبادته، وظهرت مكاشفاته، من غير أن يعرف الشرع ويميز ما يحل مما يحرم، فإنه يخشى عليه خطر الانحراف والوقوع في الزندقة.
/متن المنظومة/ والعلم علمانِ.. فعلمُ القلبِ ... حجتُنا يومَ لقاءِ الرَّبِّ وبعدَهُ علمُ اللِّسانِ فاعلمِ ... وذاكَ حجةٌ على ابنِ آدمِ -٢٥-٢٦- الأبيات إشارة إلى حديث: «العلم علمان: علم اللسان وهو حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب وذلك العلم النافع» وقد أخرجه أبو نعيم وابن شيبة والحكيم عن أنس والحسن. والمقصود أن العلم الشرعي مرتبط بالسلوك، وهذا ما يميزه عن سواه من العلوم فقد يكون المرء عالمًا بالقانون مثلًا رغم أنه لا يتقيد بأمره ونهيه على أن ذلك لا يغض من قدره كخبير قانوني. غير أن العلوم الشرعية تختلف تمامًا في هذا الجانب حيث لا يسمى عالمًا في عرف الشرع إلا من استقام على مراد الشرع بحاله وقاله. فعلم القلب يراد به أن يلاحظ العبد نور الله في قلبه فيشتغل بالذكر والمراقبة حتى يفتح الله عليه من فضله ونوره. وأما علم اللسان فالمراد به مطالعة النصوص والدراية بها، وملاحظة ما قاله العارفون. وفي هذا المعنى ما روي عن النبي ﷺ: «من ازداد علمًا ولم يزدد في الدنيا زهدًا لم يزدد من الله إلا بعدًا» رواه الديلمي في الفردوس عن علي كرَّم الله وجهه. لو كان بالعلم من دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
/متن المنظومة/ فحصِّنِ اللبابَ بالقُشُورِ ... وذا كمالُ الطَّالبِ الغَيُورِ وأجدَرُ العلومِ بالإتْقانِ ... فقهٌ مع الحديثِ والقرآنِ وهذهِ الثلاثُ ليسَتْ تُفهمُ ... بلا أصولِ الدِّينِ ليسَتْ تَعْلَمُ فكلُّ مَنْ وعاهُ بالإِتْقَانِ ... صارَ إِمامًا طيلةَ الزَّمانِ وجازَ أنْ يخوضَ في التَفْسيرِ ... والفِقْهِ والحديثِ والتَقْريرِ -٢٧- وهذا عود على بدء، والمراد أن الكمال لا يحصل إلا بعلم القلب واللسان جميعا، فعلم القلب هو الغذاء والزاد إلى الآخرة، وعلم اللسان كالحارس الناهض بحاجة السيد فكل منهما ضروري للآخر. -٢٨- ولما كان الزمان يقصر عن تحصيل العلوم جميعها فإن العاقل يختار الأهم فالمهم. وقد أفصح الإمام الشافعي ﵁ عن مراتب العلوم بقوله: كل العلوم عن القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين -٢٩- علم أصول الفقه يتناول بشكل رئيس مبحثين اثنين: مصادر الشريعة، وأصول (الاستنباط)، وبذلك فإنه يكون حاكمًا على علم الفقه موجهًا له، مبينا للسبيل التي يجب أن تتخذ في فهم الكتاب والسنة موضحًا سبيل الحق من سبيل الهالكين وبه تعلم أن المعرفة بالعلوم الثلاثة المذكورة: القرآن والسنة والفقه، متوقفة على معرفة علم الأصول كما حددها ورتبها أئمة هذا العلم من خيرة علماء السلف الصالحين. -٣٠٣١ فكل من أحاط بعلم أصول الفقه إحاطة تامة بدقائقه وحقائقه صار له الحق أن يدلي بدلوه مع الفقهاء في تقرير الأحكام والاستنباط من الكتاب والسنة. وقد أجمعوا أنه لا بد للمجتهد مطلقًا كان أو مقيدًا من معرفة تامة بعلم أصول الفقه.
/متن المنظومة/ وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري ... ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا ... وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد ... في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ ... وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ -٣٢-٣٣- ومثل المكثر من الفقه بلا أصول، كمثل الساعي في البرية ليلا بلا نور، وتاريخ العلم مليء بسيرة رجال كثر اطلاعهم على العلوم ولم تكن لهم موازين دقيقة فيما يتعلمون ويعلمون، فسرعان ما اشتطت آراؤهم، وزاغت أفكارهم فضلوا وأضلوا. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» -٣٤٣٥- الأبيات في بيان حكم المقلد. فالفتوى التي عليها جمهور الفقهاء أنه لا يحل له الاجتهاد حتى تكتمل عنده شرائطه وهي التي نفصلها في بحث الاجتهاد فيما بعد. وعليه فإنه يلزم المقلد أن لا يفتي إلاَّ بقول المشايخ المأذون لهم بالاجتهاد المطلق والمقيد كل في بابه، وعليه الرجوع إلى نصوصهم فيما نصوا عليه، والسكوت فيما لم ينصوا عليه. وهذا من فضل الله ﷿ على هذه الأمة، ولطفه بها.
/متن المنظومة/ إِذْ لو أبيحَ الاجتهادُ للبَشَرْ ... بلا أصولٍ ملأُوا الدُّنيا ضَرَرْ وعُطِّلَتْ شريعةُ القُرْآنِ ... وحَكَمَتْ شريعةُ الشَّيْطانِ فَمِنْ عظيمِ فَضْلِهِ عَلَينا ... ومِنْ جليلِ برِّهِ إِلَيْنا أنْ وضَعُوا قواعدَ الأُصُولِ ... وحدَّدُوا طرائقَ الوصُوُلِ سَدَّا على منافذِ الشَّيْطانِ ... حتَّى تسودَ شِرْعَةُ الفُرقانِ وهذهِ منظومةٌ صغيرَةْ ... حوتْ أصولَ فِقْهِنَا الشَّهيرَةْ -٣٦ فلو أن الاجتهاد كان مباحًا للناس بغير حساب ولا أصول لامتلأت الدنيا بالمفاسد، وصارت الأهواء دينًا يتبع. -٣٧-٣٨-٣٩-٤٠- لذلك (فمن عظيم فضله) ﷾ (علينا) أي على المؤمنين (ومن جليل بره) ﷾ (إلينا) أي مما شملنا به من فضله وإحسانه (أن وضعوا) أي وضع العلماء والمجتهدون (قواعد الأصول) وخصوصًا شرائط الاجتهاد (وحددوا طرائق الوصول) إلى رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام (سدًا على منافذ الشيطان) وبذلك فقد سدوا الأبواب على كل منفذ من منافذ الشيطان يتخذه للعبث بالشريعة وتعطيل الأحكام، وذلك كله (حتى تسود شرعة الفرقان) والفرقان اسم من أسماء القرآن العظيم. -٤١- (وهذه منظومة صغيرة) وهي نظم في نحو ست مائة ونيف وأربعين بيتًا بيت من بحر الرجز (حوت أصول فقهنا الشهيرة) من بحوث المصادر والمقاصد والدلالات وقد أعان الله ﷾ فنظمت هذه الأبيات قصدت فيها تبسيط هذا العلم الشريف لطلبة العلم ليكون بين أيديهم كالقواعد الناظمة قريبًا من القلوب سهلا على الألسنة
/متن المنظومة/ نَظمتُها بدايَةً لِلْمُجْتَهِدْ ... ورُمْتُها نِهاية للمقْتَصِدْ سَمَّيتُها منظومةَ المُعْتَمدِ ... على كتابِ شيخِنا مُحَمَّدِ -٤٢ وهي نافعة إن شاء الله لكل من المجتهد والمقتصد، فالمقتصد في هذا العلم الشريف له فيها كفاية وغناء، وهي تكون بإذن الله مقررًا دراسيًا يقرؤه طلبة العلم في المعاهد الشرعية، وكذلك فإنها مرحلة تدريب ضروري للمجتهد في أوله، ترسم طريق الاجتهاد على أصوله الصحيحة. وقد استعار الناظم هذه التسمية من العلامة الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه العظيم: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) -٤٣- وقد سميت المنظومة باسم (المعتمد في أصول الفقه) لأنني جمعت فيها أقوال الأئمة المعتمدين، ولم أتعرض لرأي المخالفين، ولو كان له وجه، وذلك لأن المقصود من المنظومة هذه ترسيخ قدم طالب العلم على سكة هذا العلم الشريف، ثم للجدل بعد ذلك اختصاص وأهل اختصاص. (على كتاب شيخنا محمد) وقد جريت في نظم قواعد الأصول على الترتيب الذي جرى عليه أستاذنا الدكتور: محمد الزحيلي وهو أستاذ أصول الفقه الإسلامي في كلية الدعوة الإسلامية، وكلية الشريعة بجامعة دمشق، وكتابه المسمى: أصول الفقه الإسلامي مقرر دراسي في كلية الشريعة بجامعة دمشق. والدكتور محمد الزحيلي من مواليد ١٩٤١ م في منطقة دير عطية من أعمال الشام في منتصف الطريق بين دمشق وحمص، سلك على العلامة الكبير الشيخ عبد القادر القصاب مؤسس النهضة العلمية في دير عطية، ثم ارتحل إلى الشام حيث تخرج بكلية الشريعة عام ١٩٧١ م والتحق بالأزهر الشريف ونال رتبة الدكتوراه في الفقه الإسلامي المقارن.
/متن المنظومة/ فأسألُ الرحمنَ أنْ يُتمِّما ... ويجعلَ الخيَر بها مُعمَّمًا وينزعُ الرياءَ عَنْ أَعمالِنا ... ويكتبَ الإخلاصَ في أَقْوالِنَا -٤٤- فأسأل الرحمن سؤال عبد واثق بفضله سبحانه (أن يتمما) أي يتمم فضله فيما ألهمنا إياه من خدمة العلم الشريف وأن (يجعل الخير بها) أي بهذه المنظومة (معممًا) في الناس يقرؤونها وينتفعون بها ويذكرونا بدعوة صالحة. -٤٥- (وينزع الرياء) عطف على الدعاء السابق أي أسأله أن ينزع الرياء والمفاخرة عن أعمالنا في مجال خدمة العلم الشريف (ويكتب الإخلاص في) أقوالنا ولا نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. والرياء آفة العمل الصالح وقد كان السلف رضوان الله عليهم يحذرون من الرياء أشد من حذرنا من الكفر. وكان الحسن البصري رضوان الله عليه يقول: إذا استطعت أن تعيش وتموت ولا يعرفك أحد فافعل، وما عليك ألا يعرفوك في الأرض إذا عرفك الله في السماء.
/متن المنظومة/ -٤- وبعدُ فالعلمُ ذخيرةُ الفَتى ... وزادُهُ يومَ المعادِ إذْ أَتى -٥- ولن ينالَ منهُ غيَر بعضهِ ... ولو تقضَّى عمرُهُ بركضهِ -٤- (وبعد) كلمة تقال قبل الشروع في المقصود، وأول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، خطيب العرب في الجاهلية (فالعلم ذخيرة الفتى) أي زاد المرء ومعتمده في كل أمر يشرع فيه من أمور الدنيا وهو كذلك (وهو زاده يوم المعاد) يوم القيامة (إذ أتى) أي حين يحضر للحساب. -٥- (ولن ينال) أي طالب العلم (منه) أي من العلم (غير بعضه) أي لا يمكن تحصيل جميع العلوم (ولو تقضى عمره بركضه) أي مهما اجتهد في التحصيل وقد روي عن الإمام الشافعي قوله: كل شيء إذا أعطيته بعضك أعطاك كله إلا العلم فإنك لو أعطيته كلك لم يعطك إلا بعضه. والعلم في الإسلام أشرف الغايات وأغلاها ترحل في تحصيله الأنبياء كما علمنا الله سبحانه في قصة موسى والخضر، وكما أمر الله سبحانه النبي ﷺ: ﴿وقل ربي زدني علمًا﴾ والعلم في الإسلام غاية لا وسيلة وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: لو بلغني أن أجلي بعد ساعة لاخترت أن أمضيها في طلب العلم.
/متن المنظومة/ -٦- لذاكَ فابدأْ منْهُ بالأهَمِّ ... ولا تُبالي بالثَّنَا والذَّمِّ -٧- واعلم بأنَّ العلمَ نورٌ يقذفُ ... لكلِّ قلبٍ ذاكرٍ يُلُقَّفُ -٦- (لذاك) ولما كان العمر قصيرًا، والأجل غير معروف، نصح الناظم طالب العلم فقال (فابدأ منه بالأهم) ثم المهم (ولا تبالي بالثنا والذم) من الناس بل اجعل قصدك في تحصيل العلم رضا مولاك. وقد سُمِعَ الإمام الشافعي يقول: وددنا أن هذا العلم انتفعت به الناس ولم ينسب إلينا منه شيء. وقرأت على هامش كتاب رشحات عين الحياة، بخط شيخنا الشيخ أحمد كفتارو ما نصه: (أولًا نحسب حساب الله، وما سواه لا نرجوه ولا نخشاه) -٧- (واعلم) أيها السالك (بأن العلم نور يقذف) من الله ﷿ وقد سمى الله سبحانه القرآن الكريم علمًا فقال: ﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾ وسماه نورًا فقال: ﴿ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ فالعلم والنور صفتان للقرآن الكريم. (لكل قلب ذاكر يلقف) أي إنما يقذف الله هذا العلم لتلقفه القلوب الذاكرة المشرقة، وبهذا المعنى أثر عن الإمام الشافعي قوله:
/متن المنظومة/ شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نُور ... ونور الله لا يهدى لعاصي والغفلة عن الله حجاب يحول بين طالب العلم وبين تحصيل المعرفة، إذْ كلما كانت النفس أكثر صفاء وطمأنينة كلما تقبلت من العلم أبوابًا أكثر.
/متن المنظومة/ -٨- والناسُ كالأرضِ إذا أصابَها ... غيثٌ تفتَّحت لهُ أبوابُها -٩- فبعضُها تشربَّتْ قليلًا ... وبعضُها لَمْ تَستفِدْ فَتِيلًا -١٠- وبعضُها تفتَّحت سريعًا ... فتلكَ نالت خيَرهُ جمَيعًا -٨- (والناس) في انتفاعهم بالعلم مثلهم كمثل (الأرض إذا أصابها غيث) من السماء (تفتحت له أبوابها) فاستقبلت ماء السماء، فكانت على ثلاثة أصناف: -٩- الصنف الأول من الأراضي يصيبها الماء فتشرب منه قليلًا وتحفظ منه قليلًا فينتفع به الناس (وبعضها لم تستفد فتيلًا) قاحلة جدباء لا يفيدها ماء السماء إلا وحلًا وطينًا. -١٠- والصنف الثالث خصبة غزيرة، تفتحت لملاقاة الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا. فالماء واحد ينزل طاهرًا من السماء وإنما يتنوع حال الناس من الانتفاع به بحسب استعدادهم. والأبيات الثلاثة إشارة إلى ما أخرجه البخاري من رواية أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
/متن المنظومة/ -١١- والعلمُ في الإسلامِ نورُ اللهِ ... تنالهُ من بابِ حبِّ الله -١٢- فالأنبياءُ المخلصِوُن الُكمَّلُ ... من بابِ حبِّ الله قَدْ تكَمَّلوُا -١١- لا ينفعك العلم عن العمل في الإسلام، ولا يقبل علم عامل حتى يعمل بما يعلم، وفي الزُبَدْ: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذَّبٌ من قبل عُبَّادِ الوثن وكل من بغير علم يعملُ ... أعماله مردودة لا تقبلُ وكان السلف لا يطلقون اسم (عالم) إلا على من عظمت خشيته، وكثرت طاعاته، واشتهر صلاحه على قدر علم المرء يعظم خوفه ... فلا عالم إلا من الله خائف وعلوم الشرع علوم نظيفة طاهرة لا ينالها إلا من طهرت سريرته، وزكت نفسه، وعظمت محبته ولما حدثك عن سبيل تحصيل العلم الشريف، شرع يضرب لك الأمثال عن سلوك الأنبياء والأولياء في تلقي هذا العلم الشريف من باب الاستقامة والطاعة -١٢- والمخلِص (بالكسر) من أخلص قلبه لله، والمخلص (بالفتح) من استخلصه الله سبحانه واصطفاه فهو أرفع منزلة من الأول، غير أن الفريقين اشتركا في إخلاص التوجه إلى الله، وتصحيح المعاملة في ما بينهم وبين مولاهم سبحانه. وإنما تحصل لهم الكمال من باب الاشتغال بالله وحده الانقطاع عما سواه.
/متن المنظومة/ -١٣- فالطورُ والخليلُ والحجابُ ... والغارُ والمزمورُ والهضَابُ -١٤- مسالكُ الخلقِ لبابِ الحقَّ ... بها ينالُ القصدَ أهلُ الصِّدْقِ -١٣- لقد كان لكل نبي ولكل ولي معتكف يخلو به مع الله، وينقطع عن الأغيار، ومن استأنس بالله استوحش مما سواه، ففي جبل الطور كان موسى يخلو بربه سبحانه، وهو جبل موحش مقفر في قلب صحراء سيناء، غير أن موسى رآه عامرًا بالأنس لما كلمه ربه فيه، وقد بلغ شوق موسى إلى الله ﷿ وتعلقه به حدًا جعله ينسى شعب بني إسرائيل ويسرع إلى مناجاة الله في (الطور) حتى ذكره الله ﷿ بقومه ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾، ولم يسجل القرآن لموسى من مناجاة الطور إلا سؤالًا واحدًا: ﴿ربِّ أرني أنظر إليك﴾ الأعراف ٧ وذلك شأن كل مشتاق، وفي الحديث القدسي: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين» رواه الترمذي والدارمي. وأما (الخليل) فهي بلدة كان يعتكف فيها إبراهيم الخليل في فلسطين وقيل موضع في برزة بدمشق، وبها قبر ينسب إليه، وهو يعكس صورة ما بين الخليل وربه من تجليات وإشراق، حتى استحق أن يدعى خليل الله، وكان اشتغاله بالله ﷿ حبًا وشوقًا يشغله عن مسألته، وفي الخبر أن إبراهيم ﵇ لما قدم إلى النار، وكان قومه قد أوقدوا تحتها عشرة أيام، حتى عظم لهيبها، وكان الطير إذا طار فوقها سقط فيها مشويًا من شدة طول ألسنة اللهب فيها، فوضعوه في المنجنيق ودفعوه، فأتاه جبريل وهو في رمية المنجنيق فقال: يا إبراهيم. ألك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: سل ربك؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، ﴿قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ قال: المفسرون لو أن الله قال: يا نار كوني بردًا على إبراهيم لمات إبراهيم في جوفها من شدة البرد، ولكن قال: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. و(الحجاب) إشارة إلى قوله ﷿ في مريم ابنة عمران ﴿فاتخذت من دونهم حجابًا﴾ والمراد أن مريم ﵍ احتجبت عن قومها لتفرغ لعبادة الله، حتى طهرت نفسها وتزكت جوارحها، فأكرمها الله ﷿ بعيسى ابن مريم. و(الغار) إشارة إلى غار حراء، وهو الغار الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه قبل النبوة، وكانت قد حببت إليه الخلوة، فكان يخرج إلى الغار وهو كهف يتسع لرجل أو رجلين، في أعلى جبل أبي قبيس، يطل على مكة، يبلغه الفتى النشيط في نحو ساعة ونصف، ولا شك أن هذا الغار كان يمثل المدرسة التي تلقى فيها النبي ﷺ معارف النبوة، ونفحات العلم الإلهي. و(المزمور) إشارة إلى مزامير داود التي كان يتغنى بها في مناجاته لربه، وهي مجموعة من الأدعية والضراعات، كان يتغنى بها في جوف الليل، وهي تكشف لك عند تأملها، عن شفافية ما كان بين داود ومولاه من الشوق والحب. و(الهضاب) وهي إشارة إلى تلك الخلوات التي كان يلتزمها العابدون في انقطاعهم عن الأغيار. -١٤- (مسالك الخلق) أي هذه الخلوات التي كان يدخلها الأنبياء والأولياء، هي الدروب الصحيحة التي كانت تصلهم (لباب الحق) ﷾ (بها ينال القصد أهل الصدق) وشعار السالكين: (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي)
/متن المنظومة/ -١٥- بها قَضَوا أيّامَهُمْ فُرادى ... فاختصَّهم ربُّ الوَرى آحادًا -١٦- علَّمَهم منْ علْمِهِ اللَّدُنِّي ... فأصبحوا أربابَ كُلِّ فَنِّ -١٧- فكم عكفتَ في حراءٍ ذاكرًا ... وكم خلوتَ بالخليلِ صَابرًا -١٥- وفي تلك الخلوات كانت تمضي أيامهم بالقنوت والسجود، والعبادة والضراعة، تفيض عيونهم بالدمع شوقًا وحبًا، وتأنس أرواحهم بالله زلفًا وقربًا، فاصطفاهم الله سبحانه، وأفاض عليهم أنواره وبره. -١٦- والعلم اللدني إشارة إلى قوله ﷾ في الخضر ﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا﴾ والعلم اللدني ما يقذفه المولى سبحانه في قلب الذاكر من بركة ونور، يطمئن به قلبه، ويزداد به إيمانه، ويعظم به شوقه. وفي هذه الخلوات كان اتصال الأرض بالسماء، وكانت الأنبياء تتلقى الوحي في سكينة وجلال، فيعلمهم الله علم الأولين والآخرين. -١٧- وهذا التفات إلى طالب العلم ليصحح سلوكه على هدي الأنبياء، فيبدأ بتحصيل العلم من تصحيح المعاملة فيما بينه وبين الله، ويبحث عن (حراء) يغسل فيه قلبه ويزكي فيه نفسه، ويبحث عن (خليل) يطيل فيه استغراقه بالله، صابرًا على دوام الطاعة
/متن المنظومة/ -١٨- وكم عنِ الخلقِ احتجبتَ خاليًا ... وكم على الهضابِ سرتَ باكيًا -١٩- لكلِّ مُوسَى طورُ حبٍّ دائمُ ... وكلُّ عيسى في الحجابِ قائِمُ -١٨- وكم خلوت أيها السالك بربك، وكم بكيت بين يديه في الفلوات والقفار، وكم لهجت في ليلك ونهارك بذكره، فإن ذلك هو باب المعرفة ولله در الشاعر في قوله: أيها العاشق معنى حسننا ... مهرنا غال لمن يطلبنا جسد مضنى وروح في العنى ... وجفون لا تذوق الوسنا وفؤاد ليس فيه غيرنا ... وإذا ما شئت أدِّ الثمنا فعن الكونين كن منخلعًا ... وأزل ما بيننا مِن بيننا -١٩- المراد أن كل من يمشي على هدى موسى كليم الله ومنهجه، فإنه لا بد له من طور كطور موسى يخلو فيه بربه، وينقطع عن الخلق. وكل من يريد أن يحصل له من الوصال ما حصل لعيسى بن مريم، ولأمه العذراء البتول، فإنه لابد أن يدخل في الحجاب الذي دخلت فيه مريم منقطعة عن الخلق وهذا المنهج هو الذي ارتضاه السادة الصوفية وهم يرسمون للسالكين طريق الوصول إلى الله. وما أحسن ما قاله بهذا المعنى الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال: عطايانا سحائب مرسلات ... ولكن ما وجدنا السائلينا تجلي النور فوق الطور باق ... فهل بقي الكليم بطور سينا إن النبوة قد انقطعت بموت النبي ﷺ ولا ريب، وهذا من أركان الاعتقاد، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولكن ليس انقطاع النبوة والتشريع أذان بأن السماء أغلقت أبوابها في وجوه الأرض، وأن ثمرات العبادة التي يجدها العارفون في قلوبهم إشراقًا ونورًا قد حجبت عن العالمين، إذًا لقد حجَّرنا رحمة الله وفضله، والله أكرم من أن يمن بأنواره وبركاته على ولد يعقوب وأصحاب موسى وحواريي عيسى ثم يحجب هذه الأنوار عن أصحاب محمد وأمة محمد، والله أعدل من يمنح أنواره قومًا ويحجبها عن قوم آخرين، وهو القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ البقرة (١٨٦)
/متن المنظومة/ -٢٠- وذاكَ شأنُ طالبِ المعالي ... يواصِلُ النهارَ باللَّيالي -٢٠- وطالب العلم يسعى في تحصيل المعالي، وهذا لا يناله إلا من صدق في طلبه، وظهرت علامات صدقه على جوارحه ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ وفي الحديث أن النبي ﷺ لقي حارثة بن شراحيل فقال: كيف أصبحت يا حارثة قال مؤمنًا حقًا يا رسول الله. قال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وبأهل النار يتعاوون، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي. قال: عرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان. بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
/متن المنظومة/ -٢١- فهذِهِ الأصولُ والوقودُ ... وغيرُها القشورُ والقُيودُ -٢٢- فثمرٌ من غير قشرٍ يُتْلَفُ ... والقشرُ دونَ اللُّبِّ بيتٌ أَجْوَفُ -٢٣- وقيلَ إنَّ كلَّ مَنْ تَحققا ... مِنْ غيرِ شَرْعٍ إنَّما تَزَنْدَقا -٢٤- وكلُّ مَنْ بالشَّرعِ قَدْ تعمَّقَا ... بلا تحققٍ فذا تَفَسَّقا -٢١- ثم أشار إلى أن هذه الحقائق التي تتم بها تصفية القلب والجوارح، من الذكر والخلوة والمناجاة، إنما هي الأصل الذي يرتكز إليه سلوك طالب العلم، وتبنى عليه معرفته وشخصيته، وهي الوقود الذي يغذيه في العلم والدعوة، وما سوى هذا العلم الرباني السلوكي فهو قشور حافظة وقيود ضابطة. -٢٢- فالمعرفة بالله هي الثمرة التي يقصد العلم من أجلها، ولذلك درج العلماء على تسمية علم السلوك بـ (الحقيقة) وعلم اللسان بـ (الشريعة) وهذه التسمية متفقة مع منهج القرآن الكريم: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون﴾ التوبة (٩) فجعل الحذر والخوف من الله ثمرة وغاية للفقه والعلم. وقوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فجعل خشية الله ثمرة رئيسة من ثمرات العلم. غير أن هذه الثمرة لابد لها من قشور حافظة حتى لا يصيبها التلف، كما أن علم اللسان من غير سلوك إنما هو كالبيت الأجوف الخاوي، لا خير فيه ولا نفع منه. -٢٣، ٢٤- يشير إلى القول المشهور: (من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق) ومعنى ذلك أن من كثر علمه بالشرع ولم يتحقق بالعمل والالتزام بمضمون الشرع في سلوكه فقد فسق إذ لم يعمل بما علم. ومن اشتغل برعاية باطنه، وعظمت عبادته، وظهرت مكاشفاته، من غير أن يعرف الشرع ويميز ما يحل مما يحرم، فإنه يخشى عليه خطر الانحراف والوقوع في الزندقة.
/متن المنظومة/ والعلم علمانِ.. فعلمُ القلبِ ... حجتُنا يومَ لقاءِ الرَّبِّ وبعدَهُ علمُ اللِّسانِ فاعلمِ ... وذاكَ حجةٌ على ابنِ آدمِ -٢٥-٢٦- الأبيات إشارة إلى حديث: «العلم علمان: علم اللسان وهو حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب وذلك العلم النافع» وقد أخرجه أبو نعيم وابن شيبة والحكيم عن أنس والحسن. والمقصود أن العلم الشرعي مرتبط بالسلوك، وهذا ما يميزه عن سواه من العلوم فقد يكون المرء عالمًا بالقانون مثلًا رغم أنه لا يتقيد بأمره ونهيه على أن ذلك لا يغض من قدره كخبير قانوني. غير أن العلوم الشرعية تختلف تمامًا في هذا الجانب حيث لا يسمى عالمًا في عرف الشرع إلا من استقام على مراد الشرع بحاله وقاله. فعلم القلب يراد به أن يلاحظ العبد نور الله في قلبه فيشتغل بالذكر والمراقبة حتى يفتح الله عليه من فضله ونوره. وأما علم اللسان فالمراد به مطالعة النصوص والدراية بها، وملاحظة ما قاله العارفون. وفي هذا المعنى ما روي عن النبي ﷺ: «من ازداد علمًا ولم يزدد في الدنيا زهدًا لم يزدد من الله إلا بعدًا» رواه الديلمي في الفردوس عن علي كرَّم الله وجهه. لو كان بالعلم من دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
/متن المنظومة/ فحصِّنِ اللبابَ بالقُشُورِ ... وذا كمالُ الطَّالبِ الغَيُورِ وأجدَرُ العلومِ بالإتْقانِ ... فقهٌ مع الحديثِ والقرآنِ وهذهِ الثلاثُ ليسَتْ تُفهمُ ... بلا أصولِ الدِّينِ ليسَتْ تَعْلَمُ فكلُّ مَنْ وعاهُ بالإِتْقَانِ ... صارَ إِمامًا طيلةَ الزَّمانِ وجازَ أنْ يخوضَ في التَفْسيرِ ... والفِقْهِ والحديثِ والتَقْريرِ -٢٧- وهذا عود على بدء، والمراد أن الكمال لا يحصل إلا بعلم القلب واللسان جميعا، فعلم القلب هو الغذاء والزاد إلى الآخرة، وعلم اللسان كالحارس الناهض بحاجة السيد فكل منهما ضروري للآخر. -٢٨- ولما كان الزمان يقصر عن تحصيل العلوم جميعها فإن العاقل يختار الأهم فالمهم. وقد أفصح الإمام الشافعي ﵁ عن مراتب العلوم بقوله: كل العلوم عن القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين -٢٩- علم أصول الفقه يتناول بشكل رئيس مبحثين اثنين: مصادر الشريعة، وأصول (الاستنباط)، وبذلك فإنه يكون حاكمًا على علم الفقه موجهًا له، مبينا للسبيل التي يجب أن تتخذ في فهم الكتاب والسنة موضحًا سبيل الحق من سبيل الهالكين وبه تعلم أن المعرفة بالعلوم الثلاثة المذكورة: القرآن والسنة والفقه، متوقفة على معرفة علم الأصول كما حددها ورتبها أئمة هذا العلم من خيرة علماء السلف الصالحين. -٣٠٣١ فكل من أحاط بعلم أصول الفقه إحاطة تامة بدقائقه وحقائقه صار له الحق أن يدلي بدلوه مع الفقهاء في تقرير الأحكام والاستنباط من الكتاب والسنة. وقد أجمعوا أنه لا بد للمجتهد مطلقًا كان أو مقيدًا من معرفة تامة بعلم أصول الفقه.
/متن المنظومة/ وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري ... ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا ... وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد ... في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ ... وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ -٣٢-٣٣- ومثل المكثر من الفقه بلا أصول، كمثل الساعي في البرية ليلا بلا نور، وتاريخ العلم مليء بسيرة رجال كثر اطلاعهم على العلوم ولم تكن لهم موازين دقيقة فيما يتعلمون ويعلمون، فسرعان ما اشتطت آراؤهم، وزاغت أفكارهم فضلوا وأضلوا. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» -٣٤٣٥- الأبيات في بيان حكم المقلد. فالفتوى التي عليها جمهور الفقهاء أنه لا يحل له الاجتهاد حتى تكتمل عنده شرائطه وهي التي نفصلها في بحث الاجتهاد فيما بعد. وعليه فإنه يلزم المقلد أن لا يفتي إلاَّ بقول المشايخ المأذون لهم بالاجتهاد المطلق والمقيد كل في بابه، وعليه الرجوع إلى نصوصهم فيما نصوا عليه، والسكوت فيما لم ينصوا عليه. وهذا من فضل الله ﷿ على هذه الأمة، ولطفه بها.
/متن المنظومة/ إِذْ لو أبيحَ الاجتهادُ للبَشَرْ ... بلا أصولٍ ملأُوا الدُّنيا ضَرَرْ وعُطِّلَتْ شريعةُ القُرْآنِ ... وحَكَمَتْ شريعةُ الشَّيْطانِ فَمِنْ عظيمِ فَضْلِهِ عَلَينا ... ومِنْ جليلِ برِّهِ إِلَيْنا أنْ وضَعُوا قواعدَ الأُصُولِ ... وحدَّدُوا طرائقَ الوصُوُلِ سَدَّا على منافذِ الشَّيْطانِ ... حتَّى تسودَ شِرْعَةُ الفُرقانِ وهذهِ منظومةٌ صغيرَةْ ... حوتْ أصولَ فِقْهِنَا الشَّهيرَةْ -٣٦ فلو أن الاجتهاد كان مباحًا للناس بغير حساب ولا أصول لامتلأت الدنيا بالمفاسد، وصارت الأهواء دينًا يتبع. -٣٧-٣٨-٣٩-٤٠- لذلك (فمن عظيم فضله) ﷾ (علينا) أي على المؤمنين (ومن جليل بره) ﷾ (إلينا) أي مما شملنا به من فضله وإحسانه (أن وضعوا) أي وضع العلماء والمجتهدون (قواعد الأصول) وخصوصًا شرائط الاجتهاد (وحددوا طرائق الوصول) إلى رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام (سدًا على منافذ الشيطان) وبذلك فقد سدوا الأبواب على كل منفذ من منافذ الشيطان يتخذه للعبث بالشريعة وتعطيل الأحكام، وذلك كله (حتى تسود شرعة الفرقان) والفرقان اسم من أسماء القرآن العظيم. -٤١- (وهذه منظومة صغيرة) وهي نظم في نحو ست مائة ونيف وأربعين بيتًا بيت من بحر الرجز (حوت أصول فقهنا الشهيرة) من بحوث المصادر والمقاصد والدلالات وقد أعان الله ﷾ فنظمت هذه الأبيات قصدت فيها تبسيط هذا العلم الشريف لطلبة العلم ليكون بين أيديهم كالقواعد الناظمة قريبًا من القلوب سهلا على الألسنة
/متن المنظومة/ نَظمتُها بدايَةً لِلْمُجْتَهِدْ ... ورُمْتُها نِهاية للمقْتَصِدْ سَمَّيتُها منظومةَ المُعْتَمدِ ... على كتابِ شيخِنا مُحَمَّدِ -٤٢ وهي نافعة إن شاء الله لكل من المجتهد والمقتصد، فالمقتصد في هذا العلم الشريف له فيها كفاية وغناء، وهي تكون بإذن الله مقررًا دراسيًا يقرؤه طلبة العلم في المعاهد الشرعية، وكذلك فإنها مرحلة تدريب ضروري للمجتهد في أوله، ترسم طريق الاجتهاد على أصوله الصحيحة. وقد استعار الناظم هذه التسمية من العلامة الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه العظيم: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) -٤٣- وقد سميت المنظومة باسم (المعتمد في أصول الفقه) لأنني جمعت فيها أقوال الأئمة المعتمدين، ولم أتعرض لرأي المخالفين، ولو كان له وجه، وذلك لأن المقصود من المنظومة هذه ترسيخ قدم طالب العلم على سكة هذا العلم الشريف، ثم للجدل بعد ذلك اختصاص وأهل اختصاص. (على كتاب شيخنا محمد) وقد جريت في نظم قواعد الأصول على الترتيب الذي جرى عليه أستاذنا الدكتور: محمد الزحيلي وهو أستاذ أصول الفقه الإسلامي في كلية الدعوة الإسلامية، وكلية الشريعة بجامعة دمشق، وكتابه المسمى: أصول الفقه الإسلامي مقرر دراسي في كلية الشريعة بجامعة دمشق. والدكتور محمد الزحيلي من مواليد ١٩٤١ م في منطقة دير عطية من أعمال الشام في منتصف الطريق بين دمشق وحمص، سلك على العلامة الكبير الشيخ عبد القادر القصاب مؤسس النهضة العلمية في دير عطية، ثم ارتحل إلى الشام حيث تخرج بكلية الشريعة عام ١٩٧١ م والتحق بالأزهر الشريف ونال رتبة الدكتوراه في الفقه الإسلامي المقارن.
/متن المنظومة/ فأسألُ الرحمنَ أنْ يُتمِّما ... ويجعلَ الخيَر بها مُعمَّمًا وينزعُ الرياءَ عَنْ أَعمالِنا ... ويكتبَ الإخلاصَ في أَقْوالِنَا -٤٤- فأسأل الرحمن سؤال عبد واثق بفضله سبحانه (أن يتمما) أي يتمم فضله فيما ألهمنا إياه من خدمة العلم الشريف وأن (يجعل الخير بها) أي بهذه المنظومة (معممًا) في الناس يقرؤونها وينتفعون بها ويذكرونا بدعوة صالحة. -٤٥- (وينزع الرياء) عطف على الدعاء السابق أي أسأله أن ينزع الرياء والمفاخرة عن أعمالنا في مجال خدمة العلم الشريف (ويكتب الإخلاص في) أقوالنا ولا نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. والرياء آفة العمل الصالح وقد كان السلف رضوان الله عليهم يحذرون من الرياء أشد من حذرنا من الكفر. وكان الحسن البصري رضوان الله عليه يقول: إذا استطعت أن تعيش وتموت ولا يعرفك أحد فافعل، وما عليك ألا يعرفوك في الأرض إذا عرفك الله في السماء.
1 / 14