Explanation of Al-Mu'tamad in the Principles of Jurisprudence
شرح المعتمد في أصول الفقه
اصناف
شرح المعتمد في أصول الفقه
نظم وشرح
الدكتور محمد الحبش
1 / 2
مدخل
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بخير ما حمده الحامدون، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأزكيان الأعطران على حبيب رب العالمين، محمد ﷺ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الأخيار الهداة المهديين.
وبعد..
فقد كتبت هذه المنظومة أيام الدراسة، غرة القرن الهجري الجديد، وكتب الله بها نفعًا لطلبة العلم، فحفظها عدد منهم، وأشار علي أستاذي الدكتور محمد الزحيلي بإعادة طباعتها مشروحة، وقد وافق ذلك رغبة لدي، فاستعنت بالله، وشرعت في المقصود، حتى منَّ الله بإتمامه، وها أنا أدفعه للقارئ الكريم، ألتمس منه دعوة صالحة بظهر الغيب.
وليس في هذا الكتاب إلا حل عبارة النظم، من طريق قريب، وأما بسط مسائل هذا العلم فتجدها في مظانها من الكتب الأصول.
وقد قدمت للكتاب بمقدمة في منهج التعليم بالمنظومات، ومزايا هذه الطريقة وقد سبق أن نشرتها في بعض كتبي السابقة وأعيدها هنا للفائدة كما أثبتُّ آخر الكتاب النظم بتمامه ليهون حفظه على الراغب، وبالله التوفيق.
د. محمد الحبش
1 / 4
مقدمة في منهج التعليم بالمنظومات
1 / 5
التعليم بالمنظومات منهج أصيل لدى العلماء المسلمين، وهو لكثرة انتشاره واشتهاره، لا يحتاج إلى دليل يظهر مدى قناعة المسلمين به، واعتمادهم عليه.
فقد كتبت المنظومات في سائر العلوم الشرعية والكونية منذ قرون طويلة، وقُرِّرت في حلقات التعليم، وتناوب العلماء في خدمتها شرحًا وتدريسًا وتحشية وتذييلًا، حتى أصبحت عنوانًا على المعرفة، وأصبحت جزءًا رئيسًا من ذاكرة طالب العلم، ومدخلًا واضحًا من مداخل المعرفة الأصيلة.
وقل أن تجد عالمًا من علماء العربية اليوم لم يحفظ ألفية ابن مالك مثلًا، ويتخرَّج بشروحها وحواشيها، وجهود العلماء عليها.
وكذلك فإن علماء القراءة اليوم لا يزالون يشرطون على طالب هذا الفن أن يستظهر واحدًا من النظمين: حرز الأماني مع الدرة أو طيبة النشر، ولا ينال الطريقين إلا باستظهارهما معًا.
والأمر ذاته في تحصيل علوم الفرائض والحديث والأصول وغيرهما من العلوم النظرية.
خصائص التعليم بالمنظومات:
وتكشف طريقة التعليم بالمنظومات عن وعي عميق لدى العلماء المسلمين، ذلك أنهم أدركوا أن طاقة العقل لدى الإنسان تتوزع بين الحفظ والفهم، وأن إطار الحفظ يبدأ كبيرًا مع سن الطفولة فيما يكون إطار الفهم والاستيعاب أقل وأضعف، ثم يبدأ إطار الحفظ بالتناقص لحساب الفهم والاستيعاب حتى يتساويا ثم تصبح القدرة على الفهم والاستيعاب أكبر من القدرة على الحفظ والتخزين في الذاكرة.
فلو افترضنا أن طاقة العقل مائة درجة، فإن الإنسان في سن العاشرة، تتوزع قدرته على أساس أن الذاكرة لها تسعون والاستيعاب له عشرة فإذا بلغ سن العشرين تناقصت القدرة على الحفظ إلى خمسين وتعاظمت القدرة على الفهم إلى خمسين، فإذا بلغ الثلاثين أصبحت القدرة على الفهم تسعين والقدرة على الحفظ عشرة.
ولست أزعم أن هذه القاعدة مطلقة بحيث لا تتخلف، بل لها استثناءات كثيرة ترتبط بتركيب الإنسان النفسي كما ترتبط بظروفه الاجتماعية، ولكن الفترة الذهبية للحفظ هي بلا ريب فترة الطفولة، ففي الطفولة يتعلم المرء على ذاكرة بيضاء، فتكون المعلومات أرسخ وأبقى، حتى إذا كثرت المعارف والمشاغل ضاقت ساحة الذاكرة عن استيعاب الجديد، فتزاحمت المعارف، وكثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا.
ومن هنا شاع بين أهل المعرفة: الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش في الكدر.
فبينما يرسخ النقش على الحجر، فإن النقش على الكدر، وهو الطين الجاف لا يلبث أن يتفتت لأول عامل من عوامل الدهر.
وعلى إدراك لذلك كله نهج العلماء المسلمون في التعليم، فقدموا للصغير أصول المعارف على هيئة منظومات ومتون، طلبوا من الفتى حفظها واستظهارها، ولم يشاؤوه على فهم مقاصدها واحتمالاتها، فشغلوه بما هو به جدير، وصرفوه عما هو ليس له بأهل، إذ لن يبلغ فهم هذه المنظومات إلا بتكليف وتعسف، بينما يمكنه حفظها بمتعة ويسر، ويتخذها له نغمًا ولحنًا.
ولست أعني أنه كان يُكَفّ عن فهم عباراتها، فيحفظها حفظ الأعجم، بل كانت تحل له عقد العبائر، دون الدخول في تفاصيل الدلالات.
وهكذا فإن الفتى يفتح عينيه على العلم في الثامنة عشرة مثلًا وعنده مخزون كبير من المعرفة، مطبوع في الذاكرة، كلما ناداه قال له لبيك، فيشرع بفهم المسائل، وإن أصولها مبسوطة على صفحة ذاكرته، كأنه يراها عيانًا ويلمسها بنانًا، فيكون ذلك أدعى للفهم وأوقر في العقل.
ثم يتصدر للتعليم والفتيا وعلمه معه حاضر، ولسانه له ذاكر، فيصبح كالغني عن حمل القراطيس، كما قال الإمام الشافعي:
علمي معي أينما يممت يتبعني صدري وعاء له لا بطن صندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال آخر:
ما العلم فيما قد حوى القمطر ما لعلم إلا ما حواه الصدر
وقد كانوا يعنون ذلك حينما قالوا: من حفظ المتون حاز الفنون، ومن قرأ الحواشي ما حوى شي.
ولست أدري لماذا تعرض الطريقة الحديثة في التعليم عن مناهج التعليم بالمنظومات، رغم أننا لن نحتاج إلى التدليل على موثوقية علم الأقدمين، وحضوره بين أيديهم في سائر الأحوال.
ولا شك أن الذي ألهم المسلمين هذا المنهج، هو تجربتهم الأصيلة في حفظ القرآن الكريم، فالمسلمون أمة اختصها الله بهذا التنزيل، وجاءت الأحاديث بالتوكيد على حفظه واستظهاره، وبدءًا من عصر السلف الأول فقد اعتبر حفظ القرآن الكريم شرطًا رئيسًا لمن يخوض في التأويل أو التفسير، وبالحري إذن فهو شرط أساس لكل عالم يتصدر للتعليم.
وظهر للأقدمين بركة حفظ النصوص من خلال ذلك، فراحوا ينهجون النهج ذاته في العلوم الأخرى، من سبق الحفظ ثم تعقيبه بالفهم والشروح.
وإياك أن يأخذ بك الظن إلى تصور أنهم قصدوا محاكاة النظم القرآني، في أسلوبه المعجز، فهذا لا يدركه أحد، بل لم يزعمه أحد، وإنما أرادوا محاكاة الطريقة التعليمية الناجحة التي ألهمهم إياها أسلوبهم في تلقي العلوم المتصلة بالقرآن الكريم.
1 / 6
تاريخ التعليم بالمنظومات:
1 / 7
وتاريخ التعليم بالمنظومات متقدم، ولا بد من هدم الفكرة القائلة بأن المنظومات نشأت في عصور الانحطاط والركود، وأنها من تراث القرن العاشر الهجري وما بعده، ومع تحفظي على اصطلاح الانحطاط والركود فهذا كله غير واقعي، ولا شك أن المنظومات قد اتخذت منهجًا تعليميًا أصيلًا قبل ذلك بزمن بعيد.
ومع أن أقدم نظم (مطبوع) يعود إلى القرن السادس الهجري إلا أننا نؤكد أن هذا المنهج كان أصيلًا قبل ذلك بزمن، ذلك أن المتأمل في منظومات القرن السادس التي اشتهرت بين الناس يجد أنها لا تشير إفصاحًا ولا إلماحًا إلى أنها لون مبتدع في التعليم، بل يلتمس القارئ أنها صلة لجهود سابقة من الفن نفسه وعلى السبيل ذاته.
ففي منظومة (حرز الأماني ووجه التهاني) التي كتبها الإمام الشاطبي في القرن السادس الهجري، إذ توفي عام ٥٩٠ هجرية، تجد نفسك أمام علم مكتمل، ونظم مستوفٍ لشرائط المنهج التعليمي المتين، مما يدل على أنها حلقة في سلسلة متقدمة، أضف إلى ذلك أن النظم في القراءات لا يتصور أن يبدأ إلا بعد نظم العلوم الأكثر تداولًا والأسهل منالًا، كالعقائد والاصطلاح والتجويد والفقه.
كذلك فإن الوصول إلى الألفية لا يتم مرة واحدة، بل لا بد أن يكون هذا العطاء قد سبقته منظومات أصغر وأخصر في الفن ذاته، ناهيك عن غيره من الفنون القريبة.
أذكر على سبيل المثال ما أورده حاجي خليفة في كشف الظنون ص ١٣٤٤، حيث ذكر منظومة في قراءة نافع لأبي الحسن علي بن عبد الغني الفهري القيرواني، المتوفي سنة ٤٨٨ هـ.
كذلك فقد كتب النسفي عمر بن محمد بن أحمد نظمًا طويلًا في فقه الحنفية ومخالفيهم، ذكر أنه استكمله عام ٥٠٤ هجرية، وقد أورد حاجي خليفة في كشف الظنون تعريفًا جيدًا بالكتاب وما قام عليه من شروح وحواشي ومختصرات.
وقد بلغت أبيات هذا النظم ٢٦٦٩ بيتًا، كما أشار الناظم في آخرها:
وجملة الأبيات يا صدر الفئة ألفان والستون والستمائة
وتسعة، والله يجزي ناظمه جنات عدن وقصورًا ناعمة
وهذا كما ترى كثير، وقد صنفه النسفي مطلع القرن السادس، وهو يلتزم بحر الرجز الذي اعتمده الناظمون فيما بعد، والمفترض أن تكون هذه الألفية الكبيرة نتيجة جهود كبيرة سابقة، ولا ريب أن عددًا كبيرًا من القصائد التعليمية قد كتب قبل ذلك بزمن.
وتلاحظ في أرجوزة النسفي التزام الشيخ ﵀ بطريقة النظم السائدة من جعل كل بيت بقافية مستقلة، متطابقة في الصدر والعجز.
وبالرغم مما قام على هذه المنظومة من جهود هامة غير أنها لم تفرد بالطبع مستقلة.
كذلك فأنت تجد أن نظم (بغية الباحث عن جمل الموارث) للشيخ محمد بن علي الرحبي المتوفى عام ٥٧٧ هجرية، وقد سطر الرحبي هذه المنظومة في وقت مبكر، ولا تزال هي المنهج الرئيس المعتمد في تعليم مادة الفرائض في أكثر المدارس الشرعية، وإنه لا يتصور أن ينشأ هذا النظم البديع من فراغ، ويستمر بعدئذ نحو ثمانية قرون منهجًا أصيلًا من غير أن يكون قبله تجارب سابقة يفيد منها، ويقتفي إثرها، ومن غير أن يشير هو إلى أنه ينهج في تعليم الفرائض نهجًا جديدًا لم يكن معروفًا من قبل.
وليس ثمة مبرر من إطالة الكلام في تقدم المنظومات من جهة التاريخ، فقد أورد حاجي خليفة في كشف الظنون عددًا من المنظومات تعود إلى مطلع القرن الرابع، وربما نظمت في القرن الثالث، إذ مات مؤلفوها مطلع الرابع.
فمنها قصيدة في غريب اللغة لنفطويه النحوي المشهور المتوفى ٣٢٣ هـ، شرحها ابن خالويه المتوفى ٣٧٠ هـ.
ومنها قصيدة نونية في التجويد لأبي المزاحم موسى بن عبد الله الخاقاني المتوفى سنة ٣٢٥ هـ. وقد أسماها (عمدة المفيد) (كذلك قال حاجي خليفة في كشف الظنون ص ١٣٤٨، ولكنه نسب ذلك في ص ١١٧١ إلى علم الدين السخاوي، وأغلب الظن أن هذا الاسم (عمدة المفيد) لكتاب السخاوي في الشرح على النونية المذكورة)، وشرحها السخاوي المتوفى عام ٦٤٣ هـ.
ومنها القصيدة الرائية في علم الإنشاء لأبي مزاحم موسى بن عبد الله الخاقاني المتوفى سنة ٣٢٥ هـ. وذكر في الكشف نحو عشر منظومات تعليمية تعود إلى القرن الرابع والخامس، وسنأتي على إيرادها جميعًا في ثبت المنظومات العام في آخر الموسوعة.
ولكن يجب القول أن أقدم منظومة أثبتناها في الموسوعة هي من أعمال القرن السادس الهجري، على الرغم مما أكدناه لك أن ثمة منظومات أقدم من ذلك بزمن لم نوفق لخدمتها هنا، ولعلنا نوفق لذلك في أعمال قادمة.
1 / 8
عيوب التعليم بالمنظومات:
1 / 9
ولست أقصد فيما قدمت أن المنظومات كانت على مستوى واحد من حاجة الناس إليها، وعكوفهم عليها، فقد أصبحت المنظومات في المراحل المتأخرة ضربًا من المباراة بين المعلمين، وراح بعض المشتغلين بهذا اللون من التعليم ينظمون لغير ما مقصد علمي صحيح، فجاءت منظومات هزيلة، لم تأت بجديد، ولم تشتمل على مفيد، فيها تقليد بلا توفيق، وتلفيق بلا تجديد، فعلم الذين يحققون أن السعي قد أصبح في غير سبيل، وأن الميدان قد اجتازه من ليس من أهله، حتى ظهر في أهل العلم من يعمم هذا الحكم في كل نظم، ويجزم أن هذا الفن تكلف من غير تعرف، وتنطع يشغل عن العلم بالشكل دون المضمون.
ويمكن تلخيص عيوب المنظومات في وجوه:
الأول: كثرة الضرورات والجوازات، وقد نحا بعضهم نحوًا لم يسمع في جوازات الشعر العربي، كإسكان المتحرك وتحريك الساكن، وترخيم الكلمات في غير مظان الترخيم، بل لجأ بعض النُّظَام إلى تغيير حركة الأواخر من خفض لرفع أو من رفع لفتح أو غير ذلك، مجاراة لوجه القافية!..
ولعمري فإن هذا تخبيص من غير تنصيص، إذ هو عكس مقاصد مؤسسي هذه المدرسة، فقد جعلت القافية لتذكير المتعلم بفرع المعرفة، من جهة أنها معلومة سلفًا، فإذا ما التوت كانت بابًا للإشكال، وصار تحريرها يحتاج إلى اشتغال، والوقت في كلا الحالين هو الضريبة المؤداة في غير مقصد صحيح.
الثاني: التكرار في النظم، فقد كتبت في كل فن منظومته، وعلى من يعيد نظم المعارف أن يحقق جدوى سعيه، فإذا نظم فإن عليه أن يأتي بجديد في المعرفة، أو يرتقي بقديم، ينتخب من سلفه، فيزيده بيانًا وإيضاحًا، بحيث يكون نسخة أوضح وأفصح، ولكن الذي حصل كان عكس ذلك، فقد ولع النُظَّام بسبك المنظومات إلى حد أنساهم غاياتها ومقاصدها، فصار النظم يتلو النظم وما فيه من ميزة إلا انحطاط مستواه، وتعثر مبناه ومعناه، والتعبير عن الجيد بالرديء.
وإن من الإنصاف أن نعتبر بما فعل الزمن، فقد حكم جزمًا في هذه المنظومات، فألقاها في زوايا الإهمال والنسيان، وكافأها بما تستحق، وصارت لا تقرأ ولا تدرس إلا لتحقيق التاريخ فحسب، بعد أن جعل ناظموها آخر مقاصدهم من نظمها إضاءة المعرفة!..
الثالث: النظم في علوم لا يصلح فيها النظم، فقد اشتغل بعض المتأخرين في نظم علوم غير نظرية، فكان في ذلك تكلف ممل، وتعسف مخل، كالنظم في الاسطرلاب والهيئة والأعداد، فهذه العلوم لا يطلب فيها حشو الذاكرة بالمحفوظ بقد ما يطلب فيها حشو العين بالملحوظ، فأداة المعرفة فيها الرسوم والجداول والأرقام، أضف إلى أنها علوم متحولة متجددة، لا متأصلة مجردة.
فاشتغال بعض النُّظَّام بنظمها تكلف تنقضي فيه الأعمار، ولا يأتي إلا بأبخس الثمار، واشتغال الطلبة بحفظها ضياع للأوقات، ولا يجتنى منه إلا أهزل الثمرات.
الرابع: النظم في الفروع، وقد كثر ذلك لدى المتأخرين، وخيل إليهم أن المطلوب أن نجعل المعرفة كلها نظمًا، من غير أن ندرك لها فهمًا، وهذا تنطع لا داعي إليه، وتغييب للمقصد الرئيس من نظم هذه المنظومات، فقد بينا أنها تنظم أصلًا للصغير، يستحضرها في خياله يوم ينهض عقله بالتعبير والتفسير، فحيث طلبنا منه أن يحفظ ويحفظ، فقد زاحمنا في ذاكرته حق الفهم في أوانه، فأصبحنا كمن يزرع البذر في غير ميقاته وزمانه.
الخامس: كثرة الحشو والتطويل، هذا تكميل ولع به المتأخرون، ألجأهم إليه قصور العبارة، وركة الإشارة، فراحوا يزحمون البيت بالحشو المستهجن، الغريب عن المعنى والمبنى، من أجل استكمال القافية على القواعد العروضية، من غير أدنى اهتمام بالإيلاف بين العبارة والحشو، أو تكامل المعاني والمباني.
ولعمري إنه لا يسوغ الحشو إلا إذا جاء عفوًا صفوًا، يعبر عن المقصود، أو يتصل به بسبب معقول.
وبغير ذلك فإننا نكون قد كلفنا طالب العلم بحفظ الحشو، زيادة على حفظ المتن، وهل هذا إلا عبء على عبء، وعناء على عناء، وتكلف لا داعي له، ولا مسوغ له إلا ضعف الناظم ووهى عبارته.
ولا شك أن أفضل المنظومات تلك التي نظمها العلماء الشعراء أصلًا، الذين طاعت لهم العبارة ووافتهم الإشارة، وخدمتهم الكلمات وائتمرت بأمرهم العبارات، فلم يجيئوا إلى فن المنظومات مُتَقَحِّمين، ولم ينظموا متكلفين، وكما جاءت قرائحهم بشعر غني بالمشاعر، وافتهم كذلك بنظم لين سهل طافح بالمعرفة.
ومن هؤلاء أبو محمد القاسم بن فيرَّة الرعيني الشاطبي صاحب حرز الأماني، ومحمد بن علي الرحبي صاحب بغية الباحث عن جمل الموارث، ولا شك أن المتذوق للشعر العربي يطرب أيما طرب حين يطالع في الأعمال المتميزة لهؤلاء الأئمة.
ولست أقصد بأن العلماء الشعراء أفرغوا عواطفهم ومشاعرهم في هذه المنظومات كما يصنعون في الشعر، فهذا لا طائل تحته في هذا الفن، وإنما كان توفيقهم أكبر من حيث طاعت لهم العبارة، وخدمتهم المترادفات، إذ لا يراد بالنظم ما يراد بالشعر، فكل له مقاصده ووسائله، ولكن قوة السبك مطلوبة في كل واحد من الفنَّين، والعلماء الشعراء على ذلك أقدر من العلماء الذين لم يشتغلوا بالشعر.
1 / 10
[مقدمة الدكتور محمد الزحيلي]
1 / 11
تعريف عام بعلم أصول الفقه
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على رسول الله، معلم الخير، ومرشد الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، القائل: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»
ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعن العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وبعد..
فإن الأمة الإسلامية تميزت عن بقية الأمم بميزات كثيرة في العلوم والثقافة، والحضارة والإبداع، وفي مجالات متنوعة، ومن هذه الميزات التي انفردت بها على بقية الأمم والشعوب في الجانب العلمي والتطبيقي والمنهجي إبداعها لبعض العلوم التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، ولم يلحقها فيها أحد حتى الآن، ومن ذلك علمان أساسيان، وهما:
-١- علم مصطلح الحديث أو علم أصول الحديث ومصطلحه الذي وضعه العلماء المسلمون، ليكون أدق منهج علمي في النقد والتراجم والرجال ونقل الأخبار والروايات.
-٢- علم أصول الفقه في مجال التشريع والأحكام، والأنظمة والشرائع، وفي دائرة الاجتهاد والفتوى والقضاء والإدارة، والمحاماة والبحث، وتفسير النصوص وفهمها.
لذلك يشكل علم أصول الفقه المنارة الوضاءة بين العلوم الشرعية، ويعتبر مفخرة الأمة في حضارتها وعلومها.
وهو علم فريد في تاريخ الأمم والشرائع القديمة والحديثة، وهو مما انفرد به المسلمون بين الأُمَمِ.
قال ابن خلدون: (واعلمْ أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة) وعلم أصول الفقه عبارة عن القواعد والمبادئ التي سار عليها الفقهاء في استنباط الأحكام من المصادر الشرعية، وبيانها للناس، ويتكون من الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد، بقصد أن يكون طريقه مستقيمًا واضحًا، لا يعتريه وهن أو انحراف، ولا خبط أو اضطراب، ويوصل إلى الهدف المقصود.
وهذا العلم هو المصباح الذي ورثته الأجيال، وحمله العلماء لبيان الأحكام الشرعية لكل جديد في كل عصر، ومعالجة المبادئ والأحداث التي تطرأ، وغير ذلك وفق منهج محدد، يسير عليه العالم في الاستنباط والاجتهاد.
وعلم أصول الفقه من العلوم الأساسية في الدين لضبط الخلاف، وتمييز الغث من الثمين، وكشف مناهج الأئمة والعلماء في الاجتهاد والاستنباط والاستدلال، لذلك بيَّن ابن خلدون أهمية أصول الفقه، فقال: (اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدرا، وأكثرها فائدة ... وهو في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام) (مقدمة ابن خلدون ص ٤٥٥، وانظر التعريف بعلم أصول الفقه، وبيان أهميته، ونشأته، وتطوره، وأشهر علمائه، وأهم كتبه في كتاب «أصول الفقه الإسلامي» وكتاب «تعريف عام بالعلوم الشرعية» وكتاب «مرجع العلوم الإسلامية» وكلها للدكتور محمد الزحيلي)
وكان الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى أول من دون علم أصول الفقه وكتب فيه رسالته المشهورة (الرسالة) التي تعتبر أصل الأصول، ثم وضعها مقدمة لكتابه الفقهي العظيم (الأم) واتخذها منهاجا للاستنباط والاجتهاد وبيان الأحكام، قال الرازي: (اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض) وقال ابن خلدون: (وكان أول من كتب فيه الشافعي)
وشمّر العلماء والفقهاء من مختلف المذاهب عن سواعدهم في التأليف والتصنيف في علم أصول الفقه، وتعددت طرق التأليف فيه، وظهرت المؤلفات العظيمة، والكتب القيمة في الأصول، واستمر هذا العمل المبارك طوال العصور الإسلامية، وصار علم أصول الفقه من أوائل العلوم الشرعية التي تدرس في جميع المدارس المعاهد الشرعية، وأصبح مقررًا أساسيا في جميع الجامعات الإسلامية وكليات الشريعة والدعوة، ولمست الجامعات الأخرى أهميته وفائدته وخواصه، فأصبح علم أصول الفقه أحد المقررات في جميع كليات الحقوق في العالم العربي والإسلامي.
وصنفت كتب كثيرة على طريقة المتأخرين، ومنهج التأليف المعاصر، الذي يتناسب مع الدراسة والتدريس في الجامعات الإسلامية، وكليات الشريعة والدعوة، وكليات الحقوق، وهي كتب قيمة ومفيدة.
كما نشرت في ربع القرن الأخير أهم كتب الأصول القديمة، وهي المراجع القيمة لهذا العلم، والمصادر الأصلية له، مما يبشر بخير عميم في دعوة هذه الأمة إلى تراثها، وحضارتها، وشريعتها، وعلومها لتكون بمشيئة الله تعالى خير خلف لخير سلف، وأصبحت مكتبة علم أصول الفقه عامرة والحمد لله، ولكنها تحتاج إلى التطبيق والممارسة للاستفادة الكاملة منها.
وكنت قد صنفت كتابًا في (أصول الفقه الإسلامي) لطلاب السنة الثانية من كلية الشريعة بجامعة دمشق، وطبع عدة مرات، وقام الشاب المؤمن النشيط الأستاذ محمد الحبش بنظمه بطريقة مفيدة، ونافعة، وميسرة، ثم رجع إلى المنظومة فشرحها ملتزمًا بذلك خطة الكتاب الأصلي ومنهجه في الترتيب والتبويب والبيان، وها هو يقدمه للناس وطلاب العلم ليستفيدوا منه، وينتفعوا به، فجزاه الله خير الجزاء، ونفع الله به، وزاده علمًا وأدبًا وخلقًا.
نسأل الله العلي القدير أن يسدد خطانا لما فيه الخير والبركة، وأن يأخذ بيدنا إلى سواء السبيل، وأن يبارك لنا في العلم، وأن يمنحنا الفضل والقدرة على العمل والالتزام، وأن يردنا إلى ديننا ردًا جميلًا، ويلهم المسلمين العمل بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم على الوجه الذي يرضاه، ويتفق مع التفسير الصحيح لكتاب الله تعالى، والفهم الدقيق للسنة، وأحكام الشرع، ومصادر التشريع.
والله ولي التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
وكيل كلية الشريعة للشؤون العلمية بجامعة دمشق
رئيس شعبة الفقه المقارن في قسم الدراسات العليا
بمجمع أبي النور الإسلامي
1 / 12
المقدمة
1 / 13
/متن المنظومة/
-١- بسمِ الإلهِ مبدعِ الأَكْوانِ ... ثم لهُ الحمدُ على الإحسانِ
-٢- ثم الصلاةُ والسلامُ السرَّمدَي ... على النَّبيِّ المصُطفْى مُحَمَّدِ
-١- (بسم الإله) بدأ المصنف نظمه بالبسملة، وهي شعار الصالحين، وفي الحديث: «كل عمل لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» أي مقطوع الخير والبركة.
وتستحب التسمية قبل الشروع في كل مباح مطلقًا، وهي أكثر استحبابًا عند الشروع في الطاعات كذكر الله وطلب العلم ودخول المساجد.
(مبدع الأكوان) خالقها من العدم ومنشئها.
(ثم له الحمد على الإحسان) وثنى المصنف بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز واعترافًا بسابغ نعم الله وعظيم فضله وإحسانه.
وفي الحديث: «أمتي الحمادون لله على كل حال»
-٢- وثلَّث بذكر الصلاة على النبي ﷺ -لى الله عليه وسلم تبركًا (ثم الصلاة والسلام السرمدي) أي الدائم الذي لا ينقطع (على النبي المصطفى محمد)
وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قال:
«من صلى علي حين يصبح عشرًا، وحين يمسي عشرًا، أدركته شفاعتي يوم القيامة»
-٣- والآلِ والصحبِ الكرامِ البَررَةْ والتابعينَ الطاهرينَ الخيَرةْ
-٣- وأتبع المؤلف ذلك بالصلاة على آل النبي ﷺ -لى الله عليه وسلم (والآل) وآل النبي ﷺ على المرجح عند الشافعية هم بنو هاشم وبنو المطلب أولاد عبد مناف وهم الذين دخلوا مع رسول الله ص شعب أبي طالب، في فترة حصار قريش للنبي ص، وسائر بني هاشم وبني المطلب دخلوا في الإسلام راغبين، إلا ما كان من أمر أبي لهب وقد انقطع عقبه.
وفي تحديد آل النبي ﷺ: أقوال مشهورة نذكر منها:
-١- إن آل النبي ﷺ هم علي وفاطمة وحسن وحسين وأولادهم وهم الذين ورد ذكرهم في حديث (العبا) عن أم سلمة وتمامه: قالت نزلت هذه الآية ٣٣ الأحزاب في بيتي فدعا رسول الله ص عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: هؤلاء أهل بيتي وقرأ الآية وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خير. وقال القشيري: أدخلت رأسي في الكساء وقلت أنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم. أخرجه الترمذي وغيره وقال هذا حديث غريب
-٢ إن آل النبي ﷺ هم زوجاته الطاهرات، ويدل له ورود آية الصلاة على آل البيت ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا﴾ في سورة الأحزاب الآية -٣٣-، حيث وردت الآية في سياق الحديث عن زوجات النبي ﷺ.
-٣- إن آل النبي ﷺ هم الأتقياء من أمته ص، وقد أخرج الطيالسي عن أنس ﵁ أن رسول الله ص قال: «آل محمد كل تقي» .
-٤- إن آل النبي ﷺ هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهم الذين دخلوا مع النبي ﷺ في شعب أبي طالب وناصروه بأنفسهم وأموالهم، وهذا هو المختار عند الشافعية، وعليه فإن الصدقة لا تحل لبني هاشم ولا لبني المطلب.
وهذا القول من حيث المآل يشتمل على القول الأول والثاني، حيث لا يوجد للنبي ص اليوم نسل إلا من فاطمة ﵍.
/متن المنظومة/ -٤- وبعدُ فالعلمُ ذخيرةُ الفَتى ... وزادُهُ يومَ المعادِ إذْ أَتى -٥- ولن ينالَ منهُ غيَر بعضهِ ... ولو تقضَّى عمرُهُ بركضهِ -٤- (وبعد) كلمة تقال قبل الشروع في المقصود، وأول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، خطيب العرب في الجاهلية (فالعلم ذخيرة الفتى) أي زاد المرء ومعتمده في كل أمر يشرع فيه من أمور الدنيا وهو كذلك (وهو زاده يوم المعاد) يوم القيامة (إذ أتى) أي حين يحضر للحساب. -٥- (ولن ينال) أي طالب العلم (منه) أي من العلم (غير بعضه) أي لا يمكن تحصيل جميع العلوم (ولو تقضى عمره بركضه) أي مهما اجتهد في التحصيل وقد روي عن الإمام الشافعي قوله: كل شيء إذا أعطيته بعضك أعطاك كله إلا العلم فإنك لو أعطيته كلك لم يعطك إلا بعضه. والعلم في الإسلام أشرف الغايات وأغلاها ترحل في تحصيله الأنبياء كما علمنا الله سبحانه في قصة موسى والخضر، وكما أمر الله سبحانه النبي ﷺ: ﴿وقل ربي زدني علمًا﴾ والعلم في الإسلام غاية لا وسيلة وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: لو بلغني أن أجلي بعد ساعة لاخترت أن أمضيها في طلب العلم.
/متن المنظومة/ -٦- لذاكَ فابدأْ منْهُ بالأهَمِّ ... ولا تُبالي بالثَّنَا والذَّمِّ -٧- واعلم بأنَّ العلمَ نورٌ يقذفُ ... لكلِّ قلبٍ ذاكرٍ يُلُقَّفُ -٦- (لذاك) ولما كان العمر قصيرًا، والأجل غير معروف، نصح الناظم طالب العلم فقال (فابدأ منه بالأهم) ثم المهم (ولا تبالي بالثنا والذم) من الناس بل اجعل قصدك في تحصيل العلم رضا مولاك. وقد سُمِعَ الإمام الشافعي يقول: وددنا أن هذا العلم انتفعت به الناس ولم ينسب إلينا منه شيء. وقرأت على هامش كتاب رشحات عين الحياة، بخط شيخنا الشيخ أحمد كفتارو ما نصه: (أولًا نحسب حساب الله، وما سواه لا نرجوه ولا نخشاه) -٧- (واعلم) أيها السالك (بأن العلم نور يقذف) من الله ﷿ وقد سمى الله سبحانه القرآن الكريم علمًا فقال: ﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾ وسماه نورًا فقال: ﴿ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ فالعلم والنور صفتان للقرآن الكريم. (لكل قلب ذاكر يلقف) أي إنما يقذف الله هذا العلم لتلقفه القلوب الذاكرة المشرقة، وبهذا المعنى أثر عن الإمام الشافعي قوله:
/متن المنظومة/ شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نُور ... ونور الله لا يهدى لعاصي والغفلة عن الله حجاب يحول بين طالب العلم وبين تحصيل المعرفة، إذْ كلما كانت النفس أكثر صفاء وطمأنينة كلما تقبلت من العلم أبوابًا أكثر.
/متن المنظومة/ -٨- والناسُ كالأرضِ إذا أصابَها ... غيثٌ تفتَّحت لهُ أبوابُها -٩- فبعضُها تشربَّتْ قليلًا ... وبعضُها لَمْ تَستفِدْ فَتِيلًا -١٠- وبعضُها تفتَّحت سريعًا ... فتلكَ نالت خيَرهُ جمَيعًا -٨- (والناس) في انتفاعهم بالعلم مثلهم كمثل (الأرض إذا أصابها غيث) من السماء (تفتحت له أبوابها) فاستقبلت ماء السماء، فكانت على ثلاثة أصناف: -٩- الصنف الأول من الأراضي يصيبها الماء فتشرب منه قليلًا وتحفظ منه قليلًا فينتفع به الناس (وبعضها لم تستفد فتيلًا) قاحلة جدباء لا يفيدها ماء السماء إلا وحلًا وطينًا. -١٠- والصنف الثالث خصبة غزيرة، تفتحت لملاقاة الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا. فالماء واحد ينزل طاهرًا من السماء وإنما يتنوع حال الناس من الانتفاع به بحسب استعدادهم. والأبيات الثلاثة إشارة إلى ما أخرجه البخاري من رواية أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
/متن المنظومة/ -١١- والعلمُ في الإسلامِ نورُ اللهِ ... تنالهُ من بابِ حبِّ الله -١٢- فالأنبياءُ المخلصِوُن الُكمَّلُ ... من بابِ حبِّ الله قَدْ تكَمَّلوُا -١١- لا ينفعك العلم عن العمل في الإسلام، ولا يقبل علم عامل حتى يعمل بما يعلم، وفي الزُبَدْ: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذَّبٌ من قبل عُبَّادِ الوثن وكل من بغير علم يعملُ ... أعماله مردودة لا تقبلُ وكان السلف لا يطلقون اسم (عالم) إلا على من عظمت خشيته، وكثرت طاعاته، واشتهر صلاحه على قدر علم المرء يعظم خوفه ... فلا عالم إلا من الله خائف وعلوم الشرع علوم نظيفة طاهرة لا ينالها إلا من طهرت سريرته، وزكت نفسه، وعظمت محبته ولما حدثك عن سبيل تحصيل العلم الشريف، شرع يضرب لك الأمثال عن سلوك الأنبياء والأولياء في تلقي هذا العلم الشريف من باب الاستقامة والطاعة -١٢- والمخلِص (بالكسر) من أخلص قلبه لله، والمخلص (بالفتح) من استخلصه الله سبحانه واصطفاه فهو أرفع منزلة من الأول، غير أن الفريقين اشتركا في إخلاص التوجه إلى الله، وتصحيح المعاملة في ما بينهم وبين مولاهم سبحانه. وإنما تحصل لهم الكمال من باب الاشتغال بالله وحده الانقطاع عما سواه.
/متن المنظومة/ -١٣- فالطورُ والخليلُ والحجابُ ... والغارُ والمزمورُ والهضَابُ -١٤- مسالكُ الخلقِ لبابِ الحقَّ ... بها ينالُ القصدَ أهلُ الصِّدْقِ -١٣- لقد كان لكل نبي ولكل ولي معتكف يخلو به مع الله، وينقطع عن الأغيار، ومن استأنس بالله استوحش مما سواه، ففي جبل الطور كان موسى يخلو بربه سبحانه، وهو جبل موحش مقفر في قلب صحراء سيناء، غير أن موسى رآه عامرًا بالأنس لما كلمه ربه فيه، وقد بلغ شوق موسى إلى الله ﷿ وتعلقه به حدًا جعله ينسى شعب بني إسرائيل ويسرع إلى مناجاة الله في (الطور) حتى ذكره الله ﷿ بقومه ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾، ولم يسجل القرآن لموسى من مناجاة الطور إلا سؤالًا واحدًا: ﴿ربِّ أرني أنظر إليك﴾ الأعراف ٧ وذلك شأن كل مشتاق، وفي الحديث القدسي: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين» رواه الترمذي والدارمي. وأما (الخليل) فهي بلدة كان يعتكف فيها إبراهيم الخليل في فلسطين وقيل موضع في برزة بدمشق، وبها قبر ينسب إليه، وهو يعكس صورة ما بين الخليل وربه من تجليات وإشراق، حتى استحق أن يدعى خليل الله، وكان اشتغاله بالله ﷿ حبًا وشوقًا يشغله عن مسألته، وفي الخبر أن إبراهيم ﵇ لما قدم إلى النار، وكان قومه قد أوقدوا تحتها عشرة أيام، حتى عظم لهيبها، وكان الطير إذا طار فوقها سقط فيها مشويًا من شدة طول ألسنة اللهب فيها، فوضعوه في المنجنيق ودفعوه، فأتاه جبريل وهو في رمية المنجنيق فقال: يا إبراهيم. ألك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: سل ربك؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، ﴿قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ قال: المفسرون لو أن الله قال: يا نار كوني بردًا على إبراهيم لمات إبراهيم في جوفها من شدة البرد، ولكن قال: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. و(الحجاب) إشارة إلى قوله ﷿ في مريم ابنة عمران ﴿فاتخذت من دونهم حجابًا﴾ والمراد أن مريم ﵍ احتجبت عن قومها لتفرغ لعبادة الله، حتى طهرت نفسها وتزكت جوارحها، فأكرمها الله ﷿ بعيسى ابن مريم. و(الغار) إشارة إلى غار حراء، وهو الغار الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه قبل النبوة، وكانت قد حببت إليه الخلوة، فكان يخرج إلى الغار وهو كهف يتسع لرجل أو رجلين، في أعلى جبل أبي قبيس، يطل على مكة، يبلغه الفتى النشيط في نحو ساعة ونصف، ولا شك أن هذا الغار كان يمثل المدرسة التي تلقى فيها النبي ﷺ معارف النبوة، ونفحات العلم الإلهي. و(المزمور) إشارة إلى مزامير داود التي كان يتغنى بها في مناجاته لربه، وهي مجموعة من الأدعية والضراعات، كان يتغنى بها في جوف الليل، وهي تكشف لك عند تأملها، عن شفافية ما كان بين داود ومولاه من الشوق والحب. و(الهضاب) وهي إشارة إلى تلك الخلوات التي كان يلتزمها العابدون في انقطاعهم عن الأغيار. -١٤- (مسالك الخلق) أي هذه الخلوات التي كان يدخلها الأنبياء والأولياء، هي الدروب الصحيحة التي كانت تصلهم (لباب الحق) ﷾ (بها ينال القصد أهل الصدق) وشعار السالكين: (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي)
/متن المنظومة/ -١٥- بها قَضَوا أيّامَهُمْ فُرادى ... فاختصَّهم ربُّ الوَرى آحادًا -١٦- علَّمَهم منْ علْمِهِ اللَّدُنِّي ... فأصبحوا أربابَ كُلِّ فَنِّ -١٧- فكم عكفتَ في حراءٍ ذاكرًا ... وكم خلوتَ بالخليلِ صَابرًا -١٥- وفي تلك الخلوات كانت تمضي أيامهم بالقنوت والسجود، والعبادة والضراعة، تفيض عيونهم بالدمع شوقًا وحبًا، وتأنس أرواحهم بالله زلفًا وقربًا، فاصطفاهم الله سبحانه، وأفاض عليهم أنواره وبره. -١٦- والعلم اللدني إشارة إلى قوله ﷾ في الخضر ﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا﴾ والعلم اللدني ما يقذفه المولى سبحانه في قلب الذاكر من بركة ونور، يطمئن به قلبه، ويزداد به إيمانه، ويعظم به شوقه. وفي هذه الخلوات كان اتصال الأرض بالسماء، وكانت الأنبياء تتلقى الوحي في سكينة وجلال، فيعلمهم الله علم الأولين والآخرين. -١٧- وهذا التفات إلى طالب العلم ليصحح سلوكه على هدي الأنبياء، فيبدأ بتحصيل العلم من تصحيح المعاملة فيما بينه وبين الله، ويبحث عن (حراء) يغسل فيه قلبه ويزكي فيه نفسه، ويبحث عن (خليل) يطيل فيه استغراقه بالله، صابرًا على دوام الطاعة
/متن المنظومة/ -١٨- وكم عنِ الخلقِ احتجبتَ خاليًا ... وكم على الهضابِ سرتَ باكيًا -١٩- لكلِّ مُوسَى طورُ حبٍّ دائمُ ... وكلُّ عيسى في الحجابِ قائِمُ -١٨- وكم خلوت أيها السالك بربك، وكم بكيت بين يديه في الفلوات والقفار، وكم لهجت في ليلك ونهارك بذكره، فإن ذلك هو باب المعرفة ولله در الشاعر في قوله: أيها العاشق معنى حسننا ... مهرنا غال لمن يطلبنا جسد مضنى وروح في العنى ... وجفون لا تذوق الوسنا وفؤاد ليس فيه غيرنا ... وإذا ما شئت أدِّ الثمنا فعن الكونين كن منخلعًا ... وأزل ما بيننا مِن بيننا -١٩- المراد أن كل من يمشي على هدى موسى كليم الله ومنهجه، فإنه لا بد له من طور كطور موسى يخلو فيه بربه، وينقطع عن الخلق. وكل من يريد أن يحصل له من الوصال ما حصل لعيسى بن مريم، ولأمه العذراء البتول، فإنه لابد أن يدخل في الحجاب الذي دخلت فيه مريم منقطعة عن الخلق وهذا المنهج هو الذي ارتضاه السادة الصوفية وهم يرسمون للسالكين طريق الوصول إلى الله. وما أحسن ما قاله بهذا المعنى الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال: عطايانا سحائب مرسلات ... ولكن ما وجدنا السائلينا تجلي النور فوق الطور باق ... فهل بقي الكليم بطور سينا إن النبوة قد انقطعت بموت النبي ﷺ ولا ريب، وهذا من أركان الاعتقاد، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولكن ليس انقطاع النبوة والتشريع أذان بأن السماء أغلقت أبوابها في وجوه الأرض، وأن ثمرات العبادة التي يجدها العارفون في قلوبهم إشراقًا ونورًا قد حجبت عن العالمين، إذًا لقد حجَّرنا رحمة الله وفضله، والله أكرم من أن يمن بأنواره وبركاته على ولد يعقوب وأصحاب موسى وحواريي عيسى ثم يحجب هذه الأنوار عن أصحاب محمد وأمة محمد، والله أعدل من يمنح أنواره قومًا ويحجبها عن قوم آخرين، وهو القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ البقرة (١٨٦)
/متن المنظومة/ -٢٠- وذاكَ شأنُ طالبِ المعالي ... يواصِلُ النهارَ باللَّيالي -٢٠- وطالب العلم يسعى في تحصيل المعالي، وهذا لا يناله إلا من صدق في طلبه، وظهرت علامات صدقه على جوارحه ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ وفي الحديث أن النبي ﷺ لقي حارثة بن شراحيل فقال: كيف أصبحت يا حارثة قال مؤمنًا حقًا يا رسول الله. قال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وبأهل النار يتعاوون، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي. قال: عرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان. بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
/متن المنظومة/ -٢١- فهذِهِ الأصولُ والوقودُ ... وغيرُها القشورُ والقُيودُ -٢٢- فثمرٌ من غير قشرٍ يُتْلَفُ ... والقشرُ دونَ اللُّبِّ بيتٌ أَجْوَفُ -٢٣- وقيلَ إنَّ كلَّ مَنْ تَحققا ... مِنْ غيرِ شَرْعٍ إنَّما تَزَنْدَقا -٢٤- وكلُّ مَنْ بالشَّرعِ قَدْ تعمَّقَا ... بلا تحققٍ فذا تَفَسَّقا -٢١- ثم أشار إلى أن هذه الحقائق التي تتم بها تصفية القلب والجوارح، من الذكر والخلوة والمناجاة، إنما هي الأصل الذي يرتكز إليه سلوك طالب العلم، وتبنى عليه معرفته وشخصيته، وهي الوقود الذي يغذيه في العلم والدعوة، وما سوى هذا العلم الرباني السلوكي فهو قشور حافظة وقيود ضابطة. -٢٢- فالمعرفة بالله هي الثمرة التي يقصد العلم من أجلها، ولذلك درج العلماء على تسمية علم السلوك بـ (الحقيقة) وعلم اللسان بـ (الشريعة) وهذه التسمية متفقة مع منهج القرآن الكريم: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون﴾ التوبة (٩) فجعل الحذر والخوف من الله ثمرة وغاية للفقه والعلم. وقوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فجعل خشية الله ثمرة رئيسة من ثمرات العلم. غير أن هذه الثمرة لابد لها من قشور حافظة حتى لا يصيبها التلف، كما أن علم اللسان من غير سلوك إنما هو كالبيت الأجوف الخاوي، لا خير فيه ولا نفع منه. -٢٣، ٢٤- يشير إلى القول المشهور: (من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق) ومعنى ذلك أن من كثر علمه بالشرع ولم يتحقق بالعمل والالتزام بمضمون الشرع في سلوكه فقد فسق إذ لم يعمل بما علم. ومن اشتغل برعاية باطنه، وعظمت عبادته، وظهرت مكاشفاته، من غير أن يعرف الشرع ويميز ما يحل مما يحرم، فإنه يخشى عليه خطر الانحراف والوقوع في الزندقة.
/متن المنظومة/ والعلم علمانِ.. فعلمُ القلبِ ... حجتُنا يومَ لقاءِ الرَّبِّ وبعدَهُ علمُ اللِّسانِ فاعلمِ ... وذاكَ حجةٌ على ابنِ آدمِ -٢٥-٢٦- الأبيات إشارة إلى حديث: «العلم علمان: علم اللسان وهو حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب وذلك العلم النافع» وقد أخرجه أبو نعيم وابن شيبة والحكيم عن أنس والحسن. والمقصود أن العلم الشرعي مرتبط بالسلوك، وهذا ما يميزه عن سواه من العلوم فقد يكون المرء عالمًا بالقانون مثلًا رغم أنه لا يتقيد بأمره ونهيه على أن ذلك لا يغض من قدره كخبير قانوني. غير أن العلوم الشرعية تختلف تمامًا في هذا الجانب حيث لا يسمى عالمًا في عرف الشرع إلا من استقام على مراد الشرع بحاله وقاله. فعلم القلب يراد به أن يلاحظ العبد نور الله في قلبه فيشتغل بالذكر والمراقبة حتى يفتح الله عليه من فضله ونوره. وأما علم اللسان فالمراد به مطالعة النصوص والدراية بها، وملاحظة ما قاله العارفون. وفي هذا المعنى ما روي عن النبي ﷺ: «من ازداد علمًا ولم يزدد في الدنيا زهدًا لم يزدد من الله إلا بعدًا» رواه الديلمي في الفردوس عن علي كرَّم الله وجهه. لو كان بالعلم من دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
/متن المنظومة/ فحصِّنِ اللبابَ بالقُشُورِ ... وذا كمالُ الطَّالبِ الغَيُورِ وأجدَرُ العلومِ بالإتْقانِ ... فقهٌ مع الحديثِ والقرآنِ وهذهِ الثلاثُ ليسَتْ تُفهمُ ... بلا أصولِ الدِّينِ ليسَتْ تَعْلَمُ فكلُّ مَنْ وعاهُ بالإِتْقَانِ ... صارَ إِمامًا طيلةَ الزَّمانِ وجازَ أنْ يخوضَ في التَفْسيرِ ... والفِقْهِ والحديثِ والتَقْريرِ -٢٧- وهذا عود على بدء، والمراد أن الكمال لا يحصل إلا بعلم القلب واللسان جميعا، فعلم القلب هو الغذاء والزاد إلى الآخرة، وعلم اللسان كالحارس الناهض بحاجة السيد فكل منهما ضروري للآخر. -٢٨- ولما كان الزمان يقصر عن تحصيل العلوم جميعها فإن العاقل يختار الأهم فالمهم. وقد أفصح الإمام الشافعي ﵁ عن مراتب العلوم بقوله: كل العلوم عن القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين -٢٩- علم أصول الفقه يتناول بشكل رئيس مبحثين اثنين: مصادر الشريعة، وأصول (الاستنباط)، وبذلك فإنه يكون حاكمًا على علم الفقه موجهًا له، مبينا للسبيل التي يجب أن تتخذ في فهم الكتاب والسنة موضحًا سبيل الحق من سبيل الهالكين وبه تعلم أن المعرفة بالعلوم الثلاثة المذكورة: القرآن والسنة والفقه، متوقفة على معرفة علم الأصول كما حددها ورتبها أئمة هذا العلم من خيرة علماء السلف الصالحين. -٣٠٣١ فكل من أحاط بعلم أصول الفقه إحاطة تامة بدقائقه وحقائقه صار له الحق أن يدلي بدلوه مع الفقهاء في تقرير الأحكام والاستنباط من الكتاب والسنة. وقد أجمعوا أنه لا بد للمجتهد مطلقًا كان أو مقيدًا من معرفة تامة بعلم أصول الفقه.
/متن المنظومة/ وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري ... ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا ... وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد ... في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ ... وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ -٣٢-٣٣- ومثل المكثر من الفقه بلا أصول، كمثل الساعي في البرية ليلا بلا نور، وتاريخ العلم مليء بسيرة رجال كثر اطلاعهم على العلوم ولم تكن لهم موازين دقيقة فيما يتعلمون ويعلمون، فسرعان ما اشتطت آراؤهم، وزاغت أفكارهم فضلوا وأضلوا. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» -٣٤٣٥- الأبيات في بيان حكم المقلد. فالفتوى التي عليها جمهور الفقهاء أنه لا يحل له الاجتهاد حتى تكتمل عنده شرائطه وهي التي نفصلها في بحث الاجتهاد فيما بعد. وعليه فإنه يلزم المقلد أن لا يفتي إلاَّ بقول المشايخ المأذون لهم بالاجتهاد المطلق والمقيد كل في بابه، وعليه الرجوع إلى نصوصهم فيما نصوا عليه، والسكوت فيما لم ينصوا عليه. وهذا من فضل الله ﷿ على هذه الأمة، ولطفه بها.
/متن المنظومة/ إِذْ لو أبيحَ الاجتهادُ للبَشَرْ ... بلا أصولٍ ملأُوا الدُّنيا ضَرَرْ وعُطِّلَتْ شريعةُ القُرْآنِ ... وحَكَمَتْ شريعةُ الشَّيْطانِ فَمِنْ عظيمِ فَضْلِهِ عَلَينا ... ومِنْ جليلِ برِّهِ إِلَيْنا أنْ وضَعُوا قواعدَ الأُصُولِ ... وحدَّدُوا طرائقَ الوصُوُلِ سَدَّا على منافذِ الشَّيْطانِ ... حتَّى تسودَ شِرْعَةُ الفُرقانِ وهذهِ منظومةٌ صغيرَةْ ... حوتْ أصولَ فِقْهِنَا الشَّهيرَةْ -٣٦ فلو أن الاجتهاد كان مباحًا للناس بغير حساب ولا أصول لامتلأت الدنيا بالمفاسد، وصارت الأهواء دينًا يتبع. -٣٧-٣٨-٣٩-٤٠- لذلك (فمن عظيم فضله) ﷾ (علينا) أي على المؤمنين (ومن جليل بره) ﷾ (إلينا) أي مما شملنا به من فضله وإحسانه (أن وضعوا) أي وضع العلماء والمجتهدون (قواعد الأصول) وخصوصًا شرائط الاجتهاد (وحددوا طرائق الوصول) إلى رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام (سدًا على منافذ الشيطان) وبذلك فقد سدوا الأبواب على كل منفذ من منافذ الشيطان يتخذه للعبث بالشريعة وتعطيل الأحكام، وذلك كله (حتى تسود شرعة الفرقان) والفرقان اسم من أسماء القرآن العظيم. -٤١- (وهذه منظومة صغيرة) وهي نظم في نحو ست مائة ونيف وأربعين بيتًا بيت من بحر الرجز (حوت أصول فقهنا الشهيرة) من بحوث المصادر والمقاصد والدلالات وقد أعان الله ﷾ فنظمت هذه الأبيات قصدت فيها تبسيط هذا العلم الشريف لطلبة العلم ليكون بين أيديهم كالقواعد الناظمة قريبًا من القلوب سهلا على الألسنة
/متن المنظومة/ نَظمتُها بدايَةً لِلْمُجْتَهِدْ ... ورُمْتُها نِهاية للمقْتَصِدْ سَمَّيتُها منظومةَ المُعْتَمدِ ... على كتابِ شيخِنا مُحَمَّدِ -٤٢ وهي نافعة إن شاء الله لكل من المجتهد والمقتصد، فالمقتصد في هذا العلم الشريف له فيها كفاية وغناء، وهي تكون بإذن الله مقررًا دراسيًا يقرؤه طلبة العلم في المعاهد الشرعية، وكذلك فإنها مرحلة تدريب ضروري للمجتهد في أوله، ترسم طريق الاجتهاد على أصوله الصحيحة. وقد استعار الناظم هذه التسمية من العلامة الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه العظيم: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) -٤٣- وقد سميت المنظومة باسم (المعتمد في أصول الفقه) لأنني جمعت فيها أقوال الأئمة المعتمدين، ولم أتعرض لرأي المخالفين، ولو كان له وجه، وذلك لأن المقصود من المنظومة هذه ترسيخ قدم طالب العلم على سكة هذا العلم الشريف، ثم للجدل بعد ذلك اختصاص وأهل اختصاص. (على كتاب شيخنا محمد) وقد جريت في نظم قواعد الأصول على الترتيب الذي جرى عليه أستاذنا الدكتور: محمد الزحيلي وهو أستاذ أصول الفقه الإسلامي في كلية الدعوة الإسلامية، وكلية الشريعة بجامعة دمشق، وكتابه المسمى: أصول الفقه الإسلامي مقرر دراسي في كلية الشريعة بجامعة دمشق. والدكتور محمد الزحيلي من مواليد ١٩٤١ م في منطقة دير عطية من أعمال الشام في منتصف الطريق بين دمشق وحمص، سلك على العلامة الكبير الشيخ عبد القادر القصاب مؤسس النهضة العلمية في دير عطية، ثم ارتحل إلى الشام حيث تخرج بكلية الشريعة عام ١٩٧١ م والتحق بالأزهر الشريف ونال رتبة الدكتوراه في الفقه الإسلامي المقارن.
/متن المنظومة/ فأسألُ الرحمنَ أنْ يُتمِّما ... ويجعلَ الخيَر بها مُعمَّمًا وينزعُ الرياءَ عَنْ أَعمالِنا ... ويكتبَ الإخلاصَ في أَقْوالِنَا -٤٤- فأسأل الرحمن سؤال عبد واثق بفضله سبحانه (أن يتمما) أي يتمم فضله فيما ألهمنا إياه من خدمة العلم الشريف وأن (يجعل الخير بها) أي بهذه المنظومة (معممًا) في الناس يقرؤونها وينتفعون بها ويذكرونا بدعوة صالحة. -٤٥- (وينزع الرياء) عطف على الدعاء السابق أي أسأله أن ينزع الرياء والمفاخرة عن أعمالنا في مجال خدمة العلم الشريف (ويكتب الإخلاص في) أقوالنا ولا نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. والرياء آفة العمل الصالح وقد كان السلف رضوان الله عليهم يحذرون من الرياء أشد من حذرنا من الكفر. وكان الحسن البصري رضوان الله عليه يقول: إذا استطعت أن تعيش وتموت ولا يعرفك أحد فافعل، وما عليك ألا يعرفوك في الأرض إذا عرفك الله في السماء.
/متن المنظومة/ -٤- وبعدُ فالعلمُ ذخيرةُ الفَتى ... وزادُهُ يومَ المعادِ إذْ أَتى -٥- ولن ينالَ منهُ غيَر بعضهِ ... ولو تقضَّى عمرُهُ بركضهِ -٤- (وبعد) كلمة تقال قبل الشروع في المقصود، وأول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، خطيب العرب في الجاهلية (فالعلم ذخيرة الفتى) أي زاد المرء ومعتمده في كل أمر يشرع فيه من أمور الدنيا وهو كذلك (وهو زاده يوم المعاد) يوم القيامة (إذ أتى) أي حين يحضر للحساب. -٥- (ولن ينال) أي طالب العلم (منه) أي من العلم (غير بعضه) أي لا يمكن تحصيل جميع العلوم (ولو تقضى عمره بركضه) أي مهما اجتهد في التحصيل وقد روي عن الإمام الشافعي قوله: كل شيء إذا أعطيته بعضك أعطاك كله إلا العلم فإنك لو أعطيته كلك لم يعطك إلا بعضه. والعلم في الإسلام أشرف الغايات وأغلاها ترحل في تحصيله الأنبياء كما علمنا الله سبحانه في قصة موسى والخضر، وكما أمر الله سبحانه النبي ﷺ: ﴿وقل ربي زدني علمًا﴾ والعلم في الإسلام غاية لا وسيلة وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: لو بلغني أن أجلي بعد ساعة لاخترت أن أمضيها في طلب العلم.
/متن المنظومة/ -٦- لذاكَ فابدأْ منْهُ بالأهَمِّ ... ولا تُبالي بالثَّنَا والذَّمِّ -٧- واعلم بأنَّ العلمَ نورٌ يقذفُ ... لكلِّ قلبٍ ذاكرٍ يُلُقَّفُ -٦- (لذاك) ولما كان العمر قصيرًا، والأجل غير معروف، نصح الناظم طالب العلم فقال (فابدأ منه بالأهم) ثم المهم (ولا تبالي بالثنا والذم) من الناس بل اجعل قصدك في تحصيل العلم رضا مولاك. وقد سُمِعَ الإمام الشافعي يقول: وددنا أن هذا العلم انتفعت به الناس ولم ينسب إلينا منه شيء. وقرأت على هامش كتاب رشحات عين الحياة، بخط شيخنا الشيخ أحمد كفتارو ما نصه: (أولًا نحسب حساب الله، وما سواه لا نرجوه ولا نخشاه) -٧- (واعلم) أيها السالك (بأن العلم نور يقذف) من الله ﷿ وقد سمى الله سبحانه القرآن الكريم علمًا فقال: ﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾ وسماه نورًا فقال: ﴿ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ فالعلم والنور صفتان للقرآن الكريم. (لكل قلب ذاكر يلقف) أي إنما يقذف الله هذا العلم لتلقفه القلوب الذاكرة المشرقة، وبهذا المعنى أثر عن الإمام الشافعي قوله:
/متن المنظومة/ شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نُور ... ونور الله لا يهدى لعاصي والغفلة عن الله حجاب يحول بين طالب العلم وبين تحصيل المعرفة، إذْ كلما كانت النفس أكثر صفاء وطمأنينة كلما تقبلت من العلم أبوابًا أكثر.
/متن المنظومة/ -٨- والناسُ كالأرضِ إذا أصابَها ... غيثٌ تفتَّحت لهُ أبوابُها -٩- فبعضُها تشربَّتْ قليلًا ... وبعضُها لَمْ تَستفِدْ فَتِيلًا -١٠- وبعضُها تفتَّحت سريعًا ... فتلكَ نالت خيَرهُ جمَيعًا -٨- (والناس) في انتفاعهم بالعلم مثلهم كمثل (الأرض إذا أصابها غيث) من السماء (تفتحت له أبوابها) فاستقبلت ماء السماء، فكانت على ثلاثة أصناف: -٩- الصنف الأول من الأراضي يصيبها الماء فتشرب منه قليلًا وتحفظ منه قليلًا فينتفع به الناس (وبعضها لم تستفد فتيلًا) قاحلة جدباء لا يفيدها ماء السماء إلا وحلًا وطينًا. -١٠- والصنف الثالث خصبة غزيرة، تفتحت لملاقاة الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا. فالماء واحد ينزل طاهرًا من السماء وإنما يتنوع حال الناس من الانتفاع به بحسب استعدادهم. والأبيات الثلاثة إشارة إلى ما أخرجه البخاري من رواية أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»
/متن المنظومة/ -١١- والعلمُ في الإسلامِ نورُ اللهِ ... تنالهُ من بابِ حبِّ الله -١٢- فالأنبياءُ المخلصِوُن الُكمَّلُ ... من بابِ حبِّ الله قَدْ تكَمَّلوُا -١١- لا ينفعك العلم عن العمل في الإسلام، ولا يقبل علم عامل حتى يعمل بما يعلم، وفي الزُبَدْ: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذَّبٌ من قبل عُبَّادِ الوثن وكل من بغير علم يعملُ ... أعماله مردودة لا تقبلُ وكان السلف لا يطلقون اسم (عالم) إلا على من عظمت خشيته، وكثرت طاعاته، واشتهر صلاحه على قدر علم المرء يعظم خوفه ... فلا عالم إلا من الله خائف وعلوم الشرع علوم نظيفة طاهرة لا ينالها إلا من طهرت سريرته، وزكت نفسه، وعظمت محبته ولما حدثك عن سبيل تحصيل العلم الشريف، شرع يضرب لك الأمثال عن سلوك الأنبياء والأولياء في تلقي هذا العلم الشريف من باب الاستقامة والطاعة -١٢- والمخلِص (بالكسر) من أخلص قلبه لله، والمخلص (بالفتح) من استخلصه الله سبحانه واصطفاه فهو أرفع منزلة من الأول، غير أن الفريقين اشتركا في إخلاص التوجه إلى الله، وتصحيح المعاملة في ما بينهم وبين مولاهم سبحانه. وإنما تحصل لهم الكمال من باب الاشتغال بالله وحده الانقطاع عما سواه.
/متن المنظومة/ -١٣- فالطورُ والخليلُ والحجابُ ... والغارُ والمزمورُ والهضَابُ -١٤- مسالكُ الخلقِ لبابِ الحقَّ ... بها ينالُ القصدَ أهلُ الصِّدْقِ -١٣- لقد كان لكل نبي ولكل ولي معتكف يخلو به مع الله، وينقطع عن الأغيار، ومن استأنس بالله استوحش مما سواه، ففي جبل الطور كان موسى يخلو بربه سبحانه، وهو جبل موحش مقفر في قلب صحراء سيناء، غير أن موسى رآه عامرًا بالأنس لما كلمه ربه فيه، وقد بلغ شوق موسى إلى الله ﷿ وتعلقه به حدًا جعله ينسى شعب بني إسرائيل ويسرع إلى مناجاة الله في (الطور) حتى ذكره الله ﷿ بقومه ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾، ولم يسجل القرآن لموسى من مناجاة الطور إلا سؤالًا واحدًا: ﴿ربِّ أرني أنظر إليك﴾ الأعراف ٧ وذلك شأن كل مشتاق، وفي الحديث القدسي: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين» رواه الترمذي والدارمي. وأما (الخليل) فهي بلدة كان يعتكف فيها إبراهيم الخليل في فلسطين وقيل موضع في برزة بدمشق، وبها قبر ينسب إليه، وهو يعكس صورة ما بين الخليل وربه من تجليات وإشراق، حتى استحق أن يدعى خليل الله، وكان اشتغاله بالله ﷿ حبًا وشوقًا يشغله عن مسألته، وفي الخبر أن إبراهيم ﵇ لما قدم إلى النار، وكان قومه قد أوقدوا تحتها عشرة أيام، حتى عظم لهيبها، وكان الطير إذا طار فوقها سقط فيها مشويًا من شدة طول ألسنة اللهب فيها، فوضعوه في المنجنيق ودفعوه، فأتاه جبريل وهو في رمية المنجنيق فقال: يا إبراهيم. ألك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: سل ربك؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، ﴿قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ قال: المفسرون لو أن الله قال: يا نار كوني بردًا على إبراهيم لمات إبراهيم في جوفها من شدة البرد، ولكن قال: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم. و(الحجاب) إشارة إلى قوله ﷿ في مريم ابنة عمران ﴿فاتخذت من دونهم حجابًا﴾ والمراد أن مريم ﵍ احتجبت عن قومها لتفرغ لعبادة الله، حتى طهرت نفسها وتزكت جوارحها، فأكرمها الله ﷿ بعيسى ابن مريم. و(الغار) إشارة إلى غار حراء، وهو الغار الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه قبل النبوة، وكانت قد حببت إليه الخلوة، فكان يخرج إلى الغار وهو كهف يتسع لرجل أو رجلين، في أعلى جبل أبي قبيس، يطل على مكة، يبلغه الفتى النشيط في نحو ساعة ونصف، ولا شك أن هذا الغار كان يمثل المدرسة التي تلقى فيها النبي ﷺ معارف النبوة، ونفحات العلم الإلهي. و(المزمور) إشارة إلى مزامير داود التي كان يتغنى بها في مناجاته لربه، وهي مجموعة من الأدعية والضراعات، كان يتغنى بها في جوف الليل، وهي تكشف لك عند تأملها، عن شفافية ما كان بين داود ومولاه من الشوق والحب. و(الهضاب) وهي إشارة إلى تلك الخلوات التي كان يلتزمها العابدون في انقطاعهم عن الأغيار. -١٤- (مسالك الخلق) أي هذه الخلوات التي كان يدخلها الأنبياء والأولياء، هي الدروب الصحيحة التي كانت تصلهم (لباب الحق) ﷾ (بها ينال القصد أهل الصدق) وشعار السالكين: (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي)
/متن المنظومة/ -١٥- بها قَضَوا أيّامَهُمْ فُرادى ... فاختصَّهم ربُّ الوَرى آحادًا -١٦- علَّمَهم منْ علْمِهِ اللَّدُنِّي ... فأصبحوا أربابَ كُلِّ فَنِّ -١٧- فكم عكفتَ في حراءٍ ذاكرًا ... وكم خلوتَ بالخليلِ صَابرًا -١٥- وفي تلك الخلوات كانت تمضي أيامهم بالقنوت والسجود، والعبادة والضراعة، تفيض عيونهم بالدمع شوقًا وحبًا، وتأنس أرواحهم بالله زلفًا وقربًا، فاصطفاهم الله سبحانه، وأفاض عليهم أنواره وبره. -١٦- والعلم اللدني إشارة إلى قوله ﷾ في الخضر ﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا﴾ والعلم اللدني ما يقذفه المولى سبحانه في قلب الذاكر من بركة ونور، يطمئن به قلبه، ويزداد به إيمانه، ويعظم به شوقه. وفي هذه الخلوات كان اتصال الأرض بالسماء، وكانت الأنبياء تتلقى الوحي في سكينة وجلال، فيعلمهم الله علم الأولين والآخرين. -١٧- وهذا التفات إلى طالب العلم ليصحح سلوكه على هدي الأنبياء، فيبدأ بتحصيل العلم من تصحيح المعاملة فيما بينه وبين الله، ويبحث عن (حراء) يغسل فيه قلبه ويزكي فيه نفسه، ويبحث عن (خليل) يطيل فيه استغراقه بالله، صابرًا على دوام الطاعة
/متن المنظومة/ -١٨- وكم عنِ الخلقِ احتجبتَ خاليًا ... وكم على الهضابِ سرتَ باكيًا -١٩- لكلِّ مُوسَى طورُ حبٍّ دائمُ ... وكلُّ عيسى في الحجابِ قائِمُ -١٨- وكم خلوت أيها السالك بربك، وكم بكيت بين يديه في الفلوات والقفار، وكم لهجت في ليلك ونهارك بذكره، فإن ذلك هو باب المعرفة ولله در الشاعر في قوله: أيها العاشق معنى حسننا ... مهرنا غال لمن يطلبنا جسد مضنى وروح في العنى ... وجفون لا تذوق الوسنا وفؤاد ليس فيه غيرنا ... وإذا ما شئت أدِّ الثمنا فعن الكونين كن منخلعًا ... وأزل ما بيننا مِن بيننا -١٩- المراد أن كل من يمشي على هدى موسى كليم الله ومنهجه، فإنه لا بد له من طور كطور موسى يخلو فيه بربه، وينقطع عن الخلق. وكل من يريد أن يحصل له من الوصال ما حصل لعيسى بن مريم، ولأمه العذراء البتول، فإنه لابد أن يدخل في الحجاب الذي دخلت فيه مريم منقطعة عن الخلق وهذا المنهج هو الذي ارتضاه السادة الصوفية وهم يرسمون للسالكين طريق الوصول إلى الله. وما أحسن ما قاله بهذا المعنى الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال: عطايانا سحائب مرسلات ... ولكن ما وجدنا السائلينا تجلي النور فوق الطور باق ... فهل بقي الكليم بطور سينا إن النبوة قد انقطعت بموت النبي ﷺ ولا ريب، وهذا من أركان الاعتقاد، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولكن ليس انقطاع النبوة والتشريع أذان بأن السماء أغلقت أبوابها في وجوه الأرض، وأن ثمرات العبادة التي يجدها العارفون في قلوبهم إشراقًا ونورًا قد حجبت عن العالمين، إذًا لقد حجَّرنا رحمة الله وفضله، والله أكرم من أن يمن بأنواره وبركاته على ولد يعقوب وأصحاب موسى وحواريي عيسى ثم يحجب هذه الأنوار عن أصحاب محمد وأمة محمد، والله أعدل من يمنح أنواره قومًا ويحجبها عن قوم آخرين، وهو القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ البقرة (١٨٦)
/متن المنظومة/ -٢٠- وذاكَ شأنُ طالبِ المعالي ... يواصِلُ النهارَ باللَّيالي -٢٠- وطالب العلم يسعى في تحصيل المعالي، وهذا لا يناله إلا من صدق في طلبه، وظهرت علامات صدقه على جوارحه ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ وفي الحديث أن النبي ﷺ لقي حارثة بن شراحيل فقال: كيف أصبحت يا حارثة قال مؤمنًا حقًا يا رسول الله. قال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وبأهل النار يتعاوون، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي. قال: عرفت فالزم عبد نور الله قلبه بالإيمان. بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
/متن المنظومة/ -٢١- فهذِهِ الأصولُ والوقودُ ... وغيرُها القشورُ والقُيودُ -٢٢- فثمرٌ من غير قشرٍ يُتْلَفُ ... والقشرُ دونَ اللُّبِّ بيتٌ أَجْوَفُ -٢٣- وقيلَ إنَّ كلَّ مَنْ تَحققا ... مِنْ غيرِ شَرْعٍ إنَّما تَزَنْدَقا -٢٤- وكلُّ مَنْ بالشَّرعِ قَدْ تعمَّقَا ... بلا تحققٍ فذا تَفَسَّقا -٢١- ثم أشار إلى أن هذه الحقائق التي تتم بها تصفية القلب والجوارح، من الذكر والخلوة والمناجاة، إنما هي الأصل الذي يرتكز إليه سلوك طالب العلم، وتبنى عليه معرفته وشخصيته، وهي الوقود الذي يغذيه في العلم والدعوة، وما سوى هذا العلم الرباني السلوكي فهو قشور حافظة وقيود ضابطة. -٢٢- فالمعرفة بالله هي الثمرة التي يقصد العلم من أجلها، ولذلك درج العلماء على تسمية علم السلوك بـ (الحقيقة) وعلم اللسان بـ (الشريعة) وهذه التسمية متفقة مع منهج القرآن الكريم: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم لعلهم يحذرون﴾ التوبة (٩) فجعل الحذر والخوف من الله ثمرة وغاية للفقه والعلم. وقوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ فجعل خشية الله ثمرة رئيسة من ثمرات العلم. غير أن هذه الثمرة لابد لها من قشور حافظة حتى لا يصيبها التلف، كما أن علم اللسان من غير سلوك إنما هو كالبيت الأجوف الخاوي، لا خير فيه ولا نفع منه. -٢٣، ٢٤- يشير إلى القول المشهور: (من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق) ومعنى ذلك أن من كثر علمه بالشرع ولم يتحقق بالعمل والالتزام بمضمون الشرع في سلوكه فقد فسق إذ لم يعمل بما علم. ومن اشتغل برعاية باطنه، وعظمت عبادته، وظهرت مكاشفاته، من غير أن يعرف الشرع ويميز ما يحل مما يحرم، فإنه يخشى عليه خطر الانحراف والوقوع في الزندقة.
/متن المنظومة/ والعلم علمانِ.. فعلمُ القلبِ ... حجتُنا يومَ لقاءِ الرَّبِّ وبعدَهُ علمُ اللِّسانِ فاعلمِ ... وذاكَ حجةٌ على ابنِ آدمِ -٢٥-٢٦- الأبيات إشارة إلى حديث: «العلم علمان: علم اللسان وهو حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب وذلك العلم النافع» وقد أخرجه أبو نعيم وابن شيبة والحكيم عن أنس والحسن. والمقصود أن العلم الشرعي مرتبط بالسلوك، وهذا ما يميزه عن سواه من العلوم فقد يكون المرء عالمًا بالقانون مثلًا رغم أنه لا يتقيد بأمره ونهيه على أن ذلك لا يغض من قدره كخبير قانوني. غير أن العلوم الشرعية تختلف تمامًا في هذا الجانب حيث لا يسمى عالمًا في عرف الشرع إلا من استقام على مراد الشرع بحاله وقاله. فعلم القلب يراد به أن يلاحظ العبد نور الله في قلبه فيشتغل بالذكر والمراقبة حتى يفتح الله عليه من فضله ونوره. وأما علم اللسان فالمراد به مطالعة النصوص والدراية بها، وملاحظة ما قاله العارفون. وفي هذا المعنى ما روي عن النبي ﷺ: «من ازداد علمًا ولم يزدد في الدنيا زهدًا لم يزدد من الله إلا بعدًا» رواه الديلمي في الفردوس عن علي كرَّم الله وجهه. لو كان بالعلم من دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
/متن المنظومة/ فحصِّنِ اللبابَ بالقُشُورِ ... وذا كمالُ الطَّالبِ الغَيُورِ وأجدَرُ العلومِ بالإتْقانِ ... فقهٌ مع الحديثِ والقرآنِ وهذهِ الثلاثُ ليسَتْ تُفهمُ ... بلا أصولِ الدِّينِ ليسَتْ تَعْلَمُ فكلُّ مَنْ وعاهُ بالإِتْقَانِ ... صارَ إِمامًا طيلةَ الزَّمانِ وجازَ أنْ يخوضَ في التَفْسيرِ ... والفِقْهِ والحديثِ والتَقْريرِ -٢٧- وهذا عود على بدء، والمراد أن الكمال لا يحصل إلا بعلم القلب واللسان جميعا، فعلم القلب هو الغذاء والزاد إلى الآخرة، وعلم اللسان كالحارس الناهض بحاجة السيد فكل منهما ضروري للآخر. -٢٨- ولما كان الزمان يقصر عن تحصيل العلوم جميعها فإن العاقل يختار الأهم فالمهم. وقد أفصح الإمام الشافعي ﵁ عن مراتب العلوم بقوله: كل العلوم عن القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين -٢٩- علم أصول الفقه يتناول بشكل رئيس مبحثين اثنين: مصادر الشريعة، وأصول (الاستنباط)، وبذلك فإنه يكون حاكمًا على علم الفقه موجهًا له، مبينا للسبيل التي يجب أن تتخذ في فهم الكتاب والسنة موضحًا سبيل الحق من سبيل الهالكين وبه تعلم أن المعرفة بالعلوم الثلاثة المذكورة: القرآن والسنة والفقه، متوقفة على معرفة علم الأصول كما حددها ورتبها أئمة هذا العلم من خيرة علماء السلف الصالحين. -٣٠٣١ فكل من أحاط بعلم أصول الفقه إحاطة تامة بدقائقه وحقائقه صار له الحق أن يدلي بدلوه مع الفقهاء في تقرير الأحكام والاستنباط من الكتاب والسنة. وقد أجمعوا أنه لا بد للمجتهد مطلقًا كان أو مقيدًا من معرفة تامة بعلم أصول الفقه.
/متن المنظومة/ وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري ... ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا ... وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد ... في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ ... وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ -٣٢-٣٣- ومثل المكثر من الفقه بلا أصول، كمثل الساعي في البرية ليلا بلا نور، وتاريخ العلم مليء بسيرة رجال كثر اطلاعهم على العلوم ولم تكن لهم موازين دقيقة فيما يتعلمون ويعلمون، فسرعان ما اشتطت آراؤهم، وزاغت أفكارهم فضلوا وأضلوا. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» -٣٤٣٥- الأبيات في بيان حكم المقلد. فالفتوى التي عليها جمهور الفقهاء أنه لا يحل له الاجتهاد حتى تكتمل عنده شرائطه وهي التي نفصلها في بحث الاجتهاد فيما بعد. وعليه فإنه يلزم المقلد أن لا يفتي إلاَّ بقول المشايخ المأذون لهم بالاجتهاد المطلق والمقيد كل في بابه، وعليه الرجوع إلى نصوصهم فيما نصوا عليه، والسكوت فيما لم ينصوا عليه. وهذا من فضل الله ﷿ على هذه الأمة، ولطفه بها.
/متن المنظومة/ إِذْ لو أبيحَ الاجتهادُ للبَشَرْ ... بلا أصولٍ ملأُوا الدُّنيا ضَرَرْ وعُطِّلَتْ شريعةُ القُرْآنِ ... وحَكَمَتْ شريعةُ الشَّيْطانِ فَمِنْ عظيمِ فَضْلِهِ عَلَينا ... ومِنْ جليلِ برِّهِ إِلَيْنا أنْ وضَعُوا قواعدَ الأُصُولِ ... وحدَّدُوا طرائقَ الوصُوُلِ سَدَّا على منافذِ الشَّيْطانِ ... حتَّى تسودَ شِرْعَةُ الفُرقانِ وهذهِ منظومةٌ صغيرَةْ ... حوتْ أصولَ فِقْهِنَا الشَّهيرَةْ -٣٦ فلو أن الاجتهاد كان مباحًا للناس بغير حساب ولا أصول لامتلأت الدنيا بالمفاسد، وصارت الأهواء دينًا يتبع. -٣٧-٣٨-٣٩-٤٠- لذلك (فمن عظيم فضله) ﷾ (علينا) أي على المؤمنين (ومن جليل بره) ﷾ (إلينا) أي مما شملنا به من فضله وإحسانه (أن وضعوا) أي وضع العلماء والمجتهدون (قواعد الأصول) وخصوصًا شرائط الاجتهاد (وحددوا طرائق الوصول) إلى رتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام (سدًا على منافذ الشيطان) وبذلك فقد سدوا الأبواب على كل منفذ من منافذ الشيطان يتخذه للعبث بالشريعة وتعطيل الأحكام، وذلك كله (حتى تسود شرعة الفرقان) والفرقان اسم من أسماء القرآن العظيم. -٤١- (وهذه منظومة صغيرة) وهي نظم في نحو ست مائة ونيف وأربعين بيتًا بيت من بحر الرجز (حوت أصول فقهنا الشهيرة) من بحوث المصادر والمقاصد والدلالات وقد أعان الله ﷾ فنظمت هذه الأبيات قصدت فيها تبسيط هذا العلم الشريف لطلبة العلم ليكون بين أيديهم كالقواعد الناظمة قريبًا من القلوب سهلا على الألسنة
/متن المنظومة/ نَظمتُها بدايَةً لِلْمُجْتَهِدْ ... ورُمْتُها نِهاية للمقْتَصِدْ سَمَّيتُها منظومةَ المُعْتَمدِ ... على كتابِ شيخِنا مُحَمَّدِ -٤٢ وهي نافعة إن شاء الله لكل من المجتهد والمقتصد، فالمقتصد في هذا العلم الشريف له فيها كفاية وغناء، وهي تكون بإذن الله مقررًا دراسيًا يقرؤه طلبة العلم في المعاهد الشرعية، وكذلك فإنها مرحلة تدريب ضروري للمجتهد في أوله، ترسم طريق الاجتهاد على أصوله الصحيحة. وقد استعار الناظم هذه التسمية من العلامة الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه العظيم: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) -٤٣- وقد سميت المنظومة باسم (المعتمد في أصول الفقه) لأنني جمعت فيها أقوال الأئمة المعتمدين، ولم أتعرض لرأي المخالفين، ولو كان له وجه، وذلك لأن المقصود من المنظومة هذه ترسيخ قدم طالب العلم على سكة هذا العلم الشريف، ثم للجدل بعد ذلك اختصاص وأهل اختصاص. (على كتاب شيخنا محمد) وقد جريت في نظم قواعد الأصول على الترتيب الذي جرى عليه أستاذنا الدكتور: محمد الزحيلي وهو أستاذ أصول الفقه الإسلامي في كلية الدعوة الإسلامية، وكلية الشريعة بجامعة دمشق، وكتابه المسمى: أصول الفقه الإسلامي مقرر دراسي في كلية الشريعة بجامعة دمشق. والدكتور محمد الزحيلي من مواليد ١٩٤١ م في منطقة دير عطية من أعمال الشام في منتصف الطريق بين دمشق وحمص، سلك على العلامة الكبير الشيخ عبد القادر القصاب مؤسس النهضة العلمية في دير عطية، ثم ارتحل إلى الشام حيث تخرج بكلية الشريعة عام ١٩٧١ م والتحق بالأزهر الشريف ونال رتبة الدكتوراه في الفقه الإسلامي المقارن.
/متن المنظومة/ فأسألُ الرحمنَ أنْ يُتمِّما ... ويجعلَ الخيَر بها مُعمَّمًا وينزعُ الرياءَ عَنْ أَعمالِنا ... ويكتبَ الإخلاصَ في أَقْوالِنَا -٤٤- فأسأل الرحمن سؤال عبد واثق بفضله سبحانه (أن يتمما) أي يتمم فضله فيما ألهمنا إياه من خدمة العلم الشريف وأن (يجعل الخير بها) أي بهذه المنظومة (معممًا) في الناس يقرؤونها وينتفعون بها ويذكرونا بدعوة صالحة. -٤٥- (وينزع الرياء) عطف على الدعاء السابق أي أسأله أن ينزع الرياء والمفاخرة عن أعمالنا في مجال خدمة العلم الشريف (ويكتب الإخلاص في) أقوالنا ولا نكون من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. والرياء آفة العمل الصالح وقد كان السلف رضوان الله عليهم يحذرون من الرياء أشد من حذرنا من الكفر. وكان الحسن البصري رضوان الله عليه يقول: إذا استطعت أن تعيش وتموت ولا يعرفك أحد فافعل، وما عليك ألا يعرفوك في الأرض إذا عرفك الله في السماء.
1 / 14
تعريف علم أصول الفقه
1 / 15
/متن المنظومة/
تعريفُه أنْ تعرفَ القَواعِدا ... الشاملاتِ الموصلاتِ القاصِدا
إلى طريقةِ اختيارِ الحكم ... منَ الدَّليلِ مثلما لنَا نُمي
فهكذا جمهورُهم عَرَّفه ... والشافعيُّ قالَ فيهِ: أَنَّه
معرفة الدلائل الفقهية ... وكيف نستفيد منها شيَّا
وحالةُ الذي يريدُ الفائِدَهْ ... ومالَهُ مِنَ الصِّفاتِ عائِدَه
-٤٦-٤٧-٤٨- تعريف علم أصول الفقه: «معرفة القواعد الشاملة التي توصل القاصدين إلى استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية» وهذا التعريف هو ما ذكره الناظم.
والتعريف الشائع أخصر من هذا، وهو: معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام، وهذا هو تعريف الكمال بن الهمام.
وقوله (مثلما لنا نمي) أي كذلك نقله الأئمة، وكذلك وصل إلينا، ثم بين الناظم أن هذا هو تعريف الجمهور بقوله: (فهكذا جمهورهم عرفه)
-٤٩-٥٠- أورد تعريف الإمام الشافعي لعلم أصول الفقه ونصه كما ذكره البيضاوي في منهاج الوصول: معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
ونلاحظ أن تعريف الشافعية للأصول يتضمن ثلاثة مباحث:
-١ معرفة دلائل الفقه إجمالا، وهو ما يعني مصادر التشريع
-٢ وكيفية الاستفادة منها، وهذا يعني حال هذه المصادر من حيث ثبوتها، وتحقيق المانع والسبب والشرط
-٣- وحال المستفيد، هو ما يعني مباحث المجتهد وشروطه وضوابطه
1 / 16
موضوع علم الأصول
1 / 17
ويراد بذلك بيان البحوث التي يتناولها هذا العلم.
/متن المنظومة/ بحوثُه في خمسةٍ محصورَةْ ... مباحثُ الأَدِّلةِ المذكورَةْ مباحثُ الترجيحِ والتَّعارُضِ ... وبحثُ الاجتهادِ فيه فانهضِ ثمَّ بحوثُ الحكمِ أي في الشرعِ ... تخييرُه اقتضاؤُه والوضعيْ والخامسُ اقتباسُ كُلِّ حكمِ ... مِنَ الدليلِ بطريقِ الفهمِ فيبحثُ الفقيهُ فيما يَثْبتُ ... وعالِمُ الأصولِ فَهُوَ المُثْبَتِ -٥١-٥٢-٥٣-٥٤- تنحصر بحوث علم الفقه في خمسة مباحث: -١- مباحث الأدلة، ويراد بذلك بحوث مصادر التشريع وهي أربعة متفق عليها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأخرى مختلف فيها نعد منها: الاستصلاح والعرف وسد الذرائع وقول الصحابي وشرع من قبلنا وعمل أهل المدينة والاستصحاب. -٢- مباحث التعارض والترجيح، أي التوفيق بين الأدلة، والتحكيم عليها. -٣ مباحث الاجتهاد وشروط المجتهد وصفاته، وقال الناظم (فيه فانهض) إشارة إلى وجوب الاهتمام بهذا المبحث لما يترتب عليه من محذور ومحظور. -٤ مباحث الحكم الشرعي بأنواعه الثلاثة، وهي الاقتضاء والتخيير والوضع، وهي ما نفصل القول عنها في مواضعها. -٥ كيفية اقتباس الأحكام الشرعية من الدليل، والوسائل المشروعة في فهم النصوص والأدلة، وأصول الاستنباط. وهكذا فإنك ترى أن عمل الفقيه والأصولي متكاملان، ذلك أن الأصولي هو الذي يقدم الأدلة جاهزة للفقيه، ويقرر ما هو صالح منها للاحتجاج وما هو غير صالح، ومناطَ كلٍّ، أما الفقيه فإنه يأخذ هذه الأدلة جاهزة من صيدلية الأصول ليطبقها على الأحكام فيقرر على أساس ذلك الحرام والحلال والمندوب والمكروه والمباح. -٥٥ فعالم الأصول يثبت الأدلة، والفقيه يبحث فيما ثبت من الأدلة عند الأصولي، ويقرر بها الأحكام الشرعية. ...
/متن المنظومة/ بحوثُه في خمسةٍ محصورَةْ ... مباحثُ الأَدِّلةِ المذكورَةْ مباحثُ الترجيحِ والتَّعارُضِ ... وبحثُ الاجتهادِ فيه فانهضِ ثمَّ بحوثُ الحكمِ أي في الشرعِ ... تخييرُه اقتضاؤُه والوضعيْ والخامسُ اقتباسُ كُلِّ حكمِ ... مِنَ الدليلِ بطريقِ الفهمِ فيبحثُ الفقيهُ فيما يَثْبتُ ... وعالِمُ الأصولِ فَهُوَ المُثْبَتِ -٥١-٥٢-٥٣-٥٤- تنحصر بحوث علم الفقه في خمسة مباحث: -١- مباحث الأدلة، ويراد بذلك بحوث مصادر التشريع وهي أربعة متفق عليها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأخرى مختلف فيها نعد منها: الاستصلاح والعرف وسد الذرائع وقول الصحابي وشرع من قبلنا وعمل أهل المدينة والاستصحاب. -٢- مباحث التعارض والترجيح، أي التوفيق بين الأدلة، والتحكيم عليها. -٣ مباحث الاجتهاد وشروط المجتهد وصفاته، وقال الناظم (فيه فانهض) إشارة إلى وجوب الاهتمام بهذا المبحث لما يترتب عليه من محذور ومحظور. -٤ مباحث الحكم الشرعي بأنواعه الثلاثة، وهي الاقتضاء والتخيير والوضع، وهي ما نفصل القول عنها في مواضعها. -٥ كيفية اقتباس الأحكام الشرعية من الدليل، والوسائل المشروعة في فهم النصوص والأدلة، وأصول الاستنباط. وهكذا فإنك ترى أن عمل الفقيه والأصولي متكاملان، ذلك أن الأصولي هو الذي يقدم الأدلة جاهزة للفقيه، ويقرر ما هو صالح منها للاحتجاج وما هو غير صالح، ومناطَ كلٍّ، أما الفقيه فإنه يأخذ هذه الأدلة جاهزة من صيدلية الأصول ليطبقها على الأحكام فيقرر على أساس ذلك الحرام والحلال والمندوب والمكروه والمباح. -٥٥ فعالم الأصول يثبت الأدلة، والفقيه يبحث فيما ثبت من الأدلة عند الأصولي، ويقرر بها الأحكام الشرعية. ...
1 / 18
فائدة علم الأصول
1 / 19
/متن المنظومة/
وغايةُ الأصولِ في الوصولِ ... إلى مرادِ اللهِ والرَّسُولِ
وعدَّدوا لَهُ مِنَ الفوائدِ ... ما جلَّ عن حسابِ كلِّ قاصدِ
مِنْها بأنَّهُ الطريقُ الأَقومُ ... للاجتهادِ فهُداه يُلْزَمُ
وأَنَّهُ بانٍ به اِلإسلامُ ... وحُفِظَ القرآنُ والأحكامُ
وأَنَّهُ يُبيْنُ للمتَّبِعِ ... طريقةَ المجتهدِ المتَّبَعِ
-٥٦- شرع الناظم يعدد فوائد علم الأصول، فبدأ بتأكيد الغاية الكبرى من هذا العلم الشريف وهي الوصول إلى رضا الله سبحانه وطاعة رسوله، إذ لا يتوصل إلى ذلك إلا بعد معرفة مراد المولى ﷾ من الأوامر والنواهي.
-٥٧- ذكروا له من الفوائدِ ما لا يستطيع أحد إحصاءه.
-٥٨- فهو السبيل القويم للاجتهاد، وذلك أن الاجتهاد في الإسلام محكوم بموازين دقيقة، يجب اتباعها، وإلا كان الاجتهاد بلا ضوابط لونًا من العبث.
-٥٩- ومن فوائده أنه أظهر مزايا التشريع الإسلامي وحيويته ومرونته، وبه حفظ الله القرآن العظيم من العبث والتأول وحفظ الأحكام من الفوضى.
-٦٠- ومن فوائده أنه يظهر مناهج الأئمة في استنباط الأحكام، وبذلك ترتفع الشحناء من النفوس ويعذر المسلم إخوانه من المسلمين فيما اختاروه من مذاهب فقهية.
/متن المنظومة/ وأنَّهُ يمنَحُ للطُلاَّبِ ... ملكَةَ التفكيرِ بالصَّوابِ وأنَّه المبينُ للأحكامِ ... لكلِّ ما استجدَّ في الأيَّام وأَنَّهُ الضَّابطُ للفُروعِ ... مع الأصولِ فيصَلُ الجميعِ وأَنَّهُ لِدَارسِ المَذَاهبِ ... دليلُ كلِّ قاصدٍ وطالبِ ثامنُها يكشِفُ عنَّا الغُمَّةْ ... نرى فوائدَ اختلافِ الأُمَّةْ -٦١- إن القواعد التي أَصَّلها العلماء للاستنباط هي أيضا منهج دقيق للتفكير السليم حيث توضع العبارات في موازين دقيقة تستنبط منها الأحكام الشرعية، وهكذا فإنَّ علم الأصول يكسب الطالب ملكة التفكير الصحيح السليم. -٦٢- فالقواعدُ الأصولية وحدها، هي الكفيلة باستنباط أحكام شرعية لكل ما يستجد من القضايا خلال تطور الحياة وتنوع العقود والمعاملات والاكتشافات. -٦٣- إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية ويردها إلى أصولها، ويجمع المبادئ المشتركة، ويبين أسباب التباين بينها، ويظهر مبررات الاختلاف، وهكذا فإنه يكون فيصلًا واضحًا يعتمده الفقيه والمجتهد في تقرير الأحكام. -٦٤- ومن فوائده أنه يعتبر العماد الرئيس لمن يدرس المذاهب الإسلامية بقصد المقارنة، والإفادة من اجتهاد الجميع. -٦٥- وثامن هذه الفوائد، هي أن يستبصر طالب العلم في اختلاف الأئمة في الفروع، وما يعود به هذا الاختلاف على الفقه الإسلامي من ثراء ووفرة.
/متن المنظومة/ وأنَّهُ يمنَحُ للطُلاَّبِ ... ملكَةَ التفكيرِ بالصَّوابِ وأنَّه المبينُ للأحكامِ ... لكلِّ ما استجدَّ في الأيَّام وأَنَّهُ الضَّابطُ للفُروعِ ... مع الأصولِ فيصَلُ الجميعِ وأَنَّهُ لِدَارسِ المَذَاهبِ ... دليلُ كلِّ قاصدٍ وطالبِ ثامنُها يكشِفُ عنَّا الغُمَّةْ ... نرى فوائدَ اختلافِ الأُمَّةْ -٦١- إن القواعد التي أَصَّلها العلماء للاستنباط هي أيضا منهج دقيق للتفكير السليم حيث توضع العبارات في موازين دقيقة تستنبط منها الأحكام الشرعية، وهكذا فإنَّ علم الأصول يكسب الطالب ملكة التفكير الصحيح السليم. -٦٢- فالقواعدُ الأصولية وحدها، هي الكفيلة باستنباط أحكام شرعية لكل ما يستجد من القضايا خلال تطور الحياة وتنوع العقود والمعاملات والاكتشافات. -٦٣- إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية ويردها إلى أصولها، ويجمع المبادئ المشتركة، ويبين أسباب التباين بينها، ويظهر مبررات الاختلاف، وهكذا فإنه يكون فيصلًا واضحًا يعتمده الفقيه والمجتهد في تقرير الأحكام. -٦٤- ومن فوائده أنه يعتبر العماد الرئيس لمن يدرس المذاهب الإسلامية بقصد المقارنة، والإفادة من اجتهاد الجميع. -٦٥- وثامن هذه الفوائد، هي أن يستبصر طالب العلم في اختلاف الأئمة في الفروع، وما يعود به هذا الاختلاف على الفقه الإسلامي من ثراء ووفرة.
1 / 20
تاريخ أصول الفقه
1 / 21