لقد اتضح أن كل التاريخ الماضي كان تاريخا لصراعات الطبقات؛ وأن طبقات المجتمع المتناحرة هذه كانت دائما نتاج أنظمة الإنتاج والتبادل؛ أي باختصار نتاج الظروف الاقتصادية في عصرها. ورأينا أن الهيكل الاقتصادي للمجتمع يشكل دائما الأساس الحقيقي، الذي من خلال البدء به فقط يمكننا التوصل لتفسير نهائي للهيكل العلوي الكامل للمؤسسات القضائية والسياسية، وكذلك للأفكار الدينية والفلسفية وغيرها من الأفكار الخاصة بأي فترة تاريخية معينة.
ولخص إنجلز الاكتشاف الثاني - نظرية فائض القيمة - على النحو التالي:
لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي، وأساس استغلال العامل الذي يحدث في ظله؛ وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي قوة العمل من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعة في السوق، فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر مما دفع مقابلها؛ وأنه في التحليل النهائي يشكل فائض القيمة هذا مجموعات القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتل الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقات المالكة (الرد على دوهرينج).
كان إنجلز مؤسس المادية الجدلية والتاريخية، والمعتقدات الفلسفية والتأريخية التي طورها الماركسيون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبحت تلك المعتقدات أساس الفلسفة والتاريخ الرسميين في الاتحاد السوفييتي وفي معظم البلدان الأخرى التي أعلنت أنها بلدان ماركسية؛ كما أصبحت أيضا نقطة جدل مهمة داخل المجموعات السياسية الماركسية في البلدان غير الماركسية، وأصبحت مصطلحات هذه المعتقدات مألوفة في الفلسفة الأكاديمية وفي علم التأريخ، والسبب في ذلك يرجع في الأساس إلى أعمال كتاب ليس لهم صلة بالاتحاد السوفييتي. لقد طور إنجلز آراءه الجدلية على النحو الذي عبر به عنها عام 1859 في أول طبعة لكتاب «الرد على دوهرينج» (1878)، على الرغم من أن تلك الآراء كانت بعيدة عن الصياغة المنظمة. وفي الفصل الأول، كتب إنجلز عن «الميتافيزيقا» فقال:
يعتبر الميتافيزيقي الأشياء وانعكاساتها الذهنية المتمثلة في الأفكار، مواضيع للبحث بعضها منفصل عن بعض، ينظر إليها واحدا بعد الآخر، وواحدا دون الآخر، وهي ثابتة وجامدة ومعطاة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه لا يفكر إلا في التضاد بين الأشياء، دون توسط بينها، ويقول: «نعم نعم، لا لا؛ وما زاد عن ذلك، فهو ضرب من الشر.» بالنسبة إليه، الشيء يكون إما موجودا وإما غير موجود ؛ فالشيء لا يمكن أن يكون نفسه وشيئا آخر في الوقت نفسه؛ فالموجب والسالب يتنابذان تماما، والسبب والنتيجة يقف كل منهما للآخر في حالة تناقض صارم (الرد على دوهرينج).
وزعم إنجلز على النقيض من ذلك أن «قطبي التناقض» يتداخلان فعليا، فكتب أن الجدل، خلافا للميتافيزيقا (التي تغفل التداخل)، «يفهم الأشياء وتمثيلاتها بترابطها، ويتابعها وحركتها وأصلها ونهايتها الأساسية»، وأن «الطبيعة دليل على الجدل»؛ ولهذا السبب احتضنت المادية الحديثة «معظم الاكتشافات الحديثة في العلوم الطبيعية»، وكانت «جدلية في الأساس» (الرد على دوهرينج). وفي الفصول التالية استعرض إنجلز «الكم والكيف» و«نفي النفي»، وهما قانونان آخران من القوانين الجدلية، وكتب فقال إن: «الجدل لا يعدو أن يكون علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة، والفكر والمجتمع البشري» (الرد على دوهرينج).
عند استعراض «التصور المادي للتاريخ» في كتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز هذه النظرة بنظرته «الجدلية» للعلوم، زاعما أن «القوى الاجتماعية تعمل بالضبط مثل القوى الطبيعية»، وأن «الأسباب النهائية لكل التغيرات الاجتماعية والثورات السياسية يجب البحث عنها ... في التغيرات في أنماط الإنتاج والتبادل ... ليس في الفلسفة، وإنما في «النظام الاقتصادي» الخاص بكل حقبة محددة» (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1885 لكتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز ربطا أكثر وضوحا بين آرائه حول الجدل وعمل ماركس عن الاقتصاد السياسي وتطور المجتمع الصناعي المعاصر، فقال: «كنت أنا وماركس إلى حد كبير الشخصين الوحيدين اللذين أنقذا الجدل الواعي من الفلسفة المثالية الألمانية، وطبقناها في التصور المادي للطبيعة والتاريخ.» واستطرد إنجلز في موضوعه فكتب أنه كان يهدف إلى إقناع نفسه تفصيلا «بالأمور التي لم أكن في شك منها في العموم»:
إنه في الطبيعة، وسط فوضى التغيرات التي لا تعد ولا تحصى، تفرض القوانين الجدلية الخاصة بالحركة نفسها، تماما مثل تلك القوانين التي تحكم وقوع الأحداث عن طريق المصادفة في التاريخ، وهي القوانين نفسها التي تكون على نحو مشابه السمة السائدة على مدار تاريخ تطور الفكر البشري، وترتقي تدريجيا إلى الوعي في عقل الإنسان (الرد على دوهرينج).
إن استخلاص الأفكار الرئيسية لجدل إنجلز الموجود في مقدمة عام 1885 يجعل كتاب «الرد على دوهرينج» واضحا ومفهوما، على النقيض من العمل غير المنظم المنشور عام 1878 والمنسوب لماركس.
كانت فكرة إنجلز عن الميتافيزيقا غير مألوفة؛ حيث عرفها بأنها موقف فلسفي معين (أي: الاعتقاد بأن المفاهيم لديها مرجعيات ثابتة، وأن الحقيقة والزيف هما الصفتان الوحيدتان والواضحتان للفرضيات)، بدلا من كونها مجرد إطار للمفاهيم العامة المجردة يمكن ملؤه بالآراء الفلسفية الجوهرية المتعلقة بالموجودات وسبب وجودها. إن حديثه عن الجدل باعتباره عملية تطور من خلال التعارض (أو التناقض أو التضاد)، يتفق مع جهود هيجل في تحديد المتناقضات المختلفة التي تظهر في تطور الظواهر التي فحصها، إلا أن كلا من هيجل وإنجلز كان يكتب كما لو كان الجدل يعكس عملية ضرورية وحتمية من عمليات التطور التي تتبع لها - أو حتى تخضع لها - عملية الاختيار الإنساني في نهاية المطاف، واعتبر كل من هيجل وإنجلز أن العمليات الطبيعية جدلية «في حد ذاتها»؛ مما يوحي بوجود نوع من المعرفة أنكرها معظم الفلاسفة المعاصرين. على النقيض من ذلك، استنتج ماركس من خلال سرده الاقتصادي والسياسي للمجتمع الرأسمالي أن الثورة كانت - إن جاز القول - جيدة مثلما كانت حتمية، دون الاستعانة بفكرة الضرورة التاريخية. وبالمثل، لم يتطرق إلى النطاق المعقد المتمثل في الرابط السببي بين الظواهر المادية والسلوك البشري، فيما عدا فكرة أن الظروف المادية للإنتاج تخلق احتمالات للاختيار الإنساني، وفي الوقت نفسه تضع قيودا على ما يمكن إنجازه. وفي الخاتمة التي كتبها للمجلد الأول لكتاب «رأس المال»، عرف الجدل العقلاني بأنه ذلك المتضمن في فهمه الإيجابي للظروف فهما لنقيضه. وفي حين أن هيجل لم يقترب من تعريف الجدل باستثناء تعليقه الذي قدمه في مقدمة كتاب «علم المنطق»، قائلا إنه إدراك للأمور الإيجابية الموجودة في الأمور السلبية، فقد ربط إنجلز الجدل بالقوانين الطبيعية المرتبطة بالحركة في الطبيعة، والحركة في التاريخ (تطور الأحداث على الأرجح)، والحركة في الفكر (قواعد المنطق الصوري على الأرجح)؛ وأكد فحسب على الرابط المزعوم بين المادة الموجودة في حالة حركة (التي درسها إنجلز في الكيمياء والفيزياء) والتاريخ والفكر، ومن غير المفاجئ أنه لم يحدده مطلقا. وبالرغم من ذلك، لم يكن هيجل أو إنجلز أو ماركس من السذاجة بحيث يستعينون بالصيغة الثلاثية المتمثلة في الإثبات والنفي ونفي النفي، في كل ما فهمه كل منهم على حدة من خلال الجدل، وتلك الصيغة الثلاثية طالما نسبت إليهم عن طريق الخطأ. وبالفعل سخر ماركس بوضوح من هذا الأسلوب المستخدم في فهم الفلسفة الهيجلية. وقد اخترع الصيغة الثلاثية هاينريش موريتس تشاليبيوس، وهو من أوائل المعلقين على فلسفة هيجل بعد فترة قصيرة من وفاته، وهذا التفسير لم يوضح الفكر الهيجلي - بل فعل النقيض - وكانت له نتيجة أخرى تمثلت في إساءة تفسير منهج ومحتوى أعمال ماركس وإنجلز على نحو خطير.
نامعلوم صفحہ