مقدمة
المراجع المقتبس منها
1 - إنجلز وماركس
2 - إنجلز الصحفي
3 - إنجلز الشيوعي
4 - إنجلز الثوري
5 - إنجلز الماركسي
6 - إنجلز العالم
7 - إنجلز والماركسية
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
المراجع المقتبس منها
1 - إنجلز وماركس
2 - إنجلز الصحفي
3 - إنجلز الشيوعي
4 - إنجلز الثوري
5 - إنجلز الماركسي
6 - إنجلز العالم
7 - إنجلز والماركسية
قراءات إضافية
مصادر الصور
إنجلز
إنجلز
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
تيريل كارفر
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
مقدمة
على الرغم من كثرة الكتب التي تتناول ماركس والماركسية، فقليلة هي الكتب التي تتحدث عن إنجلز، وربما يوجد عدد أقل من تلك الكتب التي تتناول إنجلز بطريقة جدية بصفته واحدا من المفكرين. في هذا الكتاب، حاولت تقديم دراسة دقيقة وموجزة عن أفكار إنجلز، وإلى حد كبير أتحت له فرصة التعبير عن نفسه؛ نظرا لأن كلماته واضحة على نحو مناسب. لقد كان جل هدفي هو إثارة اهتمام القارئ بأفكار إنجلز وتأثيراتها على كل من العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
إنني ممتن لجامعة ليفربول لمنحها إياي إجازة دراسية كي أتمكن من الشروع في تأليف هذا الكتاب، كما أنني مدين بالشكر لكل من دعموا جهودي، ومدين أيضا لطلابي في الجامعة. وأود أن أتوجه بالشكر إلى كاثرين بين وماري وودز على الاهتمام الدقيق والفائق بالنسخة الأولية المطبوعة، وأشكر أيضا لاري وايلد وهنري هاردي وكيث توماس على اقتراحاتهم المفيدة للغاية، والشكر موصول أيضا للقارئ مجهول الهوية الذي استفدت كثيرا من آرائه.
وأود إهداء هذا الكتاب إلى ديفيد ماكليلان.
تيريل كارفر
بريستول
سبتمبر 1980
المراجع المقتبس منها
استعنت بثلاث مجموعات من أعمال كارل ماركس وفريدريك إنجلز؛ لأنه وقت تأليف الكتاب كانت مجموعة «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» قد غطت الفترة حتى عام 1854 فحسب. وفيما يتعلق بالاقتباس من هذه المجموعات وغيرها من الأعمال التي سأرد على ذكرها في هذا القسم، فسأذكر بين قوسين المصدر متبوعا برقم المجلد، إن وجد. «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» (لورانس آند ويشرت، لندن، 1975). «الأعمال المختارة لماركس وإنجلز» في مجلدين (لورانس آند ويشرت/فورين لانجويدجيز ببلشينج هاوس، لندن/موسكو، الطبعة الخامسة، 1962). وقد استخدمت تلك المجموعة لأنها تضم مادة ليست موجودة في النسخة ذات المجلد الواحد الموجودة تحت الطبع حاليا. «أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية» (ديتس، برلين، 1956). في حالة عدم توافر ترجمة إنجليزية لأي من الأعمال أو عدم وجودها على الإطلاق، أقوم بترجمة فقرات بنفسي من هذه المجموعة.
أما الأعمال الأخرى التي اقتبست منها، فهي كالتالي: «الرد على دوهرينج» لفريدريك إنجلز (لورانس آند ويشرت، لندن، 1969). «رأس المال» لكارل ماركس، المجلد الأول، تحرير: فريدريك إنجلز، وترجمة: صامويل مور وإدوارد أفلينج (لورانس آند ويشرت/بروجرس، لندن/موسكو، 1954، أعيد طبعه في عام 1974). «جدل الطبيعة» لفريدريك إنجلز، ترجمة: كليمنس دوت (فورين لانجويدجيز ببلشينج هاوس، موسكو، 1954). «المراسلات المختارة لماركس وإنجلز» لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، ترجمة: آي لاكسر (الطبعة الثانية، بروجرس، موسكو، 1965).
قمت في بعض الأحيان بعمل تغييرات طفيفة في الترجمات الإنجليزية الموضحة أعلاه بغرض التوضيح أو الدقة، وقمت بوضع إضافاتي في المادة المقتبسة بين قوسين معقوفين.
إن الاقتباسات من مجموعتي «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» و«الأعمال المختارة لماركس وإنجلز» منشورة بتصريح من دار نشر لورانس آند ويشرت.
الفصل الأول
إنجلز وماركس
كان إنجلز شريكا في أحد الإسهامات الفكرية الأكثر شهرة على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه وفقا لاعترافه كان الشريك الأقل نصيبا في هذا الإسهام، فلقد كان في واقع الأمر أكثر تأثيرا من الناحية السياسية مقارنة بشريكه صاحب النصيب الأكبر في هذا الإسهام، ويأتي هذا التأثير من خلال شروحه لأفكار كارل ماركس التي أدت إلى انتشارها على نحو كبير.
غير أن إنجلز كانت له أيضا أفكار خاصة به، وفي هذا الكتاب، سوف أحاول التعريف بتلك الأفكار وتقييمها. اعترف ماركس نفسه بأنه قد تأثر إلى حد كبير بأعمال إنجلز، وتوجد بطبيعة الحال الأعمال الشهيرة التي كتبها إنجلز بالاشتراك مع ماركس، وسوف أقوم بمناقشة إسهام إنجلز في تلك الأعمال، بقدر ما يمكن تحديدها.
عكف إنجلز في معظم حياته على تأليف أعماله الخاصة ونشرها باسمه، وهنا نجد المشاكل الأكثر صعوبة والأكثر أهمية فيما يتعلق بفكره؛ فإلى أي مدى كان إنجلز يدعم عمل ماركس في النواحي التي كلفه بها؟ وهل من الممكن قراءة أعمال إنجلز المستقلة كما لو كانت مكتوبة بالاشتراك مع ماركس؟ وهل ماركس وإنجلز يتحدثان دائما بصوت واحد، حتى عندما يكتب كل منهما وينشر أعماله على نحو مستقل عن الآخر؟ إجابات هذه الأسئلة مهمة؛ لأن إنجلز كان له تأثير هائل من خلال شخصه ومن خلال كتاباته عن تطور الماركسية، لا سيما في الأعمال التي انتشرت على نطاق واسع بعد وفاة ماركس. وفي كثير من الحالات، كانت تلك الأعمال مصممة لتكون شروحا لأعمال ماركس أو لأعمال اشترك ماركس وإنجلز في تأليفها، أو اعتبر أنها شروح لأعمالهما. وكثير من الاشتراكيين اعتبروا أعمال إنجلز الأخيرة أعمالا مرجعية ومحكمة، وتحول الكثيرون إلى الماركسية بالكامل بناء على هذا الأساس.
ليس من التفاهة على الإطلاق التساؤل حول ما إذا كان ماركس وإنجلز قد اتفقا أو اختلفا في أي موضوع من الموضوعات، أو حول ما إذا كانت أعمال كل منهما تناقض أعمال الآخر، أو تظهر أي اختلاف واضح. وإذا كان هناك أي اختلافات كبيرة بين الاثنين (كما أعتقد)، فعندها تصبح الماركسية ظاهرة يصعب وصفها للغاية، ويصبح لزاما أن تبوء بالفشل منذ البداية كل محاولات تقديمها كنظرة عالمية موحدة منهجية.
لم يتجاهل كتاب السير الذاتية تأليف أعمال تروي قصة حياة إنجلز؛ فقد قدموا لنا عملين مطولين، بالإضافة إلى عدد من الأعمال المختصرة؛ بيد أن ما ينقص الأعمال التي تناولت إنجلز هو معالجتها لحياته الفكرية التي لا يسيطر عليها دائما شبح ماركس.
الفصل الثاني
إنجلز الصحفي
شهدت الحياة المهنية لإنجلز بداية مشرقة؛ ففي سن السابعة عشرة، نشر له بعض الأعمال الشعرية، وفي سن الثامنة عشرة كان صحفيا تتسم مقالاته بالنقد اللاذع؛ الأمر الذي أدى إلى نفاد طبعة كاملة من إحدى صحف مدينة هامبورج التي كان يكتب لها. وكان عمله «رسائل من فوبرتال» الذي نشر في ربيع عام 1839 هجوما مثيرا على النفاق في بلدتي إلبرفيلد وبارمن الممتدتين بمحاذاة وادي نهر فوبر، وتلك هي منطقة راينلاند التي ولد فيها فريدريك إنجلز في الثامن والعشرين من نوفمبر من عام 1820. ونظرا لأن عائلة إنجلز كانت على مدار أجيال عائلة ثرية تمتلك المصانع، فقد استخدم إنجلز الشاب اسما مستعارا، وبالرغم من ذلك، لم تكن هويته المرادفة لاسمه المستعار «أوسفالد» بسر محجوب عن أصدقائه، وبمجرد أن انكشفت تلك الهوية السرية، ظهرت الشخصية الجدية للغاية لإنجلز الذي قال: «كل ما كتبته كان مبنيا على بيانات مثبتة شهدتها بعيني أو سمعتها بأذني» (الأعمال الكاملة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
استخدم إنجلز عينيه وأذنيه استخداما ناجحا وفعالا إلى أبعد الحدود، وكان تصويره الظروف المادية والاجتماعية لذلك المجتمع الصناعي الصغير في واقع الأمر تصويرا دقيقا وحادا للغاية. وقدم تلوث نهر فوبر بفعل المصابغ وكذلك معاقرة السكان المفرطة للشراب؛ صورة من التردي البصري والثقافي لهذا المجتمع وسكانه، وتمثل هذا التردي في إحدى الكنائس الكاثوليكية «التي أعيد بناؤها على نحو سيئ على يد مهندس معماري غير متمرس على الإطلاق، بالرغم من تخطيطها الأصلي بالغ الروعة»، كما أن المتحف المجاور لتلك الكنيسة ذات الأعمدة «مصرية الطراز في الجزء السفلي منها، ودوريسية الطراز في المنتصف، وأيونية الطراز في القمة»، قد أصبح الآن ناديا للقمار بعد بيعه. وكتب إنجلز فقال: «لم يكن ثمة أي أثر للحياة الصحية المفعمة بالحيوية، التي تميز الشعب الألماني، والتي توجد تقريبا في كل مكان في ألمانيا»، وكان سبب ذلك هو المصانع (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
شكل 2-1: متحف منزل عائلة إنجلز في بارمن (فوبرتال حاليا)، ألمانيا، حيث ولد فريدريك إنجلز عام 1820.
تضافرت عوامل شتى مثل عمالة الأطفال، والغرف المكتظة التي تضيق بأهلها، والعمل الشاق، والهزال الشديد، والفقر المدقع، والإفراط في تناول الخمور، ومرض الزهري، وأمراض الجهاز التنفسي، وأبخرة الفحم، وغبار المصانع، وقلة الأكسجين، لتسفر عن المعاناة الشديدة لسكان وادي نهر فوبر. وزعم إنجلز أن العمال كانوا مقسمين إلى صنفين هما: البر والفاجر، وكان لأصحاب المصانع الأثرياء - بحسب وصفه - «ضمير خرب». وكان من بين ملاك المصانع فئة المسيحيين المتشددين الذين «كانوا يعاملون عمالهم أسوأ معاملة على الإطلاق»؛ فكانوا يقتطعون من أجورهم كي يمنعوهم من معاقرة الخمر، لكنهم هم أنفسهم كانوا يقدمون الرشاوى في انتخابات اختيار الوعاظ. لقد كان البروتستانت المنافقون مثار غضب إنجلز؛ فقال إنهم يبدون: «تعصبا شديد البربرية ... ويفتقرون إلى الروح الكاثوليكية إلى حد بعيد.» فكان الويل للواعظ «الذي يرونه مرتديا سترة طويلة ذات لون يميل إلى الزرقة، أو يرتدي صدرية مخالفة للون المقرر من قبلهم.» ورأى إنجلز أن الوعاظ المحليين أناس جهلاء، وأدان أنشطتهم التي اكتنفت كل جانب من جوانب الحياة وأفسدته، ولم تقتصر فقط على النظام التعليمي الذي كان إنجلز قد تركه منذ فترة قريبة للغاية؛ فقد سأل طالب في الصف الرابع أحد هؤلاء المدرسين - بحسب رواية إنجلز - عن جوته، فأجابه قائلا: «إنه ملحد.» وكان الصحفيون والشعراء المحليون ينالون أيضا حظهم من النقد والهجوم، وكان من بينهم رجل يدعى «فولفينج»، قال عنه إنجلز إنه: «رجل ذو عبقرية لا تخطئها عين ... فرأسه تكلله قلنسوة خضراء، وفي فمه وردة، وفي يده زر خلعه للتو من سترته الطويلة؛ إنه هوراس بارمن.» واختتم إنجلز كلامه قائلا إن المنطقة بأكملها واقعة في مستنقع الرجعية وضيق الأفق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وفي خطاب مفتوح موجه لأحد منتقدي مقالاته، أوضح إنجلز أنه «في كل رسائله اعترف بوجود كفاءة لكن في حالات فردية»، واستطرد قائلا: «لكنني بوجه عام لم أستطع أن أجد أي جوانب مشرقة تماما» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). ونظرا لكون «رسائل من فوبرتال» هجوما على النفاق السائد في المنطقة التي كان يعيش فيها، وعلى ظلاميتها وزيفها وذوقها الفاسد، فقد كانت تلك الرسائل نابضة بالواقعية الواضحة على نحو استثنائي، ولقد كان تقديم سرد قائم على شهادة عيانية لأوائل العصر الصناعي هو بالتأكيد أساس وجهة نظر إنجلز، وهذا ما أكسب العمل مزيدا من الإثارة والقدرة على التنبؤ بالمستقبل.
تشكلت معتقدات واهتمامات إنجلز الشاب على يد أسرته والمدارس التي تلقى العلم فيها، وكذلك من خلال مجتمعه، وكلها كيانات أظهر لها العداء الشديد في فترة المراهقة. طالما كان أسلافه رجال صناعة بارزين ومن علية القوم في بارمن وما حولها منذ أيام والد جده، تاجر الخيوط الذي يعتبر مؤسس مصانع تبييض الأقمشة وتصنيع الأشرطة والأربطة في المنطقة، وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أصبح وادي نهر فوبر واحدا من أكثر المناطق الصناعية كثافة في ألمانيا. وزاد من وطأة الرجعية القمعية التي كانت تمارسها مدرسة إنجلز ومجتمعه عليه حركة تسمى التقوية، وهي حركة بروتستانتية بيوريتانية ازدهرت في أعقاب الثورة الفرنسية، لكن لم تتمكن المسيحية الأصولية من مقاومة العقلانية المتحفظة لدى بعض أساتذة مدرسة إنجلز الثانوية، وعندما ترك إنجلز المدرسة (قبل أن يتم عامه السابع عشر بقليل)، كانت آراؤه النقدية قد بدأت في التشكل. وبعد ذلك، وبعد أن بلغ إنجلز عامه الثامن عشر، انتقل لبريمن لاكتساب الخبرة في التجارة الخاصة بالتصدير، وخلال السنة التي قضاها في العمل في تجارة والده، قرأ إنجلز بتمعن واضح بعض الأعمال العقلانية، مثل كتاب «حياة يسوع» المنشور عام 1835 للكاتب ديفيد فريدريش شتراوس، ذلك الكتاب الذي أخضع الأناجيل لفحص تاريخي دقيق. وأثناء العمل في المدينة الحرة، احتسى الخمر أيضا ودخن السجائر وغنى ولعب لعبة المبارزة بالسيف، ومارس السباحة وذهب إلى المسرح والأوبرا، وتداين، ودرس، وفعل غيرها من الأمور التي يفعلها الشباب الصغار عندما يتركون بلداتهم؛ كما كون صداقات مع ليبراليين وراديكاليين من حركة ألمانيا الشابة، التي كانت تطالب بوضع نهاية للاتجاه المحافظ ضيق الأفق الذي كان يسعى فقط للحفاظ على سلطته في كل من الدين والنقد الأدبي والسياسة.
شكل 2-2: فريدريك إنجلز في سن التاسعة عشرة.
وعلى مدار السنوات فيما بين 1839 و1842، أثبت إنجلز نفسه ناقدا سياسيا وأدبيا بما يقرب من خمسين مقالة وكتيبا، ومن بين تلك الأعمال عمل يصف المكان الذي يسافر فيه الفقراء على متن سفينة متجهة إلى أمريكا، والذي وصفه بأنه عبارة عن: «صف من المضاجع ... يتكدس فيه الرجال والنساء والأطفال جنبا إلى جنب مثل أحجار الرصف في الشارع.» وقال عن الأشخاص المسافرين في هذا المكان إنهم أناس «لا يعيرهم أحد اهتماما أو احتراما مطلقا»، وإنهم كانوا يجسدون مشهدا حزينا. لقد كان المشهد أشبه بما يكون عليه الحال عندما «تلقي عاصفة هائلة كل شيء في دوامة الفوضى» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
من ناحية أخرى، كان لإنجلز اهتمامات أخرى غير الصحافة المهتمة بالنواحي الاجتماعية؛ فأثناء تواجده في برلين خلال الفترة ما بين 1841 و1842 لأداء الخدمة العسكرية في لواء المدفعية، التحق بالجامعة بصفته طالبا غير مقيد. لقد اتخذ إنجلز الناقد الاجتماعي والأدبي، الذي كان يحمل الاسم المستعار «فريدريك أوسفالد»، بعد ذلك علم اللاهوت والفلسفة هدفين جديدين له، وذلك للدفاع عن «الهيجليين الشباب» الليبراليين الناقدين ضد الهجوم المدعوم رسميا الذي يشنه فريدريش فون شيلينج، أستاذ الفلسفة الذي انتقل حديثا من ميونيخ.
سل أي شخص في برلين عن الميدان الذي تدور عليه معركة السيطرة على الرأي العام الألماني فيما يخص السياسة والدين؛ أي بالأحرى من أجل السيطرة على ألمانيا نفسها، وإذا كان لديه أدنى فكرة عن سيادة العقل على العالم، فسوف يجيب بأن ساحة المعركة هي الجامعة، وبصفة خاصة قاعة المحاضرات رقم 6 [التي يحاضر فيها شيلينج] (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كانت تأملات جورج فيلهلم فريدريش هيجل عن الوعي والوجود والتاريخ والدولة والدين والطبيعة وغيرها من الموضوعات العديدة التي لا يمكن حصرها؛ تجريدية إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد كانت بعض كتاباته غامضة؛ فالاستنتاجات التي توصل إليها ربما لم تكن هي الاستنتاجات الوحيدة التي يمكن استنتاجها من تحليلاته الفلسفية - أو ربما لم تكن الاستنتاجات الأوفر حظا في إمكانية دعمها. وتعارضت فلسفته عن الدين، المتوافقة مع التأويلات الخاصة بمذهب الواحدية، مع تعليقاته المؤيدة للوثرية واعتناقه المعلن لها. وبالمثل، فإن دفاعه عن دولة بروسيا لم يكن نتيجة واضحة لتفكيره المنطقي في أمور الاقتصاد والسياسة، وكان الهيجليون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر يتبنون وجهات نظر متباينة حول تلك الأمور، لكن من غير المفاجئ أنهم كانوا يتبنونها ضمن مجموعتين محددتين؛ فأيد اللوثريون التقليديون تعليقات هيجل المؤيدة لمملكة بروسيا، أما أصحاب الفكر الحر منتقدو الدين عامة والمسيحية خاصة، فقد كانوا يميلون لأن يكونوا ليبراليين من الناحية السياسية مطالبين بحكومة تمثيلية في ألمانيا، إلا أنهم كانوا مضطرين إلى المطالبة بذلك بتحفظ في الفترة السابقة على تحرير الرقابة على الصحافة في عام 1840؛ وكانت وجهة النظر الأخيرة هي التي يتبناها الهيجليون الشباب، الذين انتشروا في برلين وفي الجامعات الأخرى في ألمانيا في أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر، ويبدو أن إنجلز قد قرأ لهيجل لأول مرة أثناء إقامته في بريمن.
وعلى الرغم من أن هيجل كان قد توفي قبل ذلك بعشر سنوات، فقد قال عنه إنجلز إنه: «حي أكثر من ذي قبل في تلاميذه.» وعلى الجانب الآخر، فقد نعت شيلينج بأنه: «ميت فكريا منذ ثلاثة عقود.» لقد آمن - بحسب قوله - «هيجل الطيب الساذج بحق العقل في الوجود»، والهيجليون الشباب الراديكاليون اتخذوا هذا شعارا لهم. وكان إنجلز يرى أن وجهة نظر شيلينج تتمثل في أن فلسفته كانت «مجرد ترهات لا توجد إلا في رأسه، ولا يعزى لها الفضل في أي تأثير على العالم الخارجي.» عارض إنجلز/أوسفالد ورفاقه الهيجليون الشباب وجهة النظر تلك، وكانوا واثقين في أنفسهم إلى حد كبير، فقال إنجلز: «لم ينجذب الشباب إلى وجهة نظرنا بهذه الأعداد من قبل، ولم تكن الموهبة «حليفتنا بهذا القدر الرائع مثلما يحدث الآن».» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وسرعان ما تبع ذلك كتيب لم يوقعه إنجلز باسمه، حمل عنوان: «شيلينج والوحي: نقد لأحدث محاولة للتصدي للفلسفة الحرة»، وفي هذه المساحة الكبرى التي أتيحت لإنجلز، قدم دليلا للإنسان العادي حول حركة الهيجليين الشباب في ألمانيا، وما زال هذا الكتيب قابلا للقراءة، وما زال يعتبر رواية يعتمد عليها، ويعد إلى حد كبير الأكثر إثارة. وكتب إنجلز أن مبادئ فلسفة هيجل كانت «مستقلة وواسعة الأفق تماما»، لكن الاستنتاجات كانت «متحفظة في بعض الأحيان، بل ضيقة الأفق أيضا.» لقد كانت أفكار الفيلسوف الكبير «متأثرة بعصره من ناحية، ومتأثرة بشخصيته من ناحية أخرى»؛ عانت آراؤه السياسية وفلسفته حول الدين والقانون من تناقض داخلي تمثل في مبادئ راديكالية واستنتاجات محافظة خاطئة متعلقة بالمجتمع والمسيحية والسياسة. وعدد إنجلز أعمال الفلاسفة الجدد النقديين - أمثال أرنولد روجه، وديفيد فريدريش شتراوس، ولودفيج فيورباخ، وبرونو باور - والصحف التي نشروا فيها مقالاتهم ومدحهم. «لقد سقطت كل المبادئ الأساسية للمسيحية، بل سقط كل ما كان معروفا حتى تلك اللحظة باسم الدين، أمام نقد العقل المستمر بلا هوادة.» وبالرغم من ذلك، فقد استدعت «الدولة المسيحية الملكية» شيلينج للمشهد مرة أخرى للدفاع عن التقليد في الدين والسياسة، واعتقد إنجلز أن هذا الدفاع لم يكن ذا قيمة ووصفه بأنه: «أول محاولة لدس الإيمان بالعصبية العقائدية والتصوف العاطفي والخيالات الغنوصية في علم التفكير الحر.» وبعد نقد مطول، نصح إنجلز قراءه بأن «يبتعدوا عن مضيعة الوقت تلك»؛ لقد رأى أن هيجل قد «أسس عصرا جديدا للوعي»، وأن كتاب «جوهر المسيحية» للكاتب فيورباخ - الذي كان قد نشر لتوه - كان «تكملة ضرورية لطريقة استخدام الفلسفة التأملية باعتبارها وسيلة لفهم الدين، تلك الطريقة التي أسسها هيجل.» أوضح فيورباخ أن الإنسان في الدين يسقط صفاته الخاصة على رب خيالي، وبسبب ذلك توصل إنجلز إلى الاستنتاج القائل بأن: «كل شيء قد تغير» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
واختتمت حملة إنجلز التي شنها ضد شيلينج بكتيب آخر لم يوقع عليه باسمه، وثمة زعم قائل بأن هذا الكتيب مكتوب من قبل أحد وعاظ حركة التقوية، من أمثال الوعاظ الذين عرفهم إنجلز معرفة جيدة منذ أن كان يعيش في فوبرتال. أثنى هذا الواعظ على شيلينج لمهاجمته الفلسفة وسحبه البساط من تحت قدميها وتغلبه على حجتها القائمة على العقل، وقال إن «المحنكين» - الهيجليين الشباب، بلا شك - «انتقدوا كلمة الرب بهذا العقل الفاسد ... ليجعلوا من أنفسهم ربا مكانه.» وامتدح شيلينج لأنه انتقد «هيجل سيئ السمعة» الذي «اعتز كثيرا بالعقل لدرجة أنه أعلن بوضوح أن العقل هو الرب، عندما رأى أن العقل لا يمكن أن يوصله لرب حقيقي أعلى من الإنسان»، وقال هذا الواعظ إن شيلينج «أعاد الأيام الخوالي الجميلة التي كان فيها العقل يخضع للإيمان.» واستطرد قائلا إنه في برلين يوجد «رجال مثقفون» وفلاسفة وعلماء «وكتاب غير ملتزمين بالمنهج المسيحي يتسمون بضحالة الفكر »، ومنافقون «يتدخلون بصخب شديد في شئون الحكومة بدلا من أن يتركوا شئون الحكم للحاكم»، هؤلاء «الغاوون ... منتشرون في أنحاء ألمانيا، ويريدون أن يتسللوا إلى كل مكان» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وتبع ذلك نشوب معركة مرضية للغاية في الصحافة.
شكل 2-3: رسم كاريكاتيري رسمه إنجلز لنفسه، في أغسطس 1840: «أرجوحتي الشبكية تضمني وأنا أدخن السيجار.»
نشرت مقالات إنجلز التالية في صحف المعارضة في كولونيا وفي ليبزيج وفي الخارج في سويسرا، وقد تحول إنجلز من كونه صحفيا ليبراليا ليصبح ليبراليا، وفي ظل عهد الملك فريدريك فيليام الرابع ملك بروسيا كان هذا الأمر كفيلا بجعله ثوريا. وكتب إنجلز فقال: «يتزايد تركيز الرأي العام في بروسيا أكثر وأكثر على مسألتين؛ ألا وهما: الحكومة التمثيلية، وحرية الصحافة على وجه الخصوص»، وهذه مطالب ليبرالية تقليدية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، فقد اقتبس إنجلز في إحدى مقالاته المادة رقم 151 من قانون العقوبات في بروسيا، التي تمنع «النقد الفج وغير المحترم والسخرية من قوانين الأراضي والمراسيم الحكومية»، وأعلن قائلا: «أنا صادق على نحو كاف بحيث أقول إنني عاقد النية على إثارة السخط والاستياء ضد المادة رقم 151 من قانون العقوبات في بروسيا.» واقترح «الاستمرار في استخدام الأسلوب الحسن النية والمهذب الموضح هنا لإثارة أكثر من مجرد بعض السخط والاستياء ضد كل الأمور الرجعية وغير الليبرالية الموجودة في مؤسسات دولتنا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفيما يتعلق بالمسألة الأولى - الحكومة التمثيلية - علق إنجلز (مستخدما علامة الحذف على نحو مؤثر) فقال: «الوضع الحالي في بروسيا قريب الشبه بالوضع في فرنسا قبل ... لكني أنأى بنفسي عن أي استنتاجات سابقة لأوانها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
الفصل الثالث
إنجلز الشيوعي
كانت أولى زيارات إنجلز إلى إنجلترا عبارة عن رحلة قصيرة في صيف عام 1838، وخلد ذكرى تلك الرحلة بعد عامين (عندما بلغ إنجلز عامه العشرين) في بعض التعليقات الرومانسية إلى حد يحبس الأنفاس لكنها كانت مميزة أيضا، واصفا المناظر الطبيعية فيما بين لندن وليفربول قائلا : «إذا كانت ثمة أرض يجب أن يعبرها المرء عبر السكك الحديدية، فهذه الأرض هي إنجلترا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفي رحلته التالية لإنجلترا في أواخر عام 1842، صاحب مواهب إنجلز في السرد الوقائعي العياني وعي سياسي زاد عمقه المعارك التي شهدها في برلين؛ فبعد أن رافق في الحرب أشخاصا يتسمون بالدوجماتية والظلامية والرجعية والتشدد، استخدم إنجلز العقلانية الثورية الجديدة لتناول الحياة الإنجليزية؛ وفي هذه المرة، كانت تحت إمرته إحدى صحف كولونيا الراديكالية، وشرع في العمل على الفور.
ومن لندن هاجم «الطبقات الحاكمة، سواء أكانت الطبقة الوسطى أم الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانوا من حزب الويج أم من حزب التوري»؛ بسبب عمى بصيرتهم وتعنتهم؛ حيث كانوا دائما معارضين لنظام الاقتراع العام؛ لأنه في هذه الحالة من الممكن أن يفوقهم في عدد الأصوات في مجلس العموم أشخاص من غير ذوي الأملاك. وكانت الحركة الميثاقية، وهي حركة شعبية تسعى للإصلاح الليبرالي، قد «بدأت تتطور بهدوء بمعدلات هائلة»، وكتب إنجلز مهددا بكارثة تنتظر «حزبي الويج والتوري الإنجليزيين» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
أثناء وجود إنجلز في برلين في الفترة ما بين عامي 1841 و1842، عكس تطوره السياسي التطور الذي مر به الهيجليون الشباب؛ فبعد تخفيف الرقابة على الصحافة، تحولت آراؤهم السياسية من الدفاع عن الحالة العقلانية المتسقة على نحو أو آخر مع الرؤية الهيجلية، إلى النقد الصريح لهيجل، ورفض ليبرالية الطبقة الوسطى، ثم توجهت للدفاع عن الديمقراطية والنظام الجمهوري والإصلاح الاجتماعي الذي يصب في صالح الفقراء. واستخدم كثير من الكتاب في ذلك الوقت «الاشتراكية» و«الشيوعية» على نحو متبادل، غير أن الشيوعيين كانوا يعتبرون أكثر راديكالية من الاشتراكيين، وكان من أوائل الشيوعيين الألمان شخص يدعى موشيه هس، ناقش الشيوعية على نحو مطول مع إنجلز عندما تقابلا في كولونيا، ونقل له مذهبا متفائلا يقوم على الإلحاد والثورة الأخلاقية. وفي مقالته التالية، لم يتناول إنجلز تقريبا أي موضوع سوى إعلان أنه أصبح شيوعيا.
يجب ألا يفاجئنا أن كاتب «رسائل من فوبرتال» قد وجد الشيوعية أمرا مناسبا له، إلا أن الوضع في كولونيا كان يحتاج لمقالته التي نشرت في التاسع أو العاشر من ديسمبر 1842. ففي مجموعة التحرير التي كان إنجلز يزورها مرتين قبل السفر إلى إنجلترا، كانت تتم مناقشة نظريات عن الثورة الاجتماعية الشاملة والملكية المشتركة وتحرير الإنسان، وقد أثار إنجلز إلى حد كبير الاهتمام الموجه إلى الصناعة الحديثة وفقر الطبقة العاملة والإلحاد في سياق الثورة الاجتماعية والسياسية، وكان هذا الشكل من الشيوعية على وجه الخصوص - الذي لم يكن مذهبا واضح المعالم بأي حال من الأحوال - هو المذهب الذي اختار إنجلز تطويره. وربما لم يكن «فريدريك أوسفالد» ليتوصل إلى تلك الاستنتاجات بنفسه، ولم تكن بالتأكيد هي الطريقة الوحيدة للمضي قدما بعد تعليقات فوبرتال، إلا أن إنجلز كان مقتنعا بها، واستخدم مهاراته التحليلية والصحفية لتقديم الدعم وإضفاء الحيوية على الأفكار المجردة التي وجدها مقنعة ومثيرة للغاية.
قدمت مقالة «الأزمات الداخلية» تناولا يتسم بالخصوصية والمعقولية الهائلتين، وكانت بالفعل تمهيدا نظريا لرائعة إنجلز «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» التي نشرها عام 1845؛ وفي هذه المقالة تساءل إنجلز بجرأة عما إذا كان نشوب ثورة في إنجلترا أمرا ممكنا أم محتملا. وفي هذه المقالة قال إنجلز: «اطرح هذا السؤال على أي رجل إنجليزي»، وسوف يقدم لك «ألف سبب وجيه يثبت أنه لا يمكن أن يوجد أي احتمال لحدوث ثورة على الإطلاق.» على سبيل المثال ثروة إنجلترا وصناعاتها، ومؤسساتها، ودستورها المرن، وحقيقة أن أي إخلال بالنظام العام لن يؤدي إلا إلى البطالة والمجاعة. إلا أنه عند تبني الرجل الإنجليزي هذا الرأي، فإنه «ينسى الأساس بسبب مظهر السطح.» وبعد ذلك قدم إنجلز تحليلا اقتصاديا لإنجلترا الصناعية؛ فقال إنها دولة تعتمد على التجارة، ومجبرة باستمرار على زيادة الناتج الصناعي، وأوضح إنجلز أن تعريفات الحماية الجمركية قد رفعت من سعر البضائع الإنجليزية وكذلك مستوى الأجور في إنجلترا، وأن التجارة الحرة سوف تؤدي إلى تدفق البضائع المستوردة إلى حد كارثي، فضلا عن تدمير الصناعة الإنجليزية، وأشار إلى أن الأسواق الإنجليزية قد بدأت تسقط أمام الأسواق الألمانية والفرنسية؛ وهكذا انكشف فلسفيا من خلال ملاحظته المباشرة «التناقض الكامن في مفهوم الدولة الصناعية». وبين إنجلز أن أقل انخفاض في التجارة سوف يحرم جزءا كبيرا من الطبقة العاملة من قوتها؛ فحدوث أزمة تجارية واسعة النطاق سوف يترك طبقة كاملة بلا أي شيء على الإطلاق، واستطرد قائلا إن نصف الإنجليز تقريبا ينتمون لطبقة «غير ذوي الأملاك، المعدمين تماما، وهي طبقة تعيش على حد الكفاف، ويتضاعف عددها سريعا»، وأردف قائلا إن التحالف الذي تم مؤخرا بين مجموعة غير منظمة من العمال المضربين وأعضاء الحركة الميثاقية في أحداث شغب عام 1842، قام على وهم هو القيام بالثورة من خلال وسائل مشروعة. وقال إنجلز دون أن يسوق أي دليل إن «المحرومين» قد اكتسبوا شيئا مفيدا؛ ألا وهو إدراك أن «القضاء القسري على الظروف القاسية الحالية» هو وحده الذي يمكنه تحسين ظروفهم. وعلى الرغم من أن احترام القانون كان لا يزال يحجم هؤلاء العمال عن إحداث أزمة كبيرة، فإنهم لن يخفقوا في إحداثها إذا أرادوا ذلك، وسيحدث هذا عندما يصبح خوفهم من الجوع أكبر من خوفهم من القانون. إن هذه الثورة «حتمية»، لكن المصالح، وليست المبادئ الخالصة، هي ما ستجعل الثورة تتحقق. لا يمكن للمبادئ أن تتطور إلا من خلال المصالح، وستكون الثورة اجتماعية وليست سياسية خالصة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ومن مانشستر حيث كانت عائلة إنجلز شريكة على مدار بضع سنوات في مصنع لغزل القطن، فإنه واصل تحليله للطبقة العاملة أو طبقة البروليتاريا من خلال الملاحظة المباشرة، وعلى الرغم من أن العمال الإنجليز كانوا أفضل حالا عند توظيفهم من العمال الفرنسيين أو الألمان، فإنهم كانوا يعانون من حالة فقر شديد عند حدوث «أقل قدر من التذبذب في التجارة.» وأوضح إنجلز أن المدخرات، وكذلك الصناديق التعاونية الخاصة بالعمال تنضب عندما تتفشى البطالة، وزعم أن هذا ما يحدث في جلاسجو، قائلا: «عندما تتوسع الصناعة الإنجليزية، فلا بد دائما أن تعاني بعض المناطق.» وعلق قائلا إن الدولة لا يهمها ما إذا كان الجوع مرا أم حلوا؛ فهي تلقي بهؤلاء الناس في غياهب السجون، أو ترسلهم إلى مستعمرات عقابية، وعندما تطلق سراحهم، تكون الدولة «قد شعرت بالارتياح لأنها حولت الأشخاص الذين هم بلا عمل إلى أشخاص بلا أخلاق.» وضرب إنجلز مثلا بعمال مانشستر الذين عندما يتم توظيفهم يتحملون يوم عمل طوله 12 ساعة، وعندما لا يتم توظيفهم، «من يستطيع أن يلومهم إذا لجأ الرجال إلى النهب أو السطو، ولجأت النساء إلى السرقة والدعارة؟» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كان لرائعة إنجلز التي نشرها عام 1845 ثلاثة أعمال تمهيدية أخرى، وهي مقالات كتبت ونشرت في الفترة ما بين عامي 1843 و1844، متناولة موضوعا أوسع نطاقا؛ ألا وهو: التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. ناقش إنجلز كتاب توماس كارلايل «الماضي والحاضر» الذي كان قد نشر مؤخرا، من خلال تقديم هذا المشروع الكبير ومدح مؤلفه على «وجهة نظره الإنسانية»، لكنه بالغ في انتقاد «آثار رومانسية حزب التوري»، وكذلك عدم معرفته بالفلسفة الألمانية؛ ومن ثم فإن كل آرائه كانت «بسيطة وحدسية». وقال إنجلز إن شكاوى كارلايل من فراغ وخواء ذلك العصر، وهجومه على النفاق والكذب، ونقده للمنافسة واقتصاد العرض والطلب؛ كانت «صحيحة»، وعاب عليه أنه بالرغم من ذلك لم يتعمق ليصل إلى سبب تلك الظواهر، ومن ثم لم يكتشف الحل؛ ونتيجة لذلك «لم يوجد أدنى ذكر للاشتراكيين الإنجليز» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وفي المقالتين التاليتين تتبع إنجلز الثورة الاجتماعية الإنجليزية من أصولها في القرن الثامن عشر، لا سيما تطور المحرك البخاري وإدخال الميكنة في مجال النسيج وتصنيع المعادن، وسرد بعض اختراعات لمخترعين أمثال واط، وودجوود، وهارجريفز، وآركرايت، وكرومبتون، وكارترايت، وأشار إلى التطورات في مجال الاتصال من خلال الطرق والقنوات والسكك الحديدية، وبالرغم من ذلك فقد رأى أن تلك التطورات لم تفد إلا قليلا من الناس واستعبدت الكثيرين، وغيرت قيم المجتمع الإنجليزي تغييرا عميقا. قال إنجلز عن هذا:
إن تلك الثورة التي حدثت في الصناعة البريطانية هي أساس كل جانب من جوانب الحياة الإنجليزية المعاصرة، وهي القوة المحركة وراء كل أشكال التطور الاجتماعي، وكانت أولى تبعاتها، كما أوضحنا بالفعل، أن وصلت المصلحة الذاتية إلى مستوى السيطرة على الإنسان. لقد استولت المصلحة الذاتية على القوى الصناعية المكونة حديثا واستغلتها لأغراضها الخاصة، وتلك القوى التي تخص الإنسان أصبحت حكرا على قلة من الرأسماليين الأثرياء ووسيلة لاستعباد الأغلبية. واستحوذت التجارة على الصناعة، وهكذا أصبحت التجارة ذات سلطة مطلقة، وأصبحت الرابط بين بني البشر، واختزلت كل العلاقات الشخصية والقومية إلى علاقات تجارية، وهذا يؤدي إلى الأمر نفسه المتمثل في سيادة الملكية والأشياء على العالم (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وكتب إنجلز أن أهم أثر لهذا التطور التاريخي كان «تكون طبقة البروليتاريا من خلال الثورة الصناعية»، وبعد ذلك استعرض النظام الدستوري والقانوني الإنجليزي ورفضه لأنه اعتبره: «خليطا معقدا من الأكاذيب واللاأخلاقية»، لا يعلم الكثير عن المجتمع الصناعي الجديد. قال في هذا الإطار:
يرى الوسطيون أن من أهم مميزات الدستور الإنجليزي تطوره «تاريخيا»، وهذا يعني من وجهة النظر الألمانية أن الأساس القديم الذي شكلته ثورة عام 1688 تم الحفاظ عليه، وأن هذا الأساس، كما يطلقون عليه، تم البناء عليه إلى حد كبير، وسنرى فيما يلي الخصائص التي اكتسبها الدستور الإنجليزي بناء على ذلك؛ لكن يكفي الآن عقد مقارنة بسيطة بين الرجل الإنجليزي عام 1688 والرجل الإنجليزي عام 1844، لإثبات أن وجود أساس دستوري متطابق لدى كليهما إنما هو عبث ومحال (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وحيث إن إنجلز قد وعد بالالتزام «بالحقائق التجريبية» بدلا من الإشارة إلى خرافات الفقيه القانوني بلاكستون، أو ميثاق الحريات العظيم المسمى بالماجنا كارتا أو قانون الإصلاح لعام 1932، فقد استعرض عناصر الحكم الملكي والأرستقراطي والديمقراطي. واختتم إنجلز استعراضه قائلا إن الملك ومجلس اللوردات فقدا أهميتهما، وإن مجلس العموم كان يتمتع بسلطة مطلقة، وكتب قائلا إن السؤال الحقيقي هو: من يحكم فعليا في إنجلترا؟ وكان جوابه هو «أصحاب الأملاك». فالطبقة الوسطى كانت مسيطرة، والفقراء ليس لديهم حقوق؛ فالدستور يلفظهم والقانون يسيء معاملتهم، واستطرد قائلا إن: «صراع الديمقراطية مع الأرستقراطية في إنجلترا» كان «صراع الفقراء ضد الأغنياء» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
إن المعركة من أجل الديمقراطية، كما قال إنجلز، هي تحول إلى الاشتراكية؛ فمعركة الفقراء ضد الأغنياء لا يمكن خوضها «على أساس الديمقراطية أو على أساس السياسة في مجملها في واقع الأمر»؛ فالثورة لا بد أن تكون «اجتماعية»، وأن تنتقل من المؤسسات السياسية إلى الحياة الاقتصادية، وإلى القيم الحاكمة في المجتمع. وفي استعراضه لتطور المجتمع الصناعي الإنجليزي وضع إنجلز شكاوى كارلايل بشأن الدفع النقدي في السياق الفلسفي الألماني الذي قال إن الشكاوى تفتقر إليه.
إن منع الاستعباد الإقطاعي جعل «الدفع النقدي هو العلاقة الوحيدة بين البشر»، ونتيجة لذلك تغلبت الملكية، ذلك المبدأ الطبيعي المفتقر إلى الروح، وطغت على المبدأ البشري والروحي في تلك المواجهة، وفي النهاية، وإكمالا لهذا الاغتراب، أصبح المال - التجريد المغترب الفارغ للملكية - سيدا للعالم، ولم يعد الإنسان عبدا لغيره من الناس، بل أصبح عبدا «للأشياء»؛ واكتمل انحراف الوضع الإنساني ... (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
ووفقا لإنجلز، فإنه قد ألف كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» اعتمادا «على ملاحظة شخصية ومصادر موثوقة»، وتحدى «الطبقة البرجوازية الإنجليزية» أن تثبت خطأه «ولو في حالة واحدة غير مهمة»، وأهدى هذا العمل «إلى الطبقات العاملة في بريطانيا العظمى»، وكان غرضه من تأليف الكتاب سياسيا كما أعلن عن ذلك بوضوح. وقال إنجلز إن الألمان يحتاجون لمعرفة الحقائق عن إنجلترا؛ فعلى الرغم من أن الظروف في ألمانيا ليست على غرار «النمط التقليدي» الموجود في إنجلترا، فإن كلا البلدين لديه، في الأساس، النظام الاجتماعي نفسه؛ فأسباب شقاء وقهر طبقة البروليتاريا في إنجلترا كانت حاضرة في ألمانيا، وستكون النتائج متماثلة في نهاية المطاف. ومن هذا المنطلق، فإن عمليات الاستقصاء الرسمية التي تناولت حياة الطبقة العاملة في إنجلترا - والتي كانت المصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه إنجلز في الحصول على المعلومات الإحصائية - كانت ضرورية للغاية «للاشتراكية والشيوعية الألمانية»، تلك الحركة التي سعى لتناولها على نحو أكبر في ذلك الكتاب المكتوب باللغة الألمانية، وقد جمعت المادة البحثية للكتاب في إنجلترا، وكتب في أواخر عام 1844 وأوائل عام 1845، ونشر على الفور تقريبا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). وجذب الكتاب انتباه كثير من النقاد وأعيدت طباعته عام 1848، وظهرت طبعة ألمانية أخرى منه عام 1892 في أواخر حياة إنجلز، كما ظهرت ترجمة إنجليزية للكتاب ونشرت في نيويورك عام 1887. وكان إنجلز في الخامسة والعشرين من عمره عندما نشر له أول أعماله المهمة، وحاز على انتباه الكثير من القراء والنقاد.
كان كتاب إنجلز مجحفا ومتحيزا سياسيا، وكان موقفه الأخلاقي والفلسفي واضحا على مدار الكتاب، وقدم سردا لاذعا تماما عن «طبقة الملاك» ودورها في النظام الاقتصادي القائم على المنافسة، وأشار إلى قضيته العامة المرتبطة بالطبقة العاملة الإنجليزية - التي يصفها بأنها «قضية الإنسانية» - وتوقع أن يثور غضب تلك الطبقة في ثورة ستكون الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب الذي أعقبها بمنزلة شيء ضئيل لا يذكر إذا ما قورنا بها. ومن ثم، فمن غير المفاجئ أن إنجلز استخدم مصادر غاية في الانتقائية؛ فلقد اختار تقارير مهيجة للمشاعر أحيانا من صحف اشتراكية، وكانت هذه التقارير تجسد أسوأ حالات الفقر والمهانة والمعاناة. ومن صحيفة «ذا تايمز» وصحيفة «ذا نورذرن ستار»، اقتبس إنجلز ثلاث قصص مروعة للغاية، كانت إحدى هذه القصص تدور حول امرأة تدعى آن جالواي في الخامسة والأربعين من عمرها، تسكن في 3 وايت ليون كورت، شارع بيرمنزي، لندن، مع زوجها وابنها البالغ من العمر تسع عشرة سنة، في غرفة صغيرة لا يوجد بها سرير أو أي نوع من الأثاث، وقال الطبيب الشرعي لمقاطعة سري إن تلك المرأة «ماتت جوعا وتشوهت جثتها من عضات الهوام.» ويسهب إنجلز فيقول: «جزء من أرضية تلك الغرفة كان مقتلعا، وكانت الحفرة الناتجة تستخدمها الأسرة باعتبارها مرحاضا.»
وتروي الحالة الثانية قصة ولدين مثلا أمام قاضي التحقيقات في لندن لأنهما «سرقا ساق عجل بقري نصف مطهية من أحد المحلات والتهماها على الفور»، وثبت أن والدة هذين الطفلين أرملة تعيش في فقر مدقع مع أبنائها التسعة، وأضاف:
عندما ذهب رجل الشرطة إليها، وجدها مع ستة من أبنائها مكومين حرفيا في غرفة خلفية صغيرة، خلت من قطع الأثاث باستثناء كرسيين من القش قاعدتاهما متآكلتان، وطاولة صغيرة اثنتان من أرجلها مكسورتان، وفنجان مكسور، وطبق صغير. كاد الموقد يخلو من النار، وفي أحد الأركان كان يوجد قدر من الخرق البالية الكافية لملء مئزر حريمي، وكانت تلك الخرق تستخدم باعتبارها سريرا للأسرة ... وقد رهنت سريرها لمورد الطعام لتحصل على الغذاء.
أما الحالة الثالثة التي كانت تخص أرملة تكسب قوتها من خلال تنظيف المنازل، فقد كانت مشابهة للحالة السابقة؛ فتلك المرأة وابنتها المريضة البالغة من العمر ستا وعشرين سنة، كانتا تسكنان غرفة خلفية لا تتجاوز مساحتها مساحة الخزانة، وقد باعتا أو رهنتا كل شيء كان بحوزتهما.
وفي دفاع إنجلز عن عمله، لم يستطع سوى أن يعلق بأنه اقتبس عن عمد الحالات الأكثر ترويعا، فقال: «أعلم جيدا أن ثمة عشرة أشخاص أفضل حالا إلى حد ما من هؤلاء، في حين أنه يوجد شخص مطحون تحت أقدام المجتمع» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لكن عندما أخذ إنجلز قراءه في «جولات» حول مانشستر، تراجع ذكر القصص المنقولة وطغى على المشهد التاريخ والجغرافيا والجانب الاجتماعي؛ فقد أدركت ملاحظات إنجلز التعقيد في حياة سكان مانشستر - من ناحية الإسكان والصناعة والمواصلات والصحة العامة - وتفاوت الظروف بين سكان المدينة. وكان إنجلز، بطبيعة الحال، رجلا نبيلا يستطيع ارتياد مجالس الأثرياء، لكنه كان شيوعيا يرغب في أكثر من «معرفة «مجردة» بالموضوع فحسب»؛ ولذلك ذهب مع رفاق من الطبقة العاملة وارتاد الأحياء الفقيرة في المدينة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع)، وكان أحد هؤلاء الرفاق امرأة تدعى ماري بيرنز، وهي عاملة مصنع أيرلندية، وأصبحت عشيقته وظلت كذلك حتى وفاتها عام 1863.
وكتب إنجلز أنه كان من السهل على سكان مانشستر الأغنياء تجنب القيام بتلك الجولات بأنفسهم؛ فالمدينة نفسها مبنية على نحو غريب «حيث من الممكن أن يعيش الشخص بها لسنوات عديدة، ويخرج ويدخل يوميا دون الاحتكاك بأحياء العمال أو حتى مقابلة أحدهم»، ومن خلال «اتفاق ضمني غير مقصود» و«إصرار علني مقصود» أصبحت تلك الأحياء منفصلة عن أحياء الطبقة الوسطى في المدينة؛ فالحي التجاري المركزي يصبح مهجورا في الليل، والضواحي البعيدة تخدمها الحافلات. وبين أحياء الطبقة الوسطى، توجد أحياء الطبقة العاملة التي تغطيها واجهات المحلات بطول الطرق الرئيسية. قدم إنجلز مانشستر باعتبارها نتيجة طبيعية تماما لخيار الملكية الخاصة في المجتمع الصناعي.
أعلم جيدا أن هذا التصميم المنافق شائع إلى حد ما في كل المدن الكبرى، وأعلم أيضا أن تجار التجزئة مجبرون بحكم طبيعة عملهم على الاستحواذ على الطرق الرئيسية الكبيرة، وأعلم أنه توجد مبان جيدة أكثر من المباني السيئة في تلك الشوارع في كل مكان، وأن قيمة الأرض تكون أعلى كلما كانت قريبة من تلك الشوارع مقارنة بقيمتها في الأحياء البعيدة، لكنني في الوقت نفسه لم أر قط حجبا ممنهجا للطبقة العاملة عن الطرق الرئيسية، ولم أر إخفاء بارزا لكل شيء قد يزعج أعين الطبقة البرجوازية أو يثير أعصابها، كما رأيت في مانشستر (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
إن المصانع في مانشستر تجاور الأنهار والقنوات في الأحياء التي تعيش فيها الطبقة العاملة، وفي استعراض الجغرافيا التاريخية للمنطقة، التزم إنجلز التحليل الدقيق؛ فكلامه عن مانشستر القديمة كان مزودا برسم يوضح «جانبا صغيرا من تصميم مانشستر» ليظهر «الطريقة غير العقلانية التي شيدت بها المنطقة بأكملها.» قال عن هذا:
من المستحيل أخذ أي انطباع من التكدس العشوائي للمنازل بطريقة تتحدى كل التخطيطات المنطقية، أو من تشابكها على نحو يجعلها حرفيا مكدسة بعضها فوق بعض. وليست المباني الصامدة منذ أيام مانشستر القديمة هي السبب في ذلك؛ فهذه الفوضى بلغت ذروتها مؤخرا عندما امتلأت عن آخرها كل قطعة أرض متبقية منذ أيام طريقة البناء القديمة، وأصبحت مكتظة بالمباني لدرجة أنه لم يعد هناك موطئ قدم من الأرض متاح لشغله (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وصف إنجلز المراحيض القذرة، والأنهار الملوثة، والقمامة وزرائب الخنازير، بالإضافة إلى «الأكواخ ذات الغرفة الواحدة» وسكانها؛ لقد ضرب بكل قواعد النظافة والصحة عرض الحائط عند تأسيس هذه المنطقة. وعلى الرغم من قدم تلك المنطقة، فإن كل ما يثير الرعب والاستياء فيها كان أصله يعود لوقت قريب في عهد الصناعة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وماذا عن مانشستر الجديدة؟ كانت الصدفة البحتة هي ما حدد طريقة توزيع المنازل في مانشستر القديمة، وقد أطلق على المساحات الموجودة بين المنازل اسم ساحات «لعدم وجود اسم مناسب أكثر»، إلا أن تصميم مساكن مانشستر الجديدة المبنية بحيث تتشارك الجدران الخلفية أسفر عن سوء التهوية. وقدم إنجلز تصميمين، كما لو كانت المنازل مصورة من الأعلى، ليظهر الطريقتين المستخدمتين في تشييد «أكواخ» العمال، ودائما كانت تلك المنازل مبنية بأعداد كبيرة بطول الشوارع والحارات الخلفية التي تكاد تكون غير مرئية. ورأى إنجلز أن أسلوب تشييد المباني الباحث عن الربح في المقام الأول، وكذلك أسلوب إيجارها، تضافرا حتى في طريقة البناء بالطوب؛ فقد استخدموا صفوف طوب متراصة كي يصنعوا جدرانا خارجية ضعيفة ورخيصة التكلفة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
واتفق إنجلز مع المحققين الأوائل الذين عنوا بدراسة حالة الطبقة العاملة، في الخلوص إلى أن «العمال في مانشستر وفي المناطق المحيطة يعيشون كلهم تقريبا في أكواخ قذرة بائسة ورطبة»، حيث «لا تتوافر أي نظافة ولا مرافق؛ ومن ثم فالحياة الأسرية فيها غير ممكنة»؛ فمثل هذه المساكن «لا يمكن أن يشعر فيها بالارتياح والانتماء إلا جنس من البشر معتل جسمانيا، مسلوب الحقوق الإنسانية، مذلول، متدن أخلاقيا وجسمانيا إلى مستوى الحيوانات» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
استعرض إنجلز الحالة البائسة للطبقة العاملة فيما يتعلق بالملبس والطعام وتدخين السجائر والصحة والعلاج والأخلاق وظروف العمل لكل من الكبار والصغار، ورفض قوانين العمل في المصانع واصفا إياها بأنها غير مناسبة ومطبقة على نحو سيئ. وبعد ذلك انتقل بتحليله إلى مستوى أكثر عمومية، وإلى استنتاجات تميل إلى التعميم على نحو أكبر.
أضف إلى هذا البؤس تقلبات الدورة الاقتصادية، الناجمة عن عدم التحكم في عمليتي الإنتاج والتوزيع، اللتين لم تسعيا مباشرة «لتوفير الاحتياجات، وإنما للربح، في ظل نظام يعمل فيه الجميع من أجل مصلحته وكي يحقق لنفسه الثراء.» وكان هذا النظام غير متكافئ وغير منصف في نتائجه؛ «لذلك كان البرجوازي يحتاج بالتأكيد إلى عمال، في واقع الأمر ليس من أجل كسب قوته على نحو مباشر؛ فهو عند الحاجة بإمكانه إنفاق رأس ماله، ولكن باعتبارهم وسيلة للربح، تماما مثلما نحتاج نحن لسلعة تجارية أو دابة نمتطيها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
كان حديث إنجلز عن مقاومة الطبقة العاملة لظروفهم السيئة هذه مستبصرا بالمستقبل، لكنه كان مفرط المنطقية؛ فالعمال الإنجليز «لا يمكن أن يشعروا بالسعادة في ظل هذه الظروف»؛ ومن ثم «لا بد أن يسعوا لوسيلة للهروب منها.» كان أول أشكال هذا التمرد وأقلها فاعلية هو اللجوء للجريمة، وعرض إنجلز عرضا مفصلا لأسلوب تكسير الآلات والإضرابات، لكن ظلت الاتحادات العمالية عاجزة أمام القوتين الكبيرتين المتمثلتين في المنافسة والدورة الاقتصادية؛ ووجد إنجلز أن الأهمية الحقيقية لتلك الاتحادات هي أنها كانت «أولى محاولات العمال لإلغاء منافسة» بعضهم البعض، وكذلك إلغاء المنافسة في النظام الاقتصادي ككل. واستعرض إنجلز انتشار حدوث الإضرابات والمظاهرات، ووصف رد فعل الميثاقيين والاشتراكيين الإنجليز بأنه رد غير مناسب؛ قال في هذا الشأن:
وهكذا، يبدو أن حركة المقاومة العمالية تنقسم إلى قسمين؛ ألا وهما: الميثاقيون والاشتراكيون. أما الميثاقيون فهم الأكثر رجعية من الناحية النظرية، والأقل تقدما، لكنهم ينتمون بالأساس للطبقة العاملة؛ ولذلك فهم ممثلون لهذه الطبقة. وأما الاشتراكيون فهم أفضل من حيث نفاذ البصيرة، ويقدمون حلولا عملية للمشاكل، لكنهم منبثقون في الأصل عن الطبقة البرجوازية، ولهذا السبب فإنهم غير قادرين على الاندماج الكامل مع الطبقة العاملة. إن اتحاد الاشتراكية مع الحركة الميثاقية، أي إعادة إنتاج الشيوعية الفرنسية بطريقة إنجليزية، سيكون هو الخطوة التالية، وتلك الخطوة قد بدأت بالفعل. وفقط في ذلك الوقت، وبعد تحقق ذلك الأمر، ستكون الطبقة العاملة هي القائد المفكر الحقيقي لإنجلترا؛ وهكذا ستبدأ عملية التنمية السياسية والاجتماعية، التي ستدعم هذا الاتحاد الجديد، وهذا التحول الجديد في الحركة الميثاقية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
شكل 3-1: رسوم كاريكاتورية رسمها إنجلز، في يونيو 1839 (من أعلى اليسار إلى اليمين): الضيق بالدنيا، التوتر والإجهاد العصريان، (أعلى) الخلاف في كولونيا، (أعلى اليمين) المادية الحديثة للنبلاء، (أسفل) تحرير المرأة، روح العصور، تحرير الجسد.
ومن خلال الأدلة التي اختارها - لأنه اعتقد أنها الأكثر أهمية - توقع إنجلز أن العمال سوف يدركون بمزيد من الوضوح كيف تؤثر المنافسة عليهم؛ فلقد رأوا بوضوح أكبر من الطبقة البرجوازية أن المنافسة بين الرأسماليين تسبب أزمات تجارية، «وأن هذا النوع من المنافسة أيضا لا بد من وضع حد له» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لم يكن هدف إنجلز هو تقديم أدلة مناقضة للقضية التي كان يروج لها؛ لأن سرده للموقف لم يكن الغرض منه استعراضا فقط للظروف، بل كان يهدف إلى المساعدة في إحداث تطورات معينة في المجتمع وإحباط أخرى. وعلى الرغم من اعترافه بأن عمله كان متحيزا على نحو واضح لما اعتبره مصالح الطبقة العاملة، فإن النقاد المعاصرين لا بد أن يكونوا حذرين قبل رفض هذا العمل لعدم التزامه الموضوعية والحيادية وعدم التحيز. لكن كيف من المفترض أن يبدو السرد الموضوعي للبؤس؟ وهل يجب أن يكون المرء حياديا عند التحدث عن المعاناة؟ وما هدف البحث والتنظير إذا لم يساعدا في تغيير نظام عالم معيب؟
لم يكن تنبؤ إنجلز «بثورة عنيفة لا يمكن تجنب حدوثها» مدعوما بأدلة تؤكد صدقه (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). غير أن جهود الطبقة العاملة لتحسين الأوضاع في مكان العمل وفي الإسكان ولمقاومة الآثار السلبية للمنافسة على الأفراد، كان لها أثر كبير في إعادة تنظيم المجتمع تنظيما سلميا إلى حد ما، وهذه العملية أسهم فيها إنجلز بأن تحدى المصلحين ونقادهم حتى يلقوا نظرة عن كثب على مأساة العمال في ظل مجتمع يتزايد فيه تطور الصناعة.
الفصل الرابع
إنجلز الثوري
لم يكن أول لقاء لإنجلز مع كارل ماركس ناجحا؛ ففي طريق إنجلز إلى إنجلترا في نوفمبر عام 1842، زار (للمرة الثانية من العام نفسه) مقر الصحيفة الكولونية الراديكالية التي كانت تنشر بعضا من مقالاته، وكان ماركس قد أصبح رئيس تحرير هذه الصحيفة في منتصف أكتوبر، واتخذ موقفا صارما تجاه الإسهامات المقدمة من مجموعة الهيجليين الشباب في برلين ؛ تلك المجموعة التي كان إنجلز منضما إليها.
كان ماركس، باعتباره عالما وفيلسوفا ومفكرا، متفوقا كثيرا عن إنجلز؛ تعلم ماركس في مدينة ترير التي ولد فيها في 5 مايو 1818، قبل عامين من ميلاد إنجلز، الأعمال الكلاسيكية اللاتينية واليونانية والفرنسية في المنزل وفي المدرسة وفي منزل حميه المستقبلي البارون فون فستفالين. كان والدا ماركس من اليهود الذين تحولوا إلى اللوثرية لأسباب سياسية، لكن لم تلعب اليهودية ولا المسيحية دورا أساسيا في تكوين ماركس مقارنة بالتقوية القمعية التي تربى عليها إنجلز. أما على الصعيدين الديني والسياسي، فقد كانت مدينة ترير بيئة أكثر ليبرالية إلى حد كبير مقارنة ببلدة بارمن، وتأثر ماركس كثيرا بمبادئ الثورة الفرنسية مقارنة بالنزعة المحافظة لمملكة بروسيا التي نشأ فيها إنجلز. وعلى النقيض من إنجلز، كان ماركس طالبا جامعيا متفرغا، درس أولا في بون ثم في برلين، حيث قاوم (بنجاح) محاولات والده في توجيهه نحو دراسة القانون؛ وقد حصل ماركس على دورات في الفلسفة والتاريخ، ودرس على نحو غير رسمي بين الهيجليين الشباب في برلين قبل وصول إنجلز. وتوقفت خطط ماركس لحياته الأكاديمية مبكرا، على الرغم من إكماله رسالة الدكتوراه في الفلسفة الإغريقية (وقبولها عن طريق المراسلة في جامعة ينا)؛ وحيث إن الراديكاليين كانوا يستبعدون من العمل في الجامعات في ألمانيا، جرب ماركس وسائل أخرى لتطوير الأفكار المتداولة بين الهيجليين الشباب، وجرب أيضا وسائل أخرى لكسب العيش.
لكن ماركس كان يمتلك قدرا قليلا من الخبرة في مجال الصحافة مقارنة بخبرة إنجلز فيها، وقد نشرت الأعمال الصحفية الوحيدة لماركس - التي كانت عبارة عن ثلاث مقالات - في الصحيفة الكولونية الراديكالية، وكانت إحدى هذه المقالات تتناول حرية الصحافة، والمقالتان الأخريان كانتا تتحدثان عن التبريرات التاريخية والدينية لما اعتبره ماركس ممارسات عبثية غير ليبرالية في الحياة السياسية. واستمر على هذا النسق في مشروعين من مشاريعه عندما أصبح رئيسا لتحرير الصحيفة؛ فكان أحد هذين المشروعين نقدا للقوانين الإقطاعية «المعدلة» فيما يخص جمع الأخشاب، والآخر عرضا للفقر الذي كان يسود وادي موزيل. وبعد نشر أول مقالة من هاتين المقالتين، انفصل على نحو واضح عن مجموعة برلين، وكتب إلى أرنولد روجه في أواخر نوفمبر من عام 1842 (بعد وقت وجيز من وصول إنجلز) يقول إن «دس معتقدات شيوعية واشتراكية» في مقالات النقد المسرحي يعد عملا «غير لائق، بل حتى غير أخلاقي في واقع الأمر.» ورفض تماما «الكتابات الكثيرة المشبعة بالرغبة في نشر الروح الثورية في العالم، وإن كانت خالية من الأفكار، ومكتوبة بأسلوب غير متقن مضاف إليه بعض الأفكار الإلحادية والشيوعية (التي لم يدرسها مطلقا هؤلاء السادة)» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
فلماذا إذن عندما زار إنجلز ماركس في باريس بعد ذلك بعامين في أغسطس 1844، تلقاه ماركس بالترحيب الحار والموافقة الفورية على التعاون معه في أحد الكتيبات؟
أثناء تواجد إنجلز في مانشستر، كتب مقالة في الفترة ما بين أكتوبر ونوفمبر من عام 1843 حملت عنوان «إسهام في نقد الاقتصاد السياسي»، ونشرت في فبراير 1844 في صحيفة يرأس تحريرها كل من ماركس وروجه، ودون ماركس ملاحظات، يعود تاريخها إلى أوائل عام 1844، عن تلك المقالة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث)، ووصفها في فترة لاحقة من حياته بأنها «مخطط ممتاز لنقد الفئات الاقتصادية» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكانت هذه المقالة مفخرة ماركس كلما تحدث عن علاقته بإنجلز؛ فلا بد أن تناول إنجلز النقدي للاقتصاد السياسي (النظرية الاقتصادية في عصره) قد حاز إعجاب ماركس، الذي كان يبحث الآثار العملية لنظام الملكية الخاصة الذي تقره مملكة بروسيا وتدافع عنه. بالإضافة إلى ذلك، كان ماركس مؤهلا جيدا لنقد كتاب «فلسفة الحق» الذي كتبه هيجل، وهو محاولة نظرية رائدة للتعامل مع الملكية الخاصة والحكومة، لكنه لم يكن يعرف عن الاقتصاديين الفرنسيين والبريطانيين معلومات أكثر من تلك التي أوردها هيجل في نظريته. وكان من الواضح أن إعداد دراسة نقدية عن الاقتصاد السياسي نفسه، هو الخطوة التالية لماركس في إطار اهتمامه الجاد بالمحرومين من حقوقهم الاجتماعية والسياسية في ألمانيا وفي كل مكان في أوروبا.
كان تطرق إنجلز للاقتصاد السياسي نابعا من اهتمامه بالتاريخ الاجتماعي لإنجلترا، لا سيما الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد كان آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجيمس ميل، هم أصحاب النظريات التقليدية التي تحدثت عن مزايا الملكية الخاصة والمنافسة. ونظرا لكون إنجلز شيوعيا، فقد اقترح إلغاء كل من الملكية الخاصة والمنافسة، ولم يكن اعتراض ماركس على الشيوعية (الممثلة في مجموعة برلين وغيرهم) بسبب استنتاجاتها في حد ذاتها، بل بسبب عدم وجود بحث حقيقي وحجة مقنعة لدعم تلك الاستنتاجات. وأخيرا، كانت مقالة إنجلز عملا شيوعيا يستحق القراءة.
اعتبر إنجلز أن الاقتصاد السياسي ما هو إلا علم للإثراء تطور نتيجة لتوسع التجارة، وكتب: إن «التقدم «الإيجابي» الوحيد الذي حققه الاقتصاد الليبرالي هو التوسع في قوانين الملكية الخاصة.» وهاجم في مقالته الاقتصاد السياسي بوصفه وجها آخر لنفاق الطبقة المالكة، وهذا هو موضوع عمله «رسائل من فوبرتال» وغيره من الأعمال التي كتبها في السنوات الأربع السابقة؛ إلا أنه من خلال ممارسة المنافسة التي وصفها بالنفاق، قد رأى الطريق إلى «التحول الهائل الذي يتجه إليه القرن، والمتمثل في تصالح البشرية مع الطبيعة ومع نفسها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
أما من ناحية النقد الأخلاقي للاقتصاد السياسي، فقد كان عمل إنجلز دقيقا وحادا؛ فقد وصف التجارة بأنها تشبه السرقة، وتقوم على قانون القوي، وعلى حسد وطمع التجار المرسومة «على جباههم الأنانية البغيضة للغاية.» وقال إن المزاعم القائلة بأن التجارة هي رابطة صداقة بين الأمم والأفراد، لم تكن سوى إنسانية زائفة، وسرعان ما عادت أفكار المنافسة لتبسط سطوتها، وأضاف:
النتيجة الفورية للملكية الخاصة هي «التجارة» - مقايضة المتطلبات بين طرفين - أي البيع والشراء. وهذه التجارة، مثلها مثل بقية الأنشطة، يجب أن تصبح في ظل سيطرة الملكية الخاصة مصدرا مباشرا للمكسب لدى التاجر؛ أي يجب أن يسعى كل طرف من الطرفين إلى البيع بأعلى سعر ممكن والشراء بأقل سعر ممكن؛ ولذلك ففي كل عملية بيع وشراء يتواجه رجلان لدى كل منهما مصالح متعارضة تماما مع مصالح نظيره، وهذه المواجهة عدائية بلا شك، فكل منهما يعرف نوايا الآخر، ويعلم أن بينهما تعارضا في النوايا؛ ومن ثم تصبح النتيجة الأولى لذلك هي انعدام الثقة بين الطرفين من ناحية، وتبرير انعدام الثقة - المتمثل في استخدام أساليب غير أخلاقية لتحقيق غاية غير أخلاقية - من ناحية أخرى؛ ولذلك فإن الشعار الأول للتجارة هو السرية؛ أي إخفاء كل ما من شأنه تقليل قيمة السلعة المذكورة. وكانت نتيجة ذلك أن أصبح مسموحا به في التجارة استغلال جهل وثقة الطرف الآخر إلى أقصى حد، وبالمثل أصبح مسموحا به الافتراء على سلعة الطرف الآخر بأوصاف سيئة ليست فيها. باختصار، التجارة هي احتيال مقنن، وأي تاجر يرغب في إثبات الحقيقة يمكنه أن يقدم أدلة على أن الممارسة الفعلية للمهنة تتفق مع هذه النظرية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وفي العصر الحديث، أسفر النظام الاقتصادي الليبرالي عن نتائج مروعة في المصانع، أدت إلى تفسخ المصالح المشتركة حتى في الأسرة الواحدة؛ قال إنجلز في هذا الشأن:
لقد أصبح ممارسة مألوفة لدى الأطفال أنهم بمجرد أن يصبحوا قادرين على العمل (أي بمجرد بلوغهم سن التاسعة)، فإنهم ينفقون الأجور التي يحصلون عليها بأنفسهم، ويعتبرون منزل الأسرة مجرد نزل للإقامة، ويسلمون لآبائهم مبلغا محددا نظير الطعام والسكن؛ فكيف يمكن أن يكون الأمر مختلفا؟ وماذا قد ينتج أيضا عن الفصل بين المصالح بحيث يشكل أساسا لنظام التجارة الحرة؟ فبمجرد أن يدخل المبدأ حيز التنفيذ، يستمر في العمل وصولا لنتائجه النهائية، سواء أعجب علماء الاقتصاد ذلك أم لم يعجبهم (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
واستكمل إنجلز تحليله، فكتب أنه: «يقوم قانون المنافسة على سباق بين العرض والطلب كي يتمم أحدهما الآخر؛ ولذلك لا يحدث هذا مطلقا.» وتساءل إنجلز: «ما الذي جعلنا نطبق قانونا لا يمكن إثبات صحته إلا من خلال التقلبات الدورية»؛ أي الدورة الاقتصادية في الأزمات التي تحدث على نحو دوري؟ إنه «قانون طبيعي يقوم على عدم وعي المشتركين فيه» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
بفضل الاقتصاد السياسي، ولا سيما نظرية مالثيس الخاصة بالإنتاج والسكان، انصرف انتباهنا إلى إنتاجية الأرض وإنتاجية البشر، واستنتج إنجلز من ذلك «أقوى الحجج الاقتصادية لدعم التحول الاجتماعي»؛ فالملكية الخاصة قد حولت الإنسان إلى سلعة، والمنافسة «اخترقت كل العلاقات في حياتنا وأكملت العبودية المتمثلة في المقايضة التي جعل الناس أنفسهم عبيدا لها في الوقت الراهن.» واستطرد إنجلز قائلا إن كل هذه الأمور ستقودنا «نحو القضاء على هذا الإذلال للبشرية، من خلال إلغاء الملكية الخاصة، والمنافسة، والمصالح المتعارضة.» وبعد ذلك، إذا تم الإنتاج على نحو واع، وعلم المنتجون قدر المنتجات التي يطلبها المستهلكون، وشاركوها معهم، فستكون «تقلبات المنافسة، واحتمالية تحولها إلى أزمة أمرا مستحيلا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
تلك الموضوعات التي قدمها إنجلز تناولها ماركس في عمله «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية» (وفي عمله «ملاحظات على جيمس ميل»)، الذي بدأ تأليفه في ربيع عام 1844. وعندما حقق إنجلز نجاحا، كان لدى ماركس مخزون كبير من المعلومات اللازمة لدراسته النقدية للاقتصاد السياسي، وشعور مبدئي بأن تلك الدراسة ستكون مشروعا كبيرا وصعبا إذا ما أنجزت على الوجه الأكمل. وبعد ذلك، وجد ماركس سببا أدعى لتأجيل عمله المهم للتعامل الفوري مع خصومه السياسيين، ويبدو أن إنجلز قد وافق على اقتراح ماركس بالتخلي التام عن الهيجليين الشباب؛ فهل يوجد ما يمكن أن يفعله ماركس لإتمام عمله، أفضل من الاستعانة بخدمات أحد أعضاء مجموعة برلين بعد تصحيح مفاهيمه؟
علاوة على ذلك، كانت شهرة إنجلز الكاتب تفوق شهرة ماركس، وحتى وقت المشروع المشترك المقترح، كان ماركس قد نشر حوالي اثنتي عشرة مقالة في عدد محدود جدا من الصحف والمجلات، التي كان يرأس تحرير بعضها. وعلى الرغم من تحقيق الصحيفة الكولونية الراديكالية (ورئيس تحريرها) شهرة كبيرة في أواخر عام 1842 وأوائل عام 1843، فقد اختفت تلك الشهرة سريعا؛ ومع ذلك فإن تلك الشهرة التي حققها ماركس لم تكن نابعة بقدر كبير من محتوى مقالاته، بل كانت نابعة من مزيج التوجهات الراديكالية والثورية التي كانت تعبر عنها الصحيفة ككل تحت رئاسته. وفي خطاب أرسله إنجلز إلى ماركس، سأله عن سبب وضع اسمه أولا على صفحة عنوان عملهما المشترك الذي حمل اسم: «العائلة المقدسة: نقد النقد النقدي»؛ وذلك بسبب ضآلة إسهامه فيه (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد السابع والعشرون). ولم يكن إنجلز في حاجة لطرح هذا السؤال.
لم يكن كتاب «العائلة المقدسة» عملا مشتركا كاملا، من أي ناحية؛ لأن كل فصل - بل وبعض الأقسام الفرعية - كان يحمل توقيع مؤلفه. عرفت المقدمة العمل بأنه مقدمة نقدية لأعمال منفصلة، وفيها «نقدم - كل منا متحدثا عن نفسه بالطبع - وجهة نظرنا الإيجابية بشأنها»، وتلك الأعمال هي: أعمال ماركس النقدية للاقتصاد السياسي (وأيضا مقالات نقدية أخرى عن القانون والتاريخ والأخلاق ... إلخ)، وكتاب إنجلز «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» (الذي كان حينها قيد الطبع)، وعمله المنتظر عن التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. والآن بعد أن انتقل إنجلز من الفلسفة والليبرالية إلى الاشتراكية والاقتصاد، لم يعد يحمل سوى الازدراء لنقد الهيجليين الشباب؛ قال في هذا الإطار:
النقد لا يفعل شيئا سوى «تكوين صيغ من عينات ما هو موجود بالفعل»، تحديدا من الفلسفة «الهيجلية» الحالية والتطلعات الاجتماعية الحالية؛ مجرد صيغ ولا شيء غيرها. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهته الفلسفة الهيجلية للدوجماتية، فإنها تتسم بالدوجماتية، بل إنها تتسم بالدوجماتية «النسوية». إن الفلسفة «الهيجلية» ستظل أرملة عجوزا شاحبة تصبغ وتزين جسدها الذي تضاءل إلى مستوى التجريد البغيض للغاية، وتنظر بإغواء في كل أنحاء ألمانيا بحثا عن مغازل (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لحق إنجلز بماركس إلى بروكسل عام 1845، وارتضى - حسب اعترافه - بدور أقل في هذه الشراكة؛ حيث شعر على الأرجح بقدرات ماركس الفائقة في التحليل ودقته الشديدة. سافر الاثنان إلى إنجلترا في صيف 1845 وزارا مانشستر، ووجدا في طريق عودتهما إلى بروكسل ردا على كتاب «العائلة المقدسة» من جانب الهيجليين الشباب؛ لذا برزت حاجة ملحة إلى تقديم عرض واضح للأفكار الاشتراكية؛ فالنقد السابق، كما في كتاب «العائلة المقدسة»، كان نابعا من افتراضات غير موضحة تماما، وبالتأكيد غير معروضة تفصيلا. وبعد ذلك شرع ماركس وإنجلز في كتابة ما يبدو أنه أول عمل مشترك حقا ، وهو «الأيديولوجية الألمانية»؛ وكان ذلك بهدف تسوية اختلافاتهما مع هيجليي عصرهما السطحيين المزعجين، وأيضا للمساعدة في «توضيح أفكارهما الذاتية» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
شكل 4-1: فريدريك إنجلز، عام 1845.
كادت مخطوطة كتاب «الأيديولوجية الألمانية» تكون مكتوبة بالكامل بخط يد إنجلز، وكانت التصحيحات والتغييرات بخط كلا المؤلفين. في بعض الأحيان، كانت الصفحات مقسمة إلى عمودين، كان النص على اليسار، والإضافات على اليمين، وكان خط ماركس يكاد لا يقرأ، وقيل إن إنجلز قد كلف بعملية كتابة النص الذي اشتركا شفهيا في تأليفه. كان العمل من الناحية الفلسفية مماثلا للأعمال السابقة لماركس أكثر مما كان مماثلا لأعمال إنجلز، وكان القسم الأول مستقى مباشرة من مقالة ماركس «أطروحات حول فيورباخ»، التي كتبها في أوائل عام 1845 قبل وصول إنجلز إلى بروكسل. وفي هذه السطور القليلة، شن ماركس هجوما على «كافة أشكال المادية السابقة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس)، وعندما تأمل إنجلز الكتاب عام 1888 بعد وفاة ماركس، اعترف بأن الأطروحات الإحدى عشرة حول فيورباخ كانت «أول عمل توجد فيه البذرة الرائعة للنظرة الجديدة للعالم» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفي عمل آخر وضعه في العام نفسه، كتب مرددا كلمات ماركس التي قالها عام 1859: «إن مدى التقدم الذي أحرزته بمفردي في سبيل الوصول إلى [فرضيات ماركس]، يظهر بوضوح شديد في عملي «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا»، لكن عندما قابلت ماركس مرة أخرى في بروكسل ... فإنه كان قد أكملها بالفعل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفي كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، تعرض العديد من الهيجليين الشباب للهجوم الشديد بسبب أوهامهم؛ فقد زعموا أن: «علاقات البشر، وكل أفعالهم، وقيودهم ونقاط ضعفهم، هي نتاج وعيهم»، ولأنهم كانوا يواجهون العبارات بالعبارات، فقد كانوا «لا يعارضون العالم الفعلي القائم بأي حال من الأحوال.» تبنى ماركس وشريكه وجهة نظر معارضة لوجهة نظر الهيجليين الشباب؛ فكانت الأسس التي انطلقوا منها هي البشر - ليس «في أي حالة من حالات الثبات والعزلة الخيالية، بل في عملية تطورهم الفعلية والمحسوسة تجريبيا» - وكذلك مشروعهما المعنون «دراسة تطور الحياة الفعلية للأفراد وعملهم في كل عصر» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
وفي الجزء الأول من كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، كانت هناك فقرات وثيقة الشبه بأعمال إنجلز قبل تأثره بالماركسية، تلك الأعمال التي تناولت تاريخ الثورة الصناعية وتعليقاته على طبيعة الشيوعية، وكتب المؤلفان أن فيورباخ:
عندما لا يرى رجالا أصحاء، ويرى بدلا منهم مجموعة من الرجال المنهكين المصابين بسل الغدد الليمفاوية والسل الرئوي والهزال، كان يضطر إلى الاختباء وراء مصطلحات مثل «الإدراك الأعلى» والتمسح في مثالية «التعويض في الأنواع»؛ وبذلك يعود إلى المثالية عند النقطة التي يرى فيها الماديون ضرورة، بل ووجوبا، لحدوث تحول في كل من الصناعة والنظام الاجتماعي. (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
كانت كتابات ماركس الصحفية ومخطوطاته المبكرة هي المصدر المحتمل للمناقشة التي تناولت الدولة والقانون والملكية في الكتاب. أما المناقشات الساخرة التي شغلت بقية الكتاب، فعكست الأعمال التي قدمها كلا المؤلفين قبل كتاب «العائلة المقدسة»، وفي هذا العمل نفسه حدث تطور أكبر في مسألة شخصنة النقد السياسي لدى كلا المؤلفين؛ بيد أن الجانب الفلسفي في كتاب «الأيديولوجية الألمانية» الذي استمر طوال الكتاب ومنحه الترابط، يمكن أن يعزى دون تردد إلى ماركس، كما قال إنجلز. وبالرغم من ذلك، يجب التأكيد على أن هذا العمل قدم الفلسفة في مقابل التفلسف الصرف؛ لأن الهدف منها كان الارتقاء بالحياة الواقعية وإعادة تنظيمها بطريقة عملية لا تحمل طابعا مثاليا.
لم تكن مقالة «أطروحات حول فيورباخ» التي ألفها ماركس صدمة لإنجلز؛ لأن أبحاثه التي أجراها عام 1844 حول التاريخ الاجتماعي والظروف الاجتماعية المعاصرة كانت متوافقة تماما مع تلك الأطروحات. كتب ماركس: «كل الحياة الاجتماعية عملية في جوهرها، وكل الألغاز التي تقود النظرية إلى التصوف تجد ضالتها العقلانية في الممارسة البشرية وفي فهم هذه الممارسة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
الآن، بحسب علمنا، كان إنجلز قد تخلى عن الاقتصاد السياسي وترك التحدث عنه لماركس، ولم يضف شيئا مطلقا إلى نقده الأول «الرائع»، على الرغم من وجود بعض لمحات منه في كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، والتي من بينها :
أو كيف يمكن أن تكون التجارة، التي لا تعد أكثر من مجرد مقايضة منتجات بين العديد من الأفراد والبلدان، هي ما يحكم العالم بالكامل من خلال علاقة العرض والطلب - تلك العلاقة التي قال عنها أحد علماء الاقتصاد الإنجليز إنها تحوم حول الأرض مثل قدر الأقدمين، وتوزع بيدها الخفية السعادة والشقاء بين البشر، وتقيم إمبراطوريات وتهدم أخرى، وترفع أمما وتخسف الأرض بأخرى - في حين أنه مع إلغاء أساس التجارة، المتمثل في الملكية الخاصة، بالإضافة إلى اعتماد نظام الإنتاج الشيوعي ... سوف تتلاشى قوة علاقة العرض والطلب، وسيتحكم البشر مرة أخرى في عملية التجارة والإنتاج وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض؟ (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
كان أول أعمال ماركس المنشورة الذي استعرض فيه بعض ثمار قراءاته وأبحاثه الاقتصادية في الفترة ما بين عامي 1845 و1846، هو كتاب «فقر الفلسفة»، الذي نشر باللغة الفرنسية وحمل اسمه فقط، وكان هذا عام 1847. تولى إنجلز مهمة التحدث في الصحافة عن القضية الشيوعية والترويج لها، تلك القضية التي اتخذت شكلا منظما تمثل في لجنة المراسلات الشيوعية في بروكسل. وكان الهدف الأساسي - بحسب ماركس - هو جعل الاشتراكيين الألمان يتواصلون مع الاشتراكيين الإنجليز والفرنسيين (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز)؛ وذهب إنجلز بنفسه إلى باريس لتنظيم العمال الألمان، وأخبر اللجنة أنه حصل على دعم (بنسبة تصويت ثلاثة عشر إلى اثنين) لتعريف الشيوعية بأنها (1) تحقق مصالح طبقة البروليتاريا من خلال (2) إلغاء الملكية الخاصة واستبدال الملكية المشتركة للبضائع بها، وتحقيق الأمرين الأول (1) والثاني (2) من خلال الأمر الثالث (3) المتمثل في قوة الثورة الديمقراطية (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). وذهب أيضا إلى لندن، وجعل مهمته في العموم هي المساعدة في تبني المجموعات الشيوعية المبادئ الماركسية بدلا من مبادئ الهيجليين الشباب، أو غيرها من المصادر. انعقد أول مؤتمر للشيوعيين في لندن في صيف 1847، وقدم فيه إنجلز مسودة «البيان الشيوعي» بغرض المناقشة، وأعد إنجلز نسخة أخرى من تلك المسودة من أجل ماركس، حملت اسم «مبادئ الشيوعية»، وفي أواخر ذلك العام حضر كلاهما المؤتمر الثاني الذي عقد في لندن في أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد السادس). وطلب من كل من ماركس وإنجلز استخدام هذه المسودة وغيرها في تشكيل وثيقة نهائية يمكن لكل الشيوعيين الالتزام بها.
وفي مرحلة لاحقة، اعترف ماركس وإنجلز كل منهما على حدة بأن الفكرة الأساسية للبيان الشيوعي كانت من إنتاج ماركس وحده، وتمثلت في أن وجود الطبقات في المجتمع كان نتيجة مراحل معينة في تطور الإنتاج، وأن الطبقة المطحونة المعاصرة هي فقط التي بإمكانها تحقيق التحول إلى مجتمع بلا طبقات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلدان الأول والثاني؛ المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). كانت تلك الفكرة الأساسية مأخوذة من فرضيات ماركس في كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، وقدمت على نحو مفصل بالفعل في هذا البيان أيضا، على الرغم من أن هذا التفصيل، كما أشرت، حمل جوانب تشابه كبير في عدة نقاط مع كتابات إنجلز الأولى عن التاريخ الاجتماعي وتعليقاته المبكرة على الشيوعية؛ إلا أن النسخ الأولى من البيان كانت معدة بالفعل على يد إنجلز وحده، وظهرت أفكار من تلك المسودات ببعض الإسهاب في الوثيقة النهائية. علاوة على ذلك، كان أسلوب صياغة البيان (الذي يجب أن يكون قصيرا وجذابا) وغرضه (وهو كسب مناصرين وسط الشيوعيين) أمرا اهتم به إنجلز على نحو مباشر أكثر من ماركس الذي كان أكثر اهتماما، كما قال لاحقا، بتقديم تحليل مفصل لدور المجتمع البرجوازي في الاقتصاد السياسي.
وبالرغم من ذلك، تولى ماركس مسئولية صياغة البيان في النهاية؛ نظرا لسفر إنجلز إلى باريس في أوائل عام 1848، فضلا عن إلحاح الشيوعيين في لندن على ماركس لتقديم البيان في أواخر يناير؛ وبهذه الطريقة أصبح هذا البيان ينسب إليه (على الرغم من أنه كان غير موقع بطبيعة الحال). كان الهدف من البيان أيضا تقديم وجهات نظر لجنة المراسلات الشيوعية؛ ولذلك يمكن افتراض أن بعض أجزاء الكتاب عكست محاولة ماركس التصدي للاعتراضات الموجهة من الآخرين. كان باستطاعته على الأرجح تأليف البيان دون الاستعانة بمسودات إنجلز، أو حتى دون أن يقابل إنجلز على الإطلاق؛ لأن الفكرة الأساسية وتفصيلها نبعا على نحو منطقي للغاية من أعماله التي كتبها في عامي 1842 و1843. غير أن أعمال إنجلز الأولى، التي اعترف ماركس بتأثيرها عليه، لا بد أنها يسرت المضي قدما في تفصيل الفكرة الأساسية في البيان؛ ففي أعمال إنجلز الأولى، كما رأينا، قدم إنجلز في فقرات شهيرة وصفا عاما للثورة الصناعية ونفاق الطبقة البرجوازية، بالإضافة إلى تأثير العلاقات الاقتصادية التنافسية على النساء والأطفال والأسرة؛ علاوة على ذلك، فإن الدليل النقدي للاشتراكية في إنجلترا وأوروبا في الجزء الثالث من البيان أظهر موهبته في كتابة مقالات مختصرة عن النقاشات الفلسفية المعاصرة.
على أقل تقدير، كان ماركس أمام مادة بحثية مهمة مقدمة من إنجلز وتحتاج قدرا طفيفا من التعديل؛ بالإضافة إلى ذلك، ربما كانت أعمال إنجلز المبكرة وإسهامه اللاحق في تأليف كتاب «الأيديولوجية الألمانية» وكتيب «البيان الشيوعي» ضرورية لإبعاد ماركس عن الأسلوب المتكلف المعقد الذي ظهر في أعماله التي نشرها عام 1843، كي يصبح أسلوبه أسهل في القراءة. وبغض النظر عن الفضل الذي يعود لإنجلز في تأليف «البيان الشيوعي»، فإنه لا يمكن إنكار جهوده في تكوين لجنة المراسلات الشيوعية، وفي توفير الجمهور اللازم لها. وقد كان مخططا في ذلك العام ترجمة البيان إلى لغات أوروبية أخرى، ولاحقا أعيد نشره باللغة الألمانية عام 1872 بمقدمة جديدة اشترك في تأليفها الكاتبان، ثم أعيد نشره عامي 1883 و1890 بمقدمتين كتبهما إنجلز.
من المعروف أن «البيان الشيوعي» ليس له أي تأثير يمكن تعقبه على الأحداث الثورية التي وقعت عام 1848، وبالرغم من ذلك، فقد لعب ماركس وإنجلز في تلك الأحداث دورا فعالا لكنه لا يكاد يكون مؤرخا عالميا؛ فقد كان ماركس يرأس تحرير إحدى الصحف في كولونيا، وأسهم إنجلز بحوالي ثمانين مقالة في تلك الصحيفة، وكتب لغيرها من الصحف أيضا؛ ويقال إن متوسط عدد النسخ المبيعة من تلك الصحيفة تراوح ما بين خمسة وستة آلاف نسخة خلال مدة وجودها التي بلغت سنة واحدة. وكان ماركس يهدف إلى مساعدة الثورات الديمقراطية في ألمانيا وفي غيرها من البلاد، بعد اندلاع الثورة في باريس في فبراير 1848، وكانت السياسات التي حرضت عليها الصحيفة تعكس البرنامج المعلن عنه في «البيان الشيوعي»؛ كانت تلك السياسات إجراءات ليبرالية، من ناحية تسعى للقضاء على الأنظمة الرجعية، لكنها في الوقت نفسه تحمي مصالح أي طبقة عاملة تقوم بالثورة. وأدت خيبة الأمل، بسبب فشل الثوريين المنتسبين إلى الطبقة الوسطى في أبريل 1849، إلى تبني وجهة نظر أكثر راديكالية بخصوص العمل السياسي للطبقة العاملة، قبل وقت قصير من حجب الصحيفة في منتصف مايو من العام نفسه.
تورط إنجلز بنفسه في مصادمات ثورية غير ناجحة في بلدة إلبرفيلد مسقط رأسه في مايو 1849، لكن لم ينضم العمال والثوار إلى مجموعة المتمردين الصغيرة بأعداد تكفي لتشكيل تهديد كبير للسلطات؛ وفي يونيو انضم إلى القوات الثورية في جنوب غرب ألمانيا في حملتهم غير الناجحة ضد حكام بروسيا، وكان يريد بهذا - كما أخبر زوجة ماركس في أحد الخطابات - أن ينقذ سمعة صحيفة أستاذه ماركس (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). وفي أواخر عام 1849، سافر من سويسرا إلى جنوة وأبحر منها ليلحق بماركس الذي وصل لتوه إلى منفاه في لندن.
الفصل الخامس
إنجلز الماركسي
كان إنجلز أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيرا؛ فقد كتب عددا هائلا من المقالات والكتيبات والمقالات النقدية، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب حولها طوال الفترة الممتدة من 1849 وحتى وفاته عام 1895. وفي كثير من هذه الأعمال حاول تفسير فرضيات ووجهات نظر ماركس، التي أسهم فيها إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد أصبح مراجعا ومحررا لأعمال ماركس؛ إذ كان يكتب المقدمات للطبعات الجديدة من كتبه (والكتب التي اشترك معه في تأليفها)، وكذلك إعداد مخطوطات الأعمال الخاصة بماركس للنشر بعد وفاته عام 1883.
في السنة الأولى لتواجد إنجلز في إنجلترا، كان مشغولا للغاية في الفترة التي أعقبت الأحداث الثورية التي وقعت فيما بين عامي 1848 و1849، فقد كان يتوقع على نحو معقول للغاية استمرار تلك الأحداث بعد فترة من الهدوء الواضح. وعلى نحو مميز، كان أول مشاريع ماركس في ذلك الوقت هو الاستمرار في إصدار صحيفته السياسية، التي أصبحت الآن تحمل عنوانا فرعيا يصفها بأنها صحيفة نقد اقتصادي سياسي، واعدا بتقديم «استقصاء شامل وعلمي عن الأحوال «الاقتصادية» التي تشكل أساس الحركة السياسية بأسرها»؛ وكانت مهمة إنجلز هي بوضوح المساهمة في تقديم تحليل اجتماعي وتاريخي أوسع نطاقا إلى حد ما، يتناول «توضيح فترة الثورة التي حدثت للتو، وبيان شخصية الأطراف المتصارعة، والظروف الاجتماعية المحددة لوجود وصراع تلك الأطراف» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وخلال فترة الاثني عشر شهرا التي أعقبت نوفمبر 1849، نشر إنجلز (لكل من القراء الإنجليز والألمان) آراءه حول الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849، والجدل السياسي الدائر حول قانون تحديد ساعات العمل للنساء والأطفال العاملين في المصانع في إنجلترا بعشر ساعات فقط؛ كما كتب أيضا سلسلة مقالات عن «حرب الفلاحين في ألمانيا»، في سعي لتذكير الشعب الألماني بالشخصيات «الخرقاء التي اتسمت رغم ذلك بالقوة والصلابة في حرب الفلاحين الكبرى.» وألقى نظرة على أحداث عام 1525 قائلا: «يمكننا أن نرى نفس الطبقات وأطياف الطبقات التي خانت الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 ... وإن كان بمستوى تطور أقل» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
اعتمدت طريقة إنجلز في كتابة التاريخ على تقديم الأدلة المطلوبة من مصادره لإثبات صحة وجهة نظر ماركس، القائلة بأن وجود الطبقات في المجتمع يعتمد على مراحل تطور الإنتاج، وأن طبقة البروليتاريا الحديثة هي فقط التي لديها ما يؤهلها لبدء عهد المجتمع اللاطبقي. واستعرض إنجلز تاريخ الصناعة الألمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (صناعة الأقمشة وصناعة الأدوات المعدنية والطباعة)، واختلاف ألمانيا سياسيا عن النمط السائد في كل مكان في أوروبا؛ فقال في هذا الشأن:
في حين أدى ازدهار التجارة والصناعة في إنجلترا وفرنسا إلى تشابك مصالح البلد بأكمله، ومن ثم إلى المركزية السياسية، فإن ألمانيا لم يحدث بها أي شيء مغاير سوى تجمع المصالح في المقاطعات، حول بعض المراكز المحلية؛ وهذا أدى إلى انقسام سياسي؛ ذلك الانقسام الذي سرعان ما أصبح نهائيا إلى حد كبير باستبعاد ألمانيا من التجارة العالمية. وتوافقا مع تفكك الإمبراطورية الإقطاعية تماما ، أصبحت روابط الوحدة الإمبراطورية متحللة تماما؛ فالمدن الكبرى في الإمبراطورية أصبحت ذات سيادة مستقلة تقريبا، وبدأت تلك المدن من ناحية وفرسان الإمبراطورية من ناحية أخرى يكونون تحالفات؛ إما بعضهم ضد بعض أو ضد الأمراء أو الإمبراطور (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان تلخيصه للوضع الألماني ترديدا لما جاء في «البيان الشيوعي»؛ إذ قال: «شكلت الطبقات العديدة في الإمبراطورية - الأمراء والنبلاء والأساقفة والأرستقراطيون وسكان الحضر والعوام والفلاحون - كتلة محيرة للغاية؛ بسبب احتياجاتهم المتنوعة والمتصارعة.» وسار إنجلز على نهج كتاب «الأيديولوجية الألمانية»؛ فأظهر أن الخلافات الدينية في حقيقتها اجتماعية وسياسية، فقال: «كانت المعارضة الثورية للإقطاعية حية طوال العصور الوسطى، وقد اتخذت أشكال التصوف أو الهرطقة الصريحة أو التمرد المسلح، على حسب ظروف العصر.» وباستخدام هذا الإطار حدد إنجلز ثلاثة معسكرات أساسية؛ أولا: معسكر الكاثوليك المحافظين، وهم «كل الأشخاص الراغبين في استمرار الظروف الراهنة؛ وهم: السلطات الإمبريالية، والأمراء الذين يدينون بالولاء للكنيسة وجزء من الأمراء العلمانيين، والنبلاء الأثرياء، والأساقفة والأرستقراطيون من سكان المدن.» ثانيا: معسكر الإصلاح اللوثري الذي جذب المعتدلين؛ وهم: «كتلة النبلاء الأقل ثراء، وسكان الحضر بل وبعض الأمراء العلمانيين الذين كان لديهم أمل في تحقيق الثراء من خلال مصادرة أملاك الكنيسة.» وثالثا: معسكر الفلاحين والعوام الذي يمثل «الطرف «الثوري» الذي شرح [توماس] منتسر مطالبه ومعتقداته بمنتهى القوة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان إنجلز متعاطفا للغاية مع منتسر، لكن السرد المطول لأحداث حروب الفلاحين التي دارت في عشرينيات القرن السادس عشر، لم يكن بأي حال من الأحوال مجرد مديح لبطل يساري. لقد كان القائدان لوثر ومنتسر بحق «انعكاسا» لتوجهات الطبقة التي يمثلهما؛ فتردد لوثر كان مشابها للسياسات المترددة التي ينتهجها سكان الحضر، وكان حماس منتسر الثوري مشابها لذلك الخاص بالعوام والفلاحين الأكثر تقدما، إلا أن منتسر تجاوز مطالبهم المباشرة إلى حد بعيد، وبقيامه بهذا وجد نفسه في موقف يصعب التعامل معه؛ «إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لقائد حركة متطرفة هو تسلم السلطة في وقت تكون فيه الحركة ليست مستعدة بعد للسيطرة على الطبقة التي يمثلها ذلك القائد.» ولم تكن حركة منتسر ولا الظروف الاقتصادية التي وجد نفسه فيها مناسبة للتغيرات الاجتماعية التي تصورها، والتي كانت متمثلة في الملكية المشتركة والتزام الجميع بالعمل، وإلغاء كافة أشكال السلطة. إن تلك التغيرات الاجتماعية على الرغم من أنها كانت ممكنة فعليا وفي طريقها للتحقق، فإنها كانت - كما رأى إنجلز - تمثل تحولا من المجتمع الإقطاعي إلى البرجوازي؛ أي إنها تقدم نظاما تجاريا تنافسيا مناقضا تماما لأفكار منتسر. وفي ظل هذه «المعضلة التي لا حل لها»، فإن الأمور التي يمكن للقائد أن يفعلها «تتعارض مع كل أفعاله ومبادئه السابقة والمصالح المباشرة للطبقة التي يمثلها، والأمور التي «يجب» أن يفعلها لا يمكن إنجازها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
وعلى الرغم من أوجه الشبه بين الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 وثورة 1525 - التي قسمت وحددت القوى الثورية التي تحارب الخصوم على أساس الانتماء إلى اليمين واليسار - فقد توقع إنجلز نجاح الحركة الثورية المعاصرة؛ لأنها لم تكن شأنا محليا، بل كانت جزءا من حدث أوروبي النطاق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كانت دراسة إنجلز لحرب الفلاحين في ألمانيا أول مؤلف ماركسي عن «التاريخ»، وأوضح فيها إنجلز أن الصراعات التي بدت دينية لم تحل جميعها على أساس ديني، وأنه خلف «الغطاء الديني» تكمن «مصالح واحتياجات ومتطلبات» الطبقات المختلفة. وبالمثل، زعم إنجلز أن الثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 كانت أكبر من «مجرد جدال محتدم» حول مزايا الملكية الدستورية مقارنة بالملكية المطلقة، وأن ثورة يوليو 1830 لم يكن سببها فقط «استحالة تحقيق العدالة في ظل «فضل الرب»»، وأن ثورة فبراير 1848 لم تكن ببساطة «محاولة لحل مسألة المفاضلة بين الجمهورية والملكية»؛ فخلف هذه الصراعات السياسية توجد دائما مشكلات اقتصادية لدى الطبقات الاجتماعية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وصاغ إنجلز بدرجة كبيرة مناهج ومصطلحات التأريخ الماركسي في هذا العمل الرائد.
سرعان ما انتهى التفاؤل الثوري الذي ظهر في كتاب «حرب الفلاحين في ألمانيا» الذي كتبه إنجلز في صيف وخريف عام 1850، وترك إنجلز لندن لأسباب مالية، وعمل موظفا في شركة العائلة في مانشستر؛ وبحلول عام 1851 كانت الهيئات الشيوعية التي كان إنجلز مرتبطا بها في سنوات العمل الثوري قد انهارت، وبعد ذلك لم يكن أمامه وقت كبير للانخراط الرسمي في السياسة بسبب ظروفه المهنية في مانشستر، وقد استمر ذلك حتى مع تأسيس الاتحاد الدولي (الاتحاد الدولي الأول) للعمال عام 1864 للترويج لقضية الاشتراكية؛ وكان ماركس من بين مؤسسي هذا الاتحاد، وقد كرس جزءا كبيرا من وقته لاجتماعات ولجان وبيانات الاتحاد. وانتقل إنجلز بسهولة إلى لعب دور الخبير الأكبر سنا والمستشار الأول، وليس المؤسس أو المنظم في الحركة الاشتراكية الدولية. وبعد تقاعده من مصانع غزل القطن عام 1869، تمكن من شغل منصب في المجلس العام للاتحاد الدولي للعمال عام 1870، وتحمل بعض المهام الخاصة بالمراسلات مع تزايد عدد الأحزاب والمجموعات الاشتراكية حول العالم. كان إنجلز مهتما بطبيعته اهتماما خاصا بالحزب الألماني الاشتراكي الذي تأسس عام 1869، وبعد الانهيار النهائي للاتحاد الدولي للعمال عام 1874 لعب دورا فعالا بصفته مستشارا غير رسمي لمسئولين كبار في قيادة الحزب، وكان انخراطه في الاتحاد الدولي الثاني للعمال الذي تأسس عام 1899، انخراطا عن بعد مثلما كان في السابق، على الرغم من أن إحدى آخر مرات ظهوره الرسمي كانت في مؤتمر الاتحاد في زيوريخ عام 1893.
لا عجب أن إنجلز كان يضمر الكراهية لمدينة مانشستر ولرجال الأعمال الذين كان مضطرا للتعامل معهم، وعندما ترك شركة العائلة عام 1869 انتقل سريعا إلى لندن ليكون بالقرب من ماركس. توفيت ماري بيرنز عام 1863، وحلت أختها ليزي محلها في حياة إنجلز حتى عام 1877 عندما تزوجها إنجلز قبل يوم من وفاتها؛ وبعد ذلك كانت ابنة أخت ليزي هي من تدير منزل إنجلز، وبداية من عام 1883 تبعتها هيلينا ديموت، مديرة منزل ماركس السابقة، وبعد وفاة هيلين عام 1890 أصبحت لويز كاوتسكي، مطلقة الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي، سكرتيرة إنجلز ومديرة منزله، وعندما تزوجت من دكتور لودفيج فريبرجر عام 1894 انضم أحد الأطباء إلى مسكنه الكائن في طريق ريجينت بارك.
كان إنجلز كريما في وقته وماله مثلما كان كريما في نصائحه. إن إحسانه إلى ماركس وأسرته أنقذهم في مرات عديدة من مصائر أشد بلاء من الفقر والشقاء اللذين عاشوا فيهما؛ ففي عام 1870 كان إنجلز قادرا على منحهم قدرا من الاستقلال المادي، في الوقت نفسه الذي كان يوفر فيه لنفسه هذا الاستقلال، واستفاد كثير من المهاجرين والزائرين الاشتراكيين من كرم ضيافته ومساعداته، كما حصل أبناء ماركس وكذلك أحفاده الذين بقوا على قيد الحياة بعد وفاة إنجلز، على جزء من تركته الكبيرة بعد وفاته بسرطان الحنجرة في 5 أغسطس 1895.
شكل 5-1: هيلينا ديموت، خادمة عائلة ماركس ولاحقا مديرة منزل فريدريك إنجلز.
في السنوات الأولى في المنفى، قام إنجلز بمساعدة ماركس أيضا من خلال كتابة المقالات نيابة عنه باللغة الإنجليزية؛ فقد طلب من ماركس أن يكون مراسلا لصحيفة «ذا ديلي تريبيون» في نيويورك، لكنه لم يكن قد أتقن حتى عام 1853 كتابة اللغة الإنجليزية إلى الحد الذي يمكنه من كتابة المقالات بنفسه؛ فعمل إنجلز مؤلفا ومترجما وتلقى ماركس الأجر. لقد ظلت سلسلة مقالات «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا» المكتوبة في الفترة ما بين عامي 1851 و1852، والتي أعيد نشرها مرتين عام 1896 (باللغة الإنجليزية وبالترجمة الألمانية)، تنسب إلى ماركس لا إنجلز، إلى أن نشر خطاب بينهما كانا يتحدثان فيه عن هذا الأمر عام 1913. وفي هذا العمل، استعرض إنجلز بالتفصيل الأحداث الثورية التي حدثت في ألمانيا في الفترة ما بين عامي 1848 و1849، وشهدها بنفسه وسجل أحداثها في الصحافة وقت حدوثها، فقط قبل ثلاث سنين أو أقل من تأليف الكتاب. وقام ماركس بمهمة مشابهة في سلسلة مقالاته «النضال الطبقي في فرنسا» (المكتوبة في النصف الأول من عام 1850)، وفي استكمال قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» (المكتوبة في أواخر عام 1851 وأوائل عام 1852). أما إنجلز فلم يكمل مطلقا السلسلة التي وعد فيها أن «يلقي نظرة وداع أخيرة على الأعضاء المنتصرين في تحالف الثورة المضادة»، مثلما فعل ماركس في قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» التي تتحدث عن فرنسا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وفي كتاب «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا»، اتبع إنجلز البرنامج الماركسي فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر والتطورات السياسية في المستقبل، وكانت مهمته هي تفسير الأحداث الرئيسية وتقديم مؤشرات حول الاتجاه الذي سوف تأخذه الفورات الثورية القادمة في ألمانيا، أو التي ربما ليست ببعيدة عنها. ومثلما كان لزاما عدم تفسير النضال الثوري في العصور الوسطى على أساس الخلافات الدينية، بالرغم من ظاهرها الذي يوحي بذلك، كان لزاما أيضا عدم تفسير أسباب اندلاع الثورات الحديثة والقضاء عليها، بغض النظر عن ظاهرها، على أساس عدم تنسيق الجهود أو خيانة بعض قادتها، بل يجب تفسيرها في ضوء الحالة الاجتماعية و«الظروف المعيشية» لكل أمة. وعرض إنجلز الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفلسفية لأحداث التمرد التي حدثت عام 1848 في فيينا وبرلين، وقال إنه بعد الانتصار «انقلبت على الفور ... الطبقة البرجوازية الليبرالية» على حلفائها من الطبقة العاملة - «الأحزاب الشعبية والأكثر تقدما» - وعقدت «تحالفا مع المصالح الإقطاعية والبيروقراطية المهزومة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وجدت هذه الثورة غير المكتملة خير مثال لها، وفقا لإنجلز، في الجمعية الوطنية الألمانية في فرانكفورت؛ فهذه الجمعية كانت تمارس «نشاطا مزيفا فضوليا لا يمكن أن يثير عقمه الشديد إلى جانب ادعاءاته المزعومة أي شيء سوى الشفقة والسخرية»؛ كل هذه الأحداث كانت معتمدة على مصير الصراعات الثورية في فرنسا؛ أولا في فبراير مع إعلان الجمهورية، ثم في العمل الحاسم في يونيو 1848، وكتب إنجلز: «يمكن خوض الصراع الثوري في فرنسا وحدها، في ظل عدم اشتراك إنجلترا في النضال الثوري، وبقاء ألمانيا مقسمة؛ لأن فرنسا باستقلالها الوطني وحضارتها ومركزيتها هي البلد الوحيد الذي يستطيع نقل زخم الاضطراب الرهيب إلى بقية البلاد المجاورة.» كانت هزيمة الطبقة العاملة في يونيو على يد الطبقات الأخرى التي دعمها الجيش مهمة، ويرى إنجلز أنه كان «واضحا للجميع أنها كانت المعركة الحاسمة الكبيرة، التي في حالة نجاحها كانت ستجر القارة بأسرها إلى ثورات جديدة، أو ستؤدي في حالة إحباطها إلى استعادة الحكم المناهض للثورات، ولو لفترة قصيرة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
في تحليل إنجلز كانت مهمة الثوريين الألمان في منتصف القرن التاسع عشر مروعة ومتأثرة إلى حد كبير بالأحداث التي وقعت في دول أكثر تقدما هي إنجلترا وفرنسا، وفي تشخيصه للوضع الألماني عام 1850 كشف أن ذلك الوضع يشبه على نحو مخيب للآمال الوضع عام 1525، الذي كان مأساة جديدة آنذاك؛ قال في هذا الشأن:
إن العرض القصير السابق للطبقات الأكثر أهمية، التي كونت بإجمالها الأمة الألمانية عند اندلاع الحركات الثورية الأخيرة، سيكون كافيا بالفعل لتفسير جزء كبير من عدم الترابط وعدم التوافق والتعارض الواضح الذي ساد تلك الحركة؛ فعند حدوث تصادم عنيف بين المصالح الشديدة الاختلاف والتصارع والتعارض، وعندما تختلط تلك المصالح المتنافسة في كل حي وكل مقاطعة، بنسب مختلفة، وفوق كل ذلك عندما لا يوجد مركز كبير للبلد، مثل لندن أو باريس، يمكن لقراراته، بموجب ثقلها، أن تحول دون الحاجة إلى خوض الصراع نفسه مرارا وتكرارا في كل مكان؛ فما الذي يمكن توقعه سوى أن يتحلل الصراع من تلقاء نفسه إلى كتلة من الصراعات غير المترابطة، التي يهدر فيها قدر هائل من الدماء والطاقة ورأس المال، دون أن تتحقق نتائج حاسمة في المقابل؟ (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
قدمت دراسات ماركس الاقتصادية، التي عكف على كتابتها مرة أخرى بجدية في خمسينيات القرن التاسع عشر، بعدا تفاؤليا إلى آراء إنجلز حول الحياة السياسية؛ ذلك التفاؤل الذي لم تستطع أن تقدمه له الأحداث الأخيرة وكذلك سياسات الهجرة؛ إذ كان ماركس يعتقد أنه يثبت أن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يستمر لفترة أطول. وكان كلاهما يرى أن حدوث أزمة رأسمالية في أوروبا وفي العالم بالفعل هو أساس التقدم الثوري.
بعد عقد من الفقر والمرض والمقاطعات الصحفية، نشر أول جزء منشور من رائعة ماركس، الخاصة بنقد الاقتصاد السياسي، عام 1859. وهذه النسخة (الأكثر إثارة) التي كان مقدرا أن تكون، مع أعمال أخرى، الفصول الأولى للمجلد الأول من كتاب «رأس المال»؛ ظهرت باللغة الألمانية تحت عنوان «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي». وضع ماركس خطة العمل التي كان سيراجعها إنجلز، وطلب ماركس من إنجلز في خطاب بتاريخ 19 يوليو 1859 أن يكتب تعليقا مختصرا حول المنهج النقدي المتبع في العمل، والأمور الجديدة في محتويات ذلك العمل، ومن فرط توتر ماركس أرسل رسالة أخرى بتاريخ 22 يوليو إلى إنجلز يمده فيها بمزيد من الاقتراحات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد التاسع والعشرون). ظهر جزءان من العمل (والجزء الثالث الذي وعد ماركس بتقديمه عن المحتوى الاقتصادي نفسه للعمل لم يكتب مطلقا)، وأصبح إنجلز على الفور المروج الأول لاكتشافات ماركس في علم الاجتماع، والمعلق الأول على منهجه النقدي. كانت هذه التعليقات أكبر تأثيرا من المحاولة التي فعلها ماركس فيما بعد لترويج أفكاره الاقتصادية من خلال محاضراته عن «الأجور والأسعار والأرباح»، التي ألقاها عام 1865. إن تعليقات ماركس على منهجه - التعليقات المختصرة للغاية التي نشرت في حياته، مثل الخاتمة التي كتبها لكتاب «رأس المال» والتي نشرت عام 1872، والتقييمات الأطول المأخوذة من مخطوطاته والمنشورة بعد وفاته، مثل «المقدمة» التي ظهرت عام 1857، والتي تفتتح كتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» - لم تحظ بالأهمية إلا مؤخرا فحسب.
اتبع إنجلز مرة أخرى نفس المنهج الذي اتبعه في «الأيديولوجية الألمانية» و«البيان الشيوعي» في تناول إنجازات ماركس من خلال تاريخ ألمانيا الاقتصادي؛ فشلها - بعد الإصلاح وحروب الفلاحين - في تطوير ظروف إنتاج الطبقة البرجوازية الواضحة في هولندا وإنجلترا وفرنسا؛ ومن ثم أحرز علم الاقتصاد السياسي في ألمانيا قدرا قليلا من التقدم، ورفض إنجلز الكتابات الألمانية المعاصرة التي تتناول هذا الموضوع واصفا إياها بأنها: «عصيدة مكونة من كافة أنواع المواد الغريبة، مضاف إليها قليل من الصوص الاقتصادي الانتقائي، ومثل هذا المزيج سيكون معرفة مفيدة لطالب كلية حقوق حكومية يستعد لامتحان آخر العام الذي يتم على نطاق الدولة.» وعندما ظهر حزب البروليتاريا الألماني على الساحة (في أربعينيات القرن التاسع عشر)، ولد الاقتصاد العلمي الألماني، وكتب إنجلز فقال إن علم الاقتصاد الجديد كان «يقوم بصورة أساسية على «التصور المادي للتاريخ»» الذي يمكن تطبيقه على «كل العلوم التاريخية.» واستطرد إنجلز فكتب: «في أطروحتنا المادية، نثبت في كل قضية بعينها كيف كان الفعل في كل مرة نابعا من دوافع مادية مباشرة، وليس من العبارات المصاحبة للفعل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكانت عبارة «التصور المادي للتاريخ» التي قالها إنجلز هي التي أدت إلى ظهور الماركسية.
في الجزء الثاني من مراجعته النقدية، أضاف إنجلز عنصرا آخر مهما إلى هذه النظرة الأساسية، وهو «المنهج الجدلي» الماركسي. ولتوضيح هذا المصطلح، تحدث إنجلز عن ثلاثة فروق: أما عن الفرق الأول، فقد قارن إنجلز إنجازات هيجل في التعامل مع «التداخل» و«الفئات» في العلوم مع «طريقة التفكير الميتافيزيقية القديمة»، التي وجد أنها شبيهة باستخدام «الفئات الثابتة» التي تعكس «مادية علمية طبيعية جديدة ... لا يمكن تمييزها تقريبا من الناحية النظرية عن نظيرتها في القرن الثامن عشر»؛ وبعد ذلك ربط طريقة الفهم الميتافيزيقية هذه «بالفهم العادي للطبقة البرجوازية»؛ ذلك الفهم الذي «يصاب بالجمود» عند مواجهته بفصل «الجوهر عن المظهر، والسبب عن النتيجة.» وعلى الرغم من إنجازات هيجل في ربط تطور الفكر بالتاريخ العالمي، فإن الفيلسوف الكبير قد أنتج منهجا جدليا «عكس فيه العلاقة الحقيقية وقلبها رأسا على عقب.» لقد كان منهجا «تجريديا ومثاليا»؛ وحده ماركس كان مؤهلا «للقيام بعملية استخراج الجوهر المهم الذي يمثل الاكتشافات الحقيقية لهيجل من المنطق الهيجلي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
أما الفرق الثاني الذي قدمه إنجلز في مراجعته النقدية، فقد تكون من «المنهج الجدلي» الماركسي الذي انتزعت فيه «السمات المثالية» من المنطق الهيجلي، على الرغم من أنه لم يحدد «الشكل البسيط» الذي أصبح فيه «الجدل» الماركسي يمثل «الشكل الحقيقي الوحيد لتطور الفكر» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفي الفرق الثالث حاول إنجلز مقارنة المنهج «التاريخي» بالمنهج «المنطقي» داخل النقد «الجدلي» الماركسي لعلم الاقتصاد، وأعلن إنجلز على نحو عام أن الأحداث التاريخية و«انعكاساتها الأدبية»، أي في النظرية الاقتصادية، تسير «من العلاقات الأبسط إلى العلاقات الأكثر تعقيدا»؛ وبعد ذلك ربط هذا التطور «بالتطور المنطقي للفئات الاقتصادية»؛ ولذلك كان المنهج المنطقي في نقد الاقتصاد السياسي مجرد اختزال «لقفزات وتعرجات» تاريخية، وهو ما تمثل في استبعاد الأمور «الأقل أهمية»، وحذف التاريخ الكامل «للمجتمع البرجوازي»؛ ومن ثم كان «المنهج المنطقي انعكاسا للمسار التاريخي في شكل تجريدي ومتسق نظريا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في ظل هذا التحليل المنطقي يكون لكل علاقة اقتصادية - وفقا لإنجلز - «جانبان»، وكل جانب من هذين الجانبين يتم تناوله على حدة، وبعد ذلك يتم تناول تفاعلهما معا، «وسوف تحدث متناقضات ستتطلب حلا في العملية الحقيقية للتفكير»، وليس فقط في «العملية التجريدية للتفكير.» كتب إنجلز أنه يتم التوصل إلى الحلول «من خلال تكوين علاقة جديدة سوف نضطر إلى تطوير كلا جانبيها المتقابلين، وهكذا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في افتتاحية مراجعته النقدية، اقتبس إنجلز كثيرا من مقدمة ماركس لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»؛ ذلك الكتاب الذي أوضح فيه ماركس بنفسه «الفكرة الأساسية» التي تقوم عليها دراساته؛ وبعد ذلك جاء تكوين إنجلز لمفهوم «التصور المادي للتاريخ» والفروق المنهجية الثلاثة، عن طريق التفسير. إن تقييم إنجلز النقدي وضع أسس تفسير كتاب ماركس وأسس شرح الماركسية نفسها.
وسواء أكان تأويل إنجلز صحيحا أم لا، فقد كان بلا شك مفسرا؛ ففي حين تحدث فيها ماركس عن «الفكرة الأساسية» الخاصة به، كتب إنجلز عن «التصور المادي للتاريخ». لقد كتب ماركس قائلا إن أعمال هيجل عن الاقتصاد السياسي في «فلسفة الحق» هي التي دعته لحل الشكوك المتعلقة «بما يسمى المصالح المادية» و«المسائل الاقتصادية»؛ وأضاف إنجلز إلى هذا السياق تفسيرا واضحا في ضوء الميتافيزيقا والمادية والمثالية والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، كما هو موضح في الاقتباسات السابقة. وبينما قرر ماركس الانطلاق «من الخاص إلى العام» في شرحه لرأس المال، دعم إنجلز أطروحة أوسع تخص التاريخ والتطور الفكري للمجتمع الغربي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وفي حين كان ماركس على معرفة تامة بنقد هيجل للمنطق التقليدي، وفي الوقت نفسه كان على معرفة بالخطأ المزعوم المتمثل في فرضيات هيجل المثالية (اعتبار الأفكار هي مكون الواقع)، لا يمكن القول بأنه استطاع توظيف المنهج الذي أوضحه إنجلز. لم يظهر ما كتبه إنجلز أدوات الاستقصاء التي كانت في متناول ماركس في عمله عن الاقتصاد السياسي؛ ذلك لأن ماركس كان يستخدم العديد من الأساليب والأمثلة المبينة للفوارق كلما وجدها مناسبة. أما أسلوب إنجلز المتمثل في التفسير وعقد المقارنات الموضحة للفروق وتقديم الحلول، فقد أعطى انطباعا بأن ماركس كان يعكس فحسب سيرا للأحداث التاريخية بدلا من إخضاع نظرية اقتصادية كبيرة إلى التحليل المنطقي والفلسفي والرياضي والاجتماعي والسياسي والتاريخي. وعاودت مفاهيم المادية والميتافيزيقا والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، الظهور مرة أخرى بقدر كبير من التفصيل، في كتابات إنجلز التالية، وسوف ألقي الضوء على تلك المفاهيم في الفصلين السادس والسابع.
عندما نشر المجلد الأول من كتاب «رأس المال» في هامبورج عام 1867، نقد إنجلز العمل مرة أخرى دون الإفصاح عن اسمه، وفي هذه المرة نشر النقد فيما لا يقل عن سبع مطبوعات مختلفة ألمانية وإنجليزية؛ مما ساعد في مواجهة صمت النقاد الذين كانوا دائما يواجهون به أي عمل ينشر لماركس. وأعد إنجلز مسودتين نقديتين أخريين لكنهما لم تنشرا في واقع الأمر؛ واعتمادا على تقييم إنجلز لقراء كل مطبوعة، فقد زكى إنجلز عمل ماركس لأسباب مختلفة، لكن معظم القراء أصبحوا يدركون أن إنجلز يقدم دراسة نقدية لأحد الإسهامات المهمة لعلم الاقتصاد السياسي؛ ذلك العمل الذي يفوق إلى حد بعيد أي عمل كتب من قبله. وتكمن إنجازاته الفائقة في تفسير أصل الربح - الذي ظل لغزا لكل علماء الاقتصاد السياسي السابقين، بحسب قول إنجلز - في ضوء فئات مقدمة جديدة هي فائض القيمة وفائض قيمة العمل وشراء قوة العمل. ووصف إنجلز أسلوب ماركس في التعامل مع العلاقات الاقتصادية بأنه «طريقة جديدة تماما تعتمد على المادية والتاريخ الطبيعي»، وقارن تحليله ل «قانون» التطور التاريخي بعمل داروين وعلم الجيولوجيا الحديث بأكمله. وبعض القراء تلقوا بالإضافة إلى ذلك سردا واضحا للاستنتاجات السياسية التي توصل إليها ماركس في أثناء نقده للاقتصاد السياسي حيث قال:
هذه القوانين، المثبتة علميا على نحو دقيق - والتي يحرص علماء الاقتصاد الرسميون حرصا كبيرا على محاولة عدم تفنيدها على الإطلاق - هي بعض من القوانين الأساسية للنظام الاجتماعي الرأسمالي المعاصر. لكن هل هذا يوضح الأمر برمته؟ لا، على الإطلاق؛ إن ماركس يبرز بوضوح الجوانب السيئة للإنتاج الرأسمالي، لكنه بالقدر نفسه من التأكيد يثبت بوضوح أن هذا النظام الاجتماعي كان ضروريا لتطوير القوى الإنتاجية للمجتمع لمستوى يمكن عنده حدوث تطور مكافئ مناسب للبشر ولكل أفراد المجتمع. كل النظم الاجتماعية السابقة كانت أفقر بكثير من أن تحقق ذلك، وكان الإنتاج الرأسمالي أول ما كون الثروة وقوى الإنتاج اللازمتين لحدوث ذلك التطور، لكنه أوجد في الوقت نفسه، بين العمال الكثيرين المقهورين، طبقة اجتماعية أكثر إكراها على امتلاك الثروة وقوى الإنتاج لاستخدامهما من أجل المجتمع بأسره ... (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلدان الأول والسادس عشر).
وبحلول عام 1878 أصبح إنجلز أيضا، على نطاق ضيق، كاتب سيرة ذاتية عن ماركس؛ حيث أسهم بمقالة في كتاب سنوي ألماني تحدث فيه عن «الرجل الذي كان أول شخص يمنح الاشتراكية؛ ومن ثم الحركة العمالية المعاصرة برمتها، أساسا علميا»، واختار إنجلز تناول اكتشافين فقط من اكتشافات ماركس؛ ألا وهما: «تصوره الجديد للتاريخ» و«التفسير النهائي للعلاقة بين رأس المال والعمل». وسارت مناقشة موضوع التاريخ على نحو إيجابي جدا، فقال: «أثبت ماركس أن التاريخ السابق كله هو تاريخ للصراع الطبقي»، وأن «تلك الطبقات تدين بأصلها واستمرار بقائها» إلى «ظروف معينة محسوسة ماديا ينتج المجتمع في ظلها ويتبادل وسائل المعيشة في فترة معينة»؛ ومن هذا المنطلق «أصبحت كل الظواهر التاريخية قابلة للتفسير بأبسط الطرق، مع توافر معرفة كافية بالحالة الاقتصادية الخاصة بالمجتمع.» وفي النسخة المنشورة من كتاب إنجلز الذي ربما يعد أكثر شهرة: «خطاب على قبر ماركس»، ربط هذه النقطة مرة أخرى بعمل داروين، واصفا إياها بأنها: «قانون تطور الطبيعة العضوية»، وأعطاها اسما مصطلحيا هو ««قانون» تطور التاريخ البشري». وأصبحت نظرية فائض القيمة في خطاب إنجلز التأبيني هي ««القانون الخاص» بالحركة التي تحكم نظام الإنتاج الرأسمالي المعاصر». بعدها أشار على نحو غامض إلى حد ما إلى «الاكتشافات المستقلة» الأخرى لماركس، وربط ماركس العالم بماركس «الثوري» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني، مع تمييزي لبعض المصطلحات المهمة)؛ وأضاف قائلا:
اعتبر ماركس أن العلم قوة ثورية ديناميكية على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه كان يستقبل بسعادة بالغة أي اكتشاف علمي جديد في بعض العلوم النظرية، التي ربما كان تطبيقها العلمي مستحيل التصور إلى حد ما في ذلك الوقت، فقد كان يشعر بنوع مختلف تماما من السعادة عندما يكون الاكتشاف منطويا على تغييرات ثورية فورية في مجال الصناعة، وفي مجال التطور التاريخي في العموم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في السنوات التي أعقبت وفاة ماركس عام 1883 قدم إنجلز مقدمات لطبعات جديدة من كتيب «البيان الشيوعي» الذي ألفاه معا (خمس طبعات)، ومن كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» (طبعتين)، ولثمانية من أعمال ماركس؛ وهي: «الحرب الأهلية في فرنسا»، و«النضال الطبقي في فرنسا»، و«محاكمة الشيوعيين في كولونيا»، و«نقد برنامج جوته»، و«انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت»، و«فقر الفلسفة»، و«خطاب عن التجارة الحرة»، و«العمل المأجور ورأس المال». قدم لكل هذه الأعمال ملاحظات وتغييرات تحريرية، لكن مشروعاته الأساسية باعتباره محررا لماركس تمثلت في المجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال» (مع المقدمات)، المأخوذين من مخطوطات ماركس غير المنشورة.
يمكن توضيح دور إنجلز بصفته حارسا لما اعتبره اكتشافات ماركس في العلوم التاريخية والاقتصادية، من خلال الالتفات إلى مقدمتين من المقدمات المذكورة في السابق؛ فلقد أعاد إنجلز نشر مقالات ماركس التي تحمل عنوان «النضال الطبقي في فرنسا» في صورة كتيب عام 1895 وقدمه باعتباره: «أولى محاولات ماركس في تفسير جزء من التاريخ المعاصر في ضوء تصوره المادي، وعلى أساس الوضع الاقتصادي المعروف.» وكانت مهمة ماركس، وفقا لإنجلز، هي «توضيح العلاقة السببية الداخلية» في التطور التاريخي الذي كان ضروريا ومميزا لأوروبا، وكان الهدف من ذلك هو «تتبع الأحداث السياسية بالعودة إلى آثار ما اتضح، في التحليل النهائي، أنه أسباب اقتصادية.» إلا أن القارئ الذي بحث عن قوائم محددة لتلك الأسباب الاقتصادية في كتاب «النضال الطبقي في فرنسا»، سوف يصاب بالإحباط، كما صرح إنجلز في إحدى الفقرات التوضيحية في الكتيب؛ وقد كتب إنجلز فقال إن العوامل الاقتصادية كانت «معقدة ومتغيرة باستمرار»؛ لذلك فإن «الطريقة المادية المذكورة هنا في الغالب تحصر نفسها إلى حد ما في إرجاع الصراعات السياسية إلى الصراعات بين مصالح الطبقات الاجتماعية الحالية وبعض أطياف من الطبقات الأخرى»؛ ومن ثم يمكن إثبات أن الأحزاب السياسية كانت تعبيرا سياسيا عن تلك الطبقات وبعض أطياف من الطبقات الأخرى (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
الواقع أن إنجلز كان يشير إلى مصدر خطأ كبير في سرد ماركس الذي كتبه عام 1850؛ نظرا لأن «التاريخ الاقتصادي لفترة معينة لا يمكن أبدا تناوله في وقته المعاصر»، بل يتم تناوله فقط بعد استعراض البيانات الإحصائية، على سبيل المثال، التي لا بد من جمعها في فترات تالية؛ إلا أن سرد ماركس لأحداث عامي 1848 و1849 أثبت صحته عند الخضوع لاختبار مزدوج - من وجهة نظر إنجلز - متمثل في الدراسة اللاحقة للظروف الاقتصادية لتلك الفترة، وكذلك إعادة نظر ماركس نفسه في تلك الأحداث في ضوء انقلاب نابليون بونابرت في أواخر عام 1851. ومع ذلك، فإن سرد ماركس للأحداث السياسية المعاصرة فيما يتعلق بالطبقات والأحزاب والأفراد، لا يتناسب مع القالب المنهجي الذي يتبناه إنجلز، والذي يركز على «الأسباب الاقتصادية «النهائية»» في «حركة الصناعة والتجارة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في عام 1891 عندما أعيد نشر مقالات ماركس في كتاب «العمل المأجور ورأس المال» - تلك المقالات التي كانت قد نشرت عام 1849 - تساءل إنجلز في مقدمته للكتاب عما «إذا كان ماركس سيوافق على تقديم نسخة جديدة غير معدلة من إنتاجه الأصلي» في صورة «كتيب ترويجي»، وكتب أن «ماركس كان بالتأكيد سيجعل مقالاته القديمة التي يعود تاريخها إلى عام 1849 متسقة مع وجهة نظره الجديدة»، التي فصلها في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» الذي نشر عام 1859، وفي المجلد الأول من كتاب «رأس المال» الذي نشر عام 1867؛ ولهذا السبب حذر إنجلز القراء قائلا: «هذا الكتيب ليس كما كتبه ماركس عام 1849، بل يمكن القول إنه كما كان سيكتبه عام 1891.» كل تعديلات إنجلز تعتمد على نقطة واحدة؛ ألا وهي أن العامل، وفقا للنص الأصلي، يبيع عمله للرأسمالي مقابل الأجر، بينما في تصور ماركس الناضج كان العامل يبيع «قوة» عمله؛ هذا التعديل الذي يبدو صغيرا مكن ماركس من الخروج من مأزق اقتصادي، من خلال وضع نظرية فائض القيمة (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). أما في عمل ماركس المنشور عام 1849، فقد أشار ماركس بالفعل إلى العمل باعتباره: «القوة الإبداعية التي لا يستبدل بها العامل فحسب ما يستهلكه، بل يعطي من خلالها للعمل المتراكم قيمة أكبر مما كانت لها في السابق.» كان هذا جوهر تصور ماركس عام 1859، وإن لم يكن باستخدام المصطلحات المحددة نفسها؛ وهذا ما صححه إنجلز بحماس (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد السادس).
وقت إعداد مادة الكتاب الذي بين أيدينا (عام 1980)، لم يكن الأكاديميون قد تحققوا من الكتاب الذي حرره إنجلز من مسودات المخطوطات التي تركها ماركس للمجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال»؛ لأن المخطوطات نفسها - التي قيل إنها كانت في موسكو - لم تكن متاحة لهم. وسيحين وقت نشر تلك المخطوطات خلال العقود المتبقية من هذا القرن، وحينها سوف نعلم بالضبط كيف تصور إنجلز في هذه الأعمال «حدود التحرير»، تلك الجملة التي استخدمها بنفسه في مقدمة المجلد الثالث. وفي الوقت الراهن (عام 2003)، سوف تبدأ هذه المناقشة الأكاديمية المثيرة للجدل.
منذ أن وجد نقد الاقتصاد السياسي الذي كتبه ماركس طريقه إلى الصحافة عام 1859، أصبحت آراء إنجلز حول أعمال ماركس، وأعماله الشخصية، وحول التاريخ والسياسة، تصطبغ على نحو متزايد بلغة السببية النهائية وقوانين التطور العلمية. نالت هذه الموضوعات تفصيلا مستقلا في الأعمال المهمة التي كتبها إنجلز في الفترة ما بين 1870 و1895. وتلك هي الأعمال التي قدمت - وما زالت تقدم - لملايين القراء الشروح التقليدية للماركسية.
الفصل السادس
إنجلز العالم
حدثت طفرة هائلة في أعداد المؤمنين بالأفكار الماركسية عام 1875 مع تكوين حزب اشتراكي كبير موحد وناجح انتخابيا في ألمانيا، وتقبل إنجلز التحدي.
في البداية اتبع منهجا غير مباشر تمثل في نقد أعمال أوجين فون دوهرينج، وهو أكاديمي تحول للاشتراكية وكان يحظى بتأثير متزايد داخل الحزب. واستجابة لمطالب الجماعة المناهضة لدوهرينج داخل قيادة الحزب، تولى إنجلز مهمة توضيح «موقفنا في مواجهة ذلك الرجل»، بتعبيره الذي قاله في خطاب لماركس في 24 مايو 1876 (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون). في سبعينيات القرن التاسع عشر، نشر دوهرينج مجموعة أعمال هي: «التاريخ النقدي للاقتصاد السياسي والاشتراكية»، و«مقرر في الاقتصاد السياسي»، و«مقرر في الفلسفة باعتبارها نظرة علمية صرفة للعالم ونسق حياة». وأخذ إنجلز منطقيا الكتاب الأخير كهدف أساسي لهجومه؛ لأن هذا العمل «يكشف على نحو أفضل الجوانب والأسس الضعيفة للحجج المقدمة عن الاقتصاد»، وكتب إنجلز إلى ماركس فقال إن «تفاهات» دوهرينج، عرضت «بطريقة أبسط من تلك التي عرضت بها في الاقتصاد.» كانت بنية نقد إنجلز لدوهرينج مستوحاة إلى حد كبير من الملخص غير المترابط الذي وضعه دوهرينج لما أسماه «فلسفة الواقع». وطبقا لإنجلز، قدم دوهرينج قدرا قليلا من «الفلسفة الفعلية؛ من منطق صوري وجدل، وميتافيزيقا ... إلخ»، وكان لديه منهج مضحك تمثل في اعتبار «كل ما يبدو طبيعيا أنه طبيعي في الواقع» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز؛ أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون).
ظهر كتاب «ثورة السيد أوجين دوهرينج في العلوم»، المعروف باسم «الرد على دوهرينج» على شكل أجزاء في صحيفة اشتراكية ألمانية في الفترة ما بين عامي 1877 و1878، ثم نشر في ثلاثة كتيبات، ثم نشر مرة أخرى في هيئة كتاب قبل أن يفرض قانون 1878 المناهض للاشتراكية الرقابة في ألمانيا بوقت قصير، وأسفر العمل عن اضطراب كبير داخل الحزب الاشتراكي، ونشرت ثلاثة فصول من الكتاب تحت عنوان: «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» في ترجمة فرنسية عام 1880، وباللغة الألمانية عام 1883، وعاد الكتاب الكامل في الظهور عام 1886 وعام 1894. وبحلول عام 1892 كان كتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» متداولا، كما زعم إنجلز، بعشر لغات. وكتب إنجلز فقال: «لا أدري إذا ما كان أي عمل اشتراكي آخر - حتى «البيان الشيوعي» الذي كتبته مع ماركس عام 1848، وحتى «رأس المال» الذي ألفه ماركس - قد حظي بهذا القدر من الترجمات؛ ففي ألمانيا ظهرت أربع طبعات، إجمالي عدد النسخ فيها 20 ألف نسخة تقريبا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). لقد وضع إنجلز الماركسية على الخريطة وجعلها تحظى بالشهرة.
كانت لدى إنجلز ثلاثة أسباب لمناقشة كتابات دوهرينج؛ أولها «الحيلولة دون إتاحة فرصة جديدة للانقسام الفكري والبلبلة داخل الحزب، الذي كان لا يزال في بداياته وبدأ لتوه في تحقيق وحدة واضحة المعالم»؛ فقد كانت آراء دوهرينج تحظى بالقبول باعتبارها آراء اشتراكية دون أي تحفظ، هذا فضلا عن استعداد بعض الأشخاص لنشر هذا المعتقد بين العمال، وخروج البعض على سياسة التحرير الخاصة بجريدة الحزب.
أما السبب الثاني، فهو ما قال عنه إنجلز عام 1878 «فرصة لصياغة آرائي في صورة إيجابية حول الموضوعات المثيرة للجدل، التي تستأثر اليوم باهتمام علمي أو عملي عام.» وعلى الرغم من أن عمل إنجلز لم يقدم نظاما «بديلا»، فقد تمنى إنجلز «ألا يفشل القارئ في ملاحظة الرابط الكامن في الآراء المختلفة التي قدمتها.»
والسبب الثالث أن إنجلز كان يهدف إلى تحذير القراء من الأنظمة الألمانية الأخرى التي تمثل «الهراء المطلق»، والتي فيها «يكتب الناس عن كل موضوع لم يدرسوه، ويقدموا ما كتبوه على أنه المنهج العلمي الدقيق الوحيد.» لم يكن دوهرينج سوى «واحد من أكثر الأشخاص النمطيين» الذين يروجون ل «العلوم الزائفة المغالية في إثبات مصداقيتها»، ومع ذلك، اعترف إنجلز صراحة أنه هاو غير متخصص في التشريع والعلوم الطبيعية، وجعل إسهامه في تلك الموضوعات قاصرا على «تصحيح الحقائق التي ليس فيها خلاف» (الرد على دوهرينج).
وبالتدريج استحوذ المشروع الثاني - عرض «الآراء الإيجابية» - على الاعتبارات الأخرى الموجودة في ذهن إنجلز. وفي مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الرد على دوهرينج» عام 1885، المكتوبة بعد نحو عامين من وفاة ماركس، كتب إنجلز أن جدله «تحول إلى عرض مترابط بنحو أو بآخر للمنهج الجدلي والنظرة الشيوعية للعالم التي حاربت أنا وماركس من أجلها.» واستطرد فقال: «هذه النظرة تحظى الآن بالاعتراف والدعم حتى خارج حدود أوروبا، في كل دولة تحتوي على طبقة عاملة من ناحية، ومنظرين علميين دءوبين شجعان من ناحية أخرى.» ورأى إنجلز أن هذا الجمهور كان حريصا على نحو كاف على «تقبل الجدل المناهض لمعتقدات دوهرينج فقط من أجل التصورات الإيجابية.» وما وصفه في مقدمة عام 1878 بأنه «آرائي»، أصبح في كتابات إنجلز اللاحقة عن ذلك الموضوع آراء مشتركة بينه وبين ماركس (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1892 لكتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية»، قال إنجلز إن ترويج «الآراء التي أعتنقها أنا وماركس» هو «السبب الأساسي الذي دفعني للاضطلاع بهذه المهمة المزعجة من جميع النواحي الأخرى.» لقد منحته الشمولية المنهجية في أعمال دوهرينج فرصة لتطوير تلك الآراء المشتركة حول مجموعة كبيرة متنوعة من الموضوعات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). والغريب أن ماركس هو صاحب المقدمة الأصلية للكتيب، لكنها كانت موقعة باسم زوج ابنته الاشتراكي الفرنسي بول لافارج (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد التاسع عشر).
وفي عام 1894 ظهر ماركس على نحو أكبر في عرض إنجلز لكتاب «الرد على دوهرينج»؛ نظرا لأن إنجلز قد أضاف بعد ذلك بعضا من محتوى مخطوطات ماركس إلى الفصل العاشر من الكتاب. وبعد أن اقتطع إنجلز في السابق مسودات ماركس من أجل الجزء الذي يتحدث عن الاقتصاد السياسي في الكتاب، ضمن إنجلز ما اقتطعه من المسودات وكرر الشكر والتقدير الذي كان مكتوبا في طبعة 1885، وكانت هذه هي أول مرة يكشف فيها على الملأ أن ماركس قد ساعده في تأليف جزء صغير من كتاب «الرد على دوهرينج».
في الفصل الأول من العمل بصورته الأصلية التي نشره بها إنجلز، أسهب في توضيح الفروق التي تناولها عام 1859 في مراجعته النقدية لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» - وهي: الميتافيزيقا والجدل، والمثالية والمادية، والمدخل التاريخي والمنطقي لتطور الرأسمالية - ونسب الفضل إلى ماركس في اكتشاف «التصور المادي للتاريخ»، و«سر الإنتاج الرأسمالي من خلال فائض القيمة»، وعلق إنجلز على الأمر الأول فقال:
لقد اتضح أن كل التاريخ الماضي كان تاريخا لصراعات الطبقات؛ وأن طبقات المجتمع المتناحرة هذه كانت دائما نتاج أنظمة الإنتاج والتبادل؛ أي باختصار نتاج الظروف الاقتصادية في عصرها. ورأينا أن الهيكل الاقتصادي للمجتمع يشكل دائما الأساس الحقيقي، الذي من خلال البدء به فقط يمكننا التوصل لتفسير نهائي للهيكل العلوي الكامل للمؤسسات القضائية والسياسية، وكذلك للأفكار الدينية والفلسفية وغيرها من الأفكار الخاصة بأي فترة تاريخية معينة.
ولخص إنجلز الاكتشاف الثاني - نظرية فائض القيمة - على النحو التالي:
لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي، وأساس استغلال العامل الذي يحدث في ظله؛ وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي قوة العمل من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعة في السوق، فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر مما دفع مقابلها؛ وأنه في التحليل النهائي يشكل فائض القيمة هذا مجموعات القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتل الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقات المالكة (الرد على دوهرينج).
كان إنجلز مؤسس المادية الجدلية والتاريخية، والمعتقدات الفلسفية والتأريخية التي طورها الماركسيون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبحت تلك المعتقدات أساس الفلسفة والتاريخ الرسميين في الاتحاد السوفييتي وفي معظم البلدان الأخرى التي أعلنت أنها بلدان ماركسية؛ كما أصبحت أيضا نقطة جدل مهمة داخل المجموعات السياسية الماركسية في البلدان غير الماركسية، وأصبحت مصطلحات هذه المعتقدات مألوفة في الفلسفة الأكاديمية وفي علم التأريخ، والسبب في ذلك يرجع في الأساس إلى أعمال كتاب ليس لهم صلة بالاتحاد السوفييتي. لقد طور إنجلز آراءه الجدلية على النحو الذي عبر به عنها عام 1859 في أول طبعة لكتاب «الرد على دوهرينج» (1878)، على الرغم من أن تلك الآراء كانت بعيدة عن الصياغة المنظمة. وفي الفصل الأول، كتب إنجلز عن «الميتافيزيقا» فقال:
يعتبر الميتافيزيقي الأشياء وانعكاساتها الذهنية المتمثلة في الأفكار، مواضيع للبحث بعضها منفصل عن بعض، ينظر إليها واحدا بعد الآخر، وواحدا دون الآخر، وهي ثابتة وجامدة ومعطاة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه لا يفكر إلا في التضاد بين الأشياء، دون توسط بينها، ويقول: «نعم نعم، لا لا؛ وما زاد عن ذلك، فهو ضرب من الشر.» بالنسبة إليه، الشيء يكون إما موجودا وإما غير موجود ؛ فالشيء لا يمكن أن يكون نفسه وشيئا آخر في الوقت نفسه؛ فالموجب والسالب يتنابذان تماما، والسبب والنتيجة يقف كل منهما للآخر في حالة تناقض صارم (الرد على دوهرينج).
وزعم إنجلز على النقيض من ذلك أن «قطبي التناقض» يتداخلان فعليا، فكتب أن الجدل، خلافا للميتافيزيقا (التي تغفل التداخل)، «يفهم الأشياء وتمثيلاتها بترابطها، ويتابعها وحركتها وأصلها ونهايتها الأساسية»، وأن «الطبيعة دليل على الجدل»؛ ولهذا السبب احتضنت المادية الحديثة «معظم الاكتشافات الحديثة في العلوم الطبيعية»، وكانت «جدلية في الأساس» (الرد على دوهرينج). وفي الفصول التالية استعرض إنجلز «الكم والكيف» و«نفي النفي»، وهما قانونان آخران من القوانين الجدلية، وكتب فقال إن: «الجدل لا يعدو أن يكون علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة، والفكر والمجتمع البشري» (الرد على دوهرينج).
عند استعراض «التصور المادي للتاريخ» في كتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز هذه النظرة بنظرته «الجدلية» للعلوم، زاعما أن «القوى الاجتماعية تعمل بالضبط مثل القوى الطبيعية»، وأن «الأسباب النهائية لكل التغيرات الاجتماعية والثورات السياسية يجب البحث عنها ... في التغيرات في أنماط الإنتاج والتبادل ... ليس في الفلسفة، وإنما في «النظام الاقتصادي» الخاص بكل حقبة محددة» (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1885 لكتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز ربطا أكثر وضوحا بين آرائه حول الجدل وعمل ماركس عن الاقتصاد السياسي وتطور المجتمع الصناعي المعاصر، فقال: «كنت أنا وماركس إلى حد كبير الشخصين الوحيدين اللذين أنقذا الجدل الواعي من الفلسفة المثالية الألمانية، وطبقناها في التصور المادي للطبيعة والتاريخ.» واستطرد إنجلز في موضوعه فكتب أنه كان يهدف إلى إقناع نفسه تفصيلا «بالأمور التي لم أكن في شك منها في العموم»:
إنه في الطبيعة، وسط فوضى التغيرات التي لا تعد ولا تحصى، تفرض القوانين الجدلية الخاصة بالحركة نفسها، تماما مثل تلك القوانين التي تحكم وقوع الأحداث عن طريق المصادفة في التاريخ، وهي القوانين نفسها التي تكون على نحو مشابه السمة السائدة على مدار تاريخ تطور الفكر البشري، وترتقي تدريجيا إلى الوعي في عقل الإنسان (الرد على دوهرينج).
إن استخلاص الأفكار الرئيسية لجدل إنجلز الموجود في مقدمة عام 1885 يجعل كتاب «الرد على دوهرينج» واضحا ومفهوما، على النقيض من العمل غير المنظم المنشور عام 1878 والمنسوب لماركس.
كانت فكرة إنجلز عن الميتافيزيقا غير مألوفة؛ حيث عرفها بأنها موقف فلسفي معين (أي: الاعتقاد بأن المفاهيم لديها مرجعيات ثابتة، وأن الحقيقة والزيف هما الصفتان الوحيدتان والواضحتان للفرضيات)، بدلا من كونها مجرد إطار للمفاهيم العامة المجردة يمكن ملؤه بالآراء الفلسفية الجوهرية المتعلقة بالموجودات وسبب وجودها. إن حديثه عن الجدل باعتباره عملية تطور من خلال التعارض (أو التناقض أو التضاد)، يتفق مع جهود هيجل في تحديد المتناقضات المختلفة التي تظهر في تطور الظواهر التي فحصها، إلا أن كلا من هيجل وإنجلز كان يكتب كما لو كان الجدل يعكس عملية ضرورية وحتمية من عمليات التطور التي تتبع لها - أو حتى تخضع لها - عملية الاختيار الإنساني في نهاية المطاف، واعتبر كل من هيجل وإنجلز أن العمليات الطبيعية جدلية «في حد ذاتها»؛ مما يوحي بوجود نوع من المعرفة أنكرها معظم الفلاسفة المعاصرين. على النقيض من ذلك، استنتج ماركس من خلال سرده الاقتصادي والسياسي للمجتمع الرأسمالي أن الثورة كانت - إن جاز القول - جيدة مثلما كانت حتمية، دون الاستعانة بفكرة الضرورة التاريخية. وبالمثل، لم يتطرق إلى النطاق المعقد المتمثل في الرابط السببي بين الظواهر المادية والسلوك البشري، فيما عدا فكرة أن الظروف المادية للإنتاج تخلق احتمالات للاختيار الإنساني، وفي الوقت نفسه تضع قيودا على ما يمكن إنجازه. وفي الخاتمة التي كتبها للمجلد الأول لكتاب «رأس المال»، عرف الجدل العقلاني بأنه ذلك المتضمن في فهمه الإيجابي للظروف فهما لنقيضه. وفي حين أن هيجل لم يقترب من تعريف الجدل باستثناء تعليقه الذي قدمه في مقدمة كتاب «علم المنطق»، قائلا إنه إدراك للأمور الإيجابية الموجودة في الأمور السلبية، فقد ربط إنجلز الجدل بالقوانين الطبيعية المرتبطة بالحركة في الطبيعة، والحركة في التاريخ (تطور الأحداث على الأرجح)، والحركة في الفكر (قواعد المنطق الصوري على الأرجح)؛ وأكد فحسب على الرابط المزعوم بين المادة الموجودة في حالة حركة (التي درسها إنجلز في الكيمياء والفيزياء) والتاريخ والفكر، ومن غير المفاجئ أنه لم يحدده مطلقا. وبالرغم من ذلك، لم يكن هيجل أو إنجلز أو ماركس من السذاجة بحيث يستعينون بالصيغة الثلاثية المتمثلة في الإثبات والنفي ونفي النفي، في كل ما فهمه كل منهم على حدة من خلال الجدل، وتلك الصيغة الثلاثية طالما نسبت إليهم عن طريق الخطأ. وبالفعل سخر ماركس بوضوح من هذا الأسلوب المستخدم في فهم الفلسفة الهيجلية. وقد اخترع الصيغة الثلاثية هاينريش موريتس تشاليبيوس، وهو من أوائل المعلقين على فلسفة هيجل بعد فترة قصيرة من وفاته، وهذا التفسير لم يوضح الفكر الهيجلي - بل فعل النقيض - وكانت له نتيجة أخرى تمثلت في إساءة تفسير منهج ومحتوى أعمال ماركس وإنجلز على نحو خطير.
كان لدى إنجلز وجهة نظر وضعية تجاه العلوم؛ إذ قال إن «تراكم الحقائق المأخوذة عن العلوم الطبيعية تجبرنا على» الاعتراف «بالتصور الجدلي للطبيعة»؛ وكانت لديه وجهة نظر حتمية فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية؛ إذ كان يبحث عن السببية النهائية (الرد على دوهرينج). كما أنه كان أيضا ماديا صارما؛ وفي إحدى الفقرات التي يعود تاريخها إلى عام 1875 أو 1876، والمأخوذة من كتاب «جدل الطبيعة» (وهو عمل لم ينشر إلا في عام 1927)، كتب أن المادة نفسها مسئولة عن السببية كلها والوعي أيضا:
إننا على يقين من أن المادة تظل خارجيا على حالها في كل تحولاتها، دون أن تفقد مطلقا أيا من صفاتها؛ ولذلك فإننا على يقين أيضا أنه بالضرورة الحتمية نفسها التي سيفني بها أعظم إبداعاتها على وجه الأرض، المتمثل في العقل المفكر، فإنها لا بد أن تنتجه مرة أخرى في مكان آخر وفي زمان آخر (جدل الطبيعة).
الواقع أن إنجلز قد علق على عمليات الاستقصاء العلمية هذه من أجل تأليف كتاب «الرد على دوهرينج»، وكان الدافع المباشر الذي جعل إنجلز يتبنى التفسير الجدلي للعلوم الطبيعية، هو رده على الطبعة الثانية من كتاب لودفيج بوخنر «الإنسان ومكانه في الطبيعة في الماضي والحاضر والمستقبل. أو من أين جئنا؟ ومن نحن؟ وإلى أين نذهب ؟» ذلك الرد الذي اتسم بالنقد اللاذع للأفكار المقدمة في ذلك الكتاب. ظهرت خطة هذا العمل النقدي في وقت مبكر للغاية عام 1873، وفي خطاب كتبه لماركس في 30 مايو، ذكر إنجلز «أفكاره الجدلية حول العلوم الطبيعية» وطلب مساعدته.
وردت على خاطري وأنا في الفراش هذا الصباح الأفكار الجدلية التالية حول العلوم الطبيعية:
موضوع العلوم الطبيعية هو المادة في حالة الحركة؛ أي الأجسام. لا يمكن فصل الأجسام عن الحركة؛ فأشكال الأجسام وأنواعها يمكن معرفتها فقط من خلال الحركة؛ ومن الأجسام غير المتحركة، وغير المرتبطة بعلاقات مع غيرها، لا يمكن تأكيد أي شيء. فعندما يكون الجسم في حالة حركة، عندها فقط يكشف حقيقته؛ ومن ثم تعرف العلوم الطبيعية الأجسام من خلال دراستها في ضوء علاقة بعضها ببعض، وهي في حالة الحركة. ومعرفة الأنواع المختلفة للحركة هي معرفة الأجسام؛ لذلك فإن دراسة تلك الأنواع المختلفة للحركة هي الموضوع الرئيسي للعلوم الطبيعية ... وأنت بجلوسك هناك في مركز العلوم الطبيعية ستكون في أفضل موقع للحكم على وجود جدوى من هذه الأفكار (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد العشرون؛ المراسلات المختارة لماركس وإنجلز).
كان رد ماركس ودودا ومختصرا وغير معبر عن موقفه بوضوح، فقال: «لقد وصلني خطابك للتو وسرني كثيرا، لكنني لا أريد أن أخاطر بإبداء أي رأي قبل أن آخذ وقتي في التفكير في الأمر واستشارة «المرجعيات»» (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الثالث والثلاثون).
يبدو أن «المرجعيات»، على حد علمنا، لم يكونوا مبهورين كثيرا بأفكار إنجلز، على الرغم من أن ماركس حاول توضيح هذا الأمر له بلطف؛ فعلى سبيل المثال، علق الكيميائي كارل شورليمر في الهوامش الجانبية لخطاب إنجلز، معربا عن أنه متفق مع فكرة أن دراسة الأشكال المختلفة للحركة هي الموضوع الرئيسي للعلوم الطبيعية، وأن حركة الجسم الواحد لا بد من التعامل معها تعاملا نسبيا، وعبر عن رأيه بقوله: «صحيح تماما!» إلا أنه عندما كتب إنجلز أن الجدل بصفته النظرة العلمية للعالم، لا يستطيع في حد ذاته الانتقال من الكيمياء إلى «العلوم العضوية» قبل أن تفعل الكيمياء هذا الأمر بنفسها، وعندما تحدث عن علم الأحياء قائلا: «أما عن الكائن الحي، فلن أدخل في أي جدل يخص هذا الأمر في الوقت الراهن.» علق شورليمر قائلا: «ولا أنا أيضا.» لقد وجد «مرجعيات» ماركس أن العلم في خطاب إنجلز كان مقبولا على نحو أكبر مقارنة بالجدل (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الثالث والثلاثون).
لم توجد مراسلات أخرى، على حد علمنا، بين ماركس وإنجلز حول كتاب إنجلز «جدل الطبيعة»، إلا في خطاب إنجلز المكتوب في 21 سبتمبر 1874، الذي علق فيه على المقالات التي كتبها تيندال وهكسلي في مجلة «نيتشر»، قائلا إنها «أعادته ... مرة أخرى إلى موضوع الجدل»، على الرغم من أنه في مرات عديدة أشار ماركس إلى مشروع إنجلز، بل وقام بعمليات بحث قصيرة من أجله (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الثالث والثلاثون).
وفي الخطاب الأخير بين ماركس وإنجلز حول بحث إنجلز من أجل كتابه «جدل الطبيعة»، كان ماركس مقتضبا جدا بالفعل؛ ففي 23 نوفمبر 1882، كتب إنجلز يقول:
قدمت لي الكهرباء نصرا كبيرا؛ ربما تتذكر حديثي حول الخلاف بين ديكارت ولايبنتس ... فالمقاومة في الكهرباء تمثل ما تفعله الكتلة في الحركة الميكانيكية، وهذا يوضح أنه في الحركة الكهربائية وكذلك [في] الحركة الميكانيكية - هنا السرعة، وهناك شدة التيار - يكون شكل الحركة القابل للقياس الكمي عاملا بسيطا للقوة الأولى، في حالة إذا كان التحول بسيطا «غير مصحوب» بتغير في الشكل، أما إذا كان التحول «مصحوبا» بتغير في الشكل، فإن ذلك الشكل [يكون] عاملا «تربيعيا». هذا قانون طبيعي عام عن الحركة وضعته لأول مرة (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الخامس والثلاثون).
كان رد ماركس في 27 نوفمبر محددا على نحو مميز؛ إذ لم يذكر مطلقا قوانين الطبيعة فقال: «إن تأكيد دور العامل «التربيعي» عند تحول الطاقة مع تغير شكل القوة الثانية، لهو أمر رائع جدا، وأنا أهنئك عليه» (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الخامس والثلاثون).
استفاض إنجلز في الحديث عن ماركسية سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر في أعمال أخرى تناولت الفلسفة المادية وآراء مادية حول أصل الإنسان ومؤسساته الاجتماعية والسياسية، وفي عام 1886 انتهز فرصة لتوضيح فرضيات «النظرة الماركسية للعالم»، واستفاد من ذلك في إكمال العمل الذي بدأه مع ماركس في كتاب «الأيديولوجية الألمانية». قدم إنجلز مراجعته النقدية المطولة لكتاب «لودفيج فيورباخ» للكاتب كيه إن ستاركي، واصفا إياه بأنه «عرض قصير ومترابط لعلاقتنا بالفلسفة الهيجلية»، و«اعتراف كامل بتأثير فيورباخ - أكثر من أي فيلسوف آخر من الفلاسفة الذين تلوا عصر هيجل - علينا خلال فترة العاصفة والاندفاع.» ولما انتقد إنجلز مخطوطة كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، واصفا إياه بأنه غير صالح للاستخدام لأنه لا يتضمن نقدا لمعتقد فيورباخ نفسه، فضلا عن كونه عرضا غير كامل «للتفسير المادي للتاريخ»؛ لفت الانتباه إلى أطروحات ماركس الإحدى عشرة عن فيورباخ، التي لم تكن قد نشرت في ذلك الوقت؛ تلك الأطروحات التي أضافها فيما بعد (في صورة محررة) على هيئة ملحق بعد ظهور مراجعته النقدية المطولة في كتاب عام 1888 (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وبقيامه بهذا الأمر، أطلق إنجلز أول استقصاء عن أعمال ماركس المبكرة، متتبعا العوامل التي أثرت عليه، لا سيما الفلسفية منها في المقام الأول، وباحثا في الأعمال الأولى لماركس عما يوضح أصول ومعاني أعماله اللاحقة.
بعد أن أوضح إنجلز في كتابه «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» «الأهمية الحقيقية» للفلسفة الهيجلية - قائلا إنها تكمن في أنها «وجهت للأبد الضربة القاضية لفكرة غائية كل منتجات الفكر والفعل البشريين» - انتقل ليفسر مرة أخرى مقدمة ماركس لكتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» التي يعود تاريخها لعام 1859 (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وكتب ماركس يقول:
في العموم يمكن وصف أنماط الإنتاج الآسيوية والقديمة والإقطاعية والبرجوازية المعاصرة بأنها عصور تسير في اتجاه تقدمي في عملية التكوين الاقتصادي للمجتمع، كما أن علاقات الإنتاج البرجوازية هي آخر الأشكال العدائية لعملية الإنتاج الاجتماعية - وهي ليست عدائية بمعنى العداوة الفردية، بل عداوة نابعة من الظروف الاجتماعية لحياة الأفراد، وفي الوقت نفسه تخلق القوى المنتجة التي تتكون في رحم المجتمع البرجوازي، الظروف المادية لحل تلك العداوة؛ ولذلك فإن هذا التكوين الاجتماعي ، يضع نهاية لعصر ما قبل المجتمع البشري (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
يعبر إنجلز عن ذلك قائلا: «كل الأنظمة التاريخية المتعاقبة ما هي إلا مراحل انتقالية في المسار اللانهائي لتطور المجتمع البشري من الأدنى إلى الأعلى.» وأضاف: «إن كل مرحلة هي مرحلة ضرورية.» ورأى أن «الفلسفة الجدلية ليست سوى انعكاس لهذه العملية في العقل المفكر.» وكان «هذا النوع من التوجه متفقا تماما مع الحالة الحالية للعلوم الطبيعية، التي تنبأت بنهاية ممكنة حتى للأرض.» وعلى الرغم من أنه «بالنسبة إلى التاريخ البشري» وفقا لهذه النظرة الجدلية، «لا يوجد جانب تصاعدي فحسب، بل يوجد جانب تنازلي أيضا»، فلقد كنا لحسن الحظ «على مسافة كبيرة من نقطة التحول.» كان منهج إنجلز يتمثل في البحث عن «حقائق نسبية قابلة للتوصل إليها عن طريق العلوم الوضعية، وجمع نتائجها من خلال التفكير الجدلي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وبعد أن حاول تحديد العلاقة بين التفكير الجدلي والتاريخ والعلوم، تناول إنجلز «القضية الأساسية الكبرى لكل الفلسفة»؛ ألا وهي: «علاقة التفكير والوجود». وفي سعيه لحل هذه المشكلة، حاول التعامل مع العلاقات بين المادة والوعي، والمنهج العلمي والتفسير، وقال في هذا الشأن:
إننا ندرك المفاهيم الموجودة في رأسنا بطريقة مادية كالعادة؛ بوصفها صورا للأشياء الحقيقية بدلا من اعتبار الأشياء الحقيقية صورا لهذه المرحلة أو تلك من المفهوم المطلق. وهكذا أصبح الجدل علما للقوانين العامة للحركة، لكل من العالم الخارجي والفكر البشري؛ مجموعتان من القوانين متطابقتان في الجوهر، لكنهما تختلفان في طريقة التعبير عن كل منهما، لدرجة أن العقل البشري يستطيع تطبيقهما بطريقة واعية، بينما في الطبيعة وأيضا في معظم التاريخ البشري حتى الآن، تؤكد هذه القوانين نفسها بطريقة غير واعية، في شكل الضرورة الخارجية، وسط سلسلة لا نهائية من الحوادث التي تبدو كمصادفات في ظاهر الأمر. وبهذه الطريقة أصبح جدل المفاهيم نفسه مجرد انعكاس واع للحركة الجدلية للعالم الحقيقي؛ وبذلك أصبح الجدل الهيجلي مقلوبا على رأسه، أو بالأحرى استعاض عن رأسه، الذي كان يقف عليه، بقدميه (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في النسخة الأولى لهذه الاستعارة الشهيرة والغريبة جدا، كتب إنجلز (في نقده الذي يعود لعام 1859) أنه في جدل هيجل «انعكست العلاقة الحقيقية وأصبحت مقلوبة.» وفي عام 1872 أضاف ماركس تعليقاته المقتضبة جدا على منهج كتاب «رأس المال» وعلاقته النقدية والمصححة لمنهج هيجل، ولاحظ ماركس أن «منهجه الجدلي» كان «مناقضا» لمنهج هيجل؛ لأن هيجل يرى «العالم الحقيقي مجرد شكل ظاهري خارجي «للفكرة»»، بينما وجهة نظره كانت العكس؛ أي إن: «المثالية ليست سوى انعكاس العالم المادي في العقل البشري، وترجمته إلى أشكال فكرية.» وعلى الرغم من أن ماركس امتنع عن الاستعانة بنظريات إنجلز القائلة بأن القوانين الجدلية واحدة بالنسبة إلى كل من الطبيعة والتاريخ والفكر، وكذلك وجهة نظر إنجلز القائلة بأن الحركة الجدلية لها انعكاس واع في العقل، فقد علق ماركس قائلا إن الجدل مع هيجل «يقف على رأسه.» وكتب: «يجب أن يصحح وضعه مرة أخرى، إذا أردتم اكتشاف القلب العقلاني داخل القوقعة الصوفية» (رأس المال، المجلد الأول)، أو بالأحرى مثلما زعم إنجلز في السابق أن ماركس «استخرج من المنطق الهيجلي القلب الذي يضم اكتشافات هيجل الحقيقة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). لقد شكلت استعارات إنجلز بشأن الجدل الهيجلي الخاصة بالقلب والوقوف على الرأس والقلوب والقواقع تحديا حتى لمحاولاته تفسيرها، وقادت ماركس على نحو واضح إلى نطاق غامض من الاستعارات المختلطة.
وفي كتاب «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» برر إنجلز قوانين الحركة العامة، من خلال الاستعانة ب «ثلاثة اكتشافات مهمة» في العلوم الطبيعية؛ وهي: اكتشاف الخلية، مما أدى إلى «قانون عام واحد» لتطور كافة الكائنات والأنواع العليا؛ وتحول الطاقة باعتباره تجسيدا وحفظا «للحركة الكونية»؛ و«دليل» داروين على أن كل المنتجات العضوية، بما فيها الإنسان، كانت نتيجة للتطور. وبالرغم من أن تطور المجتمع اختلف في أمر واحد عن تطور الطبيعة، كما قال إنجلز (لأنه في تطور الطبيعة توجد فقط «عناصر فاعلة غير واعية عمياء»)، فإن العناصر الفاعلة الواعية في المجتمع - التي ربما تكون مهمة في «عصور وأحداث معينة» - أنتجت «وضعا متشابها تماما مع ذلك السائد في نطاق الطبيعة غير الواعية.» وكتب إنجلز أنه في كل من الطبيعة والتاريخ «تتحكم الصدفة» في ظاهر الأمر، لكن كلا من الطبيعة والتاريخ «تحكمهما دائما قوانين داخلية خفية»، ومن خلال هذه المعرفة يمكن كشف مسار التاريخ الحديث في ضوء العلاقات التي زعم أنها علاقات سببية:
على الرغم من أنه في كل الفترات السابقة كادت دراسة الأسباب المحركة للتاريخ تكون مستحيلة - نظرا للتداخلات المعقدة والخفية بين تلك الأسباب ونتائجها - فإن فترتنا الحالية بسطت تلك التداخلات إلى حد كبير جعل حل هذا اللغز ممكنا. منذ بداية الصناعات الواسعة النطاق؛ أي على أقل تقدير منذ معاهدة السلام الأوروبية لعام 1815، لم يعد يخفى على أي شخص في إنجلترا أن النضال السياسي كله في إنجلترا قد أيقظ مزاعم السيادة لدى طبقتين هما: الطبقة الأرستقراطية المالكة للأراضي والطبقة البرجوازية [الطبقة الوسطى] ... وثبت في التاريخ المعاصر على الأقل أن كل النضالات السياسية هي نضالات طبقية، وأن كل النضالات الطبقية من أجل التحرر، رغم الطابع السياسي الذي تتخذه تلك النضالات بالضرورة - لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي - تثير في النهاية مسألة التحرر «الاقتصادي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في «التصور الماركسي للتاريخ» - وفقا لإنجلز - نجد أن تلك «التداخلات» قد اكتشفت «في الحقائق»؛ فالفلسفة، «المستبعدة من الطبيعة والتاريخ»، تركت لنفسها فقط «نطاق الفكر المجرد»، الذي يمثل «نظرية قوانين عملية التفكير نفسها؛ المنطق والجدل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كان تأكيد إنجلز على حتمية الأحداث التاريخية يستند فقط على أن ماركس وصف ببساطة الفترات المتعاقبة بأنها تسير في اتجاه تقدمي. وبالمثل لم يشرح إنجلز كيف يمكن أن يشق العقل طريقه من نطاق المصادفة في التفكير إلى انعكاس التطور الجدلي، وبالفعل لم يتناول قط العلاقة المتداخلة بين السببية والمصادفة، سواء في العالم المادي، أم في الأحداث التاريخية، أم في الإدراك البشري. وفيما يتعلق بالمنطق والفلسفة، ترك لنا إنجلز فقط «القوانين» الجدلية الثلاثة التي وضعها - وهي: تحول الكم إلى كيف ، وصراع المتناقضات، والتطور من خلال التناقض (أو نفي النفي) - بالإضافة إلى وجهة نظره القائلة بأن الفئات ليست لها مرجعيات ثابتة واضحة. وقال إنجلز عن وجهة النظر الأخيرة بأنها «الفكرة الأساسية الكبيرة» وراء «المادية الجدلية»، فكتب:
يجب ألا يفهم العالم على أنه مجموعة من «الأشياء» الجاهزة، بل على أنه مجموعة من «العمليات» تمر فيها الأشياء التي تبدو ثابتة ظاهريا - وكذا صورها الذهنية في عقولنا أو ما نطلق عليه المفاهيم - بتغير دائم من الظهور والاندثار؛ ورغم كافة أشكال المصادفة الظاهرة وكل أشكال التراجع المؤقت في هذا التغير، فإن ثمة تطور تقدمي يتحقق في النهاية (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وعلى الرغم من أن «قوانين» إنجلز ووجهة نظره الجدلية ككل مفيدة باعتبارها مبادئ للتفسير والتحليل، فإنه لا يمكن اعتبارها أسسا لنظام منطقي.
وبالإضافة إلى توضيح الفرضيات «المادية» لمعرفة الطبيعة والتاريخ، وضع إنجلز أيضا تصورا «ماديا» لأصل الإنسان، وكان ماركس نفسه قد قدم بعض الملاحظات التي تناولت الكيفية المحددة التي يختلف بها الإنسان عن الحيوانات، عندما ناقش في كتابه «رأس المال» مفاهيم العمل والإنتاج الاجتماعي، والتي من بينها:
إننا لا نتعامل الآن مع أشكال العمل البدائية الغريزية التي تذكرنا بالحيوان. وثمة فاصل زمني لا يمكن قياسه، يفصل بين الوضع الذي كان فيه الإنسان يطرح قوة عمله في السوق للبيع باعتبارها سلعة، وبين الوضع الذي كان لا يزال فيه العمل البشري في مرحلته الأولى الغريزية. إننا نتصور العمل في شكل يجعله عملية بشرية حصرية؛ فالعنكبوت تقوم بعمليات تشبه العمليات التي يقوم بها النساج، والنحلة أيضا تتفوق على كثير من المعماريين في تشييد خلاياها. أما ما يميز أسوأ المعمارين عن أفضل النحل، فهو أن المعماري يشيد البنيان في خياله قبل أن يبنيه في الواقع (كتاب رأس المال).
كان نقاش ماركس في العموم تصوريا ومجردا على نحو أكبر مقارنة بتخمينات إنجلز شبه التاريخية، المضمنة في أعمال كذلك الذي لم يكمله «دور العمل في تحول القرد إلى إنسان»، والذي كتبه في عام 1876 لكنه نشر في صورة مقالة عام 1896 بعد وفاة كاتبه بوقت قليل. وفي هذه المقالة تولى إنجلز مهمة تفسير العمل بوصفه «أهم الشروط الأساسية لكل الوجود البشري»؛ فعندما بدأت القردة «التي تسير على أرض مستوية في الاستغناء عن مساعدة اليدين والتكيف شيئا فشيئا مع المشية المنتصبة»، اتخذت «الخطوة الحاسمة في التحول من قردة إلى بشر.» لقد كانت وجهة نظر إنجلز عن التطور متأثرة بمذهب لامارك في التطور، أكثر من تأثرها بنظرية داروين على وجه التحديد، ويتمثل هذا التأثر في اعتقاد إنجلز أن السمات التي يكتسبها الأفراد يمكن أن تورث إلى الأجيال اللاحقة؛ قال في هذا الشأن:
ومن ثم فاليد ليست مجرد عضو للعمل، «لكنها أيضا نتاج العمل». ومن خلال العمل وحده، ومن خلال التكيف مع العمليات الجديدة باستمرار، ومن خلال وراثة التطور الخاص المكتسب بهذه الطريقة الذي حدث في العضلات، والأوتار، والعظام ولكن عبر فترة أطول، ومن خلال التوظيف دائم التجدد لهذه البراعة المكتسبة وراثيا في عمليات جديدة أكثر تعقيدا؛ من خلال كل هذا اكتسبت اليد البشرية قدرا عاليا من الكمال، مكنها من المساهمة في إبداع رسومات رفائيل، وتماثيل تورفالدسن، وموسيقى باجانيني (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
استشهد إنجلز بقانون داروين المفترض المسمى «قانون ترابط النمو» لتفسير أمثلة أخرى من التنوع والانتخاب:
إن الزيادة التدريجية في مهارة اليد البشرية وما صاحبها من تكيف للقدمين مع المشية المنتصبة، كان لهما أثرهما بلا شك، بموجب هذا الترابط، على الأجزاء الأخرى في الكائن الحي. ومع ذلك، فإن هذا الفعل لم يخضع حتى الآن لقدر كبير من الفحص يمكننا من فعل شيء آخر في هذا الصدد أكثر من مجرد ذكر الحقيقة بوجه عام (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وفقا لإنجلز، بدأ العمل مع صناعة الأدوات، التي كان أقدمها يستخدم في أغراض القنص والصيد، وكان هذا بداية التحول من «النظام الغذائي النباتي فقط إلى ذلك المعتمد على اللحوم أيضا.» ومع تقديم «كل الاحترام للأشخاص النباتيين»، قال إنجلز إن النظام الغذائي المعتمد على اللحوم كان ضروريا للتطور السريع للدماغ. وقد عرض إنجلز تطور الإنتاج الاجتماعي بين البشر على نحو يوضح كيف أننا «طورنا تدريجيا تصورا واضحا ... لنشاطنا الإنتاجي»، بحيث إنه بعد ثورة كاملة سوف تتاح لنا فرصة السيطرة على آثار هذا النشاط الإنتاجي وتنظيمها (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفقا لإنجلز، أكدت الاكتشافات الحديثة في مجال الأنثروبولوجيا، كتلك التي تمت في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والتاريخ والفلسفة، حقيقة «تصوره المادي للتاريخ» القائم على «الجدل». وألف إنجلز كتاب «أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة» ونشره عام 1884، وقدم فيه محاولة مطولة لتوضيح تطابق الأعمال الأنثروبولوجية الحديثة مع رؤيته «المادية» لأصل الإنسان وأصل المجتمع، لدرجة تجعل رؤيته تبدو كما لو كانت قد أصبحت مؤكدة من خلال أبحاث مستقلة. وكان إنجلز مهتما في الأساس بكتاب «المجتمع القديم» الذي نشر عام 1877 للعالم الأمريكي لويس هنري مورجان. قال مورجان إن التقدم التقني في إنتاج وسائل المعيشة لعب دورا حاسما في التطور البشري من الهمجية إلى البربرية إلى الحضارة. وفي تخطيط هذا المسار استعرض مورجان الأسرة والحكومة والملكية، ومن هذه المناقشة نشأ كتاب إنجلز، أول عمل ماركسي عن الأنثروبولوجيا، وقد ظهر من هذا الكتاب أربع طبعات، وكانت له عدة ترجمات عام 1894.
وفي شرح وجهة نظر ماركس لعام 1859، القائلة بأن «نمط إنتاج الحياة المادية يحدد العمليات الحياتية الاجتماعية والسياسية والفكرية في العموم»، قال إنجلز إن العامل الحاسم في التاريخ كان «كخيار أخير» هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحالية. وكان لعملية الإنتاج وإعادة الإنتاج شقان: الأول هو وسائل المعيشة والأدوات المطلوبة، والثاني هو إنتاج البشر أنفسهم الذي ربطه إنجلز بنشر النوع والأسرة. وكتب أن المؤسسات الاجتماعية كانت محددة وفقا للتطور النسبي الخاص بهذين العاملين: «كلما قل تطور العمل، أصبح حجم إنتاجه محدودا على نحو أكبر، وأصبحت ثروة المجتمع محدودة كذلك، وبدا النظام الاجتماعي خاضعا على نحو أكبر لروابط الجنس.» ومع تطور إنتاجية العمل، ظهرت نتيجة لذلك عوامل اجتماعية جديدة، وكسرت سمة «روابط الجنس » التي ميزت المجتمع القديم؛ وبعدها تطورت بحرية الصراعات الطبقية التي شكلت محتوى كل الأحداث التاريخية المدونة حتى عصرنا الحالي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وأضاف إنجلز إلى عمل مورجان، الذي كان يتناول بصفة أساسية هنود أمريكا الشمالية، تعليقاته الخاصة عن اليونان وروما والسلتيين والألمان. وحظي مورجان ببعض المديح المميز من إنجلز الذي كتب يقول:
إعادة اكتشاف أن نسب العشائر إلى الأم، المعروف بحق الأم، هو المرحلة الأولية لمرحلة نسب العشائر إلى الأب، المعروف بحق الأب، تلك المرحلة المميزة للشعوب المتحضرة؛ لهو أمر مهم لتاريخ المجتمع البدائي مثلما أن نظرية داروين للتطور مهمة لعلم الأحياء، وأيضا مثلما أن نظرية فائض القيمة لماركس مهمة لعلم الاقتصاد السياسي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ومن اكتشاف مورجان توصل إنجلز إلى الاستنتاج القائل بأن «الإطاحة بحق الأم كان أكبر هزيمة تاريخية للجنس الأنثوي.» واتخذت السلطة الحصرية للرجال شكل العائلة الأبوية في بادئ الأمر، ثم تطور الشكل إلى الزواج الأحادي الذي منه ظهرت الأسرة الأثينية التي كان الأزواج اليونانيون «يخجلون فيها من إظهار الحب لزوجاتهم، فيسلون أنفسهم ب «المحظيات» ... إلى أن انغمسوا في شذوذ حب الغلمان.» وزعم إنجلز أن الزواج الأحادي لم يظهر بسبب حب جنس معين، لكنه ظهر نتيجة لخضوع جنس لجنس آخر، من أجل توفير ورثة لأب ثابتة أبوته على نحو قاطع. واقتبس إنجلز من كتاب «الأيديولوجية الألمانية» فيما يتعلق بهذا الموضوع فقال: «أول أشكال تقسيم العمل كان بين الرجل والمرأة من أجل إنجاب الأطفال.» واستطرد قائلا: «أول عداء بين الطبقات ظهر في التاريخ صادف ظهوره تطور العداء بين الرجل والمرأة في الزواج الأحادي، وأول قهر طبقي صادف ظهوره قهر الجنس الأنثوي على يد الجنس الذكوري.» ووفقا لإنجلز، كان الزواج الأحادي في واقع الأمر صورة أخرى لنمط تاريخي ما؛ فهو تطور، لكنه في الوقت نفسه، «تراجع نسبي، تتحقق فيه رفاهية وتقدم مجموعة ما من خلال شقاء وقمع المجموعة الأخرى» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وفيما بعد تكهن إنجلز بما سيئول إليه تطور الزواج بعد إلغاء الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الملكية، فقال: «إلا أن ما سوف يختفي بالتأكيد من الزواج الأحادي هو كل الصفات التي لصقت به نتيجة لظهوره من منطلق علاقات الملكية، وهذه الصفات هي؛ أولا: سيطرة الرجل، وثانيا: عدم قابلية الزواج للفسخ» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ومع ذلك لم يكن إنجلز متفائلا كلية بشأن التحرر في المجتمع المستقبلي؛ ففي كتابه «الرد على دوهرينج»، فسر وجهة نظر ماركس القائلة بأن ثورة البروليتاريا سوف تنهي مع الوقت الحكم الطبقي فقال:
إن تدخل الدولة في العلاقات الاجتماعية يصبح غير ضروري في مجال تلو الآخر، ثم يتلاشى من تلقاء نفسه؛ وتحل محل حكم الأفراد إدارة الأشياء وإدارة عمليات الإنتاج؛ فالدولة لا «تلغى»، بل «تتلاشى» (الرد على دوهرينج).
قدمت مقالة إنجلز «عن السلطة» - التي كتبها عام 1872، ونشرت في البداية في صحيفة إيطالية عام 1874 - ملامح معينة عن طابع هذه الإدارة المستقبلية، وكان غرضه هو مواجهة الميول اللاسلطوية لدى الحركة الاشتراكية الدولية، لا سيما التصدي لنفوذ باكونين. إن تعريف إنجلز للسلطة بأنها «فرض إرادة الآخر على إراداتنا» تستلزم، كما قال، «الخضوع»، وهذا بالتأكيد «غير مقبول من جانب الطرف الخاضع.» وحتى بعد حدوث ثورة اجتماعية ستظل الصناعة الواسعة النطاق في حاجة إلى نوع من الخضوع والسلطة، وكتب يقول إن هذه الأمور «مفروضة علينا.» وتابع إنجلز حديثه الجدلي، فزعم أن السلطة والاستقلال من «الأشياء النسبية»، وأنه في ظل التنظيم الاجتماعي في المستقبل سيتم تقليل السلطة «الحدود التي تجعلها ظروف الإنتاج حتمية.» ويضع إنجلز تصوره عن هذه السمة في المجتمع المستقبلي من خلال وجهة نظره الجدلية التي تتسم بالشمولية قائلا:
إذا كان الإنسان، باستخدامه لمعرفته وعبقريته المبدعة، قد أخضع قوى الطبيعة، فإن قوى الطبيعة بدورها تنتقم لنفسها منه بإخضاعه، في المجالات التي يستغلها فيها، لاستبداد حقيقي منفصل عن كافة أشكال التنظيم الاجتماعي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
لقد كان لوجهة نظر إنجلز الجدلية تأثير واسع النطاق، ومن المؤكد تماما أن السبب في ذلك يرجع إلى أنها تزعم تضمنها العلمي لكل مجالات الدراسات الفيزيائية والاجتماعية في علم واحد. ووفقا لإنجلز يتنبأ هذا العلم «بالسقوط الحتمي » للرأسمالية، ويبرر برنامجا سياسيا لتحرير عمال العالم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وتجرى حاليا محاولات لتقييم أعمال إنجلز وتحديد مدى تأثيرها.
الفصل السابع
إنجلز والماركسية
التفسير المادي للتاريخ هو العنصر الأساسي في تركة إنجلز الفكرية؛ فهذه الأفكار القليلة التي عبر عنها إنجلز بنفسه بطرق مختلفة كان لها تأثير ثوري على النظرية الاجتماعية والممارسة السياسية، وأي تعليم معاصر في أي مجال من مجالات الفنون أو العلوم الاجتماعية يدعي امتلاكه الكفاءة، لا بد أن يتضمن بعض الدراسة، حتى وإن كانت ناقدة، لهذا المذهب الفكري. ولم تنجح أي من محاولات إظهار هذا المذهب بأنه كلام عقيم أو غير مترابط أو حشو أو غير منطقي، حتى لو كانت حملات الهجوم تلك صادرة عن فلاسفة مرموقين ذائعي الصيت؛ والسبب في ذلك هو أن التفسير المادي للتاريخ مفيد جدا.
في الممارسة السياسية، تتخذ العديد من المجموعات - ومن بينها فرق النشاط السياسي الماركسي من أتباع لينين وتروتسكي وماو تسي تونج - التفسير المادي للتاريخ معتقدا أساسيا لها. والواقع أنه إذا كان هناك معيار واحد للتفرقة بين الماركسي وغير الماركسي، فسيكون التفسير المادي للتاريخ هو المنافس الأقوى من بين هذه المعايير. ومع ذلك، فإن مجرد قبول ذلك التصور لن يجعل أي شخص ماركسيا على نحو قوي للغاية؛ وعلى أي حال، فإن إلحاق وصف «ماركسي» بأي شخص قد لا يخبرنا الكثير، وهذا يرجع إلى عدم وجود تفسير موحد لهذه النظرة الشهيرة للتاريخ يحظى باتفاق كل الماركسيين؛ فالتفسير المادي للتاريخ يمثل مجموعة من «الخلافات المشتركة».
وعلى الرغم من أن التفسير المادي للتاريخ في العالم السياسي يمثل معتقدا راسخا (حيث إنه نقطة أساسية لتبرير الاستراتيجية والتكتيكات والسياسة)، فإن فائدة هذه النظرة تتضح على نحو أكثر مباشرة في أعمال التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا والفلسفة. أثنى إنجلز وماركس نفسه على ماركس بسبب تصوره المهم للطبيعة ولتطور المجتمع البشري؛ فلماذا إذن ترك لنا إنجلز «التفسير المادي للتاريخ»؟
السبب الأول هو أنه ابتكر هذا المصطلح بنفسه، وأصبحت هذه العبارة محل تفسير على نحو منفصل عن كل الموضوعات المعقدة التي كانت تهدف في الأصل إلى تلخيصها. واكتسبت مصطلحات «المادي» و«التفسير» و«التاريخ» أهمية خاصة بها مستقلة عن كتابات ماركس المتمثلة في «أطروحات حول فيورباخ»، و«فقر الفلسفة»، وأهم من ذلك مقدمته لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» لعام 1859؛ فهذه المصطلحات على أي حال لم تناسب جيدا وجهة نظر ماركس، بل ستكون «نظرية الإنتاج الخاصة بالتغيير الاجتماعي» مناسبة أكثر من «التفسير المادي للتاريخ»، على الرغم من أن ماركس امتنع بحكمة عن إعطاء وجهات نظره أسماء على الإطلاق؛ لقد وصف نفسه فقط في مرات نادرة بأنه «مادي»، وبعد ذلك لم يحدد ما قصد توضيحه بهذه الكلمة، باستثناء توضيح أنه ليس «مثاليا». وأشار في مقالته «أطروحات حول فيورباخ» إلى مذاهب المادية السابقة منتقدا إياها، وأشار باستحسان إلى المادية «الجديدة»، على الرغم من أن ماركس لم يربط هذا الوصف بأي شيء محدد آخر خلافا ل «المجتمع البشري أو البشرية الاجتماعية». وفي حين كانت لماركس آراء عن التطور التاريخي للمجتمع الرأسمالي، فإن تلك الآراء لم تكن مهمة تعنى ب «التفسير»؛ فقد كتب مستخفا بهذا الأمر في الأطروحة الحادية عشرة من أطروحاته حول فيورباخ، فقال إن «الفلاسفة «فسروا» فحسب العالم.» ولم يكن أيضا مهتما حقا «بالتاريخ» على النحو الذي كان سيقوم به المؤرخ الذي يسعى لتقديم «تفسير»؛ كان هدف ماركس «ممارسة ثورية»؛ أي «تغيير ذاتي» في المجتمع البشري (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
السبب الثاني للقول بأن التفسير المادي للتاريخ يقع ضمن تركة إنجلز الفكرية، هو أن إنجلز كان أكثر المدافعين عنه تأثيرا ولا يزال هكذا حتى وقتنا المعاصر؛ فهو لم يكن واضعا فحسب للمصطلح، بل كان مدافعا عنه أيضا، ولقد ثبت أن هذا هو أهم الأساليب التوضيحية التي استخدمها إنجلز في كل كتاباته؛ لأن شروحه لكتابات ماركس كانت أكبر تأثيرا من أي من بحوثه التاريخية أو ملاحظاته المعاصرة.
في شروح إنجلز لكتابات ماركس، كانت نوايا إنجلز - بحسب ما أرى - صادقة ومحترمة للغاية؛ لقد اقتبس بدقة معقولة وقدم المديح عند استحقاق ذلك، وعلى الرغم من أن شهرته السياسية والفكرية قد ذاعت أكثر بسبب علاقته بماركس وتفسيراته لأعمال أستاذه ماركس، فإنه جعل ادعاءاته وطموحاته داخل حدود علاقته كتلميذ بأستاذه.
احتوت مقدمة ماركس لطبعة 1859 من كتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» على بعض الفقرات التي تمثل «فكرته الأساسية». ومن المفهوم أن موضوع هذا الكتاب أصبح الموضوع الرئيسي لشروح إنجلز، وتعليقه المستمر على أفكار ماركس، وتفصيله لآرائه، وكان الشرح الأول ضروريا في وضع منهج ومحتوى الشروح التالية.
وبعد أن اقتبس إنجلز من أقوال ماركس على نحو كبير في مراجعته النقدية لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» عام 1859، انتقل إلى عرض ما اعتبره جوهر آراء ماركس وأخذ يفصله على نحو ما، كما لو كان يعيد بمفرده كتابة كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، ذلك العمل الذي اشترك في تأليفه مع ماركس فيما بين عامي 1845 و1846. ومن هذا المنطلق، ربما اعتقد أنه بتطويره تلك الآراء الأصلية أصبح شريكا في تأليفها، لكن يبدو أنه لم يخطر بباله مطلقا فكرة أن ما قاله في شرحه قد يتعارض ولو قليلا مع آراء ماركس. وكما رأينا، فقد اشترك ماركس وإنجلز في تأليف ثلاثة أعمال مهمة فقط، وكلها كتبت قبل عام 1850، وبعد ذلك نشرت أعمال إنجلز باسمه، ولم يتحمل ماركس أي مسئولية عمليا تجاهها. أما إنجلز، فلم ير الأمر بهذه الطريقة، على الرغم من أن افتراض التأليف المشترك لم يكن معلنا على نحو واضح إلا بعد وفاة ماركس عام 1883. وبعد ذلك أصبح إنجلز مقيدا على نحو لا فكاك منه بتداعيات شرحه في عام 1859 ل «الفكرة الأساسية» التي أعلن عنها ماركس في مقدمة طبعة عام 1859.
شكل 7-1: فريدريك إنجلز في منتصف حياته.
تضمن شرح إنجلز في مراجعته النقدية لكتاب ماركس عام 1859 خطوة ثبت أنها كانت مهمة في تاريخ الماركسية؛ فقد كان إنجلز متحمسا للغاية للقوانين التي وضعها ماركس عن المجتمع الرأسمالي في كتابه واعتقد أنها مؤكدة؛ ولذلك زعم أن آراء ماركس التي عرضها في مقدمته عن الطبيعة العامة للمجتمع والنمط العام لتطوره تتسم بالصحة والدقة، في حين أن تلك الآراء كانت تفتقر كثيرا إلى الدقة. وفي تلك الفقرات تحدث ماركس عن التوافق والتكيف والتحديد (أي التعريف والتقييد) - ولم يتحدث عن كل «فعل» صادر عن «دوافع مادية» - فكتب ماركس يقول:
في الإنتاج الاجتماعي لحياة البشر، نجدهم يدخلون في علاقات معينة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات الإنتاج التي تتوافق مع مرحلة محددة من مراحل تطور قوى الإنتاج المادية الخاصة بهم. ويكون المجموع الإجمالي لعلاقات الإنتاج هذه الهيكل الاقتصادي للمجتمع؛ أي الأساس الحقيقي، الذي يقوم عليه هيكل علوي قانوني واجتماعي، والذي تتوافق معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي، ونمط الإنتاج الخاص بالحياة المادية يكيف العمليات الحياتية الاجتماعية والسياسية والفكرية في العموم. ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس، وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
الفقرة المقتبسة السابقة كانت على قدر من التعميم أعلى بكثير من التعميم الموجود في قوانين الرأسمالية التي صاغها ماركس في أعماله المنشورة وغير المنشورة، التي كتبها بداية من عام 1859 فصاعدا؛ وقد صرح بتلك القوانين على نحو دقيق وواثق، وتمثلت في: قانون القيمة، وقانون ميل معدل الربح للهبوط؛ «القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث»، كما وصفه في مقدمة الطبعة الأولى للمجلد الأول من كتاب «رأس المال» (كتاب رأس المال، المجلد الأول).
وخلافا لهذه الخطوة التفسيرية، وظف إنجلز الملاحظات العامة في مقدمة 1859 على نحو مشابه كثيرا لما فعله ماركس، وكان مؤلفه التاريخي انعكاسا لهذا الأمر؛ فظهر في مؤلفاته أن الأفكار والمعتقدات والحركات والأحزاب تربطها علاقة عملية واضحة بالسيطرة على الموارد وتوزيعها وبالحياة الاقتصادية في كل جوانبها؛ وكانت هذه هي الفكرة الأكثر تأثيرا في العصور الحديثة في مجال دراسة العلوم السياسية والمجتمع، وفي التغيير العملي للحياة السياسية والاقتصادية حول العالم.
لقد ابتعد إنجلز قليلا عن تصور الدقة المتعلقة «بالفكرة الأساسية» لدى ماركس، حتى إنه وصفها بأنها «قانون»، وزعم أنه قانون عام ومؤكد رغم أن ماركس لم يقل ذلك؛ وأطلق إنجلز على قانونه «قانون الحركة الكبير في التاريخ »، وهو يشبه في النطاق والدقة «قانون تحول الطاقة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكان هذا الادعاء غير حقيقي على نحو واضح؛ فقد قال إنجلز إن رؤيته «المادية» لتكون الطبقات وتطور المجتمع مرتبطة بأسباب اقتصادية مطلقة، بالرغم من أن ماركس لم يقل ذلك، واعتبر إنجلز أن تلك الأسباب الاقتصادية مرتبطة (بطريقة ما) بمادية العلوم الطبيعية. وحتى «قوانين» الرأسمالية البالغة الدقة التي صاغها ماركس لم يربطها مطلقا بالمادة المتحركة. ولم يستعرض إنجلز في أعماله مطلقا مبدأ السببية النهائية، ولا علاقة الظواهر الاقتصادية بالمادة كما يراها علماء الطبيعة؛ ومن ثم لم يفسرهما بالتأكيد أو يبررهما. ولم تقدم قوانين إنجلز الجدلية الثلاثة مساعدة في هذه المهمة؛ لأن علماء الطبيعة لم يعتبروها مطلقا ذات علاقة وطيدة بالعلوم. ولم تكن تلك القوانين، بأي حال من الأحوال، فرضيات قابلة للاختبار؛ لأنه لم يتضح في كلام إنجلز أي الأمور يمثل تطبيقا لتلك القوانين وأيها لا يمثل تطبيقا لها. ويمكن القول إنه لم يكن لصيغ إنجلز طابع عام مثل قوانين نيوتن للحركة وقانون بويل الخاص بسلوك الغازات، بل كانت لها مرجعيات محددة.
كان من الممكن أن يقدم إنجلز «الفكرة الأساسية» لماركس على أنها «فرضية» لفحص الصراعات التاريخية والمعاصرة في المجتمع؛ فالفرضية بطبيعة الحال قد لا تثبت صحتها في كل فحص متعلق بكل صراع من هذه الصراعات. ولم يؤكد ماركس في مقدمة عام 1859 لكتابه أن كل الأفعال الفردية والصراعات الاجتماعية ستكون نتائج يمكن تتبعها على نحو ما لنمط الإنتاج في الحياة المادية؛ واختلف إنجلز عن ماركس في زعمه أنه وضع قانونا تاريخيا يتفق على نحو سببي نهائي مع كل الأحداث. علاوة على ذلك، ومن خلال رؤيته التي ترى أن «الحياة المادية» تنطوي على مادية العلوم الطبيعية، فسر إنجلز آراء ماركس عن الناس وأنشطتهم الإنتاجية المادية تفسيرا مختلفا تماما.
وفي مرحلة لاحقة من حياة إنجلز زاد انشغاله بمحاولات الدفاع عن «تفسيره المادي للتاريخ » ضد انتقادات الخصوم والممارسين السذج، وفي عام 1890 كتب إلى أحد مراسليه هذه السطور التي أصبحت مشهورة الآن :
وفقا للتصور المادي للتاريخ، فإن العامل المحدد على نحو قاطع في التاريخ هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الواقعية. لم يؤكد ماركس ولا أنا مطلقا ما يزيد عن ذلك؛ ومن ثم فإن تطرق أحد الأشخاص إلى تحريف هذا الكلام وزعمه أن العنصر الاقتصادي هو وحده المحدد، قد حول هذه الفرضية إلى عبارة مجردة غير ذات معنى وغير منطقية (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز).
وبعد ذلك فصل إنجلز العوامل الأخرى المؤثرة في الأحداث التاريخية:
الوضع الاقتصادي هو الأساس، لكن العوامل المختلفة للهيكل العلوي تؤثر أيضا في مسار النضالات التاريخية، وفي كثير من الحالات يكون لها دور أكبر في تحديد شكل تلك النضالات؛ وتتمثل تلك العوامل في الأشكال السياسية للنضال الطبقي ونتائجه، وهي: المؤسسات التي تؤسسها الطبقة المنتصرة بعد معركة ناجحة ... إلخ، والأنظمة التشريعية، بل وانعكاسات كل هذه النضالات الفعلية في أذهان المشاركين فيها، والنظريات السياسية والقانونية والفلسفية، والآراء الدينية، وتطورها فيما بعد إلى أنظمة عقائدية دوجماتية (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز).
كان دفاع إنجلز عن «التفسير المادي للتاريخ» غير حاسم من الناحية التحليلية ودوجماتي في النهاية؛ لأن التفاعل بين الأساس والهيكل العلوي لم يكن مميزا مطلقا عن السببية النهائية للأساس، وهذا الأمر بدوره لم يكن متفقا على نحو ناجح مع السرد العام للحياة الاقتصادية والفكرية المقدم في كتاب «الأيديولوجية الألمانية»؛ فمن اللازم توضيح العديد من الفروق وتقديم قدر كاف من الحجج والأمثلة لتفسير وتبرير زعمه الواثق الغامض، الذي يقول: «يوجد تفاعل فيما بين كل هذه العناصر التي في ظلها، ووسط عدد لا نهائي من المصادفات ... تثبت الحركة الاقتصادية في النهاية أنها ضرورية» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). والحجج التي تستند إليها أطروحة ماركس القائلة إن الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية يحددها نمط الإنتاج، تعود إلى وجهة نظره القائلة إن الأفراد الموجودين على قيد الحياة في البيئات المادية يجب أن ينتجوا وسائل المعيشة الخاصة بهم، وأن هذا يلعب دورا في تعيين وتحديد ثقافتهم. ساوى إنجلز مناهضة ماركس للمثالية بمادية مركبة لكنها غير مكتملة؛ هناك وجهتا نظر، ترى أولاهما أن المادة المتحركة مسئولة عن كل شيء، وترى الأخرى أن البشر لا بد أن يتصارعوا مع الظروف المادية للإنتاج، تلك التي يجدونها وتلك التي يصنعونها. ولا شك أن ماركس كان يتبنى وجهة النظر الثانية، لكن انشغال إنجلز بوجهة النظر الأولى - التي كانت على الرغم من كل اعتراضاته، مادية من النوع التقليدي - أدى إلى مزيد من الشرح لكلام ماركس؛ ومن ثم أصبح شائعا عند تفسير الماركسية القول بأن الأساس والهيكل العلوي في الماركسية أمران متناقضان؛ حيث إن الهيكل أو الأساس الاقتصادي يعتبر «ماديا» إلى حد ما، أما الهيكل العلوي، فهو «غير مادي» تماما؛ حيث إنه يتكون من أفكار. ونظرا لأن ماركس كان يعتقد أنه «في ظل علاقات الإنتاج» توجد أنشطة اقتصادية تتطلب على نحو واضح كلا من الأفكار والأشياء المادية، أصبح تفسير الفرق بين الأساس والهيكل العلوي غير مهم إلى حد ما، أما التناقض الواضح المتعلق بوجود عوامل غير مادية في الأساس، فقد نشأ فقط من المعلقين الذين اعتادوا افتراض أن مادية ماركس الجديدة لا بد أن تكون من النوعية التي وصفها إنجلز؛ أي المادة المتحركة. وكانت ظواهر الهيكل العلوي (التي ذكر ماركس أنها القانون والسياسة والدين) مزيجا واضحا أيضا من العوامل «المادية» والوعي، تماما مثلما كانت الحياة البشرية نفسها، وفقا لوجهة نظره. ولم يكن ماركس مهتما بهذه الثنائية المتعارضة المكونة من المادة والوعي، وعلى النقيض منه كان إنجلز مستعدا فحسب لافتراض هذه الرؤية الفلسفية التقليدية عند تأمل التجربة الإنسانية، والتأكيد بثقة على أن كلا من المادة والوعي مرتبط بالآخر من ناحية نهائية وجدلية، تلك الناحية التي لم يفحصها ولم يحددها مطلقا على نحو كاف.
وعلى الرغم من أن التفسير المادي للتاريخ لا يمكن الدفاع عنه دفاعا ناجحا باعتباره قانونا سببيا في التاريخ، ولا قانونا مستمدا من مادية العلوم الطبيعية، فقد أثبت فائدته بلا شك باعتباره «فرضية» مفسرة للتغير الاجتماعي، ودليلا للبحث يقود ، في أغلب الأحيان، إلى نتائج مهمة في دراسة المجتمع البشري؛ إنه فرضية ليست في حاجة لإثبات صحتها أو حتى ملاءمتها فيما يتعلق بكل الأحداث الاجتماعية. بدلا من ذلك، فإنه يقدم نقطة انطلاق لعمليات الاستقصاء. وعلى الرغم من أن تلك الفرضية قد تكون غير حقيقية أو غير ملائمة فيما يتعلق بحدث معين، فإن هذا لا يؤثر على إمكانية الاستفادة منها في تفسير أحداث أخرى، ولو كانت تلك الفرضية لم تنجح مطلقا لرفضناها، لكنها نجحت في مرات كثيرة، وفي بعض الأحيان كان النجاح باهرا.
في تقييمي للعنصر الأساسي في تركة إنجلز الفكرية - وهو التفسير المادي للتاريخ - حاولت أن أزيد من حدة الجدل بين الماركسيين وغير الماركسيين على حد سواء، ذلك الجدل المتعلق بما يقوله ذلك التفسير وبما يعنيه، وما يتعلق بصحته وفائدته، وكان منهجي هو جذب الانتباه إلى دور إنجلز بصفته شارحا لأعمال ماركس، وكذلك لفت الانتباه إلى شروحه، مع إلقاء الضوء على النقاط التي أعتقد أن شروحه انحرفت فيها كثيرا عن الأعمال الأصلية، والمشاكل الجديدة التي خلقتها تلك الشروح. إن من يقبلون جوهر شروح إنجلز قد صادفتهم صعوبة بالغة تتعلق بتفسير وتبرير مفاهيم السببية في العالم المادي وفي الحياة الاجتماعية؛ وهذا أدى إلى نقاشات حول الإرادة الحرة والحتمية؛ الأمر الذي أدى بدوره إلى صعوبات في تبرير المبادرات السياسية. وقال بعض المعلقين إن أثر الآراء الفلسفية لإنجلز على الاتحاد الدولي الثاني للعمال - تلك المنظمة العالمية للاشتراكيين التي عملت من عام 1889 حتى بداية الحرب العالمية الأولى - كان كارثيا. ووفقا لهذه الرؤية، فقد شجعت الحتمية السببية لصاحبها إنجلز بعض القادة الاشتراكيين على التصرف كما لو كانت ثورة البروليتاريا ستحدث ببساطة ضمن المسار الطبيعي للتاريخ، كي يظل التزامهم بالمبادئ الثورية رسميا إلى حد كبير. وعلى الرغم من صعوبة إلقاء اللوم على إنجلز فيما يتعلق بقرارات الآخرين، فإن عدم وضوح آرائه المتعلقة بالسببية النهائية في التفسير المادي للتاريخ تعارض مع ترابط آرائه فيما يتعلق بالسياسة الثورية؛ مما سهل على بعض الاشتراكيين اعتناق أفكار غامضة متعلقة بالحتمية التاريخية وجدلية التاريخ.
لقد اعتبرت إنجلز أول مؤرخ وعالم أنثروبولوجي ماركسي، وفي هذا الصدد أدى تأثيره إلى نتائج يمكن اعتبارها تقدمية في نطاق هذين المجالين. إن كتاباته التي تربط الأحداث السياسية بالطبقات الاجتماعية والهيكل الاقتصادي للمجتمع، كانت مختلفة عن توصياته وتحليلاته المنهجية؛ واحتوت أعماله التي تناولت التاريخ والأنثروبولوجيا على آراء وفرضيات شجعت على المزيد من البحث في الموضوعات محل اهتمامه، وفي موضوعات أخرى إضافية.
قلت أيضا إن إنجلز كان أول من التفت إلى الأعمال الأولى لماركس، بما فيها ملاحظاته، من أجل معرفة جوهر أعماله الأولى، لا سيما فرضياتها. كان هذا مثالا لاهتمام إنجلز الفكري الحقيقي بشرح كتابات ماركس على نحو كامل وغني بالمعلومات قدر الإمكان، وفي الوقت نفسه عكس هذا التطور عجز إنجلز عن التعامل بقدر مساو من التفصيل مع أعمال ماركس التالية التي تناولت الاقتصاد على نحو أوضح، ومع العرض المفصل الذي قدمت به. وإلى حد ما ترك إنجلز الاقتصاد لماركس، ولم يكشف التوثيق الذي أجريناه إذا ما كان ماركس قد ترك عن عمد أي شيء لإنجلز ليقوم به؛ فقد زعم في كثير من الأحيان على سبيل المثال أن العلوم الطبيعية والفلسفة والشئون العسكرية كانت مجال اختصاصه بموجب اتفاق ثنائي بينهما.
على الرغم من أن الأعمال الأولى لماركس تعد موضوعا مثيرا للدراسة، وعلى الرغم من توضيح تلك الأعمال لفرضيات ماركس في أعماله الناضجة، فربما سن إنجلز - دون أن يفطن - صيحة بين تلاميذ ماركس أدت إلى إهمال كتابيه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» و«رأس المال»، من أجل نقاشات تلقي النظر على فترة ماضية، وتسعى لتقييم معارك أربعينيات القرن التاسع عشر المتعلقة بالمثالية والمادية وهيجل وفيورباخ. ومن خلال دراسته لهذه النقاشات، قدم إنجلز شرحا آخر لأعمال ماركس، تمثل في مفهوم الوعي الزائف، كما وصفه في خطاب بتاريخ 14 يوليو 1893، بعثه إلى فرانس ميرينج الذي أصبح فيما بعد كاتب السيرة الذاتية لماركس؛ قال: «إن الأيديولوجية عملية يقوم بها عن وعي من يدعى المفكر، هذا صحيح، لكنه عن وعي زائف؛ فالقوى الدافعة الحقيقية التي تحفزه تظل غير معروفة بالنسبة إليه، وإلا فلن تكون عملية أيديولوجية ببساطة؛ ومن ثم فإنه يتخيل قوى دافعة زائفة أو مصطنعة» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). إن الجوانب الغامضة في التحليلات المبكرة لماركس عن الفلسفة المثالية والدين والقانون ودفاعه أحيانا عن الرأسمالية؛ عتمت عليها تماما فكرة الزيف التي ادعاها إنجلز، وكذلك مفهومه عن الوعي الذي لم يدققه جيدا. وبالرغم من ذلك، فقد قدم إنجلز خدمة كبيرة في تقديم المجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال» للنشر، مع القليل جدا من الشرح الواضح لمحتوى رائعة ماركس.
إن بعض التصنيفات النقدية والتحليلية التي طبقها المعلقون على ماركس تناسب إنجلز في واقع الأمر على نحو أفضل. فعند قراءة أعمال إنجلز، يزيد الشعور لدى القارئ بأنه ينظر إلى شخص كان محل تأثيرات متعاقبة، وتزداد الأدلة المقنعة بذلك إلى حد كبير، مقارنة بماركس. إنجلز هو الذي كتب أعمالا كاملة تأثر فيها بأفكار هيجل، ثم بأفكار الهيجليين الشباب في أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر؛ وهو الذي تبنى وجهة النظر الشيوعية سريعا وعلى نحو تام؛ وهو الذي اعتبر آراء أستاذه قوانين راسخة، ومثبتة لا يرقى إليها شك؛ وهو أيضا من تبنى وجهة نظر وضعية بشأن العلوم الطبيعية، وقدمها لماركس وداروين على حد سواء، في حين أنها لم تناسب أيا منهما في واقع الأمر.
طالما كانت لدى ماركس وجهة نظره النقدية الخاصة، فضلا عن أنه كان يكن الإعجاب لمختلف المرجعيات الذين درس آراءهم لكن بتحكم أكبر مقارنة بإنجلز؛ بيد أن هذا الأمر عتمت عليه إلى حد ما فكرة «التأثر»؛ فمنذ عام 1840 فصاعدا، لا يمكن أن يخطئ المرء أبدا ويظن أن أحد أعمال ماركس متأثرة بهيجل أو فيورباخ أو بالهيجليين الشباب أو بريكاردو أو بالوضعية، على الرغم من أنه قد يكون متفقا بالفعل مع أي من هؤلاء المؤلفين، أو أي من تلك المدارس الفكرية. ولا يمكن قول الأمر نفسه دائما عن إنجلز؛ فعلى الرغم من أنه قيل في بعض الأحيان أن ماركس انتقل من الفلسفة إلى الاقتصاد، ثم إلى الوضعية في العلوم الاجتماعية، فإن ذلك التحول يصف في واقع الأمر الحياة المهنية لإنجلز على نحو أكثر دقة؛ نظرا لأن ماركس كان مهتما إلى حد كبير ب «ما يسمى بالمصالح المادية» والاقتصاد السياسي من عام 1842 فصاعدا (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وبالرغم من ذلك، فقد كان إنجلز أكثر مهارة من ماركس في الروايات العيانية، وبيانات المبادئ القصيرة، والمقالات الجدلية والترويجية المبسطة.
عكس فكر إنجلز في المجمل صيحات معينة في فلسفة القرن التاسع عشر، كان من بينها بناء النظام باتباع أسلوب هيجل ودوهرينج، والمادية والحتمية للعلوم الطبيعية، والتطور المأخوذ عن داروين، والإلحاد الناشئ عن النقد التاريخي للدين، والوضعية التي ترى أن النظرية تنشأ عن الحقيقة. وعلى النقيض من ماركس الذي استخدم بعض هذه الأفكار بطريقة مبتكرة ونقدية على نحو مدهش، فإن إنجلز كان شخصا علم نفسه بنفسه، وكان يفتقر إلى حنكة المتشكك المثقف الذي يستطيع طرح أسئلة صعبة على نفسه، ثم يسعى على نحو مضن للإجابة عنها. لم تكن فلسفة إنجلز مجرد فلسفة متناثرة في أفكاره الجدلية المختلفة كما هو الحال مع ماركس، بل كانت في حد ذاتها كيانا يحتوي على كثير من الافتراضات غير المفحوصة، والمصطلحات غير المعرفة، والعلاقات غير المحددة.
لقد ساعدت جهود ماركس وإنجلز كي يصبح كل منهما مرجعية سياسية في ضمان إمكانية قراءة أعمالهما في المستقبل، بغض النظر عن فائدتها باعتبارها إسهامات في العلوم الاجتماعية. وفيما يتعلق بالفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والفنون والعلوم الأخرى، فإن ماركس هو الذي قدم الإسهامات الأكثر إبداعا، بينما إنجلز هو من قدم الإسهامات الأكثر تأثيرا، لا سيما في أعماله الأخيرة. وكانت مزاعم إنجلز الواسعة النطاق المتعلقة بالعلوم والعلاقات فيما بينها، المفهومة على نحو جيد، في النشاط السياسي، ضرورية للغاية في هذا الصدد، والأمر نفسه ينطبق على نسخته القوية من «الفكرة الأساسية» لصاحبها ماركس - وهي تصور يقول إن آراء ماركس مؤكدة، بداية من التي تدور حول قوانين الرأسمالية، مرورا بصيغه الأكثر عمومية المتعلقة بالطبيعة ككل وبتطور المجتمع، وصولا لعصر التصنيع وما بعده . ولم يكتف إنجلز بتلك الآراء الأكيدة المنسوبة إلى ماركس، بل أضاف إليها وجهة نظر أخرى خاصة به ، تقول إن السببية الاقتصادية كانت مماثلة على نحو غير محدد للسببية في العلوم الطبيعية. لقد كان إنجلز الشاب في واقع الأمر أقرب إلى فرضيات ماركس، بحسب اعتقاد ماركس؛ لأن أعماله التي تناولت علم الاجتماع، والتي بلغت ذروتها بتأليف كتاب «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا»، أظهرت الشخصية المحددة والمميزة للمجتمع الصناعي الحديث وأثرها على القانون والسياسة والحياة الثقافية، ولولا ماركس لظل هذا العمل غير مقروء بلا شك. إن كتابات إنجلز التاريخية، تقريبا من عام 1850 حتى عام 1870، تستحق قطاعا أكبر من الجمهور أكثر مما هو موجود في الوقت الحاضر. فتناوله لحرب الفلاحين في ألمانيا وللأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849، وكذلك مقالاته عن الحرب والتطورات العسكرية في أوروبا وأمريكا، قد قرأها على نحو عام المتحولون إلى الماركسية باعتبارها مثالا للتحليل التاريخي الماركسي، وهي كذلك بالفعل؛ غير أنه يجب دراسة وتقييم تلك الأعمال على نطاق أوسع.
لم أتطرق إلا إلى القليل من حياة إنجلز الشخصية. ومع أنه واضح مدى تأثيرها في أفكاره، فهناك طرق مختلفة للغاية لتفسير الحقائق المتعلقة بظروفه الاقتصادية والاجتماعية والجنسية، بقدر ما توافر لنا من أدلة. الواقع أنه جعل من الأختين ماري وليزي بيرنز المنتميتين للطبقة العاملة عشيقتين له الواحدة تلو الأخرى، وأسكنهما في منزل في مانشستر منفصل عن مسكنه الذي كان يقيم فيه كعزب منتم للطبقة الوسطى؛ والواقع أيضا أنه كان يشارك في صيد الثعالب بالاستعانة بكلاب الصيد المدربة وهو ممتط صهوة الجياد، وكان يحب الشمبانيا وخمر الكلاريت، وكان يتردد على الأحياء والمنتجعات الراقية، وأشار بعض المعلقين إلى وجود تعارض بين أسلوب حياته وموقفه السياسي باعتباره شيوعيا ثوريا. ورغم ذلك، فلو كان إنجلز قد تزوج واستقر في زواجه، ومارس قدرا يسيرا من التمارين الرياضية، وعاش حياة الفقر أو في ظروف معيشية متواضعة للغاية، ولم يعمل في وظيفة ذات أجر ثابت، وسكن في أحياء الطبقة المتوسطة الدنيا؛ فإني أشك أنه كان سيستطيع الهروب من هذا الانتقاد على نحو أكثر مما استطاع ماركس الإفلات منه (الذي عاش في نفس الظروف السابقة التي ذكرتها للتو). لو عاش إنجلز وماركس حياة أفراد طبقة البروليتاريا على نحو تام، فعلى الأرجح لم يكن سيتسنى لهما الوقت اللازم لتأليف أعمالهما الفكرية، وعلى أي حال كان النقاد المتأخرون سيهاجمونهما بسبب الكذب بشأن أصولهما العائدة للطبقة الوسطى، ويتهمونهما بالتصنع. إن أسلوب حياة أي ناقد راديكالي للأنظمة الاجتماعية المعاصرة سيبدو على الأرجح متناقضا مع نفسه.
هناك رواية متداولة تقول إن إنجلز كشف وهو على فراش الموت عام 1895 عن أن ماركس كان والد فريدريك ديموت ابن خادمة ماركس، والدليل الوحيد على هذا الكلام الذي قاله إنجلز على فراش الموت، يبدو أنه نسخة (غير معروفة المصدر) من خطاب من مديرة منزل إنجلز السابقة لويز فريبرجر، مكتوب عام 1898. وفي حين أن بعض المعلقين لا يرون سببا للتشكيك في مصداقية ودقة هذه الوثيقة وصدق ما يفترض أن إنجلز قد قاله، فقد أشار البعض الآخر إلى تناقضات داخلية في هذا الخطاب المزعوم، تثير الشك في كون النسخة أصلية. وبالرغم من ذلك، فإننا حتى إذا قبلنا النسخة بوصفها أصلية واعتبرنا تعليقات إنجلز دقيقة، فلا يزال يوجد مجال للشك؛ نظرا لأن ما كان يزعمه إنجلز لا يستند إلى دليل. علاوة على ذلك، لم يسفر البحث في حياة فريدريك ديموت وعلاقاته عن أي شيء متعلق بهوية والده، ولم تقدم الخطابات الموجودة في مجموعة مراسلات ماركس وإنجلز، في الفترة من ميلاد فريدريك ديموت وفيما بعد، أي شيء قاطع بشأن هذا الأمر، ولا يعرف عن فريدريك أي شيء آخر يربطه بماركس، بالرغم من ظهور تلك المزاعم غير المدعومة بدليل. إنني أذكر هذا الأمر لألفت انتباه القارئ إلى موضوع، على حد علمي، ليس له تأثير على أعمال إنجلز، لكنه يستحق بعض التأمل باعتباره سمة من سمات الدراسات الأكاديمية المتعلقة بإنجلز.
أعلن إنجلز في بعض المقالات والمراسلات عن آراء تتضمن تصنيفات عنصرية، وعلى الرغم من أنه من الممكن أن نوضح أنه كانت لديه آراء يمكن وصفها اليوم بأنها آراء عنصرية، فمن غير الدقيق كليا أن نزعم أن أعماله الفلسفية، أو تراثه الفكري في واقع الأمر وتأثيره، كانت تتسم من أي جانب بالعنصرية أو حتى كانت مؤيدة للعنصرية. ولو كانت لديه آراء يمكن أن نصفها بأنها عنصرية في الوقت الحاضر، فقد كان يحمل هذه الآراء بشكل منفصل عن نظرته الماركسية، تلك النظرة التي لا تظهر فيها التصنيفات العنصرية.
في رأيي، كانت العلاقة الفكرية بين ماركس وإنجلز علاقة بين الأستاذ والشارح، وباستثناء الفترة القصيرة التي شهدت عددا كبيرا من الأعمال المشتركة فيما بينهما في أربعينيات القرن التاسع عشر، يبدو أن كليهما عكف بشكل مستقل على أطروحاته النظرية الكبرى. وطلبات المساعدة وإعلانات الاكتشافات الموجودة في المراسلات المتبقية، لا تدعم المزاعم الشائعة القائلة بأن إنجلز وماركس كانا متفقين تماما في كل الموضوعات، وأنهما عملا باعتبارهما مؤلفين مشتركين، يعتبر كل منهما عمل الآخر عمله، ويرى كل منهما الآخر باعتباره شريكا في عمل مشترك؛ بيد أن الصورة التي ظهرت كانت لشخصين كان لكل منهما أعمال أنجزها على نحو مستقل ومنفصل، مع استثناءات قليلة؛ فبعض طلبات المساعدة والتأييد لم يكن عليها أي ردود، وبعضها لم ينل سوى ردود مقتضبة غير ملزمة. لم يستطع كلاهما تبني موقف التأليف المشترك والمسئولية المشتركة في اجتماعاتهما الخاصة، وكتبا تلك الخطابات التي ظلت باقية؛ وتلك الخطابات لا تدعم وجهة النظر القائلة إن ماركس وإنجلز عملا باعتبارهما شريكين فكريين مثاليين، إلا أنه في مراسلاتهما كانت موضوعات البحث التاريخي والأخبار السياسية والنميمة العائلية وشئون الحزب قصة مختلفة، ولدينا سجل عن تلك الموضوعات يحتوي على مراسلات مليئة بالحيوية بين شخصيتين منفصلتين لكنهما متحالفتان.
كان إنجلز نفسه أول من قدم وجهة النظر القائلة إنه هو وماركس كانا متفقين على كل الأساسيات - الأساسيات التي ظهرت فيما بعد في شروح إنجلز لأفكار ماركس - وإن التأليف المشترك «بيني وبين ماركس» يمكن استحضاره عند استعراض «التفسير المادي للتاريخ» وغيره من المعتقدات. وبعد وفاة ماركس، أوصى إنجلز بقراءة أعماله الخاصة مثل «الرد على دوهرينج» و «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» جنبا إلى جنب مع أعمال ماركس، على الرغم من أنه قال على نحو أكثر قوة في إحدى رسائل عام 1890، إنه على الرغم من أن كتاب «رأس المال» أشار إشارة عابرة إلى «المادية التاريخية»، «فلقد قدمت السرد الأكثر تفصيلا لها» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز).
ولم يتأخر المعلقون والمناصرون والنقاد في انتهاز المزايا الهائلة التي أتاحتها وجهة النظر تلك عن علاقة ماركس وإنجلز؛ فأسلوب ومحتوى أعمال ماركس كان أكثر صعوبة، لا سيما في الأعمال النقدية التي تناولت الاقتصاد السياسي، إذا ما قورنت بأعمال إنجلز التي يسهل قراءتها على نحو أكبر. وبالفعل كانت موضوعات إنجلز - الفلسفة والتاريخ - مألوفة وأقل غرابة من موضوع الاقتصاد السياسي. كان يوجد بعض النقاط في أعمال إنجلز يسهل تفنيدها مقارنة بحجج ماركس الأكثر تعقيدا؛ ولذلك تمسك النقاد المعادون للمفكرين بوجهة النظر القائلة إن ماركس وإنجلز يمكن قراءة أعمالهما على نحو تبادلي. على الجانب الآخر، تضمنت الحياة السياسية والأكاديمية في المؤسسات الرسمية في الاتحاد السوفييتي التزاما إيجابيا بالمادية الجدلية والتاريخية، يأخذ من أعمال إنجلز لكنه يتطلب أن تكون تلك التفسيرات حاملة بصمة ماركس، الشريك الأكبر؛ وبذلك أصبحت العلاقة بين ماركس وإنجلز مقدسة.
قرر بعض المعلقين الغرب - رغم التشكيك في وجود اختلافات مهمة بين ماركس وإنجلز أو الاعتراف بوجود تلك الاختلافات - تجاهل هذا الأمر، وهؤلاء يتناولون في الغالب ماركس منفردا. أما الآخرون فقد تقبلوا وجهة النظر التي تقول إن ماركس وإنجلز تحدث كل منهما نيابة عن الآخر، وبعد ذلك دافعوا عن شروح إنجلز لماركس على نحو مستقل عن أعمال ماركس، أو حاولوا في بعض الحالات إظهار أن أعمال ماركس متفقة مع أعمال إنجلز. ولم يحاول أي من الفريقين، على حد علمي، إثبات أن قوانين إنجلز السببية على القدر العالي نفسه من التعميم تماما مثل تصورات ماركس التي عبر عنها في مقدمة عام 1859 لكتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي».
ولعل أحدث وجهات النظر المؤثرة المتعلقة بالاختلافات الفكرية بين ماركس وإنجلز، تلك التي تزعم أن ماركس اتجه نحو الوضعية والحتمية الباديتين في شروح إنجلز، لكنه لم يفصح عن ذلك بوضوح. لو كان هذا صحيحا، لحظيت المكانة المرموقة الممنوحة لأعمال إنجلز من قبل الكثير من الماركسيين على الاستحسان الضمني من أستاذه ماركس، إلا أن وجهة النظر تلك ليست مدعومة جيدا بما قاله ماركس بالفعل خلال حياته المهنية. فقوانين الجدل لم تظهر في مقدمة عام 1859 لكتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، ولا في كتابه الشهير «الأجور والسعر والربح»، ولا في رائعته «رأس المال»، ولا في غيرها من الأعمال ذات الصلة، ولا في عمله الأخير الذي كان نظريا وأكاديميا إلى حد كبير؛ «ملاحظات حول أدولف فاجنر» (وهو عالم أكاديمي في مجال الاقتصاد السياسي).
أما الدليل الذي يساق عادة لدعم وجهة النظر القائلة إن ماركس دعم نظريتي «المادية» التاريخية والجدلية، اللتين قدمهما إنجلز؛ فهو «الزعم» القائل بأن ماركس وافق على كتاب «الرد على دوهرينج»، ووافق من حيث المبدأ على مخطوطة كتاب «جدل الطبيعة». وبالرغم من ذلك، وكما رأينا، فإن إنجلز لم يروج لفكرة مساعدة ماركس له في جمع المادة اللازمة للفصل الذي تناول الاقتصاد السياسي، إلا في مقدمة عام 1885 للطبعة الثانية من كتاب «الرد على دوهرينج» (التي كتبها بعد وفاة ماركس)، وبعدها فقط زعم إنجلز أنه «قرأ المخطوطة بالكامل» أمام ماركس «قبل طبعها». وليس لدينا أي أدلة أخرى لدعم هذه الرواية. علاوة على ذلك، كتب إنجلز أيضا في مقدمة عام 1885 أن «عرضه للنظرة العالمية التي أحارب من أجلها أنا وماركس» ما كان ليظهر لولا «معرفة» ماركس. وقال إنجلز إن هذا الأمر كان «مفهوما» بينهما؛ ولذلك أعطى القارئ انطباعا بأن ماركس كان موافقا على عمله باعتباره تعبيرا عن «نظرتهما»، وفي الوقت نفسه تجنب التصريح بأن ماركس وافق صراحة على مثل هذا الأمر (الرد على دوهرينج). ولم يكن هناك أي ردود أو مراجعات مدونة من قبل ماركس حول جوهر عمل إنجلز في كتابه «الرد على دوهرينج». وفي واقع الأمر يبدو أن إنجلز لم يسع لوضع اسم ماركس على الكتاب أو لكسب تأييده والترويج لهذا التأييد.
وبالرغم من ذلك، لو كان ماركس على خلاف مع إنجلز حول محتوى كتاب «الرد على دوهرينج »، فلماذا لم يتبرأ منه بنفسه؟ أو هل من الممكن أن يكون لم يقرأه (أو لم يقرأه عليه إنجلز) قط في المقام الأول؟
لقد نشر كتاب «الرد على دوهرينج» عدة مرات فيما بين عامي 1877 و1878، حتى قبل الانتشار الواسع النطاق للنسخة المختصرة من كتاب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية»؛ وهذا يعني أن ماركس لا يمكن أن يكون قد فاته هذا الكتاب. الواقع أن إنجلز قد أرسل له نسخة من الكتاب عليها إهداء له. وحتى لو كانت رواية إنجلز التي تزعم قراءة المخطوطة على ماركس غير حقيقية، أو أن ماركس لم يكن منصتا، فسيكون منافيا للمنطق تخيل أنه تجاهل محتوى العمل تماما. ربما شعر من منطلق صداقتهما الطويلة، ودورهما باعتبارهما اشتراكيين بارزين، والفائدة التي تعود عليه من الموارد المالية لإنجلز؛ أنه من السهل التزام الصمت وعدم التدخل في عمل إنجلز، حتى لو كان يتعارض مع عمله. وعلى أي حال، فقد نشر كتاب «الرد على دوهرينج» وهو يحمل اسم إنجلز فقط.
المثير للدهشة أن إنجلز لم يزعم أنه أطلع ماركس على كتاب «جدل الطبيعة»، ذلك العمل الذي أوقف العمل فيه من أجل تأليف كتاب «الرد على دوهرينج»؛ وفي هذا العمل كانت أفكاره عن طبيعة الجدل قد تطورت وصيغت على نحو واضح، وهذا الأمر لم يكن كذلك عند نشر الطبعة الأولى من كتاب «الرد على دوهرينج». ويبدو أن إنجلز كان ماكرا على نحو كاف جعله يتجنب استثارة الخلافات مع ماركس، عندما كان لا يزال على قيد الحياة، ويبدو أيضا أن ماركس كان ماكرا مثله عندما لم يهاجم إنجلز بسبب تفاصيل عمله.
الواقع أنه كان من الممكن أن يتبنى ماركس وجهة النظر القائلة بأن الطبعة الأولى من كتاب «الرد على دوهرينج» سيكون نفعها أكثر من ضررها داخل الحركة الاشتراكية؛ لأنه كان يكره آراء دوهرينج، ولأن إنجلز انتقدها انتقادا لاذعا. كما أن ماركس رشح الكتاب للآخرين، وأشار ببساطة شديدة إلى «التطورات الإيجابية» لإنجلز، وإلى الأهمية السياسية للكتاب في تقديم «تقييم صحيح للاشتراكية الألمانية»؛ وعلى هذا النحو لم يلزم نفسه بأي نتائج فلسفية أو منهجية للنص أو بوجهة النظر التي تروج لإمكانية قراءة الكتاب باعتباره بديلا عن كتاب «رأس المال»، تلك الفكرة التي روج لها إنجلز سرا (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلدان الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون). وكذلك لم يكن ماركس ملتزما بشروح إنجلز التالية حول كتاب «الرد على دوهرينج»، أو بما زعمه إنجلز لاحقا عن العلاقة بين أعمالهما المستقلة.
وفي دعم إنجلز وماركس المتسق لاستراتيجية ثورة البروليتاريا، كانا متفقين إلى حد كبير، على الرغم من أنهما لم ينكرا أن الإصلاح قد يكون مناسبا ويحقق نجاحات. ربما رأى كلاهما وجود احتمال كبير لفشل التهدئة والتسوية في السياسة؛ ومن ثم لم يريا أي فائدة في مثل هذا الإصلاح. بالإضافة إلى ذلك، ترك إنجلز، كما هو الحال مع ماركس، القليل من الكتابات السياسية المهمة المتعلقة بتنظيم الحزب الاشتراكي واتخاذ القرار والقيادة، على النقيض من بعض خلفائه في الماركسية الأوروبية، الذين كان من بينهم لينين وتروتسكي وروزا لوكسمبورج. وعلى الرغم من أن آراء إنجلز حول الطبيعة المطلقة للواقع كان لها تأثير مدمر على الاشتراكية الثورية، فإن هذا الأمر لم يثبت، وعلى الأرجح لا يمكن تقييمه بطريقة أو بأخرى؛ لأن مصير الاشتراكية في أوائل القرن العشرين لا يمكن أن يكون نتيجة لأمر فكري صرف.
شكل 7-2: فريدريك إنجلز في عام 1895 (عام وفاته).
لقد ترك لنا إنجلز علما اتسم بالشمولية الغامضة، والحتمية غير الواضحة، والمادية العتيقة الطراز؛ في حين ترك لنا ماركس شيئا آخر مختلفا وأكثر تعقيدا، بالرغم من عدم وجود اتفاق كبير حتى وقتنا الحالي على أهمية عمله الخاص بنقد الاقتصاد السياسي بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة. وبقدر ما أدى اهتمام إنجلز بفرضيات آراء ماركس إلى إعادة قراءة أعمالهما المبكرة، كان تأثير كتابات إنجلز إيجابيا، بالرغم من أن الحاجة إلى فصل شروحه عن أعمال ماركس لا تزال ذات أهمية قصوى. رغم هذا فإن أعمال ماركس قامت على تلك الفرضيات، والتحدي الذي لا يزال قائما اليوم هو المادة الموجودة في كتاب «رأس المال»، التي حررها إنجلز لكنه لم يستفض في شرحها.
في حديثي عن فكر إنجلز حاولت أن أوضح أن الخلافات حول محتوى أعماله وعلاقته بأعمال ماركس ليست مجرد مجادلات متعلقة بالنصوص والسيرة الفكرية، لكنها متعلقة بالاختلاف الكبير في أسلوب التعامل مع العلوم الاجتماعية، وربما مع السياسة نفسها؛ ذلك الاختلاف الذي نجده في كتابات كل منهما وفي حياتهما المهنية. لقد درست محتوى آراء إنجلز وأوضحت كيف انبثقت تلك الآراء في بعض الحالات من شروحه لأعمال ماركس، كما أوضحت أيضا علاقة شروح إنجلز بأعمال ماركس نفسها، وكذلك علاقتها بما قاله ماركس في واقع الأمر عن جهود إنجلز؛ علاوة على ذلك فقد ناقشت شروحا إضافية لآراء إنجلز وبينت أثر ذلك على شروح المتأخرين لأعمال ماركس على صعيد السياسة الماركسية، وعلى صعيد حياتنا الفكرية، لا سيما في مجال العلوم الاجتماعية. تنطوي العلوم الاجتماعية على المعرفة المتاحة لدينا عن المجتمع، وتعد السياسة وسيلتنا لتغيير ذلك المجتمع. والمعارك النظرية والعملية المتعلقة بإنجلز - آراؤه وأعماله وعلاقته بماركس - أبعد ما تكون عن نقطة النهاية.
قراءات إضافية
أعمال لإنجلز
The
Collected Works of
Karl Marx and Frederick Engels present Engels’s works and letters in English translation (or in the original English) in approximately 50 volumes. The first volume appeared in 1975, and the publishers are Progress of Moscow, Lawrence & Wishart of London, and International of New York, referred to below as the Progress consortium. All the major works of Engels (and the joint works with Marx) mentioned in the text are available in Progress editions, and
The Condition of the Working Class in England
is also translated and edited by W. O. Henderson and W. H. Chaloner (2nd edn., Blackwell, Oxford, 1971; Stanford University Press, 1968).
The
Selected Works
of Karl Marx and Frederick Engels in one volume was first published in 1968 and has been reprinted by the Progress consortium; of Engels’s major works it includes
Socialism: Utopian and Scientific and The Origin of the Family, Private Property and the State, with Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy . The
Selected Works
in two volumes from the same publishers includes more of Engels’s shorter writings, such as the 1859 review 'Karl Marx: A Contribution to the Critique of Political Economy’ and 'On Authority’.
Engels: Selected Writings , edited by W. O. Henderson (Penguin, Harmondsworth, and Baltimore, Md, 1967) contains selections from
The Condition of the Working Class in England
and the full text of the 'Outlines of a Critique of
military writings.
Engels as Military Critic , edited by W. O. Henderson and W. H. Chaloner (Manchester University Press, 1959; Greenwood Press, Westport, Conn., 1976), presents a selection of lesser-known articles of the 1860s.
German Revolutions , edited by Leonard Krieger (University of Chicago Press, 1968), includes
The Peasant War in Germany and Germany: Revolution and Counter-Revolution .
أعمال عنه
I am indebted to the factual material collected and very well documented in W. O. Henderson’s
The Life of Friedrich Engels
in two volumes (Frank Cass, London, and
as
Friedrich Engels
in an abridged English translation by Gilbert and Helen Highet, edited by R. H. S. Crossman (Chapman & Hall, London, 1936; H. Fertig, New York, 1969). David McLellan’s Modern Masters
Engels (Fontana/Collins, Glasgow, 1977; Penguin, Baltimore, Md., 1978) presents a brief account of Engels’s life and works.
Engels’s major works are discussed in Fritz Nova’s
Friedrich Engels: His Contributions to Political Theory (Vision Press, London, 1968; Philosophical Library, New York, 1967).
Engels, Manchester and the Working Class
by Steven Marcus (Random House, New York, 1974) presents an analysis of the work from a literary point of view. Engels’s early works on British politics feature in Michael Levin,
The Condition of England Question: Carlyle, Mill, Engels (Macmillan, London, and St Martin’s, New York, 1998). His late work
The Origin of the Family, Private Property and the State
has become a classic of Marxistfeminism and gender studies; see Janet Sayers, Mary Ann Evans, Naneke Redclift (eds.),
Engels Revisited: New Feminist Essays (Tavistock, London, 1987), and two articles by Terrell Carver, 'Engels’s Feminism’,
History of Political Thought , 6/3 (1985), 479-89, and 'Theorizing Men in Engels’s
Origin of the Family ’,
Masculinities , 2/1 (1994), 67-77. There are two recent edited volumes offering critical discussions of a wide range of topics that Engels was concerned with: Christopher J. Arthur (ed.),
Engels Today: A Centenary Appreciation (Macmillan, Basingstoke, and St Martin’s, New York, 1996), and Manfred B. Steger and Terrell Carver (eds),
Engels after Marx (Pennsylvania State University Press, University Park, Pa., 1999). The Marx-Engels relationship is considered in Norman Levine,
The Tragic Deception: Marx contra Engels (Clio Books, Oxford, and Santa Barbara, Calif., 1975). I have also published
Marx and Engels: The Intellectual Relationship (Wheatsheaf Books, Brighton, and Bloomington, Ind., Indiana University Press, 1983), and a biographical study
Friedrich Engels: His Life and Thought (Macmillan, Basingstoke, 1989, and St Martin’s, New York, 1990).
The relationship of Engels to Marxism is discussed in George Lichtheim’s
Marxism: An Historical and Critical Study (2nd edn., Routledge & Kegan Paul, 1968; Praeger, 1965), and in Richard N. Hunt,
The Political Ideas of Marx and Engels , vol. 1,
Marxism and Totalitarian Democracy (Macmillan, London, 1975; University of
Kolakowski,
Main Currents of Marxism , translated by P. S. Falla, vol. 1 (Oxford University Press, Oxford and New York, 1978); David McLellan,
Marxism after Marx (Macmillan, London, 1979; Harper & Row, New York, 1980); and Alvin W. Gouldner,
The Two Marxisms (Macmillan, London; Seabury Press, New York, 1980). Two recent studies on this theme are S. H. Rigby,
Engels and the Formation of Marxism: History, Dialectics and Revolution (Manchester University Press, Manchester and New York, 1992), and J. D. Hunley,
The Life and Thought of Friedrich Engels: A Reinterpretation (Yale University Press,New Haven, and London, 1991).
Four articles of interest in which Engels’s work is discussed are: Terrell Carver, 'Marx, Engels, and Dialectics’,
, 28/3 (September 1980), 353-63; Gareth Stedman Jones, 'Engels and the End of Classical German Philosophy’,
New Left Review , 79 (May-June 1973), 17-36; the same author’s 'Engels and the Genesis of Marxism’,
New Left Review , 106 (November-December 1977), 79-104; and Paul Thomas, 'Marx and Science’,
Studies , 24/1 (March 1976), 1-23. The last-named article has been particularly helpful to me in working out my views on Engels.
There is now an excellent Marx-Engels bibliography in English: Cecil L. Eubanks,
Karl Marx and Friedrich Engels: An Analytical Bibliography (Garland Press, London and New York, 1977).
مصادر الصور
(1-2) © Ullsteinbild. (2-2) © Ullsteinbild. (1-4) © Ullsteinbild. (1-5) © AKG London. (1-7) © Ullsteinbild. (2-7) © Bettmann/Corbis.
نامعلوم صفحہ