بحيث إنها تفصل وتسم المرحلة «الحداثية» عن المرحلة ما قبل «الحداثية». يقول جان بودريار
Jean Baudrillard : «ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، أو مفهوما سياسيا، أو مفهوما تاريخيا ... وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية. فأمام التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات، تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة، مشعة عالميا - انطلاقا من الغرب. ومع ذلك تظل الحداثة موضوعا غامضا يتضمن في دلالته، إجمالا، الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله، وإلى تبدل في طرق التفكير.» هذا التطور والتبدل يجعل من الحداثة - في نظر بودريار - مفهوما غاية في «الالتباس»، يصعب معه الحديث عن قوانين ثابتة لها «بل فقط معالم».
6
هذه المعالم، على الرغم من تعرضها لتصدعات عديدة على يد بعض الفلاسفة، ظلت هي الركائز التي يقوم عليها المشروع الفلسفي الغربي الحديث. لقد ذهب فوكو
M. Foucault
إلى أن الفكر الأوروبي الحديث قد مر بثلاثة عصور متتابعة تتعاقب على أساس من «انقطاعات إبستمولوجية» تنتقل بها المعرفة من حقبة إلى أخرى؛ أول هذه العصور هو «عصر النهضة» الذي يستمر من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر. وثانيها هو «العصر الكلاسيكي» الذي يؤرخ فوكو بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر؛ وثالثها هو «العصر الحديث» الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم «الإنسان» من حيث هو «ذات تاريخية» وذلك - وفقا لفوكو - هو العصر الذي نشهد نهايته.
7
هذه المراحل الثلاث التي مر بها الفكر الغربي يضمها مصطلح «الحداثة»، وتتسم جميعها بمعالم حددت موقف الإنسان من المعرفة، والعلم، والوجود:
تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التأملية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية؛ أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الرياضي؛ أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية، التي أصبحت نموذج كل معرفة. ومن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهج أهمية قصوى. فالمنهج هو تنظيم وتحقيق لعملية المعرفة، وطريق يؤدي إلى تحقيق التقدم، ويقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء. والعقل من المنظور الحداثي يتسم بالأداتية؛ أي أنه وسيلة لتقنين العالم الطبيعي، ومن ثم السيطرة عليه. ومبدأ العقل
principe de raison
نامعلوم صفحہ