تمهيد
1 - ما بعد الحداثة
2 - القيم ما بعد الحداثية
3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية
4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)
ملحق ختامي
تمهيد
1 - ما بعد الحداثة
2 - القيم ما بعد الحداثية
3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية
نامعلوم صفحہ
4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)
ملحق ختامي
دروب ما بعد الحداثة
دروب ما بعد الحداثة
تأليف
بدر الدين مصطفى
تمهيد
لم يكن مفهوم ما بعد الحداثة في بداية ظهوره يحيل إلى موقف نظري محدد أو نسق قيمي ما يكشف عن وعي بتحولات جذرية مر بها المجتمع الغربي، بقدر ما كان يصف بعض التغيرات الفنية التي تمثلت في معمار فانتيري وجونسون، وموسيقى كايج وفن وارهول ورستشبرج، وروايات بنشن وبالارد، وأفلام مثل «المخمل الأزرق»
Blue Velvet (1986م) وميتركس
Matrix (1999م).
نامعلوم صفحہ
لكن هذه التحولات سرعان ما أخذت تبحث عما يمكن أن يمثل شكلها الواعي، ليوحدها نظريا، ويؤسسها فلسفيا. وقد استطاعت أن تجد في فلسفة كل من نيتشه وهيدجر ما يمكن أن يكون تأصيلا لحركتها. إلا أن منظري ما بعد الحداثة، على اختلاف مشاربهم، ظلوا متمسكين بالتمييز بين صيغتين متباينتين لما بعد الحداثة؛ صيغة وصفوها بالصيغة «القوية» اعتبروا أنها تمثلت في القراءة ما بعد البنيوية لنيتشه، وصيغة نعتت ب «الرخوة» اعتبروا أنها انحدرت من القراءة التأويلية لهيدجر. وقد اعتبروا أن الصيغة الأولى صيغة تفكيكية تركز على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما تركز الثانية على إعادة التركيب وعلى محاولة بناء نسق بديل للقيم. وعلى الرغم من هذا التباين «المفتعل»، فإنه يمكننا أن نرد أسس ما بعد الحداثة إلى نظرة إلى الزمان ومفهوم عن تولد المعنى نجد أسسه في جينيالوجيا نيتشه ونزعته المنظورية التي تبدي نفورا كبيرا من كل نزعة شمولية، وترفض إمكانية استناد المعرفة إلى أية «حكاية كبرى».
من هنا كان النقد اللاذع الذي تعرض له مفهوم التمثيل عند هؤلاء، ورفضهم القوي أن تتمكن نظرية بعينها من عكس غنى الواقع، وعدم قبولهم بأن يكون وراء المعرفة ذات إنسانية عقلانية موحدة، ووراء المجتمع قوة موحدة وتماسك يربط أجزاءه «فلا عجب إذا أن تحل مفهومات التعددية والاختلاف والانفصال والتشظي عند هؤلاء محل مفهومات العلية والوحدة والاتصال.»
1
وقد مثلت هذه المفاهيم انقلابا على الفكر الحداثي الشمولي وتوصيفا لواقع متشابك لا تحكمه قواعد منطقية، بل تحكمه الصيرورة، وأحيانا الفوضى الخلاقة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز
G. Delueze .
نحاول عبر هذا الكتاب أن نعرض لأهم الأسس الفكرية التي تأسس عليها المشروع الغربي ما بعد الحداثي، فنرصد في الفصل الأول الظروف والتحولات المجتمعية التي أدت إلى ظهور إطار فكري مختلف عن ذلك الذي كان سائدا في مرحلة الحداثة، التي يؤرخ لها بالفترة الممتدة من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين. كما نسعى في الفصل الثاني إلى التأصيل النظري لما بات معروفا باسم حركة ما بعد الحداثة؛ وذلك عبر تتبع مصادرها الفكرية ومبادئها التي انطلقت منها. وفي الفصل الثالث، الذي يحمل عنوان التجربة الجمالية ما بعد الحداثية، نرصد تجليات ما بعد الحداثة في الفنون المختلفة. ثم ننتقي في الفصل الرابع أربعة نماذج مختارة من فلاسفة ما بعد الحداثة، كان لهم التأثير الأكبر في بلورة أفكار تلك الحركة؛ رولان بارت، وميشال فوكو، وجيل دولوز، وجان بودريار. ثم نختم هذا الكتاب بترجمة لنص من النصوص المهمة التي قدمت رصدا وشرحا متميزا لتلك الحركة، وهو نص للمفكر المصري الأمريكي إيهاب حسن بعنوان سؤال ما بعد الحداثة.
الفصل الأول
ما بعد الحداثة
الدوافع والمنطلقات
تحولت ما بعد الحداثة
نامعلوم صفحہ
منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى مفهوم إشكالي حاضر باستمرار، وإلى ساحة صراع للأفكار المتناقضة والقوى المختلفة لا يمكن بحال تجاهلها. وبحسب ناشري مجلة «بريسي
»، فإن «ثقافة المجتمع الرأسمالي المتقدم قد خضعت لنقلة حاسمة من حيث بنية المشاعر فيها.»
1
وهذه النقلة لزمتها بطبيعة الحال نقلة أخرى على الصعيد الثقافي يلخصها هويسنز
Hyssens
قائلا: «إن ما يظهر الآن [على الساحة الثقافية] إنما هو في الحقيقة نتاج تحول ثقافي تراكم ببطء في المجتمعات الغربية.»
2
وهو تحول نجح مصطلح «ما بعد الحداثة» في إضفاء صيغة مفهومية عليه. هذه التحولات ومدى عمقها هما بالتأكيد موضع نقاش، إلا أن التحولات نفسها هي أمر واقع فعلا، يشهد عليها تغير الوقائع والمناهج والنظريات. وكما يقول جيمسون
F. Jameson «ما بعد الحداثة ليست مجرد كلمة أخرى لوصف أسلوب معين، وإنما - على الأقل - مفهوم له وظيفة زمنية يربط بين ظهور نوع جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد.»
3
نامعلوم صفحہ
سنحاول في هذا الفصل تتبع الظروف والعوامل التي أدت إلى ظهور نمط فكري جديد، له خصائص مميزة، أدت إلى وصفه ب «الفكر ما بعد الحداثي». لهذا سنقف عند دوافع ومنطلقات تلك الحركة، محاولين تحديد المقصود بما بعد الحداثة وما بعد التحديث والشرط ما بعد الحديث ... إلخ.
Demolition of Pruitt-Igoe (1972). (1) ما بعد الحداثة: النشأة والمصطلح
بدأت إرهاصات ثقافة ما بعد الحداثة في العالم الغربي كانعكاس مجتمعي من نقطة الوعي بمشكلات الحداثة، وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. والحال أننا لا بد أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مبررات ولادتها في أرضها الأم بوصفها انعكاسا لهذه الشروط الجديدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) في المجتمعات الغربية، وهو ما يكرس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدا. ومن ثم لا ينبغي بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التي لم تمر بتحولات مشابهة لهذا النمط من الفكر الجديد. يجب إذا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجة طبيعية لما مر به الغرب من تناقضات وانقسامات في الأيديولوجيات الحداثية، لا سيما في علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم الاستغلال والاستعمار، وغياب المساواة، وسيطرة النخبة ... إلخ. ومن ثم من الطبيعي أن تنشأ، كنوع من ردة الفعل، اتجاهات مضادة، تنادي بسقوط الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، ونهاية الميتافيزيقا، وتطالب بالخروج عن كل قياس معياري، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردي، وربما تشيع أيضا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية، ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير، وخطاب الحداثة المتمثل في الإيمان المطلق بالعقلانية الشمولية.
4
وعلى الرغم من خصوصية الظاهرة ما بعد الحداثية، انطلاقا من أن كل مجتمع يفرز شكله وقيمه الأكثر ملائمة له، عبر احتياجاته وشروط وجوده وتحولاته الراهنة ؛ فإن هذه الخصوصية تتلاشى أمام سطوة ونفوذ «وسائل الإعلام» وثورة الاتصالات، بالإضافة إلى التأثير الذي تمارسه الفنون المختلفة، لا سيما السينما، بحيث بات التأثر بمظاهر ونتاجات «ثقافة ما بعد الحداثة» من قبل المجتمعات «ما قبل الحداثية» أمرا واضحا ومستشريا على كافة المستويات. هذا فضلا عن أن المقارنة واردة أصلا بين قيم المجتمع «ما بعد الحداثي» وقيم المجتمعات «ما قبل الحداثية»؛ يقول جياني فاتيمو
G. Vattimo : «إن الثقافة الغربية مع نهاية الحداثة يسودها خطاب ميتافيزيقي (خطاب التكنولوجيا)، وهي بذلك ليست أفضل من الثقافات ما قبل الحداثية التي يسودها خطاب الأسطورة، وهي بهذا المعنى تهمش الإنسان وتقهره تماما كما تفعل مجتمعات الجنوب بإنسانها المهمش.»
5
على كل، فإن مراجعة سبل التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوع ربما نوقش كثيرا في الغرب، أمر ضروري لفهم كيف يشكل توجه بعينه إلى المستقبل مواقفنا واختياراتنا في المرحلة التاريخية الحالية. وربما هذا الفهم يتطلب أيضا التوقف عند مفاهيم التحديث وما يخص التقدم والتطور التاريخي من أفكار. وهذا ما سنحاول أن نعرض له تفصيلا. (1-1) هل استنفدت الحداثة شروط وجودها؟
المتأمل في تاريخ الفكر الغربي منذ بدايات عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين يلاحظ أن هناك معالم ثابتة حكمت تطور هذا الفكر، وظلت هي المحرك والدافع لمعظم أشكاله. هذه المعالم اعتبرها البعض «شرط الحداثة»
La condition modernisme
نامعلوم صفحہ
بحيث إنها تفصل وتسم المرحلة «الحداثية» عن المرحلة ما قبل «الحداثية». يقول جان بودريار
Jean Baudrillard : «ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، أو مفهوما سياسيا، أو مفهوما تاريخيا ... وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية. فأمام التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات، تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة، مشعة عالميا - انطلاقا من الغرب. ومع ذلك تظل الحداثة موضوعا غامضا يتضمن في دلالته، إجمالا، الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله، وإلى تبدل في طرق التفكير.» هذا التطور والتبدل يجعل من الحداثة - في نظر بودريار - مفهوما غاية في «الالتباس»، يصعب معه الحديث عن قوانين ثابتة لها «بل فقط معالم».
6
هذه المعالم، على الرغم من تعرضها لتصدعات عديدة على يد بعض الفلاسفة، ظلت هي الركائز التي يقوم عليها المشروع الفلسفي الغربي الحديث. لقد ذهب فوكو
M. Foucault
إلى أن الفكر الأوروبي الحديث قد مر بثلاثة عصور متتابعة تتعاقب على أساس من «انقطاعات إبستمولوجية» تنتقل بها المعرفة من حقبة إلى أخرى؛ أول هذه العصور هو «عصر النهضة» الذي يستمر من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر. وثانيها هو «العصر الكلاسيكي» الذي يؤرخ فوكو بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر؛ وثالثها هو «العصر الحديث» الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم «الإنسان» من حيث هو «ذات تاريخية» وذلك - وفقا لفوكو - هو العصر الذي نشهد نهايته.
7
هذه المراحل الثلاث التي مر بها الفكر الغربي يضمها مصطلح «الحداثة»، وتتسم جميعها بمعالم حددت موقف الإنسان من المعرفة، والعلم، والوجود:
تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التأملية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية؛ أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الرياضي؛ أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية، التي أصبحت نموذج كل معرفة. ومن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهج أهمية قصوى. فالمنهج هو تنظيم وتحقيق لعملية المعرفة، وطريق يؤدي إلى تحقيق التقدم، ويقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء. والعقل من المنظور الحداثي يتسم بالأداتية؛ أي أنه وسيلة لتقنين العالم الطبيعي، ومن ثم السيطرة عليه. ومبدأ العقل
principe de raison
نامعلوم صفحہ
هو مبدأ السببية
Causalité ؛ قانون صارم تخضع له كل ظواهر الطبيعة.
لقد جلبت السيطرة العلمية على الطبيعة الوعد بالتخلص من الندرة والحاجة، وتعسف الطبيعة، إلى الأبد. وجلب التخطيط العقلاني للتنظيم الاجتماعي ولأنماط التفكير، الوعد بالتحرر من لا عقلانية الخرافة، والدين، والأسطورة، ومن الاستخدام المتعسف للسلطة، والتحرر كذلك من تسلط الجانب اللاعقلاني داخل طبيعتنا البشرية. عبر مشروع كهذا فقط، يمكن أن تتحقق الخصائص الكلية والثابتة والدائمة لكل البشر باعتبارهم بشرا.
وابتداء من القرن ال 18 - الذي عرف بعصر التنوير - سيبدأ فصل جديد من الإيمان المطلق بالعقل وإطلاق طاقاته وقدراته في شتى ميادين المعرفة. إنه عقد انتصار قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والانفتاح. يقول كانط مجيبا على سؤال «ما التنوير؟»: «إن معنى التنوير خروج الإنسان من تبعيته؛ أي أن يملك الإنسان شجاعة استخدام عقله بنفسه.»
8
لقد قبل فكر التنوير بقوة فكرة التقدم، وذلك الإعراض عن التاريخ والتقاليد التي تعتنقها الحداثة. وقد كان ذلك الفكر بمثابة حركة علمانية ابتغت تحرير المعرفة من الأوهام والمقدسات وتنظيم المجتمع في سبيل تحرير البشر من القيود؛ وفي هذا يقول كوندرسيه
Condorcet
خلال آلام مخاض الثورة الفرنسية: «القانون الجيد لا بد أن يكون جيدا لكل إنسان، تماما كما أن القضية الصحيحة هي صحيحة بالنسبة للجميع.» لقد كانت تلك الرؤية متفائلة بصورة مدهشة، وكما لاحظ هابرماس
Habermas
فإن مفكرين، مثل كوندرسيه، كانوا «مأخوذين بتوقع مفرط مؤداه أن الفنون والعلوم ستجلب، ليس فقط السيطرة على قوى الطبيعة، وإنما كذلك فهم العالم والذات، والتقدم الأخلاقي، والعدالة في المؤسسات، بل والسعادة لبني البشر.» لذا يعرف هابرماس الحداثة بأنها محاولة «لإنشاء العلم الموضوعي، وتأسيس الأخلاقيات العامة وقواعد القانون والفن المستقل، كل وفق منطقه الداخلي الخاص.» في نفس الوقت أرادت الحداثة أن «تطلق الإمكانيات المعرفية لكل هذه الميادين من أشكالها الخفية.»
نامعلوم صفحہ
9
كان مشروع الحداثة الغربي مشروعا طموحا، ينادي بحقوق إنسان عالمية، وقيم العقل ... العقل أعدل الأشياء قسمة بين الجميع، قيمه ثابتة لا تتغير، كلية شمولية، صارمة تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء القرن العشرون ليقلب كل قيم عصر التنوير رأسا على عقب. وعبر الحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي والمد الاستعماري الغربي، حكم على مشروع التنوير أن يتحول إلى عكس ما يعلنه، وأن يحيل مطلب التحرر الإنساني إلى نظام اضطهاد عالمي باسم تحرير البشر. تلك كانت الأطروحة الهامة التي تقدم بها هوركهايمر
M. Horkheimer
وأدورنو
T. Adorno
في عملهما «ديالكتيك التنوير»
Dialektik der Aufklärung
الصادر عام 1947م. لقد حاولا البرهنة، وفي الذهن تجربة ألمانيا هتلر، وروسيا ستالين؛ على أن المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد. والتلهف إلى السيطرة على الطبيعة جلب معه السيطرة على البشر، ولم يكن يمكن أن يوصل ذلك في النهاية «إلا إلى كابوس قهر للذات».
10
والسؤال الآن هو: هل كان مشروع التنوير، أم لم يكن، محكوما منذ البدء بالإفضاء إلى مثل هذا العالم الكافكاوي؟ وهل كان، أم لم يكن، سيقود عاجلا أم آجلا، إلى هذا الخراب وتلك الحروب التي لحقت بالبشرية؟ وهل تبقى فيه ما يمكن استلهامه والبناء عليه؟
نامعلوم صفحہ
انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدر غير قليل من التناقضات. وفي الوقت نفسه تبدو أهدافه نفسها عصية على التحقيق، على نحو دقيق، إلا عبر مشروع «طوباوي» مثالي، وقد بدا هذا المشروع قائما على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما مثل للبعض الآخر نموذجا للتحرر. لكن السؤال الذي طرحه هذا المشروع، والذي لم يكن هناك مفر من مواجهته حتى لو تم هذا بعد حين، هو: من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا؟ وكيف تحول ذلك العقل إلى سلطة ملموسة؟
مع مطلع القرن العشرين كان قد تبلور في هذا النقاش موقفان نقديان رئيسان، رغم كونهما متعارضين:
الأول: عند ماكس فيبر
M. Weber
الذي يقول: «بعد أن زالت الأقنعة وتبدت الحقيقة، تبين أن تراث التنوير إنما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحددة. هذا الشكل من العقلانية حفر عميقا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، والقوانين ... وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الأداتية إلى تحقيق ملموس للحرية الشاملة، وإنما إلى إيجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فرار منه.»
11
إذا أمكن قراءة تحذير فيبر - يقول هارفي
12 - كما لو كان آية ننقشها على شاهد قبر عقل التنوير؛ فإن هجوم نيتشه المبكر على مقدماته الأساسية إنما كان إحدى غضبات آلهة الإغريق: «تحت سطح الحياة الحديثة المغطى بالمعرفة والعلم، تكمن قوى دافعة بربرية، بدائية، وخالية من كل أثر للرحمة.» فكل صور التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق انتهت إلى لا شيء. وما يدعوه نيتشه ب «أزمة الزمن الحاضر» و«إفلاس الزمن الحاضر» ودعوته إلى «إدارة الظهر إلى العصر»، ومعاملة الحاضر معاملة ملؤها «القسوة والتجبر»؛ لا ينفصل عن حديثه عن «افتقاد الزمن الحاضر لكل قيمة أيا كان شأنها.»
13
لقد نشأ التحول في نبرة الحداثة عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس الذي بذره نيتشه في زمن حفل بالحراك الصارخ والتوتر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو اضطراب تشبثت به وأسهمت فيه الحركة الفوضوية التي سادت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية (من النوع الذي حدده فرويد
نامعلوم صفحہ
Freud
ثم تابعه كليمت
Klimt
14
في تداعياته الفنية الحرة) التي أضافت بعدا آخر إلى الفوضى القائمة. لقد كشف هذا الزخم الدافق من الحداثية أنه من المستحيل تقديم العالم في لغة واحدة. والفهم الحقيقي إنما يبنى من خلال الكشف عن زوايا العالم المتعددة. كانت إبستمولوجيا الحداثة، باختصار، تدفع بقوة نحو تعدد الرؤى النسبية، في الكشف عما ظل يعتقد أنه الطبيعة الحقيقة لواقع قائم متجانس، رغم ما فيه من تعقيدات، يقول فرويد: «إن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي أن نحمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وإن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة أكبر بكثير ... كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ - على ما في ذلك من غرابة - بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ أعتقد أن استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة، التي كانت تتكرر بانتظام، بفضل ظروف تاريخية مؤاتية.»
15
هذه الروح الانهزامية النكوصية التي يتحدث بها فرويد كانت هي السائدة في مطلع القرن العشرين، وتبدو كطرف نقيض للخطاب الحداثي التنويري الشمولي. ولنقرأ توصيف مارشال بيرمان
M. Berman
في كتابه «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء»
All that is Solid Melts into Air ، وعنوان الكتاب هو إحدى جمل البيان الشيوعي لماركس، يذهب مارشال بيرمان إلى «أن الحداثة تحتوي على تناقضاتها الداخلية؛ فأنماط الفكر الحداثي قد تتحول إلى سلفية جامدة يصيبها التقادم؛ لأن أنماطا من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة دون أن تخلفها أنماط بديلة.» ويرى بيرمان أن المشروع الحداثي قائم على فكرة توحيد البشرية وتجاوز الحدود والاختلافات «لكنها وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة؛ فهي تحيلنا جميعا إلى خضم تيار من العزلة المتزايدة والولادة من جديد، من الكفاح والتناقض، من الغموض والقلق العميق. فأن تكون حديثا هو أن تكون جزءا من عالم حيث يكون.» كما يقول ماركس: «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء.»
نامعلوم صفحہ
16
لقد أصبح واضحا آنذاك أن مأزق الحداثة الحقيقي هو أنها تبنت شعارات غير قابلة للتحقيق في مجتمع تسيطر عليه الآلة الرأسمالية ... وقد وجد بعض نقاد الحداثة
17
في قصة فاوست
Faust
لجوته
Goethe
معبرا جيدا عن المأزق الحداثي: ففاوست هو البطل الملحمي المستعد لهدم الخرافات الدينية، والقيم التقليدية والتقاليد، من أجل بناء عالم جديد شجاع من رماد العالم القديم. ولهذا يسعى فاوست، ومعه كل الآخرين (بمن فيهم الشياطين)، بالفكر والعمل، من أجل بلوغ الحد الأقصى من التنظيم، وصولا إلى السيطرة على الطبيعة، وخلق عالم جديد، رائع وسام، يفجر ويستوعب كل الطاقات الكامنة ... عالم كفيل بتحرير البشرية من الفاقة والحاجة (التي هي نفسها، لو لاحظنا، نفس أهداف المشروع الحداثي). ولإظهار إرادة التغيير هذه، لا يتورع فاوست، رغم ما يبديه من رعب، عن ترك شياطينه تقتل زوجين متحابين طاعنين في السن، يعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر، لا لسبب إلا لكونهما ببساطة لم يعودا ملائمين للعيش طبقا لتصميم العالم الجديد؛ هذا هو مأزق الحداثة كما تصوره جوته في فاوست.
يضاف إلى ما سبق تنامي وتضخم الرأسمالية العالمية، وبحسب دولوز،
18
نامعلوم صفحہ
فإن آثار هذا التضخم قد انعكست على البيئة الخارجية، بحيث أضحى ما يطلق عليه تدمير بيئة الكرة الأرضية
La destruction de l’environnement de la terre
قد اقترب من نهايته. أما آثار هذا التضخم على الإنسان فهي عديدة، أهمها البطالة والفقر وسيطرة التكنولوجيا وإحلالها محل الإنسان، وما يحدث مسبقا في أطراف المركز الهامشية، يحدث الآن في مركز النظام نفسه. هذا بالإضافة إلى الانعكاسات النفسية الخطيرة، والتي أبرزها الفصام.
إزاء هذا الوضع المرتبك من فقدان الثقة في المشروع الحداثي الذي بدأت مقولاته في الانهيار واحدة تلو الأخرى، بدأ الوعي الغربي يطرح تساؤلات تحمل بداخلها إيذانا بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. يلخص دولوز هذه التساؤلات كالآتي: «ما الوظائف الجديدة التي صارت تناط بالمثقف، والذي أضحى مثقفا نوعيا بعد أن كان ينظر إليه على أنه مثقف شمولي؟ ما الأنماط الجديدة لتولد الذات والتي أمست أنماطا لا هوية لها بعدما كان ينظر إليها على أنها متطابقة ومتماسكة ذات هوية محددة؟ ما هي رؤيتنا وما هي لغتنا، وما هي حقيقتنا أو هويتنا اليوم؟ وما دمنا نشارك ونساهم في إنتاج ذات جديدة، فأية سلطة يلزم مواجهتها، وما هي قدراتنا على المواجهة؟ ألا تجد تقلبات الرأسمالية نفسها وجها لوجه، وبكيفية غير متوقعة، مع انبثاق بطيء لذات جديدة كبؤرة مقاومة؟ في كل مرة يحدث فيها تحول اجتماعي ما، ألا تكون ثمة حركة انقلاب وتحول ذاتي، بإبهاماته والتباساته، بل وبإمكاناته أيضا؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها جيلنا.»
19 •••
في عام 1971م كتب إريك هينش
E. Henche
مقالا حملته مجلة «الفن في أمريكا»
Art in America
عنوانه «تحطيم كل القواعد»
نامعلوم صفحہ
Breaking All the Rules ، وكان مما جاء فيه «على الرغم من أن ما بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا؛ فإننا لم نعطها حتى الآن تعريفا واضحا.»
20
على النقيض من ذلك وفي ربيع 1995م أصدر مجموعة من المفكرين ونجوم المجتمع الأمريكي بيانا تحت عنوان «انتفاضة ضد طبقة الإعلام»
Revolt Against the Media Class
وصفه أصحابه بأنه صرخة احتجاج ضد استشراء القيم ما بعد الحداثية في المجتمع الأمريكي.
21
ولعل هذا الاختلاف بين المواقف يدفعنا للتساؤل عن معنى مصطلح «ما بعد الحداثة».
22
ثمة صعوبات عديدة بالتأكيد تقف حائلا بين إمكانية التحديد الدقيق للمصطلح أو المفهوم؛ ولعل إيهاب حسن في مقالته «سؤال ما بعد الحداثة»
The Question of Postmodernism
نامعلوم صفحہ
23
يعرض لتلك الصعوبات، يقول: «إنها إشكالية متعددة الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضا من الضوء عليها. هل ثمة ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها اسما جديدا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة»
؟ وكيف يمكن لهذه الظاهرة، دعونا نتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصل مع مفاهيم أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة
avant-garde ؟ وهل ثمة إشكاليات نظرية وتاريخية تخفيها تلك الظاهرة؟ لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربة؛ وتبدو في أحسن الأحوال نوعا من التكرار الذي لا يفيد، فيخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذا، ما الذي سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي الذي بدأناه؟»
الواقع أن منظري ما بعد الحداثة لم يتفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة»؛ فالبعض مثل ليوتار
Lyotard
يفضل صيغة أكثر تحديدا كالوضع ما بعد الحداثي
La condition postmoderne ، فيما يراها آخرون كجيمسون «منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة» أو «عصرا ثقافيا أخيرا في الغرب».
24
وهو يرى أن المصطلح «متضارب ومتناقض داخليا ... فما بعد الحداثة ليس شيئا يمكن أن نثبته في مكانه مرة واحدة لكي نعاود استعماله لاحقا.» أما أمبرطو إيكو
نامعلوم صفحہ
Umberto-Eco
فعلى الرغم من أن أعماله ما بعد حداثية بامتياز - فهو يرفض التسمية ويقترح بدلا منها ما يطلق عليه «تعدد اللغات المعمم لزمننا»
il multilinguismo della nostra generalizzate ؛ كذلك هو الحال أيضا مع فوكو ودولوز اللذين اعتبرا أعمالهما تشكل انقطاعا وتواصلا مع الحداثة.
25
كل هذه الآراء تدعونا للتساؤل: هل يمكن تعريف ما بعد الحداثة؟ وفقا لمنظري الحركة فإن لفظة «تعريف»
definition
هي لفظة حداثية موروثة من نماذج الوضعية المنطقية، ولا تنسجم مع الإطار العام المفتوح لما بعد الحداثة، والذي لا يحوي ضمن مفرداته مقولة التحديد. فالتعريف يوحي بالثبات كما أنه يفترض مقدما أن كل من سيقرؤه سيفهمه كما حدده كاتبه، وكما سيفهمه جميع القراء، وهذا ما يرفضه منظرو ما بعد الحداثة الذين لا يؤمنون بوجود حقيقة موضوعية. ويذهب إيهاب حسن إلى «أن المصطلح، فضلا عن المفهوم، ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا، وبلغة أبسط - يقول حسن - إذا وضعنا أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم في غرفة واحدة، ثم أضفنا الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقنا الغرفة، وألقينا بالمفتاح بعيدا، فلن يحدث اتفاق بين المناقشين، بل سنجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.»
26
رغم تلك الصعوبات التي تكشف لنا مدى تعقيد المصطلح، فضلا عن المفهوم أو الظاهرة؛ فإننا سنحاول الاقتراب من المصطلح بتحديد بعض الملامح العامة له:
ينبغي أن نفرق بداية بين ما بعد الحداثة
نامعلوم صفحہ
كمصطلح يشير إلى نوع من الثقافة المعاصرة، وما بعد التحديث
كحقبة زمنية يمر، أو مر، بها الغرب، نتيجة لبعض المتغيرات التي لحقت بعملية التصنيع والإنتاج وارتباط ذلك بتنامي وتضخم المنظمات الرأسمالية العالمية. ما بعد التحديث يشير إلى الفترة التاريخية أو المدة الزمنية؛ أما ما بعد الحداثة فيشير إلى أسلوب أو طريقة التفكير أو الحركة الفكرية والثقافية التي انبثقت من هذا الوضع التاريخي الذي يطلق عليه «ما بعد التحديث».
27
تشير البادئة
في مصطلح
في الإنجليزية والفرنسية إلى ما يأتي «بعد» كلازمة تعبر عن الزمان، كأن نقول «ما بعد الكلاسيكية، ما بعد الرومانسية، ما بعد البنيوية ... إلخ.» غير أنها لا تتوقف عند العلاقة الزمنية ولكن تتجاوزها للعلاقة الفكرية؛ إذ تشير إلى ترك الإطار أو النموذج
السابق عليها. ويعود استخدام المصطلح أول مرة - بحسب إيهاب حسن - إلى الإسباني فيدريكو دي أونيس
F. De Onis
وذلك في كتابه «مختارات من الشعر الإسباني والإسباني الأمريكي»
Antologia de la Poesia Espanola e Hispano Americana
نامعلوم صفحہ
الصادر عام 1934م، ثم التقطه دودلي فيتس
D. Fitts
في كتابه «مختارات من الشعر الأمريكي اللاتيني المعاصر»
Anthology of Contemporary Latin-American Poetry
عام 1942م، وكان كلاهما يشير إلى رد فعل ثانوي على الحداثة قائم في داخلها. يرى حسن إذا أن المصطلح نشأ في حقل النقد الأدبي، ثم وظف في حقول معرفية أخرى كالفلسفة والاجتماع والسياسة والتحليل النفسي واللغويات والدين ... إلخ. لكن المؤكد أيضا - وهو ما يشير إليه حسن - أن المصطلح اكتسب مدلولا لأول مرة في كتاب فيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي
A. Toynbee
A Study of History «دراسة التاريخ»، عندما استخدمه ليشير إلى ثلاث خصائص رآها تميز الفكر والمجتمع الغربيين منتصف القرن العشرين، وهي اللاعقلانية والفوضوية واللامعيارية، بسبب أفول البورجوازية في التحكم بتطور الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها، وهو ما رآه انقلابا، بل انحطاطا، للقيم البورجوازية التقليدية.
28
في بداية الستينيات استخدم المفهوم على نطاق أوسع؛ إذ استخدمه ليونارد ماير
L. Mayer
نامعلوم صفحہ
في دراسته (1882م) «نهاية عصر النهضة»
The End of the Renaissance (1963م) ليشير به إلى التغير المعماري الذي طرأ على المدينة الغربية. وفي نفس الاتجاه نشر المعماري الشهير روبرت فنتوري
Robert Venturi
مقالته «مبررات عمارة البوب» 1965م قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة، عوضا عن المفاهيم الجامدة البليدة المضجرة التي تبنتها الحداثة. ثم أتبع هذه المقالة بكتاب «التعقيد والتناقض في العمارة»
Complexity and Contradiction in Architecture (1966م) وضع فيه تصوره لخصائص العمارة ما بعد الحداثية قائلا: «نحن نطالب بعمارة تعلي الثراء، بمعنى الوفرة والكثرة والزخم في التفاصيل والاقتباس والغموض، فوق الوحدة والنقاء؛ وتقدم التناقض والتعقيد على التناغم والبساطة.»
29
ومع أن الجدل بشأن مفهوم ما بعد الحداثة بدأ في عقد الستينيات، العقد الذي يصفه هويسنز
30
بالخط الفاصل العظيم، في النقدين الأدبي والثقافي في أمريكا؛ فقد امتد هذا الجدل إلى حقول معرفية أخرى. وقد أعلن تشارلز جينكس
C. Jencks ، وهو أحد المنظرين الأساسيين لما بعد الحداثة في فن العمارة، أن المصدر الأساسي الذي استقى منه فهمه النظري لمفهوم ما بعد الحداثة هو النقد الأدبي؛ وحسب جينكس فإن «إيهاب حسن كان هو بالفعل من عمد مفهوم ما بعد الحداثة وجعله أكثر استقرارا.»
نامعلوم صفحہ
31
ويصادق على رأي جينكس ما ذكره جان فرانسوا ليوتار في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» (1979م) من أن عمل إيهاب حسن «أدب الصمت»
The Literature of Silence
هو المصدر الذي نبهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة.
32
بدأت ثقافة ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن العشرين - بعد التغيرات التي طرأت على الساحة الفكرية الفرنسية نتيجة انتفاضة الطلبة في مايو 1968م - تتلاقى مع المشروع الفرنسي ما بعد البنيوي. وبمعنى أدق تجد المناخ النظري الملائم لها من خلال أعمال رولان بارت
R. Barthes
وفوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وجاك لاكان
J. Lacan . وسيكون هذا التلاقي هو البداية الحقيقية لما عرف بحركة ما بعد الحداثة الفلسفية. وفي العام 1979م يصدر كتاب جان فرانسوا ليوتار «الوضع ما بعد الحداثي» الذي يعتبره البعض البيان النظري الأول للحركة التي لا يجمعها اتجاه واحد ، وإن كان يجمعها بعض الخصائص المشتركة، التي حاول ليوتار تكثيفها في كتابه.
وفي الثمانينيات يستمر الإنتاج الفكري لمنظري التيار (فوكو، دولوز، ليوتار، دريدا، إيهاب حسن) غير أن المصطلح سيظهر بقوة أكثر في ميدان علم الاجتماع: في فرنسا مع جان بودريار؛ وفي بريطانيا لدى سكوت لاش
نامعلوم صفحہ
S. Lash
في «علم اجتماع ما بعد الحداثة»
، ولدى أنتوني جيدنز
A. Giddens
في «نتاجات الحداثة»
The Consequences of Modernity
الذي يقترح فيه مفهوم «الحداثة الجذرية»
Radical Modernity
بديلا ل «ما بعد الحداثة».
وفي ظل تنامي المفهوم وتشعبه وتداخله مع مصطلحات أخرى عديدة - كما بعد التصنيع
نامعلوم صفحہ