ثم حدجني بنظرة متحرشة هرب لها قلبي، ولكن سرعان ما حلت محلها نظرة دعابة وهو يسأل: ماذا تريد من الدنيا؟
فارتبكت مؤثرا الصمت، ولما آنست انتظاره لجوابي تكلمت يدي بإشارات مبهمة سابقة لساني، ثم قلت: أشياء كثيرة! - تكلم!
فاستجمعت شجاعتي قائلا: مرتب حسن. - والصحة؟ - لا بأس بها! - وكم من النقود تريد؟ - ما يكفيني. - يكفيك لأي شيء؟ - حسبي الضروريات، والكماليات الهامة، وأن أتمكن من تكوين أسرة. - والآخرون ألا ينبغي لهم ذلك أيضا؟ - نعم، لم لا؟! - عند ذاك ترتاح النفوس من الانفعالات الخبيثة.
فقلت بارتياح حقيقي: نعم يا أفندم.
فقال بحدة ساخرة: كلا! لا يكفي هذا كله، سيظل هناك هتلر، وتشرشل أيضا، هذه هي العقدة المحيرة، لقد كلفت بالبحث، ولكنني كلما وجدت حلا لمشكلة عرضت مشكلة أخرى، وكلما أزلت دملا ظهر دمل جديد، كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم كله!
فغمغمت بذهول: العالم! - نعم، العالم! راقب آثار الحرب في بلادنا إن كنت في حاجة إلى دليل، أمور كثيرة معقدة، ومشاكل لا حصر لها، فكر في أن تنعم بالجبال في سويسرا؛ فسيقال لك إنها مهددة باجتياح الجيوش الألمانية، أو أن تستظل بشجرة بوذا في الهند؛ فستجد جوا مشحونا بالتعصب والانفجار، وقد تتطلع إلى زيارة موسكو، ولكنك لن تعود، والغلاء؟ ألم يبلغ حدا لا يتصوره عقل؟!
ولهث خيالي في إعياء، ولم أعد أفهم شيئا، ولكني عكفت على النزر اليسير الذي وجدت له معنى فقلت: الغلاء فاحش جدا، والطماطم نادرة الوجود، أما البطاطس فبات أسطورة.
ولاح في نظرته الكحلية تفكير، وشيء من الحزن والفتور، فتساءل: أتحل هذه المشاكل إذا حددنا المرتبات؟ - أي مرتبات يا فندم؟ - يصدر مرسوم بأن أعلى مرتب لا يجوز أن يزيد عن كذا. - كذا؟ - ألا تنتشر تبعا لذلك الطماطم؟ ويظهر البطاطس، وتهبط أجور المساكن؟ - ولكن الدنيا ليست موظفين فحسب، هناك تجار، ورجال صناعة وأصحاب أراض، وهناك أيضا الأجانب!
فهز رأسه كالمتعب وقال: ويوجد هتلر وموسوليني وتشرشل، وأكاذيب لا حصر لها، وصرخات زنوج تصم الآذان.
يا له من شخص غريب، ليس له جبروت المستشارين، ولا جلال الرياسة المخيف، بل وفيه جانب لطيف لا يكاد يفصله عن ... ماذا أقول؟ عن التهريج إلا خطوة؟! بيد أني قررت أن أستمسك بالحذر الشديد حتى النهاية. وقلت برقة ورجاء: هذه أمور محيرة، ولا سبيل إلى حل مشاكلها، أو أنه سبيل طويل لا يعلم مداه، ولكن هناك سبيل ميسور قريب المنال لو أقنعت صاحب الدولة مثلا بزيادة علاوة الغلاء؟!
نامعلوم صفحہ